نسخة “ميديوكر” من نجيب محفوظ/ محمد خير
صفحة على فيسبوك تحمل اسم نجيب محفوظ، الأديب العربي الأشهر، وتضم أكثر من مليون متابع، نشرت الفقرة التالية التي نالت آلاف الإعجابات (مقابل مئات عدة من المستنكرين): “علّموا أولادكم أن الموسيقى حرام، وأن العلاقات بين الفتاة والشاب محرمة. علّموهم أن الحرام يبقى حراماً ولو فعلهُ أكثر الناس. علّموهم أن يجعلوا الرسول قدوتهم. علّموهم أن ليس كل مشهور على صواب. أرجوكم حافظوا على الإسلام في قلوبكم. أرجوكم لئلا يضيع الإسلام، ارفعوا قيمة دينكم”.
ليست تلك هي الصفحة الوحيدة التي تسمّي نفسها باسم صاحب نوبل، ولكنها من أكبرها من حيث عدد المتابعين، وإن كانت تفوقها صفحة أخرى، تحمل كذلك اسم محفوظ، ويتابعها ما يقرب من ستة ملايين متابع، تتنوع منشوراتها بين الترفيهية والدينية، وتضع في صدارتها عبارة “صلّوا على محمد”.
بين هذه وتلك، لكن بعيداً عن اللغة العربية، ثمة صفحة “رسمية” لصاحب الثلاثية، تديرها دار النشر البريطانية الشهيرة “راندوم هاوس” التي لطالما نشرت مؤلفاته، ويتابعها أكثر قليلاً من مليونَي متابع، ويتفاعلون مع منشوراتها المصوغة حصرياً باللغة الإنكليزية، والتي، خلافاً للصفحات “المحفوظية” العربية، تتناول بالفعل أعمال محفوظ، والأقوال التي نطق بها فعلاً، لا الموضوعة على لسانه، أو على سنّ قلمه.
ليس سراً أن الصفحات العربية على فيسبوك، خصوصاً الثقافية والفنية منها، تعاني من “خطرين” أساسيين، أولهما خطر تيارات التشدد الديني، التي تمارس إستراتيجية إنشاء صفحات باسم شخصيات عامة، أو باسم مجالات فنية أبعد ما تكون عن التشدد، وتدير تلك الصفحات بصورة “طبيعية” لا تثير الشبهات، قبل أن تبدأ في تسريب مقاطع أو اقتباسات أو آراء توحي بأنها لصاحب الصفحة (أي من سُمّيت باسمه)، أو في أضعف الأحوال موجهة إلى جمهوره، للتأثير فيه، أو لتوجيه الرأي العام في حالات سياسية/ اجتماعية معيّنة، مستفيدةً من متابعة عشرات الملايين لعشرات الصفحات التي تديرها تلك التيارات من خلف أقنعة الفن أو أسماء المشاهير الراحلين.
أما الخطر الثاني، فيترتب على فوضى حقوق الملكية الفكرية وقلة الوعي بها في العالم العربي، ومن خلاله يتم بيع صفحات موثّقة –بجمهورها- إلى معلنين أو مؤثرين، وهو بيع أقرب إلى بيع الأراضي بأقنانها في الماضي، وإذ يستمر الجمهور في متابعة الصفحة من دون أن يعلم أنه قد تم “بيعه” إلى مشترٍ آخر.
محفوظ “الميديوكر”
غير أن ما سبق استعراضه، من محاولة التأثير المتعمدة لنشر أفكار متطرفة أو محافظة في أحسن الأحوال، باستغلال اسم أكبر أديب عربي، يختلف عن نوع آخر من التزوير، يختلط فيه التعمد بالجهل، وشهوة النشر والانتشار بانخفاض الوعي الثقافي.
“لا أجيد رد الكلمة الجارحة بمثلها، فأنا لا أجيد السباحة في الوحل” (عبارة ينسبها فيسبوك إلى نجيب محفوظ).
العبارة أعلاه، ومثلها مئات وربما آلاف، ينسبها مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي إلى نجيب محفوظ، بالرغم من ركاكتها الواضحة، الأشبه بمشاجرات “قصف الجبهة” أو روايات الجيب التجارية، بل بلغت الثقة بأحد القرّاء أن وضع هذا “الاقتباس” المزعوم على موقع غودريدز، وهو بالطبع، كغيره من الاقتباسات المزيفة، بلا مصدر يُنسب إليه من بين أعمال صاحب “أولاد حارتنا”.
“قلوبنا ليست سوداء… لكننا لا نريد رؤية وجوه أساءت إلينا يوماً” (عبارة ينسبها مستخدمو فيسبوك إلى نجيب محفوظ).
لا يحتاج المرء إلى أن يكون خبيراً مخضرماً في أعمال صاحب “الحرافيش”، ليدرك أن مثل تلك العبارة ومثيلاتها لا تنتمي إلى محفوظ، لا على مستوى الفكر ولا على مستوى اللغة. لكن الغريب، أن مثل تلك العبارات، كثيراً ما تُرى وقد تمت مشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي من قِبل مثقفين، الأمر الذي إن لم يستدعِ التفكير في مدى ثقافتهم، فإنه على الأقل يستدعي التأمل في مسألة الذائقة الأدبية، وقدرة المثقف على التمييز.
“الشهادة ورقة تثبت أنك مُتعلم… لكنها لا تثبت أبداً أنك تفهم” (عبارة ينسبها مستخدمو فيسبوك إلى نجيب محفوظ).
كما ترى، فإنه لا قاع لمستوى الركاكة التي يمكن أن ينسبها الناس إلى مؤلف عظيم، وبالطبع فإن محفوظ ليس الضحية الوحيدة لما أصاب الذائقة، فمن أشهر “الضحايا” شاعرا العامية الكبيران صلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم، ولكن بينما تتنوع أسباب اجتماعية وفنية وراء انتحال العديد من القصائد أو الأزجال ونسبها إلى الشاعرين، فإن رغبةً واضحةً في الظهور بمظهر “العميق” تشغل من لا يتوقف عن مشاركة اقتباسات محفوظية زائفة، مما يؤدي بالطبع –للسخرية- إلى أن يظهر بالمظهر العكسي تماماُ.
”لا تنتظر مني كرماً حين تكون بخيلاً، ولا لطفاً حين تكون وقحاً، ولا صدقاً حين تكون منافقاً… لا تنتظر مني ما لا أجده فيك” (عبارة ينسبها مستخدمو فيسبوك إلى نجيب محفوظ).
يعني المصطلح “ميديوكر”، عموماً، الشخص محدود الموهبة، والشخص العادي، وغير المميز. إنها مرادفات تكاد تمثل المعنى المعاكس تماماُ لنجيب محفوظ، الأديب وحتى الإنسان. فما السر في تفشي تلك العبارات “العادية”، والاقتباسات المزيفة الركيكة، بعد أن يتم نسبها إلى صاحب “الأحلام”؟ لا يمكن الاكتفاء بإرجاع الظاهرة إلى وجود بعض المدّعين على وسائل التواصل، أو حتى رغبة بعض الصفحات في الانتشار، وإنما يبدو الأمر كأنما هو محاولة لاستيعاب محفوظ اللا محدود داخل العقل المحدود للمجتمع المعاصر، ولاستيعاب محفوظ الليبرالي داخل العقل المحافظ، ولاستيعاب البيان الساحر في لسان ركيك. يفترض بعض علماء فيزياء الكم أن وجودنا ليس إلا انعكاساً ثلاثي الأبعاد لكون آخر ثنائي الأبعاد. كم يبدو ذلك شبيهاً بمحاولة استيعاب العبقرية داخل مجتمع يخشاها، فإذا به يصنع منها نسخته “الميديوكر”.
رصيف 22