تلتقط عناصرها البصرية والصوتية ميكانيزمات التفكير تجليات الزمن في الصورة السينمائية/ جيل دولوز
ترجمة: عزيز الحاكم -شاعر ومترجم مغربي
1
يبدو أن التصورات الفلسفية الحديثة، التي تعنى بالتخيّل، لا تأخذ السينما بعين الاعتبار، فهي إما أن تهتم بالحركة وتهمل الصورة، وإما أن تدعم الصورة وتقصي الحركة. والغريب في الأمر أن جان بول سارتر في كتابه «المتخيل» يتناول بالتحليل كل أشكال الصورة باستثناء الصورة السينمائية، وميرلو بونتي هو الآخر كان يهتم بالسينما فقط ليضعها في مواجهة الشروط العامة للتلقي والسلوك. أما هنري برغسون فإن موقفه في «مادة وذاكرة» يبقى متفردا، أو بالأحرى إن كتابه «مادة وذاكرة» هو الذي يتميز بتفرده وروعته عن سائر أعمال برغسون الذي يضع الحركة إلى جانب الاستغراق، بل إنه يقترح معادلة قوامها الحركة/ المادة/ الصورة في جانب، ثم يكشف عن زمن نابع من تجاور كل مستويات الاستغراق، تشكل المادة أدناها، في جانب آخر.
كما كان فيليني يرى أن الإنسان هو الطفولة والكهولة والشيخوخة في نفس الوقت، وهذا فهم برغسوني صرف، إذ إنّ هناك في «مادة وذاكرة» مزجًا بين روحانيّة خالصة ومادية جذرية، أو بصيغة أخرى الجمع بين فيرتوف ودراير معا. غير أن برغسون لا يمضي في هذا الاتجاه حتى النهاية، بل إنه يعود إلى تصوره الأبسط حول الاستغراق ويتخلّى عن الطرفين الأساسيين المتعلقين بالصورة/ حركة، والصورة/ زمن.. ما السر في ذلك ؟
أعتقد أنه كان يوظف هنا مفاهيم فلسفية جديدة بالمقارنة مع نظرية النسبية، فهو يرى أن النسبية تتضمن تصورًا حول الزمن لم ينبثق من صلبها، وعلى الفلسفة أن تنشئه. وتأسيسا على ذلك ظن البعض أن برغسون يهاجم النسبية، وينتقد النظرية الفيزيائية ذاتها، لكنه اعتبر هذا الفهم القاصر يشكل خطورة يستحيل تبديدها، ولذلك عاد إلى تصوره الأبسط. وكتاب «مادة وذاكرة» ( 1896) يرسم معادلة الصورة/ حركة، الصورة/ زمن على نحو ييسر لها ولوج الحقل السينمائي.
2
لا توجد النماذج التصويرية بشكل قبلي، بل تبتكر، والضرورة تقتضي خلق الصورة وعمق المجال وإعادة خلقهما باستمرار، بعبارة أخرى العلامات تحيل دوما على هوية ما، والمفروض في كل تحليل للصور أو العلامات أن يقوم بدراسة مستقلة لمبتكريها، كل على حدة، وللتيمات التي يشتغلون عليها. لنأخذ مثلا التعبيرية الألمانية، فهي تدرك الضوء في علاقته بالظلمة، وهذه العلاقة تقوم على صراع بين العنصرين، مع المدرسة الفرنسية لما قبل الحرب العالمية يختلف الأمر كثيرا، فليس هناك صراع بل تعاقب. وفضلا عن كون الضوء هو نفسه حركة فإن هناك ضوءين يتناوبان على الظهور: شمسي وقمري. وهذا تصور استثمره الرسام دولوناي، وهو على النقيض تماما من تصور التعبيرية. كما أن المخرج السينمائي جاك ريفيت بدوره قد اشتغل على تيمة الضوءين وجددها، مستنبطا منها روائعه السينمائية، ومثلما كان قريبا تشكيليا من الرسام دولوناي أبان عن اقتراب أدبي من الشاعر جيرار دو نيرفال، فهو النيرفالي الوحيد من بين السينمائيين الفرنسيين.
في كل هذا تكمن العوامل التاريخية التي تخترق السينما وتجعلها في تماس مع باقي الفنون، وتمدها بتأثيرات عديدة، وتاريخ الصور لا يبدو لي أنه يتطور بشكل كرونولوجي، ففي اعتقادي أن كل الصور تنسق نفس العناصر ونفس العلامات على نحو مختلف، لكن هذا التنسيق لا يتيسر دائما، إذ ينبغي توفر شروط معينة لكي يتطور العنصر، أو العلامة، وإلا ظل باهتا أو ثانويا.
3
لست أزعم أني قدمت كشفا جديدا بكتابي «الصورة حركة»، فكل السينمائيين الذين ذكرتهم معروفون على نطاق واسع، أنا فقط أعبر عن إعجابي بهم، وحين أتناول عالم جوزيف لوزي -مثلا- من زاوية الدراسات الأحادية، أشبهه بشاطئ صخري عال ومسطح تغمره طيور كبيرة ومروحيات ومنحوتات كئيبة، بينما ترقد في الأسفل مدينة فيكتورية صغيرة، وبينهما خط جبلي شاهق. بهذه الطريقة يعيد لوزي، ولحسابه الخاص، ابتكار تناقضات المدرسة الطبيعية. نفس التأثيث نجده لدى إيريخ فون شتروهايم و لويس بونويل، لكن بكيفية مغايرة. وأنا أتعامل مع مجموع الأعمال التي أنجزها هؤلاء المخرجون، واضعا في اعتباري أن الروائع نفسها قد لا تخلو من بعض الضعف. وقد عومل فيلم لوزي «سمكة التروتة» معاملة سيئة حتى من طرف نقاد مجلة «كراسات السينما» لأنهم لم يضعوه في سياق أعماله كلها.
وإذا كان كتابي «الصورة حركة» يعاني من بعض الشوائب، فإن مرد ذلك إلى أني لم أدرج فيه مخرجين كبارا من أمثال أورسون ويلز وجان رونوار، لأني في هذا الجزء لم أتمكن من تناول مجموع أعمالهما. في أفلام رونوار ترتبط الحياة بالمسرح أو بتعبير أدق الصورة الآنية بالصورة الافتراضية، ولدى ويلز نرى لأول مرة ارتباط الصورة بالزمن المباشر، دون أن تستخلص من الحركة، وهذا امتياز سيستفيد منه ألان رينيه في وقت لاحق. إلا أنني لم أسعَ إلى تقديم أمثلة من هذا النوع في الجزء الأول، وفضلت الحديث عن الأعمال الطبيعية، نفس النهج سلكته مع أفلام الواقعية الجديدة والموجة الجديدة، حيث اكتفيت باستحضار ملامحهما الأشد تكلفا في الصفحات الأخيرة.
4
من السهل القول إن السينما الحديثة تقطع مع السرد، هذه مجرد نتيجة، أما السبب فإنه يكمن في موضع آخر، ذلك أن سينما الحركة تقدم أوضاعا حسية حركية من خلال شخوص يوجدون في وضع محدد، ينفعلون، بدافع حاجة قوية، وفق ما يدركون، والأحداث تقترن بالمشاعر التي تتحول إلى أفعال. لنفترض أن شخصية ما تجد نفسها في وضعية عادية أو استثنائية، عاجزة عن إتيان أي فعل أو رد فعل تجاه ما تواجهه، إنها حالة عصيبة، مؤلمة أو مريحة، لقد تلاشى الرابط الحسي الحركي وتحول إلى وضعية بصرية صوتية، أصبح عبارة عن نموذج تصويري مغاير.
في فيلم «سترومبولي» لروسيليني تنتقل المرأة الغريبة من صيد التون إلى تأمله وهو يحتضر، ثم ينفجر البركان، هي لا تملك أي رد فعل حيال ما يحدث ولا جواب لها، شيء باهر ما تراه، فتقول: «لقد انتهيت، أنا خائفة، يا له من لغز، يا له من جمال، يا إلهي». وفي«أوروبا 51» تقف المرأة البورجوازية أمام المعمل مرددة: «رأيت المعمل واعتقدت أني أرى مجموعة من المتهمين». هذا في رأيي هو الابتكار الهائل الذي حققته الواقعية الجديدة، حيث ينعدم إمكان الفعل في بعض المواقف، ورغم ذلك لا تبقى الشخصية مكتوفة اليدين، بل تدرك ما لا يطاق في الحياة نفسها وتذكرنا به، وهذه سينما مرئية، كما يقول ألان روب غرييه، يقوم فيها الوصف مقام الشيء. ثم إننا حين نوجد في وضعيات بصرية محضة أو صوتية فليس الفعل، ومن تم السرد، هو الذي يتقوض، بل إن الأحاسيس والعواطف تغير طبيعتها، لأنها تنتقل إلى نظام آخر يختلف عن النظام الحسي الحركي الذي يحكم السينما «الكلاسيكية»، وبمعية ذلك تتغير نوعية الفضاء الذي يفقد روابطه الحركية فيغدو مفككا أو أجوف. ولذلك تلجأ السينما الحديثة إلى تشييد فضاءات خارقة، حيث تحل العلامات البصرية والصوتية محل العلامات الحسية والحركية .
5
من المؤكد أن الحركة هنا لا تنتفي، لكن الصورة/ الحركة برمتها تصبح خاضعة للمراجعة. لا وجود لصورة معزولة عن باقي الصور، والأهم هو العلاقة القائمة بينها، لكن بماذا يقترن التلقي حين يصير بصريا صوتيا خالصا ويقطع مع الحركة؟
تنخرط الصورة الآنية، بمعزل عن امتدادها الحركي، في علاقة مع صورة مضمرة أو ذهنية أو انعكاسية: «رأيت المعمل واعتقدت أني أرى مجموعة من المتهمين»، وبدلا من ذلك الامتداد الخطي هناك مجال لا تكف فيه الصورتان معا عن ملاحقة بعضهما في نقطة من تداخل الواقعي والمتخيل، كأن الصورة الآنية، المعروضة على الشاشة، والصورة الافتراضية تتبلوران في صورة واحدة مزدوجة، كما كانت لدى رينيه ومارسيل أوفيلس، وكما سنجدها بأسلوب آخر لدى فيليني، وثمة طرائق متعددة لبلورة الصورة والعلامات الشفافة. وهذا لا يعني توقف الحركة بل انقلاب العلاقة بين الحركة والزمن، بحيث لا يعود الزمن مستخلصا من تركيب(1) الصور وتصبح الحركة متدفقة من الزمن، غير أن التركيب لا يختفي بالضرورة بل يغير وجهته، يتحول إلى كشف (2) بتعبير لا بوجاد، وبذلك تقيم الصورة علاقات جديدة مع عناصرها البصرية والصوتية، كأن التبصر يحولها إلى مادة «مقروءة» أكثر منها مرئية، ويفتح الباب على بيداغوجيا الصورة كما نجدها لدى جان لوك غودار، لتغدو الصورة فكرة قادرة على التقاط ميكانيزمات التفكير، فيما تنهض الكاميرا بوظائف اقتراحية متنوعة.
6
كل محاولة لتطبيق اللسانيات في السينما ذات عواقب كارثية. لا شك في أن بعض النقاد والسينمائيين من أمثال كريستيان ميتس أو بازوليني قد أنجزوا عملا نقديا على قدر كبير من الأهمية، غير أنهم في إحالتهم على النموذج اللساني كانوا يتوصلون في نهاية المطاف إلى التأكد من أن السينما مجال مختلف، وأنها وإن كانت خطابا فهي خطاب تمثلي أو تحويري، ومن هنا يمكن القول إن الإحالة على النموذج اللساني مرحلة يستحب عبورها.
ومن بين أجمل مقالات أندريه بازان نص يبين فيه أن الصورة عبارة عن قولبة، يتحول فيها الخطاب إلى قالب، في حين أن السينما تعتمد التحوير، فالأصوات والأضواء كلها تخضع لتعديل متواصل، كما تخضع ثوابت الصورة للتنويع والتكرار والتدوير والومض، الخ … والتطور الحاصل حاليا بالمقارنة مع السينما الموسومة بالكلاسيكية، التي كانت تمضي بعيدا في هذا الاتجاه، يتحقق من زاويتين، كما يبدو في الصورة الإلكترونية: مضاعفة الثوابت وإنشاء المتتاليات، وبذلك تتحول المشاهدة إلى «قراءة». وثمة ملمح آخر يضاف إلى ملاحظاتنا السالفة، ويتعلق بالبعد الأفقي. يرى الناقد الأمريكي ليو شتاينبرغ أن الرسم الحديث لا يتحدد بفضاء بصري مسطح، بل بغياب البعد العمودي، حيث يعوض نموذج النافذة، مثلا، بصورة أفقية مكثفة تنرسم فوقها المعطيات… يقول صمويل بيكيت: «من الأفضل للمرء أن يجلس عوض أن يقف، وأن ينام عوض أن يجلس». وفي هذا الإطار يندرج فن الباليه الحديث، فالحركات الأكثر دينامية فيه تتم أرضا، بينما يصطف الراقصون وقوفا كي يوهمونا بأنهم سيسقطون إذا ما انفصلوا.
7
في صلب الأشياء تقيم العين، هي جزء من الصورة، وهذا ما يبرزه برغسون في قوله: إن الصورة تومض وترى من تلقاء نفسها، وكل ما تحتاج إليه هو شاشة سوداء تحول دون انزياح الصور في جميع الاتجاهات ودون انشطار الضوء وتوزعه. ليست الكاميرا هي العين بل الشاشة، أما الكاميرا بوظائفها الاقتراحية فهي عين ثالثة، عين الفكر .
كان هتشكوك يزج بالمتفرج في الفيلم من خلال أحداث مؤطرة بشبكة من العلاقات، قد يكون الحدث المحوري جريمة، تشكل فيه العلاقات بعدا آخر من خلاله يمرر المجرم جريمته لشخص آخر أو يقايضه بها أو يعيدها إلى شخص ثالث. وهذه العلاقات ليست أحداثا بل هي أفعال رمزية ليس لها إلا وجود ذهني (التمرير، المقايضة..) وهذا ما تتكلف الكاميرا بالكشف عنه عبر التأطير والحركة. وهتشكوك يعنى أساسا بالعلاقات وتناقضاتها، والإطار لديه أشبه ما يكون بحواف بساط مطرز بسلسلة من العلاقات، فيما يقتصر دور الحركة على تشكيل الحبكة التي تعبر من الأسفل ومن الأعلى، ساعيا إلى دمج الصورة الذهنية في السينما وتحويل الكاميرا إلى عين تفكر. وتميزه نابع من كونه يتجاوز الصورة/ الحدث باتجاه ما هو أعمق: العلاقات الذهنية، من أجل إنعاش البصيرة. وبدلا من أن يؤزم الصورة/الحدث، أو الصورة/الحركة، فإنه يدفع بها نحو الاكتمال لتحقيق الإشباع النفسي، ولذلك يصح وصفه بآخر الكلاسيكيين وأول الحداثيين .
8
كان ريلكه شغوفا بـ «المفتوح» كمفهوم شاعري، أما برغسون فقد اعتبره مفهوما فلسفيا، وبناء على ذلك ينبغي الفصل بين المجموعة وبين الكل، إذا خلطنا بينهما فقد الكل معناه. تستطيع المجموعة أن توحد عناصر متنوعة جدا، وقد تكون مغلقة نسبيا، أقول نسبيا لأن هناك دوما خيطا رفيعا يربط بين مجموعة صغرى ومجموعة أكبر، وهكذا إلى ما لانهاية، لكن الكل ذو طبيعة مغايرة، لأنه ينضوي تحت لواء الزمن ويخترق كل المجاميع، وهو الذي يمنعها من تحقيق نزوعها الخاص كي تنغلق على نفسها تماما. ولذلك يؤكد برغسون باستمرار أن الزمن هو «المفتوح»، هو كل ما يتغير ولا يكف عن تغيير طبيعته في كل لحظة، هو الكل، هو التحول والعبور المتواصل من مجموعة إلى أخرى .
من الصعب التفكير في هذه العلاقة: الزمن- الكل- المفتوح، لكن السينما تجعل ذلك متيسرا، من خلال ثلاثة مستويات متجاورة: التأطير، وهو تحديد مجموعة مؤقتة مغلقة إجرائيا، والتقطيع الذي يحدد الحركات التي تتوزع عبر عناصر المجموعة، ثم التركيب (المونتاج) الذي يستجمع العناصر بتنوعها في كل يخترق المجاميع ويحول دون انغلاقها بالكامل، حتى تظل منفتحة على الفضاء الخارجي، والمقصود هنا أن كل مجموعة معينة تنتمي إلى مجموعة أوسع ذات بعدين أو ثلاث، والمجاميع برمتها تنتمي إلى كل من طبيعة أخرى ذات بعد رابع أو خامس، وهذا الكل الجامع لا يكف عن التشكل والتنوع خلال اختراقه تلك المجاميع التي تتوسع باستمرار. في الحالة الأولى نحن أمام توسع فضائي مادي وفي الحالة الثانية أمام تحديد فكري ورمزي كما يتمثل في أفلام دراير وروبر بروسون، وكلا الملمحين لا ينفصلان عن بعضهما، بل يتكاملان ويتعاقبان، ويتناوبان على الأولوية.
لم تكف السينما أبدا عن اللعب بهذين المستويين المتعايشين، كل مخرج كبير يمتلك طريقته الخاصة في فهمهما وتطبيقهما، وفي كل تحفة سينمائية ثمة دوما شيء من «المفتوح»، هو الزمن، أو الكل، كما يتجلى في السينما بأساليب متنوعة.
نزوى