الناس

أعباء إكرام المرحومين/ محي الدين عمّورة

هناك ما يزيد على غصة الموت في دمشق. منذ لحظة الوفاة ينشغل ذوو المتوفى بمراسم الدفن وتأمين القبر واستئجار صالة عزاءٍ لاستقبال المواسين، وهذا لم يعد سهلاً أو قليل التكلفة. بات القبر حلماً صعب المنال، حتى لو توفّر ثمنه، ومهما بلغ السعر. إذا كان لديك المال الكافي، فتستطيع شراء ما تريد في دمشق؛ كل أنواع العقارات والسيارات واللباس والطعام، لكن الشيء الوحيد الذي لا تستطيع شراءه هو القبر. لشراء القبر تحتاج إلى مبلغٍ كبيرٍ من المال، ولكن الأهم من ذلك هو اللجوء، وبطرقٍ ملتوية، لشراء القبور من الوسطاء، ومن خلال السوق السوداء حصراً.

في دمشق «لا تباع القبور ولا تشترى، وإنما يوجد تنازل، وللأقارب حصراً. أما إذا كان التنازل لشخصٍ غريب فالأمر يحتاج إلى القضاء. كما أن الاستضافة ممكنة لدفن الأقارب فقط». هذا ما قاله فراس إبراهيم، مدير مكتب دفن الموتى في دمشق. لا يسمح القانون السوري ببيع القبور، ولكن يسمح بالتنازل عنها ضمن الورثة الشرعيين، ما يدفع السوريين إلى إتمام عمليات البيع بين بعضهم، ثم يتنازلون عن القبر في مكتب دفن الموتى بحجة أنه تنازلٌ دون مقابلٍ مادي، وبعدها يحصلون على حكمٍ قضائي بنقل الملكية. إلا أن المكتب التنفيذي في محافظة دمشق، أصدر بتاريخ 19/11/2018 القرار رقم 1020، بهدف جعل عملية التنازل عن القبور صعبةً على الناس. وقد فرض هذا القانون رسماً على العملية التي تعرف رسمياً بـ«التنازل عن استحقاق الدفن»، وهذا الرسم يتراوح بين 3 إلى 4 ملايين ليرة سورية، يدفعها من يريد الحصول على «استحقاق دفن» في أحد المقابر بعد الحصول على حكمٍ من القضاء، إضافة إلى ما يدفعه لمالك القبر تبعاً للغرامة التي قُسِّمت على درجات وبحسب تصنيف المقابر، والتقسيم هنا حسب موقع المقبرة و«أهميتها».

ونقلت صحيفة الوطن الموالية عن فراس إبراهيم قوله: «إن عدد المقابر حالياً في العاصمة يصل إلى نحو 30 مقبرة غير المدافن الصغيرة، مبيناً أن عدد القبور يصل إلى نحو 150 ألف قبر. علماً أنه يمكن الدفن في طابقين أو 3 طوابق، وذلك يعود للمساحة الجانبية». وجاء حديث إبراهيم في شهر أيلول (سبتمبر) من العام الماضي، عندما كان يرافق محافظ دمشق عادل العلبي في جولة تفقدٍ للأعمال المنجزة في مقبرة عدرا الواقعة شمالي دمشق وتنفذها مؤسسة الإسكان العسكرية بريف دمشق. وتحدث إبراهيم وقتها عن جاهزية 4 آلاف قبر في مقبرة عدرا، وأن 4500 قبرٍ آخر قيد الإنجاز، وخاصةً أن المقبرة تضم 12 ألف قبر. كما تطرق في حديثه عن مقبرة «نجها» الواقعة جنوبي دمشق، وأن هناك جهودٌ للتعاقد على 6 آلاف قبر جديد، مبيناً وجود نحو 20 ألف قبر في المقبرة.

وتشتهر دمشق بمقابرها التاريخية، وتعد مقابر الشيخ رسلان وباب الصغير والدحداح من أكبر هذه المقابر وأكثرها في أعداد القبور، حيث تضم رفات العديد من الشخصيات التاريخية من صحابة الرسول محمد وقسمٍ من الخلفاء، خاصةً من بني أمية، والعديد من الشخصيات السورية البارزة عبر مختلف الحقب والأزمنة، وغيرهم الكثير من الشخصيات العربية التي عاشت ثم ماتت ودفنت في دمشق. لذلك يحرص الدمشقيون على دفن موتاهم في واحدةٍ من هذه المقابر أو أي من مقابر دمشق عامة. إلا أن السبب الحقيقي والغير معلن وراء هذا الحرص ليس راحة الأموات بل راحة الأحياء من ذويهم. سألنا رجلاً من إحدى الأسر الدمشقية عن السبب الحقيقي، فقال: «الميت بعد ما يموت شو بيفرق معه وين اندفن؟ المشكلة مو بالميت، المشكلة بعيلته. نحن عنا عادات وتقاليد بزيارات القبور، خاصةً بالأعياد، لهيك العالم بتدور على قبر يكون بقلب الشام، منشان وقت الزيارة ما يتعذبو ويروحو على مكان بعيد، وفي منهن عالم منشان يتفاخروا أنه عندهن قبر بالمقبرة الفلانية، أما الميت متل ما قلتلك ما بتفرق معه». ربما هذا هو السبب الحقيقي وراء رغبة الأهالي بدفن موتاهم في مقابر دمشق، لكن هذه الرغبة لم تعد مجانيةً أو بأسعارٍ رمزية كما كانت منذ سنوات طويلة، بل باتت اليوم تكلفهم ملايين الليرات، حتى وصل سعر القبر الواحد في دمشق نحو 17 مليون ليرة سورية.

ومع وجود 150 ألف قبر فقط في دمشق بحسب تصريح فراس ابراهيم، وهي بالكاد كانت تتسع لدفن موتى سكان العاصمة من الدمشقيين، لأن غالبية السكان من أهالي الريف وبقية المحافظات اعتادوا على نقل رفات موتاهم إلى مسقط رأسهم، حتى فاجأتهم الحرب مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 ونزوح الآلاف إلى العاصمة وسقوط الكثير من القتلى، تشكّلَ ضغطٌ على القدرة الاستيعابية لهذه المقابر من حيث المساحة والتنظيم. وزادت الأمور تعقيداً مع جائحة كورونا (كوفيد-19) التي رفعت بدورها أعداد الوفيات مع بقاء عدد القبور على حاله. وحاول نظام الأسد إيجاد حلٍّ جزئي عام 2017 بقرارٍ أصدرته محافظة دمشق سمحت فيه ببناء قبورٍ طابقية، طابقين وحتى ثلاثة طوابق، رغم حالة الجدل التي أثارها هذا القرار بين المحافظة ودار الإفتاء بدمشق، حيث صرح مفتي دمشق عبد الفتاح البزم وقتها بعدم جواز بناء القبور الطابقية بدعوى أنها «تمثّل اعتداءً على حرمة الميت»، وذلك لعدم جواز فتح القبور «إلا لضرورةٍ شرعية»، معتبراً أن قرار محافظة دمشق «لا يعتبر من الضرورات الشرعية». وجاء الرد من المحافظة بأن قرارها «شرعيٌّ لكونه يمثل حاجةً ضروريةً مع قلة عدد القبور وارتفاع أسعارها».

وكما أن هناك تجاراً وسماسرة عقارات في سورية استفادوا من ظروف الحرب لكسب الأموال الطائلة بشتى الطرق، فإن هناك تجاراً وسماسرة للقبور أيضاً، وهؤلاء استغلوا حاجة الناس للقبور ولجأوا إلى الكثير من الوسائل غير القانونية لكسب المال. ويتّبع هؤلاء عدة طرق ملتوية، منها شراء القبور من أصحابها وبيعها لآخرين بمبالغ كبيرة، ويتم تسجيلها لدى مكتب دفن الموتى على أنها استضافة، وهو ما يسمح به القانون. بينما يتم التنازل عنها في الخفاء بعد الحصول على حكمٍ قضائي. كما اعتمد هؤلاء السماسرة أسلوباً آخر، مستغلين حالة التهجير القسري أو الهجرة الجماعية للكثير من السوريين خارج البلاد، حيث هناك الكثير من العائلات فرّت بأكملها بحثاً عن الأمان، فيقومون بمراقبة القبور التي ينقطع الأهالي عن زيارتها لفترةٍ طويلة بالتعاون مع حراس المقابر وبعض الموظفين في مكتب دفن الموتى، فتتم إزالة الشواهد ورفات الموتى ويعاد بيعها لملاك جدد على أنها قبورٌ حُفرت في الوقت الحالي. حتى مكتب دفن الموتى نفسه يقوم في بعض الأحيان بمصادرة قبورٍ لبعض السوريين بحجة عدم امتلاكهم لوثائق كافية تثبت ملكيتهم للقبور، وذلك رغم امتلاك العائلة للقبر منذ سنوات طويلة. ويقوم المكتب ببيعها لآخرين بأسعار كبيرة تحت ذريعة أنه «أمّن لهم القبر بعد عناءٍ شديد». واعترف مدير مكتب دفن الموتى بمصادرة أكثر من 500 قبر، وأن هذه القبور «ما زالت تخضع للدراسة لمعرفة أصحابها الحقيقين» على حد زعمه.

وبسبب ندرة القبور في مقابر دمشق واحتكارها من قبل بعض الأشخاص، فإن الحديث اليوم في دمشق عن وصول أسعار القبور لحد 15 أو 17 مليون ليرة سورية، يضاف إليها تكاليف أخرى مثل «الشاهدة» التي توضع على القبر، وهي قطعةٌ من الرخام توضع عند رأس الميت ويكتب عليها معلوماتٌ عن المتوفى (الاسم، وتاريخ الولادة، وتاريخ الوفاة). صناعة هذه الشواهد هي بحد ذاتها حرفة ومهنة يمتهنها بعض الأشخاص، ولها محلات فيها أدوات خاصة لصناعة شواهد بأشكال وأنواع متعددة. لكن حتى هذه المهنة باتت قريبةً من الانقراض نظراً لارتفاع تكاليفها، خاصةً للرخام، عطفاً على الارتفاع الحاصل في كل مناحي الحياة. وقد باتت الشواهد تكلف مئات الألوف وهو ما يعجز عنه الكثير من السوريين، ما اضطرهم اتباعَ بعض الأساليب للتحايل على الأمر. يلجأ بعض الأهالي الذين يدفنون موتاهم في قبور خاصة بهم فوق متوفين لهم منذ مدة طويلة إلى إضافة الاسم الجديد على الشاهدة القديمة بالقلم بدلاً من صنع واحدةٍ جديدة، فيما يستعيض البعض الآخر بالسيراميك بدلاً عن الرخام لفرق السعر بينهما. ورغم ذلك ما زال هناك عدد من أصحاب الأموال يزينون قبور ذويهم بالرخام بأسعار قد تصل إلى نحو 10 ملايين ليرة، ومن صادف دخوله أو مروره من أمام إحدى المقابر المعروفة في دمشق، سيشاهد نماذج متعددة عن هذه القبور التي يظهر عليها البذخ بشكلٍ واضح.

يذكر أن كثيرين اشتكوا من تفشي ظاهرة سرقة شواهد القبور من قبل عناصر النظام في كثيرٍ من المناطق وبيعها كقطع رخام، ليس في دمشق وحدها، بل في معظم المحافظات السورية، خاصةً المناطق التي هُجِّر أهلها منها خلال سنوات الحرب. وقد خرج عددٌ كبيرٌ من مقابر هذه المناطق عن الخدمة، منها بفعل الحرب كما حدث في القابون والقدم وجوبر، ومنها بفعل المشاريع الاستثمارية التي يعتزم النظام القيام بها في عددٍ من المناطق، كما هو الحال في عربين وبرزة وكفرسوسة، حيث سيتم هدم العديد من المقابر كلياً أو جزئياً، وإرغام ذوي المتوفين على نقل الجثامين إلى مقابر أخرى، وإلزامهم بدفع تكاليف النقل التي قد تصل إلى أكثر من 150 ألف ليرة، والتي يتم دفعها من قبل ذوي المتوفى أثناء الحصول على موافقة النقل.

من لا يملك قبراً لعائلته ولا يملك المال لشراء قبرٍ من السماسرة سيجد نفسه مضطراً للبحث عن حلول بديلة، وهي إما شراء قبرٍ طابقي من عائلةٍ أخرى محتاجة للمال، أو التوجه إلى مقابر خارج دمشق في الريف القريب. وبات الكثير من سكان العاصمة يتوجهون إلى المقابر القريبة من دمشق، مثل التل ومعربا وجرمانا ومؤخراً عدرا، لكن المقبرة الأكثر شهرة خارج دمشق هي مقبرة نجها، نسبةً لبلدة نجها الواقعة جنوب دمشق بنحو 13 كيلومتراً في منطقةٍ قريبةٍ من منطقة السيدة زينب، وهي تتبع إدارياً لناحية ببيلا. هذه المقبرة لها قصصٌ وحكاياتٌ كثيرة، حيث تم تأسيسها لتضم رفات الجنود السوريين الذين قتلوا في حرب 1973، وأصبحت جزءاً من احتفالات النظام السنوية بهذه الذكرى من زيارات ووضع الزهور على النصب التذكاري الضخم. قبل عام 2011 لم يعتد الدمشقيون دفن موتاهم فيها إلا ما ندر، ولكن منذ ذلك الوقت أصبحت وجهةً لهم بشكلٍ كبير، كخيارٍ بديلٍ رغم بعدها، نظراً لوجود المتسع ورخص تكاليف الدفن فيها. قبل أن تصبح الخيار الأول للنظام لدفن ضحايا فيروس كورونا منذ آذار (مارس) 2020، حيث تم تخصيص الجزء الأكبر منها لدفنهم. ويظهر أعداد القبور في مقبرة نجها، أو ما باتت تعرف باسم «المقبرة الجنوبية الجديدة»، أن العدد الحقيقي لضحايا كورونا أكبر بكثير مما أعلنه النظام.

وشهدت عمليات الدفن في مقبرة نجها تراجعاً منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بعد أن سمحت حكومة النظام بدفن وفيات فيروس كورونا في مقابر عائلاتهم ضمن مدينة دمشق، بعد أن كانت محصورةً في مقبرة نجها.

وعادت مقبرة نجها للواجهة من جديد بعد التقرير الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأميركية بالتعاون مع رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا في شهر آذار (مارس) هذا العام. وتحدث التقرير عن وجود مقبرتين جماعيتين؛ واحدة في نجها والثانية في القطيفة بريف دمشق. كما ذكر التقرير أن النظام دفن في المقبرتين جثث آلاف السوريين خلال السنوات الماضية، ممن قتلوا تحت التعذيب في الأفرع الأمنية.

هناك ما بعد تأمين القبر

واهمٌ من يعتقد أن أعباء ذوي المتوفي قد انتهت بمجرد الحصول على قبر وإتمام مراسم الدفن، لأن هذه الإجراءات هي فقط النصف الأول من الحكاية، فيما يتمثل النصف الآخر بمراسم العزاء، وخاصةً صالات التعزية التي باتت أيضاً تشكل همّاً آخر بسبب ما وصلت إليه تكلفتها من أرقام خيالية.

نشرت جريدة الوطن الموالية تقريراً حول هذا الموضوع في شهر أيلول (سبتمبر) 2021، فندت فيه ارتفاع أجور صالات التعزية والخدمات المُقدّمة فيها. ووفق الصحيفة، فإن معظم صالات التعزية في دمشق تجاوز حجزها اليومي مليون ليرة سورية، بل إن بعضها وصل لمليون ونصف المليون في اليوم الواحد، متضمنةً كل مستلزمات الصالة. كما أن أقل تكلفة حجز صالة لفترتي تعزية صباحية ومسائية يبلغ نحو 600 ألف ليرة سورية يومياً، أي إنها تكلف ما يقارب مليوني ليرة لمدة ثلاثة أيام، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا السعر في بعض الأوقات لا يتضمن الضيافة من القهوة المرة وغيرها من الخدمات، بحسب الصحيفة التي «تساءلت عن الدور الرقابي الغائب لمؤسسات الدولة عن مثل هكذا أسعار».

وخلال حديثنا مع عادل، وهو من أهالي مدينة دمشق يعمل مدرساً، وتوفي والده في شهر رمضان الفائت وتم دفنه في مقبرة الدحداح في قبرٍ لعائلته، بينما أقيمت مراسم عزائه في صالة نقابة المحامين في منطقة السبع بحرات بدمشق، سألناه عن تكاليف حجز الصالة، فقال: «قمنا بحجز الصالة لمدة يومين فقط، ولساعتين في كل يوم، وذلك عن طريق أحد الأقرباء وهو محامي. ولأننا في شهر رمضان، لم يكن هناك تكاليف إضافية مثل القهوة المرة والليمون والزهورات، واقتصرت التكاليف على حجز الصالة مع تكاليف قارئ القرآن، فكانت نحو 400 ألف ليرة سورية». ومن خلال مراجعةٍ سريعة قمنا بها، تبين أن معظم النقابات في مدينة دمشق تملك صالاتٍ خاصةً بها، وبعضها يملك أكثر من صالة (المحامين، الأطباء، المهندسين، الفنانين، المعلمين، العمال، وغير ذلك من النقابات). وأن أسعارها أقل بكثير من بقية الصالات الخاصة، إلا أن الحجز فيها ليس بتلك السهولة، فهو يحتاج إلى شخص نقابي، مع واسطة قوية لتجد حجزاً خلال الأيام التي ترغب بها، فيما يتم التحكم بعدد الأيام والتوقيت من قبل الصالة. عدا عن هذه الصالات النقابية، فإن هناك الكثير من الصالات الخاصة التي تتقاضى أجوراً عالية جداً، دون أي رقابة حكومية على الأسعار. وتختلف أجور الصالات بحسب السعة من حيث عدد الكراسي، والمنطقة تبعاً لمكان وجود الصالة وقربها وبعدها عن الأحياء والمناطق الرئيسية في العاصمة. أما المستلزمات المطلوبة لاستقبال المعزين وتبعاتها، فتختلف من صالةٍ إلى أخرى، وتختلف من الصالة إلى المنزل حيث تؤجّر بعض المنازل الكبيرة للغرض نفسه.

ويشتكي أصحاب الصالات الخاصة بدورهم من ارتفاع تكاليف كل الخدمات، خاصةً مع الانقطاع الطويل للكهرباء، ما يعني الحاجة لمولدة كهرباء، وهذه أيضاً تكلف مبالغ طائلة بسبب الارتفاع الكبير في أسعار مادتي البنزين والمازوت الذي تحتاجه المولدات الكهربائية في السوق السوداء. يضاف لذلك الحاجة لمادة الغاز من السوق السوداء لتحضير المشروبات الساخنة داخل الصالة. عدا عن أجرة القارئ، والتي باتت اليوم تصل لأكثر من 100 ألف ليرة سورية تقريباً. الارتفاع الأكبر أصاب المادة الأساسية في صالات العزاء، وهي القهوة، حيث ارتفعت أسعارها مؤخراً بشكلٍ كبير. ويبدأ سعر الكيلو غرام الواحد من القهوة ذات الاستعمال اليومي، والتي تعرف بـ«القهوة الحلوة»، من 25 ألف ليرة سورية ليصل حتى 60 ألف في السوق المحلية، وهو ما انعكس أيضاً على سعر القهوة المرة المستخدمة في مراسم العزاء. ويعزو البعض سبب الارتفاع إلى غلاء القهوة عالمياً بنسبة 35 بالمئة، وليس فقط بسبب الظروف السورية المحلية، يضاف إليها ارتفاع تكاليف النقل ومصروفات الاستيراد والجمارك وغيرها، على اعتبار أن القهوة في سورية مستوردة كلياً من الخارج. كما ارتفع سعر مادة الهال الذي يضاف إلى القهوة، وخاصةً القهوة المرة، ليصل سعر الكيلوغرام إلى ما بين 50 و90 ألف ليرة سورية. يذكر أنه قبل نحو عامين فقط لم يكن سعر كيلو غرام القهوة يتجاوز 12 ألف ليرة سورية للنخب الأول، وباقي الأنواع كانت تباع بحدود 8 آلاف ليرة فقط.

ولا يزال الكثير من سكان المناطق الشعبية في دمشق ممن يعجزون عن دفع تكاليف الصالات بأسعارها المرتفعة ومستلزماتها، يقيمون مراسم العزاء في الطرقات والشوارع، فيستأجرون خيمة عزاء (شادر) مع بعض الكراسي، ويقدمون القهوة المرة للمعزين بأنفسهم، بينما يكتفي آخرون باستقبال المعزّين في بيوتهم أو على أسطح المنازل، لأنهم قلة أولئك الذين يستطيعون تحمل تكاليف صالات التعزية بأسعارها الباهظة.

موقع الجمهورية

———————————–

“مقابر طوارئ” لدفن جثامين اللاجئين السوريين في دول الجوار/ أحمد حاج بكري

كانت لافتة “يمنع دفن أي شخص سوري منعاً باتاً تحت طائل المسؤولية”، المعلقة على سور إحدى مقابر لبنان كافية لمعرفة الوضع الذي وصلت له المصاعب التي تواجه لاجئاً سورياً في حال فكر في دفن قريب له.

يرصد هذا التحقيق أبرز التعقيدات التي ترافق دفن اللاجئين السوريين في دول الجوار، بدايةً من تعثّر الحصول على قبر لاستقبال الرفات، مروراً باستحالة إعادة الرفات إلى سوريا، وليس نهايةً بظروف الدفن غير الطبيعية، في غياب أفراد من الأسرة أو بعيداً منهم، أو في مقابر “طوارئ” مشيّدة على وجه الأرض، أو في مقابر على سفوح الجبال أو ضمن أراضٍ طينية.

أُنجز هذا التحقيق بإشراف الوحدة السورية للصحافة الاستقصائية – سراج، بإشراف الزميل أحمد حاج حمدو

“سافر من أجلِ العلاج لكنه تُوفّي وحرمنا من زيارة قبره”، بهذه الكلمات لخصت الشابّة السورية ياسمين عويرة (26 سنة) التي تعيش في العاصمة التركية أنقرة، ما حدث مع والدها، الذي ذهب في نهاية عام 2011 إلى سنغافورة برفقة ابنه للعلاج من مرض السرطان وتوفي هناك، ما أجبر عائلته على دفن الرفات في تلك الأرض البعيدة، بسبب مصاعب جمّة يواجهها السوريون بعد اندلاع النزاع في بلادهم، في دفن المتوفّين خارج أرضهم.

والد ياسمين، كان يعمل مقاولاً في الكويت منذ عام 1976، بعد إصابته بالسرطان، نصحه أطبّاء بالعلاج في سنغافورة، بسبب وجود طبيبٍ هناك سبق أن عالج حالات مشابهة ونجح في منحها أملاً في الحياة، استخرج الرجل كل التأشيرات والأوراق والتقارير الطبية اللازمة وغادر من الكويت إلى سنغافورة، إلا أن الطبيب لم يستطع إنقاذه.

وبينما كانت الجميع تنتظرون ياسمين التي كانت تعيش في الكويت حين عودة الوالد من رحلة علاجه فوجئوا بخبر الوفاة، وتفاقمت المأساة حين علموا بأنهم لن يتمكنوا من إعادة الجثة إلى الكويت مكان إقامته، لدفنه، لأن قانون البلاد لا يسمح بجلب رفات شخصٍ من الخارج، بحسب وزارة الخارجية الكويتية.

 أما فكرة نقل جثمانه إلى سوريا فكانت غير مطروحةٍ، فبحسب موقع الخارجية السورية  يجب أن يرافق الجثمان شخص من أسرته. تقول ياسمين: “لم يكن مع والدي إلا أخي الكبير وبالتأكيد كنا نخشى من اعتقاله”.

وتضيف: “المشكلة الأكبر أن مكان قبره غالباً ما تغير كلياً، فالقانون في سنغافورة ينص على إعادة الدفن في القبور المستخدمة كل عشر سنوات بحسب ما علمت، بعد نقل رفات من كان في القبر إلى مكان آخر. ومن يريد الحفاظ على قبر شخص ما، فعليه دفع ثمنه لتملكه”.

معاناة ما بعد الوفاة

خلال ستة أشهر من العمل، رصد معد التحقيق قصص ستة لاجئين سوريين في لبنان وتركيا واجهوا تعقيدات مضاعفة خلال عملية دفن ذويهم بالمقارنة بأشخاص من جنسيات ثانية أو أبناء البلد الأصليين.

أبرز هذه التعقيدات، الدفن في ظروف غير طبيعية، إمّا في غياب بقية أفراد الأسرة أو بعيداً منهم، أو في مقابر “طوارئ” مشيّدة على وجه الأرض، أو في مقابر على سفوح الجبال أو ضمن أراضٍ طينية.

يأتي ذلك في وقتٍ تتعقّد فيه عملية إعادة الرفات إلى سوريا بسبب طلب ترسانة من الأوراق الروتينية صعبة التحصيل من القنصليات، إضافةً إلى طلب عودة مرافق لعملية الدفن، وهو ما يخشاه معظم اللاجئين، خوفاً من الملاحقة الأمنية أو السوق إلى الخدمة الإلزامية على الخطوط الأولى في الحرب السورية.

لم تكن خلود (اسم مستعار) تعلم أن رحلة أخيها أحمد إلى مستشفى في مدينة أنطاكيا جنوب تركيا، لمراجعة الطبيب وتصوير مكان إصابته التي تعرض لها بوقتٍ سابق في سوريا، ستكون رحلته الأخيرة في هذا العالم.

كان أحمد (29 سنة) أُصيب في الحرب السورية، ومن هناك نُقل للعلاج في تركيا، وبعد الخروج أقام عند شقيقته في مرسين، بينما كان يستكمل علاجه في أنطاكيا، في آخر رحلةٍ له لاستكمال العلاج، فقدت خلود الاتصال به، ليتبيّن أنّه توفي في المستشفى.

مقابر محددة لدفن اللاجئين

وصلت خلود لاستلام الجثّة ولم يكن أمامها سوى ساعة واحدة لاستلامها، لذلك تعذّر النقل إلى سوريا، فما كان منها إلى أن نقلت الرفات للدفن في بلدة ييلاداغ، التي تبعد 60 كيلومتراً غرب مدينة أنطاكيا، وهي البلدة التي كان يسمح للسوريين بالدفن فيها في ذلك الوقت عام 2015.

وهذا ما تغير لاحقاً بعد وصول حزب CHP المعارض لرئاسة البلدية في ولاية هاتاي عقب إنتخابات البلديات عام 2018. فقد أصدرت إدارة البلدية الجديدة بداية عام 2021 قراراً يمنع دفن السوريين في مقبرة بلدة ييلاداغ، بحجة عدم وجود أماكن فيها وزيادة عدد الوفيات بسبب وباء “كورونا”.

في حديثه لمعد التحقيق يقول شادي سقلي، وهو تركماني سوري مقيم في ييلاداغ: “توفيت خالتي 68 عام في مستشفى أنطاكيا في فبراير/شباط 2020  بعد قرار البلدة بمنع الدفن حينها، لم نكن نعلم بالقرار، توجهنا إلى المقبرة، لم يسمح لنا بدفنها، أخبرنا حارس المقبرة وإمام مسجدها الذي يشرف على الدفن إنه من غير المسموح دفن عمته في تلك المقبرة، وأبلغنا أنّه إذا كنتم تريدون دفنها حقاً يجب عليكم التوجه إلى الريحانية”.

وتابع: “كانت حادثة دفن خالتي هي الحالة الأخيرة التي يتم نقلها من ييلاداغ إلى الريحانية بعد فشل محاولتنا دفنها في ييلاداغ وتواصلنا مع جميع الجهات التي يمكنها حل المشكلة، لاحقاً تدخل والي هاتاي وتم إلغاء القرار بعد فترة من إصداره، أجبر خلال تلك الفترة ما لا يقل عن عشر عائلات على نقل جثامين أقارب لهم إلى مدينة الريحانية ودفنهم هناك وذلك خلال نحو أسبوع”.

اليوم فقط من يعيش في بلدة يايلاداغ يسمح له بالدفن فيها، أما من يسكن خارج البلدة فيدفن في المقبرة المخصصة للسوريين في مدينة الريحانية.

زيارة القبر تحدي لا ينتهي

بالنسبة إلى خلود، لم تنتهِ حكايتها عند حصولها على قبر لدفن أخيها. بعد ذلك أصبحت رحلتها السنوية لزيارة قبره، بمثابة تحدٍّ تعيشه كل عام. تبدأ بالتجهيز له قبل شهر وربما أكثر كما تشرح قائلةً: “دفنت أخي دون وجود أحد من أهلي المقيمين في محافظة اللاذقية في سوريا، وحتّى اليوم لم يستطيعوا زيارة قبره، كل عام قبل العيد أقوم بزيارته، وأتصل بأهلي عبر الفيديو ليشاهدوا قبره، في هذا العام حاولت الحصول على إذن سفر ( وهو يسمح للتنقل بين الولايات التركية بإذن رسمي) من مرسين لهاتاي لزيارة قبره كما العادة لكن تم رفضه أكثر من عشر مرات.

تكمل خلود: ” قررت السفر من مرسين لهاتاي بسيارة زوجي مع عائلتي، بشكل غير شرعي دون الحصول على إذن للسفر، وصلنا إلى هناك دون أي مشاكل، ولكن في طريق عودة زوجي أوقفته الشرطة وخالفته مبلغ خمسة آلاف ليرة تركي ما يعادل 420 دولاراً  (بحسب سعر الصرف حينها)، بسبب تنقله بين الولايات من دون إذن رسمي، مستخدماً سيارته الخاصة.

في لبنان معاناة مضاعفة

على غرار ما يحصل في تركيا، يواجه اللاجئون السوريون في لبنان مشكلات أكبر في عمليات الدفن، فخبر وفاة لاجئ سوري في لبنان يعني مأساةً لا علاقة لها بالوفاة ذاتها، بل بما بعد الوفاة، إذ أن رحلة البحث عن القبر وتكاليفه ومناورة قرارات البلديات هي مسؤولية ذوي اللاجئ المتوفّي وحدهم.

المعلومات التي توصّل إليها هذا التحقيق أفادت بأنّ أول خطوة يجب القيام بها عند وقوع وفاة سوري في لبنان، هي التحقّق ممّا إذا كانت البلدية تسمح بالدفن أم لا، والبحث عن تلك التي تسمح بذلك، وأبرزها مقابر مجدل عنجر والرحمة والجراحية والفاعور، أما المقابر التي تمنع دفن اللاجئين فتمثّل الأغلبية، فمعظم مقابر العاصمة بيروت تمنع دفن اللاجئين أو تطلب مبالغ كبيرة مقابل السماح بدفن جثة.

كانت لافتة “يمنع دفن أي شخص سوري منعاً باتاً تحت طائل المسؤولية”، المعلقة على سور إحدى مقابر لبنان كافية لمعرفة الوضع الذي وصلت له المصاعب التي تواجه لاجئاً سورياً في حال فكر في دفن قريب له.

بينما ترفض بلديات ومجتمعات محلية في لبنان دفن اللاجئين السوريين في مقابر تابعة لها، ظهرت حوادث مأساوية في هذا الصدد، كان أبرزها حادثة نبش قبر طفل سوري لاجئ في قرية عاصون اللبنانية، بحجة أن المقبرة تخص اللبنانيين فقط عام 2019، والتي أدّت إلى ردود فعل مختلفة، كان أبرزها وهب بعض الأهالي أراضي لهم، وتحويلها إلى مقابر للسوريين لدفن ذويهم بها.

يقول سهيل (لم يكشف عن اسمه الكامل) وهو لاجئ سوري في لبنان، ويعمل مسوؤلاً عن مقبرة مخصصة لدفن السوريين في قرية مجدل عنجر في سهل البقاع: “اشترت إحدى المنظّمات قسماً من جبل سهل المجدل وحوّلته إلى مقبرة للسوريين، وبالفعل تم تشييد المقبرة عام 2017، كان الدفن في بداية الأمر يتم بشكل عشوائي من دون مقابل، لاحقاً أصبح الدفن مقابل مبلغ تحدده البلدية، المقبرة الآن شبه ممتلئة”.

بحسب منشور لرئيس البلدية سعيد الياسين، فإن المقبرة استقبلت في بداية الأمر وفيات من مدنٍ أخرى تحت الاضطرار، ولكنّها عادت لتستقبل موتى السوريين من مجدل عنجر فقط، على ما يشرح سهيل.

مقابر فوق الأرض

يضيف سهيل، أن  المقبرة المخصصة للسوريين لا يتم حفر قبورها، لأن الأرض صخرية وعوضاً عن ذلك يتم تشييد القبور على سطح الأرض باستخدام الحجارة، ثم يتم وضع الجثمان داخلها، وردّ التراب فوقها، لكن عملية الدفن هذه وإن كانت أسهل، إلّا أنّها تؤدّي لخروج بعض الروائح من المقبرة برغم إغلاق القبور بالتراب.

حصل معد التحقيق على بعض الصور لهذه المقبرة، والتي أظهرت الدفن على سفح الجبل دون إحداث حفر في عمق الأرض، بل يتم الدفن على وجه الأرض كما في حالات الحرب والحالات الطارئة.

يقول رئيس تحرير مجلة أخبار البيئة الصحافي زاهر هاشم: “عند تحلل الجثث تتفكك المواد العضوية فيها وتتحلل بمساعدة البكتريا والفطريات والطفيليات الموجودة في التربة، وتحولها إلى أشكال أخرى من المعادن والغازات مثل النترات وغاز الميثان وغاز ثاني أكسيد الكربون، وهي مواد تذوب مع التربة وتغذيها وتستفيد منها النباتات.

يمكن أن تشكل هذه المواد الناتجة عن تحلل الجثث خطراً على البيئة والسكان في حال وصولها إلى المياه الجوفية،  وفي حال كانت القبور غير معدة أو مغلقة بشكل صحيح قد تؤدي الأمطار الغزيرة إلى تجريفها بعيداً لتصل إلى المياه الجوفية في أماكن أخرى.

وتنص التوصيات الصادرة عن منظمة “اسفير” العاملة في مجال الخدمات الإنسانية، أن تكون المقابر على بعد 30 متراً على الأقل من مصادر المياه الجوفية المستخدمة في مياه الشرب، وأن يكون الجزء السفلي من أي قبر أعلى بمسافة 1.5 متر على الأقل من منسوب المياه الجوفية.

عرض معد التحقيق الصور التي حصل عليها من مقبرة سهل المجدل الجبلية، على حفّار القبور علي السيد هيثم خالد عابدين، لمعرفة مدى نجاعتها، فكانت الإجابة أن “طريقة الدفنة مقبولة وشرعية بالحد الأدنى، وتم استخدامها مرات عدة خلال الحرب في سوريا، وتحديداً في مدينة معرّة النعمان في إدلب خلال وقوع المجازر وتكدّس الجثث، حيث يكون من الصعب الحفر للجميع.

وأوضح أن الصور أظهرت أن مقبرة سهل المجدل صخرية كونها على سفح جبلي، لذلك فهي غير قابلة للحفر، لكن في لبنان الحل البديل موجود، إذ يمكن استبدال مكان المقبرة ونقلها إلى أرض قابلة للحفر.

الدفن وسط المستنقعات

في مدينة الريحانية جنوب تركيا خصصت البلدية في عام 2015 مكاناً لدفن اللاجئين السوريين أُطلق عليه لاحقاً “مقبرة السوريين”، التحدي الأكبر الذي كان يوجه ذوي المتوفي هو نقل الجثة للقبر، حيث تتحول أرض المقبرة شتاءً لمستنقع من المياه يحتاج في بعض الأحيان إلى السباحة للعبور منه، ما يجبر الناس على نقل الجثة بطريقة غير آدمية، مستخدمين الجرارات “التركسات” في بعض الحالات للوصول للقبر.

حصل معد التحقيق على بعض الصور ومقاطع الفيديو التي تظهر حال المقبرة شتاء، حيث تشير الصور إلى عورة الأرض وتحوّلها إلى أحواض من المستنقعات بين القبور، ما يجعل الدفن شبه مستحيل.

يتراوح عدد المتوفين الذين دُفنوا في مقبرة الريحانية بين 4000 و5000 شخص، غير أنّه بسبب طبيعة الأراضي الطينية ووعورتها، باتت عمليات الدفن وزيارة القبور، شبه مستحيلة، سواء صيفاً أو شتاء، بسبب تراكم المستنقعات الطينية طيلة العام.

جثث تلفظها الشواطئ بين تركيا واليونان

تقدر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في  تقرير لها عدد الأشخاص الذين فقدوا حياتهم أو فقدوا في البحر المتوسط فقط من عام 2014 إلى عام 2021 بـ24443 شخصاً، أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا.

في تقرير آخر تذكر المفوضية أنه خلال ثلاثة أيامٍ فقط من 21 إلى 24 من كانون الأول/ ديسمبر 2021، فَقد ما لا يقل عن 31 شخصاً حياتهم، في حوادث غرق منفصلة لثلاثة قوارب في بحر إيجة أثناء محاولتهم العبور من تركيا باتجاه أوروبا، كما لا تزال حصيلة المفقودين غير معروفة.

عمليات الغرق هذه تؤدّي إلى تبعثر جثث الغارقين بين تركيا واليونان، فحيثما يجرف البحر تلك الجثّة تكون الدولة هي المسؤولة عن التعامل مع الرفات، الأمواج تحدّد كل شيء.

في تركيا، علم معد التحقيق أن السلطات تحتفظ بجثث اللاجئين الذين فقدوا حياتهم خلال محاولتهم العبور إلى أوروبا في المشرحة لمدة 15 يوماً، بعد تشريح الجثة. وفي حال لم يستلم أحد الأقارب الجثة، خلال تلك الفترة، تدفن الجثث في القسم 412 من مقبرة “دوغانشاي” في مدينة أزمير، بعد أخذ عينات الحمض النووي منها، هذا القسم الذي خصصته البلدية لدفن الجثث مجهولة الهوية.

زار معد التحقيق القسم المخصّص لمجهولي الهوية في هذه المقبرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، المكان لا يفرّق بين قبر وآخر، جميع القبور دون أي معالم أو أسماء أو معلومات، باستثناء “رقم” ليحدّد هذه الجثّة، ما يميزهم عن بعضهم هي الأرقام المكتوبة على الشواهد من طرف الرأس. في المقابل تحاول بلدية أزمير ترك فرصة أخيرة لمعرفة ذوي الضحايا ومساعدتهم للوصول إلى قبور أقاربهم، من خلال احتفاظ معهد الطب الشرعي في المدينة بعينات من الحمض النووي لكل وفية وتسجيلها، بحيث بإمكان أقاربهم في وقت لاحق العثور عليهم، كما صرح مسؤول مقبرة “دوغانشاي” في بلدية إزمير.

على الضفاف الأخرى في اليونان، يتم دفن السوريين الذين تصل جثثهم إلى هناك خلال رحلتهم في البحر، في مقابر الجزر اليونانية من دون أسماء لمجهولي الهوية. ومن يعرف اسمه يكتب على قبره وفي السجلات، وبالنسبة إلى من يبحث عن معلومة للأشخاص الذين يفقدون بين تركيا واليونان، فهي كمن يبحث عن “إبرة في كومة قش”، بحسب عابد حوارية الذي فقد صديقه بين تركيا واليونان.

يقول حورية: “توجه صديقي في رحلة الحلم للوصول إلى أوروبا من طريق اليونان سالكاً الطريق البري وبعدما خرج من مدينة ادرنة التركية القريبة من الحدود اليونانية وبعد نحو أسبوعين من انقطاع أخباره والبحث عنه تواصل معنا صحافي يوناني، وأرسل لنا صوراً لجثة صديقي، وقال إنها موجودة في أحد المستشفيات”.

بسبب استحالة وصول أي من أفراد عائلته إلى اليونان لاستلام الجثة، كان الحل الوحيد أن يسافر صديق للعائلة من ألمانيا إلى اليونان لتسلم الجثة أو ما تبقّى منها بعد التشريح ودفنها في اليونان دون أي مراسم أو وجود لأي من أفراد أسرة المتوفّي، ثم عاد أدراجه إلى ألمانيا.

ماذا عن نقل الجثث إلى سوريا؟

ثمّة خياران في ما يخص إعادة الرفات إلى سوريا، إلى مناطق المعارضة ومناطق النظام السوري.

الإعادة إلى مناطق المعارضة تنطبق على المتوفّين السوريين في تركيا، حيث يتم إعادة الرفاة عبر الحدود البرّية مباشرةً رغم أنّها عملية معقّدة، بحسب جاهد طحان وهو لاجئ سوري في الريحانية التركية،  ونقل جثة والدته من هاتاي إلى إدلب عبر معبر باب الهوى الحدودي.

يقول جاهد توفيت والدتي في يوليو/ تموز 2022 في مستشفى الدولة في مدينة انطاكيا نتيجة نوبة قلبية، اخبرت المستشفى أننا نريد نقل الجثة إلى سوريا، صباح اليوم التالي بعد معاينة الجثة من قبل الطبيب، تسلمت عدة نسخ من شهادة الوفاة سلمت واحدة منها لسائق سيارة نقل الموتى، وتوجهنا إلى معبر باب الهوى هناك قام السائق بكامل إجراءات النقل.

يتم اخبار الجانب السوري بوجود جنازة، بدوره يرسل الجانب السوري سيارة لاستلام الرفاة ونقلها  وكل التكاليف تكون على حساب البلدية بحسب ما ذكر جاهد، وفي سوريا يتم تسجيل حالة الوفاة وتسليم الرفاة لأقاربها بعد ذلك.

ويسمح لشخص واحد فقط بمرافقة الرفاة إلى سوريا، على أن يكون قريباً من الدرجة الأولى، ويقدم طلب لمكتب والي المعبر، مدة الأذن المسموح به تكون بين ثلاث أيام إلى عشرة أيام كحد أقصى.

أما في ما يخص النقل إلى مناطق النظام السوري، فالمسألة أكثر تعقيداً، وتتطلّب ترسانة من الموافقات والأوراق باهظة الثمن ولا يمكن الحصول عليها بسرعة لإتمام إجراءات الدفن.

تطلب الخارجية التابعة لنظام الأسد عبر موقعها الرسمي، إجراءات للسماح لذوي المتوفي في الخارج بنقل جثمانه إلى سوريا ودفنه هناك، لكن بعض هذه الشروط يستحيل تحقيقها على اللاجئين السوريين الذين غادروا البلاد بطرق غير رسمية، لأن الخارجية تطلب وجود مرافق للجثمان للسماح بنقله إلى سوريا وهو ما يعرّض المرافق لتهديدات أمنية في طريق العودة إلى سوريا.

درج

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button