أرميناك توكماجيان : كذبٌ وسلاحٌ ومال
يتحدث أرميناك توكماجيان، في مقابلة معه، عن سرمدا والحدود السورية مع تركيا والأسباب التي قد تدفع إلى تبدّل الوضع القائم هناك.
أرميناك توكماجيان باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، تركّز أبحاثه على قضايا الحدود والنزاع، واللاجئين السوريين، والوسطاء المحليين في سورية. وضع العام الماضي مع خضر خضّور دراسة بعنوان”كيف تحوّلت بلدة سرمدا الصغيرة إلى بوابة سورية إلى العالم الخارجي”. نُشرت هذه الدراسة منفردة، لكنها تشكّل جزءًا من ملف بعنوان Border Towns, Markets and Conflict (البلدات الحدودية، والأسواق، والنزاع) ساهم فيه مركز مالكوم كير-كارنيغي بالتعاون مع مؤسسة آسيا ومعهد الأخدود العظيم. هذا الملف الصادر حديثًا هو حصيلة أبحاث أُجريت في إطار “برنامج الصراعات العابرة للحدود: الأدلة والسياسات والاتجاهات” التابع لوزارة الخارجية والكومنولث والتنمية في المملكة المتحدة، والمموّل من مشروع مساعدات الحكومة البريطانية. أجرت “ديوان” مقابلة مع توكماجيان في منتصف تموز/يوليو لمناقشة هذه الدراسة ومعرفة آخر مستجدّات المنطقة الحدودية في الشمال السوري.
مايكل يونغ: كيف غيّر الصراع السوري معالم مراكز التجارة في المناطق الشمالية للبلاد؟
أرميناك توكماجيان: لنأخذ على سبيل المثال بلدة سرمدا التي كتبنا عنها أنا وزميلي خضر خضّور. انطلق مسار تحوّل سرمدا إلى مركز اقتصادي على وقع عسكرة الانتفاضة السورية في العام 2012، وتسارعت وتيرته بعد فترة وجيزة حين غرقت سورية في أتون حرب أهلية شاملة. قبل الانتفاضة، شكّلت مدينة حلب المركز الإداري والصناعي والتجاري لمنطقة شمال سورية، إذ كانت جميع الطرقات التجارية المحلية والدولية الأساسية في المنطقة تقود إلى حلب، ومنها تُوزَّع البضائع على المدن والبلدات الأصغر مساحةً في شمال سورية.
وفي العام 2012، سحب النظام تدريجيًا قواته من المناطق الريفية في إدلب وحلب، حيث تنامى نشاط الثوّار، فقُطِعت حلب عن عمقها الاقتصادي وفقدت إمكانية الوصول إلى معبرَي باب الهوى وباب السلام الواقعَين على الحدود مع تركيا. في غضون ذلك، تقاسمت مجموعات الثوّار وقوات النظام حلب في ما بينها، الأمر الذي أسفر عن نتائج كارثية من حيث الخسائر في الأرواح، وهروب الرساميل واليد العاملة الماهرة، ودمار البنية التحتية. ونتيجةً لذلك، بدأ مركز المنظومة التجارية في شمال سورية بالتحوّل من حلب نحو المناطق الحدودية الخاضعة لسيطرة الثوّار في شمال غرب البلاد. وتشكّل سرمدا، الواقعة على مقربة من معبر باب الهوى الاستراتيجي، المثال الأبرز على هذه الظاهرة، مع أن بلدات حدودية أخرى في شمال سورية حذت حذوها شيئًا فشيئًا.
يونغ: هل يمكنك أن تصف ما حدث تحديدًا في سرمدا؟
توكماجيان: لقد غيّرت الحرب واضطراباتها المنظومة الاقتصادية في شمال سورية، فتراجعت الأنشطة الإنتاجية والزراعية لصالح الأنشطة التجارية، ولا سيما الواردات وتسليم المساعدات الإنسانية. واقع الحال أن موقع سرمدا الجغرافي خوّلها لكي تصبح مركزًا لمثل هذه الأنشطة. فهي تقع كما ذكرتُ بالقرب من معبر باب الهوى على الحدود مع تركيا، أي كانت نسبيًا في منأى عن نيران النظام، وشكّلت موقعًا آمنًا لتخزين المساعدات الإنسانية الأجنبية قبل إعادة توزيعها داخل سورية، وبالتالي أصبحت نقطة جذب للرساميل البشرية والمالية الهاربة من مراكز النشاط الاقتصادي السابقة. باختصار، تحوّلت سرمدا من بلدة ريفية صغيرة إلى مركز اقتصادي في سياق التحوّل الكبير في النشاط الاقتصادي من المراكز الحضرية إلى المناطق الحدودية.
يونغ: على نطاق أوسع، كيف تقرأ التطورات التي قد يشهدها الشمال السوري خلال الأشهر المقبلة، ولا سيما على ضوء التهديدات التركية الأخيرة بشنّ عملية عسكرية كبيرة أخرى ضدّ القوات الكردية هناك؟
توكماجيان: قد نشهد إما تصعيدًا أو تهدئةً، فالسيناريوهان ممكنان. لنضع الأمور في سياقها: بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، ازدادت أهمية تركيا بالنسبة إلى روسيا والغرب. أدركت أنقرة ذلك، فازدادت جرأتها في الضغط من أجل تنفيذ بعض مطالبها، ومن ضمنها إبرام صفقات أسلحة مع الولايات المتحدة، ورفع الحظر الذي فرضته دول عدّة على بيع الأسلحة إليها، ورفع العقوبات، وغيرها. وتندرج في السياق نفسه التهديدات الجديدة التي أطلقتها تركيا بالتدخل في سورية ضد حلفاء واشنطن الأكراد. في الوقت الراهن، تعارض الولايات المتحدة أي توغّل تركي جديد، وقد عبّرت عن موقفها هذا بشكل واضح وصريح. لكن تركيا بحاجة لبلوغ تفاهم مسبَق مع روسيا قبل التدخل في سورية، نظرًا إلى أن قوات موسكو منتشرة إلى جانب قوات النظام في عدد كبير من المناطق الكردية التي ترغب تركيا في السيطرة عليها. ربما جرت بعض المساومات تحت الطاولة، لكن حتى الآن لا يلوح في الأفق أي اتفاق واضح المعالم، ويبدو أن الخطط التركية معلقة في الوقت الراهن. مع ذلك، حتى لو تراجعت أنقرة الآن، فهي لن تتخلى تمامًا عن خططها هذه، بل تفضّل تأجيلها فحسب لأن الوضع القائم لا يناسبها.
يونغ: هل تعتقد أن المناطق الحدودية التي تسيطر عليها تركيا في شمال سورية ستعود يومًا إلى السيطرة السورية؟ أم أننا سنشهد ضمًّا تدريجيًا لهذه المناطق؟
توكماجيان: من الصعب معرفة ما سيحصل بصورة مؤكدة، لكن يمكن القول إن تركيا والنظام، المدعوم من حليفتيه روسيا وإيران، غير راضيَين عن خارطة السيطرة الحالية. وإذا أخذنا في الحسبان الرغبة الجديّة لكلٍّ من تركيا والنظام السوري في تغيير الوضع القائم، قد تتغير معالم الخطوط الأمامية الحالية نظرًا إلى درجة الانتشار العسكري في المنطقة. لقد أوضحنا هذه النقطة في دراسة أخرى وضعتها مع خضر خضّور بعنوان “دولة الحدود: إعادة تصوُّر الأراضي الحدودية السورية-التركية”. لكن كان ذلك قبل الحرب في أوكرانيا وتهديدات تركيا بتنفيذ توغّل آخر في سورية. ونعتقد أن التهديدات التركية، والتعبئة العسكرية للنظام السوري وروسيا، والمحادثات السرية بين أنقرة وقوى مختلفة على رأسها موسكو، تشير جميعها إلى أن الخطوط الأمامية في شمال سورية لن تبقى على حالها إلى الأبد.
حول مسألة الضم، تخضع الكثير من المناطق الواقعة في قبضة المعارضة على امتداد الحدود مع تركيا لنفوذ أنقرة أو تأثيرها. وهي تشكّل مناطق آمنة بين تركيا من جهة والمناطق الخاضعة لسيطرة النظام من جهة أخرى، وتُعتبر ضمانة بأن النظام وحلفاءه سينصتون إلى بعض مطالب أنقرة حين يحين أوان حلّ النزاع في شمال سورية. وقد يستعيد النظام، بمؤازرة روسيا، السيطرة على بعض مناطق الشمال السوري، كتلك الواقعة جنوب الطريق الدولي السريع إم 4، لكن من المستبعد في الوقت الراهن أن يتمكّن النظام من فرض سيطرته الكاملة. في مطلق الأحوال، نشكّ في أن تستفيد تركيا كثيرًا من ضم هذه المناطق إليها بشكل رسمي.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.