مقالات سينمائية

يقيمُ جسرًا بين ضفتي الفنِّ والمقدّس تِرنـْس ماليك فيلسوفـًا وشاعرًا في السينما/ جورج كعدي

معنى «أن تكون إنسانًا»، بحسب هايدغر، هو «أن تكون معبِّرًا». مثل مِرشح (فيلتر) يحفظ جوهر العالم في شباكه. تضمن اللغة -والصورة أيضًا- تغليف الحقيقة بغية توليد المعنى والتموضع فيه حين نستطيع النطق به. في وسع الإنسان، عبر اللوغوس (الكلمة البدء) إتمام بناء الواقع. ومع ذلك، لا يستجيب كلُّ شيء للّوغوس. شيء ما في التجربة الإنسانيّة مقدّر له أن يفوته، فالتجربة الإنسانية قد تصطدم بعجزنا عن وصفها.

مسائل كهذه من النوع الميتافيزيقيّ أو الفلسفيّ تموج في عقل الإنسان منذ الأزل، مجتازةً الحضارات والزمن، متجذّرةً في الأركان المؤسِّسة للديانات الكبرى وكذلك في حقول علميّة شتّى، وتبدو ماضيةً في الاتجاه عينه: أين نموضع التأثير في عالم مثنّى يمكنه في الآن ذاته أن ينطق بذاته وأن يظهر بذاته.

يبدو لنا أنّ السينما تشكّل ميدانًا مميّزًا لطرح مثل هذه الأسئلة، وفي شكل خاص أعمال السينمائيّ ترنس ماليك Terence Malick (من أصول سريانية مشرقيّة تتأرجح المعلومات حولها بين سوريا ولبنان)، ولأسباب عديدة لعلّ أبرزها فيلموغرافيّة هذا السينمائيّ التي هي موضوع بحث حول وضعنا الثقافيّ، إنما كذلك حول تحديد ما هو الدينيّ، بحيث يمكننا إقامة جسر بين ضفتي الفنِّ والمقدّس. مع إيماننا بأنّ السينما قادرة على النهوض بالدور عينه لما ندعوه المقدّس. ثمّة علاقة جدليّة بين «القول» و«الإظهار» في أفلام ترنس ماليك، علمًا بأنّهما متساويان لديه، وفي حركة الذهاب والإياب بينهما يتكشّف لنا عالم إنْ لم يكن مغلّفًا باللوغوس كلّيًا فإنه يتمظهر في الشعريّ. عبر أفلام ماليك ينتشر على نحو متلازم المقدّس والكائن، متيحًا التغلّب على نسيان الكينونة من ناحية، والانوجاد في عالم يجتازه ما يدعوه هايدغر «المفتوح».

في هذا الصدد، أعمال أندريه تاركوفسكي، ستانلي كوبريك، إنغمار برغمان أو ديفيد لينش، نموذجيّة، بَلْبَلَتْنا إذ عرفت كيف تثير اهتمامنا على نحو لا واعٍ بالمسألة الدينيّة عبر جعلنا نحيا تلك العلاقة على نحو يعجز عنه الوصف. هؤلاء المعلّمون الكبار في السينما هم جميعًا ذوو فرادة، المحرّكون الأوائل لافتتاننا بهذا النوع من الحقيقة الذي يُحسّ أكثر ممّا يُشرح.

تستعيد سينما ترنس ماليك ما يتجاوز العقل البشري، بجعل ذاتها معبّرة عن أعمق الأسئلة لدى الإنسان والمتعلّقة بأصل وجوده وفنائيتّه. وينبغي أن نعرف أنّ ترنس ماليك أنجز أطروحته الفلسفية حول سورين كوركيغور ومارتن هايدغر ولودفيغ فتغنشتاين، ودرّس الفلسفة في جامعة ماساشوسيتس، وترجم من الألمانية إلى الإنكليزية «مبدأ العلّة» لمارتن هايدغر. لدى معرفتنا بذلك يسعنا التفكير منطقيًا بأنّ واقعه كسينمائيّ خاضع لتأثير احتكاكه بهؤلاء الفلاسفة. بيد أنّ الفلاسفة الثلاثة طوّروا -كلٌّ على طريقته- تصوّرًا روحانيًّا للحياة. يُظهر لنا ماليك أنّ البحث عن المعنى الحقيقيّ للكائن البشريّ يرمي تحديدًا إلى ذاك «المجهول الكبير» الذي يملأ لا نهائية الفسحات الحرّة بين الكلمات، الأشياء، الأجساد. يعقد ماليك الصلة التكافليّة بين السينما والمقدّس، مضمونًا وشكلًا، محمّلًا أفلامه السؤال الأكثر جوهريّة للإنسان: من نحن؟ من أين نأتي؟ إلى أين نمضي؟ لِمَ نحيا؟ ومع ذلك، ثمّة في سينما ماليك ما هو أكثر من مجرّد أسئلة فلسفية وروحية، فهي تطرح، من خلال تكامل المضمون والشكل، تجربة «الآخر». لا يبقى الفيلم بذلك مجرّد تعبير سينمائيّ يجسّد فكرةً هايدغريّة، بل يُشرّع أفلامه على الكائن والمقدّس ويكشف فراغ العالم بدلًا من النطق به. ولأنّ كل إحساس هو ذاتيّ فإن التأثير الذي تولّده سينما ماليك ليس نفسه بين شخص وآخر. ولكن أبعد من هذه النسبيّة ثمة في لغة ماليك السينمائية منهجية ورؤية لا يمكن تجاهلهما. في تعبير آخر، الأمر يتعلّق بسينما شعريّة أكثر منها سينما تتحدث عن الشعريّ.

نموذجان للدراسة

«1»

«الخيط الأحمر الرفيع»

فلنشرع الآن في تقديم ترنس ماليك عبر نموذجين من أفلامه، ونبدأ بإحدى تُحَفِه، وهي كثيرة، فيلم «الخيط الأحمر الرفيع» (The Thin Red line) الذي أنجزه عام 1998 (وهو للمناسبة من أبدع الأفلام بالنسبة لي وأبلغها معنى وأكثرها شعريّة ومناهضةً للحرب وعنفها وقسوتها ووحشيتها وجنونها). هذا الفيلم مقتبس عن رواية لجيمس جونز صدرت عام 1962 تحت العنوان نفسه. تدور حوادث الرواية، ثم الفيلم، في الحرب العالمية الثانية، فوق جزر سالومون، يوم كانت فرق الجيش الأمريكي تتهيّأ لمحاربة الجيش الياباني الذي كان يحتلّ تلك الجزر. واختار ماليك لمشهديّته الكبرى والمؤثّرة هذه عددًا من الممثلين ذوي الشهرة العالميّة أمثال أدريان برودي وجيم كافييزيل وجورج كلوني وجون كوزاك ووودي هارلسون وإلياس كوتياس ونِكْ نولته وشون بن وجون سافدج وجون ترافولتا، لفيلم طويل في ساعتين وخمسين دقيقة، كاشفًا تبعات الحرب الجسدية والنفسية. لوحات مشهديّة متتالية لا يربطها خيط روائيّ سوى الوقائع شبه المفاجئة التي ترافق عملية الاستيلاء على جزيرة غوادلكانال. يندفع المشاهد فوق سطح خطّ سرديّ غير مترابط، محايدًا الوجوه، الأجساد، الأفكار، التي تحيا وتموت على إيقاع المعارك القاتلة.

«الخيط الأحمر الرفيع» هو بالتأكيد الفيلم الأشدّ قتامةً لماليك. ويُظهر فيه السينمائيّ دمار «عالم»، وتسلّل الخواء إلى الكون، تلوّث الهويّة بالغيريّة في المعنى الفلسفي، أي ما يخصّ الآخر في مقابل الأنا. اختبارات العنف الأقصى التي يعيشها المقاتلون عبر اندفاعهم في الرعب تفضي إلى العجز عن اكتناه ما لم يبق متمتّعًا بمعايير موحّدة مع المعلوم، مُغْرِقةً الناجين في واقع بلا نقاط ارتكاز.

فكرة «المغلق» هي ما يسم جوهريًّا العالم الذي لا يفعل الجنود الأمريكيّون سوى التيهان فيه. و»المغلق» يعني هنا عكس ما أسماه هايدغر «المفتوح»، ففي عالم الرجال الذين يقتل بعضهم البعض الآخر، لا خلاص. غياب «المفتوح» يتمثّل، بين أمثلة عديدة، في دور السيرجنت «وِلش» (شون بن) الذي لا يرى في الحقيقة إلاّ السواد والتدمير الكاملين. إنه يجسّد الدياجير حين لا يكفّ عن تكرار أنّ الوجود يتحوّل إلى حرب. تقوم بين السيرجنت «ولش» والجندي «ويتّ» (جيم كافييزيل) متناقضة وجدانيّة تمثّل نقيض «ولش» فاقد الأمل بينما يحتفظ «ويت» بالأمل حتى النهاية. هكذا خلف درعه وقدريته، يودّ «ولش» أن يكون قادرًا على التسليم والإيمان بما يمثّله «ويت»: النور مخترقًا الظلمة التي غرق فيها المقاتلون، والرؤية إلى طبيعة ليست سوى مقبرة في العراء. وبالتالي فإنّ الطبيعة التي يكشف عنها ماليك هي غامضةٌ و«مُشَعْرَنَةٌ» (من شعر). الجندي «ويت» هو امتداد لتلك الطبيعة و«يرى» من خلالها الأمل والمجد، في حين أنّ العدم وحده يحكم الوجود. السيرجنت «وِلش» يجسّد الجانب السرديّ للحرب، فيما يجسّد «ويت» جانب الطبيعة. أي أنّ الأوّل يردّنا إلى المغلق والثاني إلى المفتوح. ويتقاطع هذان «المشروعان» السرديّان طوال الفيلم لينفتحا على حلّ لتناقضهما، أي ما يسمّيه ماليك المجد. واقعًا، المجد تعبير مفارق يتعدّى سائر التناقضات التي يطرحها الفيلم ويتيح النفاذ إلى تجاوزها. الحياة هي تارة ألم، وتارة أخرى فرح. نودّ لو لم يكن هناك سوى الفرح، بيد أنّنا نجانب حقيقة الحياة بذلك. المجد هو إذن ما يفضي إليه التأمّل في المتناقضات، مفسحًا في الآن عينه بوضعهما معًا في وحدة يتعذّر تجاوزها. الجندي «ويتّ» الذي يتّحد في بداية الفيلم مع الطبيعة ومنابع الوجود سوف يجتاز رعب الحرب حتى النهاية، ليبلغ المجد ختامًا من خلال وهب حياته لإنقاذ رفاقه في السلاح. أمّا «وِلش» الذي كان حتّى ذاك منغلقًا «في» العالم، سوف تفتح له تلك التضحية ثغرة في الرعب والمعاناة.

يدور اللقاء الأول من أصل ثلاثة لقاءات بين «ويتّ» و«ولش» في مطلع الحكاية. سفينة أمريكيّة ترسو عند شاطىء جزيرة يقطنها فقط سكّانها الأصليّون. ومنذ البدء، يختبئ «ويتّ» الميّال إلى الهرب من الجندية ليعيش في وئام تام مع تلك الجماعة الميلانيزيّة الصغيرة. هذا المكان ملجأ آمن لامرئ يسعى إلى الفرار من واجبه العسكري، إلى حين تلقي دوريّة الجنود الأمريكيين القبض عليه وتعيده إلى كتيبته. فجأة تتبدّل بقسوةِ البيئة الهانئة التي لجأ إليها. مكان الشواطئ الممتدّة المشمسة والأكواخ الصغيرة وروح المساعدة تحلّ على نحو وحشيّ العزلة والألواح المعدنيّة والمواقع المعتمة تحت الأرض التي تنيرها أشعة شمس ضعيفة تخترق الكِوى.

يجري «وِلش»، وهو قائد المجموعة التي تضمّ «ويتّ»، الحوار الآتي مع هذا الأخير:

«ولش»: «في هذا العالم، الإنسان ، بنفسه، ليس شيئًا. ولا عالم آخر سوى هذا».

«ويتّ»: «أنت مخطىء جدًا. شاهدتُ عالمًا آخر… أظنّ أحيانًا أنّها كانت مخيّلتي فحسب».

«ولش»: «إذن شاهدتَ أمورًا لم أشاهدها قطّ».

لاحقًا، إثر تعرّض الجنود الأمريكيين لهجمات الجيش اليابانيّ المميتة ومعاينتهم أجساد جنودهم ممزّقة بالرصاص والقذائف، يلتقي «ولش» و«ويت» مجدّدًا، عند الغسق، على صخرة فوق هضبة نائية عن أرض المعارك، ونسمع «ولش» قائلًا لجليسه: «لا عالم آخر حيث كل شيء يكون على خير ما يرام. لا عالم سوى هذا. فقط هذه الصخرة».

في النهاية، بعد تدمير القوّة الأمريكيّة تحصينات الأعداء واختراق دفاعاتهم والانقضاض على الأحياء منهم بخناجر البنادق والسهام الحارقة، التقى «ولش» و«ويت» لمرّة أخيرة تحت سقف أطلال منزل، حيث السكينة والعزلة تخيّمان على المكان المهجور:

«ولش»: «هل ما زلت مؤمنا بالنور المشعّ؟ كيف تستطيع ذلك؟ أنت بالنسبة إليّ ساحر».

«ويت»: «ما برحت أرى فيك إشراقًا».

نرى بذلك كيف أنّ الشخوص التي يرسمها ماليك تذهب أبعد من الجانب السيكولوجيّ لتجسّد بشكل أوسع رؤى فلسفية. «ولش» و«ويت» يستدعيان ذاك اللقاء الصعب بين شكلي تفاعل مع العالم، أي تلك المثوليّة المنغلقة على ذاتها، وفي هذا الواقع المقترح: فظاعة الحرب.

في جوهر أطروحة ماليك تدور فلسفيًا جدليّةٌ بين المفتوح والمغلق.

العالم الذي يتكشّف لنا أمام كاميرا ترنس ماليك يجتازه باستمرار تباينه الخاص، فمرّةً تقدّم إلينا الطبيعة بكامل روعتها وانسيابها، ومرّةً تبين لأعيننا مؤطّرة ومعقلنة تحت تأثير «العسكرة» التي يمثّلها الكولونيل «تول» (نِكْ نولته) ويسعى يائسًا إلى محاصرتها. يتحوّل المكان الخاضع لإحداثيات جغرافيّة عسكريّة إلى مكان مسجون داخل خطوط أفقيّة وعموديّة خاضعة للعقلانيّ المنهجيّ. أضف أنّ فكرة الطبيعة تحت سلطان إنسانٍ غازٍ تتمظهر بافتتاح ماليك فيلمه بمشهدٍ لتمساح يغوص حرًّا في مياه مستنقع وحشيّ خضراء اللون. وفي الدقائق الأخيرة من الفيلم، بعد هزيمة الجنود اليابانيين والاستيلاء على الجزيرة، يسارع الجنود الأمريكيون إلى «الاحتفال» بنصرهم وهم في حالة من الثمالة والتعارك وتقييد تمساح فوق شاحنة قاطرة. إنه إتمام «الإغلاق» هنا، استنادًا إلى ما أظهره ماليك في بداية الفيلم من طبيعة حرّة يعيش فيها التمساح بتناغم تامّ مع محيطه الطبيعيّ، لينتهي الأمر عقب مرور الجيش الأمريكي في المكان إلى طبيعة مغزوّة حيث التمساح نفسه تحت سلطة الإنسان.

أمثلة أخرى عن تلك الازدواجية المنبثقة في لحظات متفرّقة، في هذا المشهد أو ذاك، على طريقة استكانة والتقاط أنفاس. التتابع السرديّ يُستقطع بتلك اللحظات ذات الطابع الميتافوريّ. فهنا ورقة خضراء تذبل فورًا وبالكاد لمستها يد جنديّ، وهناك عصفور هوى من عشه يصارع البقاء في حين يقتل ألوف البشر بعضهم البعض الآخر. في الحالتين، البشر هم «داخل» الطبيعة ويغدو موتهم نكتة صغيرة قياسًا بمجد العالم. يقدّم ماليك إلى المشاهدين الحوادث التي تفوت شخوص فيلمه، خالقًا بذلك فسيفساء مزخرفة تتدافع فيها اللحظات المبعثرة وقِطَع الوجود الصغيرة. صوتٌ من خارج حقل الصورة (Voice over) يبدو غير متوجّه إلى أحد يدعم صورة العصفور الصغير، وهذه استعارة ميتافوريّة لحياة بالغة الهشاشة تسير باستمرار فوق «خيط أحمر رفيع» بين الحياة والموت.

يقول الصوت خارج حقل الصورة: «ينظر رجل إلى عصفور محتضر ويخال أن لا شيء يحدث سوى ألم مكتوم. يحظى الموت بالكلمة الأخيرة. يضحك في شأنه… رجل آخر يرى العصفور نفسه ويشعر بالمجد».

لا تنتمي الكلمات إلى الزمن السرديّ الخطيّ للحدث. تمثّل تعليقًا متزامنًا. إنها ثمرة فكرة متلاشية تحوم على نحو ما فوق الحوادث وتتوجّه إلى المشاهد مُذْ ضَمُرَ المجد.

لحظة سماعنا الكلمتين الأخيرتين (من الصوت) «ويشعر بالمجد»، تغفو شخصية «ويتّ» وسط العشب الطويل. إنه صوته وفي الوقت نفسه ليس صوته تمامًا إذ يرينا إيّاه ماليك نائمًا.

من خلال هذا التفكيك للخطّ السرديّ «الكلاسيكيّ»، وخاصةً من خلال الجمع بين الصور والكلمات، يخاطبنا ترنس ماليك بطريقة مختلفة. إنها «كلمته» عبر أسلوب قوله الذي يحمل معنى. اختزالاته التوليفيّة وأصواته خارج حقل الصورة تساهم في خلق شعور أكثر منه تثبيت طرح معيّن. في هذا الصدد المتعلّق بالزمن نعود إلى هايدغر الذي يتحدّث عن زمن واقعيّ مقارنةً بزمن غير واقعيّ. وبالنسبة إلى ترنس ماليك فإنّ تقطيع الزمن يأخذ شكل ذكريات، أو تأمّلات واجترارات وجوديّة تحدث. انشداد شخوصه إلى «البعيد» (خارج المكان والزمان حيث هم) يستحضر مشاعر الخسارة، النسيان، النقص… فثمّة موضوع متكرّر في أعمال ماليك: الحنين إلى فردوس مفقود.

تنبعث ذكرى لدى «ويتّ» تجعله يحيا مجدّدًا لحظات عابرة من طفولته الضائعة، ذكرى فتى يلهو وسط حُزُمات العلف التي ترجّحها رياح السهل. اللحظة تختفي. الحرب والموت يغلّفان «ويتّ» في تلك اللحظة المحدّدة، بيد أنّ ذاك الوقت المستقطع الفجائيّ يتيح له وقتًا لذكرى قصيرة. الأمر عينه ينطبق على شخصية الجندي «بيلّ» (بن شابلن) حين يستعيد صورة زوجته واللحظات الهاربة لها وهي تستحمّ، أو تسير على الشاطئ، أو تعانقه. لقطات ماليك تبعث ذاكرة «بيلّ» المنسابة بنعومة، بلا رابط بين أجزائها، فتظهر على الشاشة مثل ذكريات تطفو في وعيه. هايدغر يشدّد على أهمية تصوّر مماثل حين يتأمل في الفرق بين الزمن غير الواقعي والزمن الواقعي، أي الأنطولوجيّ. تنجم عن ذلك سينما انطباعيّة تكشف الملامح المتعدّدة للحقيقة ذاتها التي لا يسعها التعبير عن نفسها، ولا تفسير ذاتها، إنما إظهار ماهيّتها فحسب. الانتقال من «المغلق» إلى «المفتوح» يدلّ عليه هنا الشعور بالخسارة، وبخاصة خسارة الفردوس. صوت « تراين « خارج حقل الصورة يتساءل مثلًا عن اختفاء الخير في الإنسان:

«كيف فقدنا الخير الذي مُنحناه… كيف تركناه ينسلّ بعيدًا… متبدّدًا بلا مبالاة».

الزمن لدى ماليك ليس غير خطّي فحسب بل يتفكّك انطباعاتٍ ذات صدى مستمرّ في ما بينها، من دون أجوبة بالضرورة. الوجود يغدو بذلك واحدًا ومتعدّدًا، متردّد الصدى في ذاكرة «ويتّ» ووعي «تراين»، ويظلّ هكذا طوال الفيلم. ولهذا السبب لا يحدّد ماليك ملامح شخوصه، لا يروي عملية بحث معيّنة، لا يقحم موضوعه في خطّ سرديّ موجّه، بل يدع سؤالًا كبيرًا يدور حول معنى الوجود المتجسّد في صور وأصوات. الكائن -بحسب هايدغر- يجد نفسه قبل كل شيء في السؤال عن معنى وجوده. الاستهلال يحتلّ مرتبة مهمّة في فيلم ماليك، فالجنود لديه يتعرّضون لتحوّلات عميقة في كل ظهور لهم.

الاستهلال الأوّل هو ذاك المتعلّق بالبحر. المقاتلون ما فتئوا فوق أرض معروفة، على متن السفينة، يتهيأون لتجاوز عتبة، عابرين اليمّ الذي يفصلهم عن الجزيرة، منتهكين بذلك منطقةً تفضي إلى المجهول. ولدى نزولهم إلى الشاطئ يتقدمون ببطء وسط السكينة والصمت المقلقين الناجمين عن مكان غير مستكشف بعد، وفي توقّع لا يحتمل للقاء العدوّ.

الاستهلال الثاني متمثّل بالهضاب الواسعة، كثيفة العشب الطويل والأشواك التي تكاد تغمرهم. هنا يحصل الهجوم الأوّل الذي يقوده الكابتن «ستاروس» (إلياس كوتياس) والذي ينتهي بمجزرة. العدو المختبئ في أعلى الهضاب، من دون أن يسفر عن وجهه، يَسْحَقَ الجنود الأمريكيين الذي تجرّأوا على الصعود إلى القمّة. المقتلة فجائية، دمويّة وفاعلة. هلك الجنود من غير أن يحظوا بفرصة معرفة ما يحصل لهم. بدا عبورهم الهضاب غير منتهٍ سوى إلى الموت.

الاستهلال الثالث يتجسّد في الضباب. عقب الاختراق اليائس خلال الهجوم السابق (مقطع الهضاب)، نجح الجنود الأمريكيون في الاستيلاء على التحصينات اليابانية التي كانت تعوق تقدّمهم، ويكملون طريقهم نحو المجهول.

يُظهر ماليك هنا شعور الضياع الذي يساور المقاتلين، فهم، داخل نفوسهم وخارجها، غارقون في ضباب كثيف وفي عنف لا يوصف. وسط هذا الضباب يجدون أنفسهم فجأة في الموقع الأساسيّ لليابانيين. يلي ذلك تداخل مرعب بين الجهتين حيث يتبادل المتقاتلون النار مثل كلاب متوحشّة. في هذا المشهد المتقن التصوير والمذهل بواقعيّته، يطلع علينا صوت «تراين» خارج حقل الصورة كما لو كان آتيًا من ما بعد (عالم آخر) شبه ساكن، متسائلًا عن منبع هذا الشرّ الكبير الذي يشهد عليه:

«تراين» في (Voice over): «هذا الشرّ الرهيب… من أين يأتي؟ كيف انسلّ إلى الوجود؟ من أيّ بذرة، من أيّ جذر نشأ؟ من فعل ذلك؟ من يقتلنا؟ هل يفيد هلاكنا الأرض؟ هل يساعد العشب في أن ينمو، والشمس في أن تشرق؟ هل هذا الظلام في داخلنا أيضًا؟ هل عَبَرْتَ هذا الليل؟».

تجدر الإشارة إلى أن الأسئلة التي يطرحها «تراين» موجّهة إلى المشاهد مباشرةً على نحو يزيل المسافة القائمة عادةً بين الفيلم ومشاهديه. يرفع ماليك بذلك جسرًا بين فيلمه ومتلقيّه. الأسئلة التي يطرحها «تراين» علينا يتردّد صداها في ذاتيّتنا، في تجاربنا الخاصة التي تدور في هذا «الليل» الذي يحدّثنا ماليك عنه. قوّة سينماه تكمن في التناضح بين المضمون والشكل، بحثًا عن المعنى.

الاستهلال الرابع والأخير هو حول الموت. الاستهلال هذا هو الأخير إذ إنّ مَنْ يتجاوزه لا يعود. بيد أن أثره يبقى لدى الناجين واستشعارهم الفراغ الذي لا يمكن أن يُملأ من جديد أبدًا. يجتاز «ويتّ» كلّيًا «الخيط الأحمر الرفيع»، ومثله الناجون الذي خرجوا من اختبار الموت والرعب في تبدّل عميق إذ فقدوا إلى الأبد أجزاءً من ذواتهم. في ختام الفيلم نسمع صوتين خارج حقل الصورة لكلٍّ من «ولش» و «تراين» موجّهين إلى المشاهد -أو إلى الله- للمرة الأخيرة. يغادر «ولش» غوادلكانال ناظرًا إلى ألوف الصلبان البيض في مقبرة عسكرية، شاهدًا على ذاك الفقدان «فينا» ومعبّرًا عن الشعور بالنقصان:

«ولش» في (Voice over): «إذا لم ألتقِ بك أبدًا في هذه الحياة، دعني أشعر بالفَقْد… ومضة من عينيك وستكون حياتي هي حياتك».

أمّا كلمات «تراين» فتختم الشريط الطويل، على خلفيّة منظر طبيعيّ مهيب حيث تتمازج الجزيرة بالمحيط عند الأفق:

«تراين» في (Voice over): «ظلام ونور، صراع وحبّ، هل هذه من صنع عقل واحد… تمظهرات وجه واحد؟ آه، يا نفسي، دعيني أكن فيكِ الآن. انظري في عينيّ. انظري خارجًا إلى ما صنعتِ. كل شيء يشعّ».

العالم يشعّ بمكوّناته. الطبيعة كما البشر، الذات كما الآخر، الرأفة كما الوحشية، الحياة كما الموت، كلّها مغمورةٌ بنور المجد.

«2»

«شجرة الحياة»

يبدو ماليك «دولوزيّا» (نسبة إلى جيلّ دولوز) في اشتغاله على طبقات الزمن والذاكرة في «شجرة الحياة «(Tree of life) فالزمن لديه هو العنصر الافتراضيّ الذي ندخل فيه بحثًا عن «الذكرى الخالصة» التي تتحقّق في «صورة/ ذكرى»، وهذا مماثل لما يحصل مع الإدراك، فمثلما ندرك الأشياء عندما تكون حاضرة في المكان، نتذكرّها حيث جرت في الزمن، وفي كلتا الحالتين لا نخرج من ذواتنا. الذاكرة ليست فينا إذ نحن الذين نتحرّك في ذاكرة/ وجود، وفي ذاكرة/ عالم. في اختصار، يتبدّى الماضي كأنه الشكل الأعمّ ولوجود مستبق عامةً، تفترضهما ذكرياتنا، وحتى ذكرانا الأولى تستخدمه، إنْ وجدت، بما في ذلك إدراكنا الأوّل. انطلاقًا من ذلك، لا حاضر بذاته إلاّ بكونه ماضيًا مكثِّفًا إلى ما لا نهاية، يتكوّن في الحدِّ الأقصى للموجود الراهن. وتجدر الإشارة إلى أن المتعاقب ليس الماضي، بل هو الحاضر الذي يمضي. فعلى العكس من ذلك، يتجلّى الماضي كتعايش بين الحلقات المتمدّدة نوعًا ما، وكلّ حلقة تتضمّن سائر الحلقات الأخرى في آن واحد، ويكون الحاضر الحلقة الصغرى التي تتضمّن الماضي بأكمله. بين الماضي كوجود معروف مسبقًا

(a priori) عامةً، والحاضر كماضٍ متقلّص إلى أقصى الحدود، ثمة إذًا سائر حلقات الماضي التي تشكّل عددًا من المناطق والاتجاهات والطبقات التي تتّسع أو تتقلّص، فلكلّ منطقة سماتها الخاصة، «ألوانها»، «ملامحها»، «فراداتها»، «نقاطها المضيئة» و«مزاياها الطاغية». وبحسب طبيعة الذكرى التي نبحث عنها ننضوي تحت هذه الحلقة أو تلك. والأكيد أن المناطق تلك (طفولتي، حداثتي، سنوات نضجي…إلخ) تبدو كأنّها متعاقبة، بيد أنّها لا تتعاقب إلاّ من زاوية لحظات الراهن الذي يمثّل كل مرّة حدّها المشترك أو الحدّ الأكثر تقلّصًا بينها. يقول فيلليني: «نحن نُبنى في الذاكرة، نحن طفولتنا وحداثتنا ونضجنا وشيخوختنا في آن واحد».

نال «شجرة الحياة» (2011) السعفة الذهبيّة في مهرجان كانّ. مخلصًا لذاته، شعّ حضور ماليك بغيابه، موكلًا إلى ممثله بْراد بيتّ مسؤولية تقديم الفيلم في المهرجان. ولم يدع «شجرة الحياة» أحدًا غير مبالٍ وأثار ردود فعل حماسيّة لدى المشاهدين والنقّاد على السواء.

على خلفيّة صور تروي نشأة الحياة والوجود، تدور الحكاية في تكساس الخمسينيات من القرن الفائت، وتروي قصة العائلة «أوبراين» منذ ولادة طفلها الأوّل حتّى وفاة طفلها الثاني الذي قضى نحبه أثناء خدمته العسكرية في مطلع بلوغه سنّ الرشد. ويتمحور الفيلم جوهريًّا على مسار حالة الفَقْد التي يكابدها والدا «آر.إل» (بْراد بيت وجيسيكا شاستين) وشقيقه البكر جاك (شون بن)، وكذلك حول التحوّلات الداخليّة التي يحياها جميعهم لتجاوز خسارة مَن يقدّمه المخرج كالابن الأثير لوالديه، المحبوب لديهما والمثير غيرة أخيه الأكبر. وعقب مرور سنوات على وفاة أخيه الأصغر، يغدو جاك مهندسًا معماريًّا مرموقًا، صانعًا شهرته وسط زجاج ناطحات السحاب الحديثة، مستعيدًا آلام طفولته، وحبّه لأمّه، وثورته ضدّ أبيه، وغموض مشاعره حيال أخيه.

مشروع ماليك الطموح هذا في ساعتين وعشرين دقيقة، هو في أكثر من جانب استكمال للفيلمين السابقين «الخيط الأحمر الرفيع» و«العالم الجديد» (The new world)، مع فرق أن المخرج المؤلف يمضي في «شجرة الحياة» أبعد في تفكيك الخطّ السرديّ وبمعنى أكثر في المنحى الشعريّ. ويستطيع المشاهد التمسّك بخيط روائيّ رفيع وبهيكل ظاهريّ للحكاية التي تترك مجالاً لـ«الانطباعات» أوسع من الأعمال السابقة. ذلك لأن ماليك يروي لنا قصة مجزّأة باستمرار إلى صور وأصوات وكلمات منفصلة. لا يدع لنا ماليك «ترف» الانغماس في الفيلم إذ يلجأ بلا توقف إلى تبديد «الركّورات» بين اللقطات، وقطع الحوارات، ووقف كرونولوجية الحوادث. ويستعين بكاميرا محوّمة (ستيديكام) تضيف إلى الواقع نَفَسًا شعريًّا يُغرق المشاهد في تجربة شعرية غير معهودة، مؤكدًا مرّة جديدة على أسلوبه الخاص والمتميّز الذي يجمع المضمون إلى الشكل. الصور تحمل انكسارات زمنيّة، انتشارات أمكنة، تخيّلات ووقائع متداخلة. كل شيء، في الشكل، ينقل إلى المشاهد شعورًا بحضور متلاشٍ.

الدقائق الأربع الأولى تثبّت دعائم الفيلم. تقدّم -في ثلاث زمانيّات مختلفة- ثلاثة تحدّيات للأم وجاك وأخيه الصغير.

يفتح الفيلم على قول ليعقوب: «أين كنتم حين وضعتُ أسسًا للعالم؟… حين أنشدتْ نجوم الصبح معًا، وصاح أبناء الله جميعًا ابتهاجًا؟».

يحيل كتاب يعقوب، في العهد القديم، على موضوعين كبيرين أساسيين، الفَقْد ومجد الله. إيمان يعقوب بالنسبة إلى الله سوف يُختبر من خلال عدة مِحَن وخسارات كان عليه أن يواجهها، بينما يُختبر مجد الله عبر ذاك الحوار بين الخالق ومخلوقه حول «أسرار» الخلق، وحول عجز البشر عن إدراك معنى الكلمات والأفعال الإلهية، وحول الربوبيّة. الله موجود ويغمر يعقوب بجلاء مجده، فلا الشرّ ولا الموت سيسع الإنسان فهمهما، لأنّ ذلك من شأن الله. هل يمكن فهم صروف الدهر كعقاب إلهيّ؟ لا جواب حقًّا فمجد الله هو أبعد من العقاب والثواب. التعارض بين الحياة والموت، بين الخير والشرّ، بين الفَقْد والتكوين، يزول على درب المجد. هذه الدرب تحديدًا مطروحة طوال «شجرة الحياة».

نحن هنا في الساعة الصفر. عندما يسائل الله يعقوب فإنه يستدعي لحظة خلق العالم، التي يستأنفها ماليك عبر الصور. من خلال حبّه لأمّه ومن خلال موت أخيه يعثر «جاك» على سلامه الداخلي، ومن ثم على مجد الله في الجزء الأخير من الفيلم. نرى كيف أنّ فَقْد إنسان عزيز اعتُبر شرًّا (بالعودة إلى كتاب يعقوب) يغدو منذ لحظات الفيلم الأولى، ومن غير أن يكون المشاهد قد انغمس في مضمون الحكاية، دربًا مباشرة نحو الآخر الجوهريّ-الله. يضع ماليك شخوصه في أزمة وجودية عميقة تفضي إلى تساؤل حول الله.

تجدر الإشارة إلى الانقلاب الذي يحدث في توالي هذين المشهدين. في المشهد الأول، يتوجّه الله إلى الإنسان، وفي المشهد الثاني، هو الإنسان الذي يخاطب الله، فيخلق ماليك بذلك نوعًا من الجدليّة بين المرسَلْ إليه الإلهي والمرسَلْ إليه البشريّ، ولا تفضي هذه الجدلية إلى أي جواب فوريّ. الله والإنسان يتكلمان على نحو ما كلٌّ من ناحيته. الأمل ببلوغ المجد والرجاء يمرّ بالأحرى من خلال الجدليّة (الديالكتيك) بين ما يدعوه المخرج «الطبيعة» و«النعمة». بمشهدين فحسب، يطرح ماليك المواجهة الأساسية في فيلمه: التعارض بين السعادة والفَقْد، كذلك بين الطبيعة والنعمة، ولا يمكن تجاوز هذا التعارض إلاّ عبر مجد الله.

فيما نسمع الأم تبوح بتعاليم دينيّة تلقّتها في طفولتها، نكون في كل مكان وسط الطبيعة. الشابة التي يقدّمها ماليك إلينا (الأم في عمر فتيّ) محاطة بالخضرة، والحيوانات، والنباتات والأزهار. لا نفقه لتوّنا معنى النعمة والطبيعة، حتى لو حُدّثنا عَن النعمة وسط الطبيعة.

ثم، سحابة خفوت إلى الأسود، تفتح الحكاية مجدّدًا على مشهد من حياة الأمّ متأرجحةً على غصن شجرة، محاطةً بأبنائها الثلاثة يركضون ويمرحون حولها. جاك كان آنذاك في الثانية عشرة. المونتاج السلس لا يتوقّف عند هذا الاختزال الزمنيّ (Time Lapes)، محدثًا بذلك انقطاعًا كرونولوجيًّا لا يُفسد البتّة إيقاع السرد. يطرح ماليك أجزاء الوجود هذه على نحو لا تعود فيه لـ»المسافة» الزمنية أيّ أهميّة. لقوامها الأنطولوجيّ الأولويّة. أجزاء الزمن الصغيرة تمسي هنا كما في «الخيط الأحمر الرفيع» لحظات ملائمة.

الأمّ التي تُحدّثنا عن النعمة هي واقعًا وسط الطبيعة. يبدو المشهد مثل الماء الذي يجري أو مثل الريح التي تعصف، ويختم ماليك تحويم كاميراه بلقطة لشجرة رائعة من زاوية علويّة، مختزلًا التعارض بين الطبيعة والنعمة بضمّهما معًا. على المستوى السمعيّ، تكلّمنا الأمّ عن النعمة، وعلى المستوى البصريّ، تُظهر لنا عدسة الكاميرا الطبيعة. الشعريّة تتجاوز هنا التفرّع الثنائيّ نعمة/ طبيعة كاشفةً لنا في النهاية تناضحهما. من زاوية النظر السينمائيّة، نهجُ ماليك الفكريّ يعمل على الخروج من التعارض الأنطولوجيّ (طبيعة/ نعمة) ليصبح هو نفسه «المفتوح» الذي حدّثنا عنه هايدغر.

اللقطة الأخيرة من هذا المشهد الافتتاحيّ ذات أهميّة جوهريّة . من خلال استخدام ماليك زاوية التصوير العلويّة فإنه كان يضع وسط الكادر الشجرة المنتصبة في فناء منزل عائلة «أوبراين» حيث الأولاد الثلاثة يتسلّقونها محاولين بلوغ قمّتها. الأولاد يفعلون أكثر من تسلّق الشجرة، هم يرتقون سلّم «شجرة الحياة». الاستعارة تضيف هنا معنى أوسع إلى الفيلم. تلك الاستعارة تحوّل أنظارنا نحو الطبيعة لتغدو موضوع تأمّل شعريّ وتكفّ عن التعارض مع النعمة.

يسائلنا ماليك حول ذينك الأسلوبين المختلفين لانوجادنا -في- العالم وهما الطبيعة والنعمة. يقول لنا: «عليكم أن تختاروا أيّ درب تتبعون». يطرح الفيلم خيارًا دينيًا يتيح الرؤية إلى الوجود عبر النعمة أو الطبيعة. بيد أنّه يفعل أكثر من ذلك بكثير. يتجاوز بنفسه ذاك التعارض محوّلًا طبيعة المشاهد بالنعمة الجمالية للفيلم. إذ كانت بداية الطرح قد أظهرت لنا أنّ ثمّة الفيلم من جهة، والمُشاهِد من جهة مقابلة، ففي النهاية هناك الفيلم «في» المُشاهِد، والمُشاهِد «في» الفيلم. لم يبقَ ثمّة الطبيعة أو النعمة، بل الطبيعة والنعمة معًا.

إذن في الدقائق الأربع الأولى من الفيلم يتركّز خطاب ماليك في موقعه: الفَقْد، النعمة، الطبيعة، وفي النهاية المجد (الذي سوف يتجلّى في المشهد الأخير). العنصر المُطْلِق للحكاية يستطيع الآن أن يَمْثُلَ فجأةً: الإعلان عن موت الإبن الثاني.

مدّة هذا المشهد ليست ذات دلالة البتّة، ومع ذلك يكون أساسيًا لـ «تتّمة العالم». شحنته العاطفيّة سوف تزعزع حياة جميع أفراد العائلة التي أدخلت إليها أمرًا شديد الإيلام: موت ابن معشوق. يقدّم ماليك هذا المشهد القصير خاليًا من أيّ حوار. تتلقّى الأم الخبر بواسطة تلغرام، في حين يتبلّغه الأب عبر الهاتف. في الحالتين، ميلوديا خفيّة بآلات الكمان تدعم الصورة كخلفيّة موسيقية. والمفارقة أنّ شعور الفَقْد يتبدّى في هذه اللحظة، ومع انبعاثه تبدأ رحلة «جاك» مع التطهّر، مكتسحًا بموت أخيه الأصغر سنًّا.

الفَقْد مركزيّ هنا لجهة أنّه يحمل في آن واحد تحدّيًا واقعيًّا -الموت بذاته للابن الثاني- وتحدّيًا إدراكيًّا- صمت الله الذي لا يجيب عن التساؤلات العجِلة والملحّة التي يطرحها أفراد العائلة حول هذه الميتة. يشير ماليك طوال الفيلم إلى إله صامت يظهر في الطبيعة لكنّ مجده يمسي مُدرَكًا بالنعمة. يتحوّل الله إلى آخر غير إله الكنيسة المسيحية الذي يطلب الطاعة.

على موسيقى منبعثة في خلفيّة المشهد طوال سبع عشرة دقيقة، تتوالى على الشاشة لقطات -لوحات-، مثل ألبوم صور نقلّب صفحاته. تلك الدقائق السبع عشرة هي بمثابة قطع سرديّ. حِداد العائلة مفتوح على الما بعد الذي يتجاوز أفرادها، إلاّ أنّه يضعها أيضًا في مِحَنِ الأحياء والألم الملازم للوجود البشريّ. اللقطات رائعة، والمقطوعة الموسيقية مؤثّرة والعنف دائم الحضور. صور الخلق والتكوين مترافقة مع صور التدمير. نرى نباتات عملاقة كثيفة، وفي اللحظة التالية حمم بركانيّة تغمرها. كواسر، حشرات مخاتلة، ديناصور مجروح يُحتضر فوق شاطئ رمليّ… إلخ. بذلك فإنّ دورة الحياة مكوّنة من جمالات ومآسٍ، من ميتات وولادات، من خير وشرّ. هذه الديناميّة عينها تنهش أفراد عائلة «أوبراين».

بعد المشهد الافتتاحيّ يعود بنا ماليك إلى تكساس الخمسينيات من القرن الماضي وطفولة الأشقاء الثلاثة، لكن من وجهة نظر البكر بينهم، «جاك». فهذا الأخير يكره والده، يحبّ أمّه، وفي داخله مشاعر متناقضة إزاء أخيه الذي يصغره، طفل العائلة المدلّل، وهو الابن الثاني الذي سيموت لدى بلوغه بداية سنّ الرشد. عدد من المشاهد يزيّن تلك الطفولة.

المشهد الأوّل المشعّ في حياة العائلة زمن طفولة الأبناء، نرى فيه صنيّي العائلة (الولد الثالث الأصغر سنًّا يكاد يكون غائبًا عن الحكاية ولا يلعب أي دور)، أي «جاك» الذي كان في الثانية من عمره تقريبًا، وأخيه الذي ما فتىء رضيعًا، يلهوان مع أمّهما على العشب أمام المنزل. وفجأة، عند زاوية الشارع، يقع رجل غريب ضحيّة عارض صحّي، فيرتجف كلّ جسده الممدّد أرضًا، ليتبيّن أنه مصاب بداء النقطة. يتحلّق مارّة حوله فيما تحوّل الأمّ نظر «جاك» الفتيّ حاجبةً عينيه بيدها ومبعدةً إيّاه عن المشهد.

في المشهد الثاني، «جاك» الذي أضحى في الثانية عشرة من عمره، يسبح في حوض سباحة للعامّة مع بضعة أصدقاء. كان المراهقون يسبحون ويقفزون في الماء، لدى وقوع حادث يشبه السابق في المشهد الأول، إذ يُلمح جسد فتى عائمًا، جثّة جامدة. ينطلق جرس الإنذار. يهرع الأهل إلى حواف المسبح ويقفز والد «جاك» لإنقاذ الفتى العائم، وأمام ناظِرَيْ أمّه فاقدة الأمل يحاول بلا جدوى إنعاشه.

مشهدان لا تكفّ البلايا فيهما عن النزول بالعائلة، وكلٌّ من أفرادها يواجه المصائب على طريقته، فالأمّ تحاول حماية أبنائها من قسوة الحياة بحضورها وإحاطتها بهم، في حين أنّ الأب سلطويّ، طوال الفيلم، مع ابنه البكر ويريد «أن يصنع منه رجلًا». يرغمه على الخروج من الحلقة العائلية لكي يتسلّح بالقوّة وينزع من رأسه الأوهام لأنّ المجتمع قاسٍ لا يرحم، فبالنسبة إلى الأب لا نحمي أنفسنا من الشرّ بل نواجهه. الأم تسود نوعًا ما في النطاق الخاص، والأب في النطاق العام. إنّما لا أحد منهما قادر على حماية «جاك» من شعوره بفَقْدِ أخيه.

المشهدان الثالث والرابع مرتبطان إلى حدّ بعيد. في الثالث نرى «جاك» متحوّلًا إلى فتى متمرّد. يحبّ والديه، لكنّه يسعى إلى التخلّص من العاطفة الجمائيّة لدى أمّه، ويتمرّد بخاصة على طاعته لأبيه المتسلّط، بل يتمنّى حتى موته.

«جاك» (Voice Over): «أمي… أبي… إنّكما تتصارعان في داخلي».

لم يعد يملك «جاك» نقاط ارتكاز. لم يبق في حضن أمّه ويرفض عالم أبيه. لا في الداخل، ولا في الخارج، ليس في أيّ مكان. غاضبٌ دومًا، يعاشر المنحرفين ويسيء إلى أخيه الذي ظلّ تحت رعاية أبويه. لكنّ هذا الأخ الذي مات فيما بعد فتح طريقًا آخر لـ«جاك» بواسطة الغفران، طريقًا سوف يتبعها حتى النهاية لاكتشاف الحياة على ضوء النعمة. يوم غفر له أخوه إساءاته المؤذية، قال «جاك» لوالده إنّه يشبهه في العمق.

الأب: «أتعرف يا جاك، كلّ ما أردته لك كان جعْلك قويًّا وسيّد نفسك… ربما كنتُ قاسيًا معك. لستُ فخورًا بذلك».

«جاك»: «أنا شريّر مثلك… إنّي أشبهك أكثر ممّا أشبهها» (يقصد أمّه بالطبع).

ينتهي الفيلم بالحلّ الأكثر أهميّة، ذاك الذي يسمح لـ«جاك» (في سنّ الرشد) بالتصالح مع طفولته، مع نفسه ومع الله. كان قد أصبح في هذه المرحلة مهندسًا معماريًّا، سجين أربعة جدران زجاجيّة لمصعد يرتفع نحو السماء من دون أن يتوقّف، مستسلمًا لأفكاره وغائصًا في بُعدٍ آخر متخطّيًا العتبة، في المعنيين الواقعيّ والمجازيّ. يجد نفسه فجأة في صحراء شاسعة، مجتازًا بابًا يفضي به إلى لا مكان، سائرًا وراء نفسه، أي «جاك» ابن الثانية عشرة الذي يدعوه إلى اللحاق به، على خلفيّة صور عن خلق العالم:

«جاك» الراشد (Voice over): «أخي… احمنا… أرشدنا… إلى آخر الأزمنة».

«جاك» الفتى (Voice over): «اتبعني».

الكاميرا تغوص عندئذٍ في جوف موجة ضخمة تدور على ذاتها، لترتفع من ثمّ إلى رأس شجرة تخترق أشعّة الشمس أوراقها. على شاطئ ضائع في اللانهائيّ، يسير الأشخاص الذين علّموا في حياة «جاك» جنبًا إلى جنب، وهنا يلتقي أمّه وأباه وأخاه الميت، وجميعهم في الهيئة ذاتها التي كانوا عليها في ذكريات الطفولة، كما لو كانوا متجمّدين في زمن آخر. الابن المتوفى يدنو من الأب الذي يغمره، ثم تلمس الأمّ خدّه بحنان والدمعة في عينيها قبل أن تضمّه إلى صدرها.هكذا اجتمعت العائلة على نحو مثاليّ يراه «جاك» الآن اتحادًا عائليًا. فالعائلة لم تعد ممزّقة بالصراعات، ولا مشلولة من جرّاء فقدان أحد أعضائها.

السؤال الكبير حول معنى الوجود الذي يعبر «الخيط الحمر الرفيع» و«شجرة الحياة» يعبّر عنه ترنس ماليك بلغة سينمائيّة مكوّنة من صور بديعة، واختزالات زمنيّة يتخلّلها الصوت خارج حقل الصورة، كاشفًا لنا عالمًا يحاول فهمه أكثر من ادّعاء تفسيره. ولهذا السبب يسعى ماليك في أفلامه إلى الافتتان بالعالم بواسطة الشعر.

نزوى

لمزيد من المعلومات عن ترنس ماليك

https://www.imdb.com/name/nm0000517/

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى