نهاية ثلاثيّ تاريخي سُمّي بمثلّث برمودا/ زياد ماجد
ليس ثلاثي خط الوسط المدريدي، مودريش – كروس – كاسيميرو، أفضل خط وسط عرفته الملاعب الأوروبية في العقود الأخيرة. فقد كان لفرق ميلان وليفربول ومانشستر يونايتد وبرشلونة وريال مدريد نفسه في السابق، كما لمانشستر سيتي في الآونة الأخيرة، تشكيلات في خط الوسط لا تقلّ شأناً عنه، بل وتتفوّق أحياناً عليه لجهة مهارات أفرادها وقوّتهم البدنية.
لكن الثلاثي المدريدي الذي انفرط عقده رسميّاً البارحة (مع انتقال كاسيميرو الى مانشستر يونايتد) كان بلا شك خط الوسط الأكثر قدرة على التكيّف مع المباريات وفرض الإيقاع فيها وتنويع أساليب اللعب وتمرير الكرات البينية والطويلة الحاسمة وحسن التموضع الدفاعي وترك المبادرة للخصم حين يكون لاعبوه أسرع وبلياقة أعلى، ثم إطلاق الهجمات المرتدّة أو إرسال الكرات الدقيقة بين الخطوط أو خلفها، بما يضع المهاجمين الزملاء مباشرة في مواجهة المرمى. كما أنه الثلاثي الأكثر إحرازاً للألقاب الأوروبية في تاريخ المسابقات الكروية والأعمق تأثيراً في نتائج المباريات المُفضِية تتويجاً بكؤوس البطولات التي ينتزعها الفريق.
ويمكن القول إن ما صنع استثنائية هذا الثلاثي وما جعله يتسيّد المباريات الكبرى التي خاضها أركانه سوياً طيلة 8 مواسم كروية (فازوا خلالها 4 مرات ببطولة “الشامبيونز ليغ” الأوروبية و3 مرّات ببطولة “الليغا” الإسبانية)، هو التكامل المذهل بين لاعبيه وتفاهمهم الأقرب الى التخاطر رغم الاختلاف الكبير في أساليب لعبهم وفي مهاراتهم الفردية والفوارق في قوّتهم البدنية وطريقة تحرّكهم في الملعب.
فالكرواتي لوكا مودريش صانع ألعاب متحرّك. تمريراته ترافق جريه وحركته الدائمة. يحبّذ اللعب في عرض الملعب وتمرير كرات مباغتة في العمق لا يتوقّعها ملاحقوه لعدم تلاؤمها مع وضعية جسده لحظة التمرير. سريع البديهة والمراوغة وقادر بسهولة على تغيير اتجاهات اللعب والانقضاض الهجومي أو الارتداد الدفاعي، وذكاء تمركزه يعوّض عدم قدرته على الالتحام الجسدي مع مطارديه.
والألماني توني كروس لاعب شديد التركيز وثاقب القراءة لمجريات اللعب. يلحظ خلال المباريات وتبعاً لسيرها والتبديلات فيها نقاط القوة والضعف عند خصومه وعند زملائه، ويتمركز في الملعب بناء على قراءته هذه، فيتقدّم ويتراجع أو يلعب أمام كاسيميرو في محور الملعب أو يتياسر ليرسل كراته الطويلة التي تتخطّى دقّتها في أغلب الأوقات نسبة الـ90 في المئة. وهو بهذا المعنى بارومتر الفريق الذي يُتيح بناءً على تموضعه لزميليه مودريش وكاسيميرو التحرّك بحرّية في المساحات التي لا يغطّيها. وكروس، على العكس من مودريش، يمرّر مع حركة أقلّ ويدافع عن قرب ضد خصومه عند استحواذهم على الكرة، وهو مثل كريم بنزيما يتحدّث كثيراً مع زملائه، وله فضل كبير على فينيسوس وعلى دفعه للعب في مواضع تُتيح له التهديف.
أما البرازيلي كاسيميرو، فهو صمّام الأمان الدفاعي وعنصر الارتكاز عند التحوّل من الدفاع الى الهجوم. قوي البنية الجسدية، يلتحم بقسوة مع خصومه، ويرتقي للكرات العالية ويتحوّل بسرعة من لاعب خط وسط الى قلب دفاع لتعويض أي نقص عددي، ويواكب الهجمات متحوّلاً في أحيان كثيرة الى مهاجم “الكرة الثانية”، أي ذاك الذي يتابع بعد تسديدة زميله الأولى ارتداد الكرة للاستفادة منها وتكرار التسديد.
والثلاثة، مودريش وكروس وكاسيميرو، يتميّزون بالركلات الصاروخية، الثابتة كما المتحرّكة، ويسجّلون في الكثير من المباريات الحسّاسة أهدافاً أو يمرّرون كرات تحسم نتيجة أو تقلب تأخّراً الى تعادل ثمين. وقد شهدت مواجهات ريال مدريد في الموسم الماضي أمثلة عديدة على ذلك، تميّز فيها مودريش بشكل خاص في مباراتَي الإياب الأوروبيتين ضد باريس سان جرمان وتشيلسي، قبل أن يحسُم المباراة ضد ليفربول عند سحبه لثلاثة لاعبين مسافة 20 متراً ثم تمريره كرة عكسية تخطّتهم نحو كربخال (لعبها الأخير مباشرة لكاسيميرو الذي حوّلها على الجناح الأيمن لفالفيردي) بما خلق بتمريرة ولمستين تفوّقاً هجومياً عددياً مدريدياً أسفر عن هدف الفوز في المباراة الأوروبية النهائية.
ومودريش وكروس وكاسيميرو هم فوق هذا مثلّث يبتلع جهود الخصوم، إذ يتناغم الثلاثة ويتفاهمون وغالباً ما يتسيّدون منطقة المناورة أو يحوّلونها إن كان المنافِسون أكثر نشاطاً وحركة الى منطقة تدخّلات تشبه العمليات الموضعية التي تسبّب “الأذى” وتُطيح بجهود الخصوم وتقلّص مساحة لعبهم بحيث يُحرمون من الاستفادة من فارق سرعتهم. وهذا ما دفع بعض المعلّقين الى تسميتهم بـ”مثلّث برمودا”…
على أن لكل حكاية كروية نهاية. وحكاية هذا الثلاثي انتهت الآن بعد قرار كاسيميرو الانتقال في عمر الثلاثين الى مغامرة جديدة في الدوري الانكليزي. والأرجح أن الموسم الحالي سيكون الأخير لمودريش (يبلغ السابعة والثلاثين بعد أيام) ولكروس (إثنان وثلاثون عاماً) مع مدريد. وستكون مهمّة الكرواتي والألماني تأهيل كامافينغا وتشومني وفالفيردي ليصبحوا ثلاثي الوسط الجديد والعامود الفقري لنادي العاصمة الإسبانية في السنوات الخمس المقبلة.
ولعلّ مراقبة ذلك والوقوف على مدى نجاح الثلاثي الشاب في فرض نفسه ستُمسي متعة خالصة في الأشهر المقبلة، خاصة وأن الفريق حصّن خطّ دفاعه بلاعب خبير (أنطونيو روديغر)، ويمتلك جناحين شابين استثنائيّي السرعة (فينيوسوس ورودريغو)، وترك هدّافه بنزيما رأس حربة أوحد في موسمه الأخير أو قبل الأخير مع النادي لتكريس دوره قائداً ولجعله مع كروس ومودريش عرّابي المرحلة الانتقالية التي انطلقت وستشهد العديد من التحوّلات.