نصوص

قصة دمشقية مسيحية ثائرة/ سامي مروان مبيض

في منتصف الستينيات، كانت حارات دمشق تشهد ظهوراً نادراً لسيدة عجوز موشحة بالسواد، تتكأ على عكاز بسبب ضعف مزمن في إحدى ساقيها. كانت لا تخرج من منزلها في الحارة الجوّانية – زقاق طالع الفضة – إلّا نادراً، وكان اسمها ماري عجمي، رائدة الصحافة السورية، التي توفيت عن عمر ناهز 77 عاماً يوم عيد الميلاد في 25 كانون الأول 1965.

غاب عن جنازتها ممثل عن رئيس الدولة أمين الحافظ، أو حتى مندوب عن وزير الإعلام، ولم يُشارك في التشييع إلّا ستة عشر شخصاً فقط لا غير، ليس بينهم إلّا أديبين فقط، كما لم يأت التلفزيون السوري الرسمي على ذكر رحيلها، نظراً لانشغاله بقضية حلّ القيادة القطرية من قبل قيادته القومية، الذي حدث قبل أيام.

فما قصة هذه الصحفية في تاريخ المشرق، التي ظهرت شخصيتها قبل سنوات على شاشات الفضائيات العربية في مسلسل “حرائر” للمخرج الفلسطيني- السوري باسل الخطيب، وسمّيت مدرسة على اسمها في منطقة القصّاع بدمشق؟

كانت الحارة الجوّانية تعرف بمنازلها العامرة، لا يسكنها إلّا الأثرياء، وكان أهل الشّام يقولون من باب التندر: “حطّ ميّة فوق ميّة واشتري بيت بالجوّانيّة”. في هذه الحارة الدمشقية ولدت ماري عجمي وماتت، في منزلٍ كبيرٍ خلف مدرسة الأسيّة، كان ملكاً لأبيها يوسف، وكيل الكاتدرائية المريمية وعضو مجلس الملّي الأرثوذكسي بدمشق.

كانت ولادتها في 14 أيار 1888، وقد تعلّمت في مدرسة البطريركية الأرثوذكسية للبنات، التي كانت معروفة باسم المدرسة الروسية، وتابعت دراستها في المدرسة الإيرلندية البروتستانتية، حيث أتقنت اللغتين الروسية والإنجليزية. التحقت بمدرسة التمريض في جامعة بيروت الأميركية، يوم كان اسمها الكلية السورية البروتستانتية، ولكنها لم تنل شهادتها لأسباب شخصية، وعادت إلى دمشق للعمل في المدرسة الروسية سنة 1906.

انتقلت بعدها لمدارس زحلة وبور سعيد والإسكندرية، حيث عُينت ناظرة لمدرسة الأقباط سنة 1908. عادت بعدها إلى دمشق ومارست التعليم في مدارسها وصارت تراسل عدداً من المجلات المصرية واللبنانية.

وفي 1 كانون الأول 1910، أطلقت ماري عجمي مشروعها الريادي الكبير مجلّة “العروس”، التي كانت، بحسب تعبيرها، تهدف إلى “تحرير المرأة من قيودها والرجل من جموده”.

أنفقت من جيبها على تمويل وتحرير “العروس” التي كانت تصدر باللغة العربية. توقفت المجلّة بعد أربع سنوات بسبب ارتفاع سعر الورق في الأسواق العالمية، ثم عادت إلى الصدور مع دخول الأمير فيصل دمشق بعد تحريرها سنة 1918.

كانت “العروس” مجلة تربوية أدبية، وتحولت سريعاً إلى منارة التحرر في سورية، فجميع العاملين فيها كن من النساء، يوقعن مقالاتهن بأسماء مستعارة لكيلا يثرن حفيظة مجتمعهن الذكوري. وقد ضمّت “العروس” بين كتابها عدداً من الأسماء الشهيرة، مثل جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي من لبنان، أحمد شوقي وعباس محمود العقاد من مصر، ومعروف الرصافي من العراق، وضعوا جميعاً ثقتهم بماري عجمي، وقاموا بمراسلتها ونشر مقالاتهم على صفحات مجلتها، ما أعطى “العروس” زخماً كبيراً في الأوساط الأدبية العربية.

العروس

معظم الصحف في سورية يومها كانت لا تغطي النشاطات النسائية، وعندما تأتي على ذكر أي سيدة، يكون ذلك حصراً في الصفحات الداخلية وليس على الصفحة الأولى. كانت الصفحات الأولى مخصصة لأخبار وصور ملكات أوروبا ونجمات هوليوود فقط، وكانت أخبار النساء السوريات تأتي بالإشارة لأسماء أزواجهن أو آبائهن، وليس باسمهن الصريح.

عروس لم تتزوج

عند اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، اعتقل خطيبها بيدرو باولي، مراسل مجلّة “العروس” في بيروت، المعروف بمواقفه المتشددة من الدولة العثمانية. كانت تذهب إلى زيارته يومياً في سجن الجامع المعلّق، ترشي الحارس بربع مجيدي ليسمح لها بالدخول إلى زنزانة حبيبها المظلمة. وعندما أعدم بيدرو باولي في 6 أيار 1916، قبل موعد زواجهما بأسابيع قليلة، أقسمت ألّا تتزوج من بعده، وبالفعل، عاشت سنوات عمرها عزباء، وتوفيت وحيدة، لا زوج لها أو أطفال، كما أنها لم تخلع الثوب الأسود، حزناً على حبيبها الشهيد.

بيدرو باولي

اشتركت ماري عجمي في تأسيس جمعية “نور الفيحاء” بدمشق، مع الرائدة السورية نازك العابد، يوم 2 أيار 1919، والتي هدفت لتشجيع النساء على تعلّم صنعة لتحريرهم من قيد الرجال، وأوجدت لهم مشغلاً في الغوطة الشرقية لتطوير مهارات التطريز والخياطة وحياكة السجّاد. كما عادت إلى إصدار مجلة “العروس” مجدداً، بدعم من الأمير فيصل الذي توج ملكاً على البلاد يوم 8 آذار 1920.

ولكن عهد المير فيصل لم يستمر طويلاً، وقد أطيح به وبعرشه إبان معركة ميسلون الشهيرة يوم 24 تموز 1920. ظلّت ماري عجمي تعمل بشكل وثيق مع نازك العابد حتى بدء الانتداب الفرنسي في سورية.

عارضت ماري الاحتلال الفرنسي، ولكنها لم تأخذ موقفاً متطرفاً مثل العابد التي نزلت إلى ميدان القتال مع وزير الحربية يوسف العظمة يوم معركة ميسلون، ما أدى إلى صدور قرار إعدام بحقها. أمّا ماري عجمي، فقد ظلّت تصدر مجلّة “العروس” بشكل منتظم، دون مجابهة عنيفة مع الفرنسيين.

وقد ميزت نفسها عن العابد في طروحاتها بعد سنة 1920، حيث كانت أكثر محافظة منها فيما يتعلق بلباس المرأة ودورها في المجتمع السوري. كما اعتبرت ماري أن قضية الحجاب لا تعنيها، ويجب معالجتها من قبل النساء المسلمات حصراً، حيث لا دور للمسيحيات في هذه المعركة.

وفي تشرين الثاني 1920، نشرت “العروس” مقال رأي، عبّر عما يدور في ذهن ماري عجمي، جاء فيه: “إني أحبذ غيرة الرجال الدمشقيين واحتفاظهم بالخوف على نسائهم من نظر الأجنبي، كما أمرت الشريعة الإسلامية، إلا أني في الوقت نفسه ألومهم على عدم تمسكهم بسائر ما تأمر به هذه الشريعة الإسلامية، بمثل تمسكهم بالتستر، فهم يحافظون عليه ويتساهلون بغيره، فيقدمون المهم على الأهم”.

وفي عددها الصادر في حزيران 1922، شنت “العروس” هجوماً لاذعاً على جوارب النساء الرقيقة، وشبهت ضررها بالقنابل والغازات السامة، قائلة: “أشد فتكاً وأفظع إثماً من التخريب والتدمير ألا وهو الجوارب الرفيعة. مخترع هذه الجوارب إثمه في مستوى مخترع الديناميت. فلولا الجوارب لم تقصر التنانير ولا شاهدنا ضروب الخلاعة والتبرج”. وقد تجلّى هذا الخلاف في مقال طويل وضعته ماري عجمي في مجلتها في كانون الأول 1924، فيه تبرؤ واضح من قضية السفور وتحرر لباس المرأة.

نُشر المقال تحت اسم “ليلى” المستعار، التي طالما كانت ماري عجمي تستخدمه في مقالاتها الإشكالية منذ زمن العثمانيين. وعلى الأرجح أن الاسم المستعار كان مأخوذاً عن رائعة أحمد شوقي “مجنون ليلى”، وأن ماري عجمي كانت ترى بحالها شيئاً من ليلى العامرية، وفي بيدرو باولي قيس ابن المُلوّح.

تحدث ماري في مقالها عن سيدة دمشقية مسلمة، أرادت خلع الحجاب وطلبت العون من “ليلى”. جاء رد ليلة فاتراً، فقالت لها الصبيّة المسلمة: “متى أقامك المحافظون للنّضال عن معتقداتهم وآرائهم؟”.

ردّت ليلى: “إذا شاء الإنسان أن يكون عادلاً وجب عليه أن يرى نقطة نظر خصمه. فالحجاب لم يخترع للعبث، ولا يخلو من غرض صحيح، فإنّه انتهى إليك من الطّبقة الأرستقراطية في اليونان القديمة التي شاءت أن تحرم العامّة التذاذها برؤية نسائها”. والإشارة إلى اليونان مهمة في هذا الصدد، لأن بيدرو باولي كان يونانياً، وكذلك أم ماري عجمي كانت من أصول يونانية.

ثم دافعت ليلى عن الحجاب، وقالت إنه يحمي السيدات “من تعدّي الرّعاع الغاضبين. فلا ينال أحد من كرامتهنّ، ولا تصبح قيمة جمالهنّ وقيمة جمال أحقر النّساء نسباً أو أسوأهنّ خلقاً سواء”.

ظلّت “العروس” تصدر بشكل منتظم حتى سنة 1926، عندما قررت ماري عجمي إيقافها خلال الثورة السورية الكبرى، احتجاجاً على العدوان الفرنسي على مدينة دمشق في 18 تشرين الأول 1925. أدهشها عنف الفرنسيين المفرط، حيث قصفوا أحياء المدينة بالمدافع، ودمروا قصر العظم وأجزاء من سوق البزورية وقسماً من حي الجزماتية في الميدان.

توقفت “العروس” دون أي تبرير لجمهورها الواسع والعريض، لتقيم عجمي صالوناً أدبياً خاصاً في منزلها، استمر حتى مطلع الثلاثينيات. كما أنها شاركت في مؤتمر للمرأة المستشرقة الذي أقيم في دمشق في شباط 1933، وألقت فيه كلمة عن نصرة النبي محمد للمرأة.

كان هذا المؤتمر آخر ظهور لماري عجمي، غابت بعده عن أعين الناس وعاشت في عزلة تامة حتى وفاتها سنة 1965. أي أنها شهدت جلاء الفرنسيين وحرب فلسطين، مروراً بالانقلابات العسكرية والوحدة والانفصال ثم مرحلة البعث، دون أن يكون لها رأي أو موقف. وقد تولّت شقيقتها ألين عجمي، وهي مدرسة بيانو معروفة بدمشق، مهمة الحفاظ على إرثها وجمع أوراقها الخاصة. الغريب أنه لا يوجد إلا ثلاث صور يتيمة لماري عجمي، جميعهم من مرحلة الصبا، ولم يبقى من شهرتها وأدبها إلا القليل القليل.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى