الناس

إسرائيل و”كَعكَتُها المفتوحة” في الجولان السوري المحتل/ حسان شمس

لا شيء يطغى، هذه الأيام، في الجولان السوري المحتل، على مشروع توربينات الرياح التي توشك شركة “إنيرجكس” الإسرائيلية، بدعم وتغطية كاملين مِن السلطات الإسرائيلية، على إنشائها في أراضيهم الزراعية عنوة عن إرادة غالبيتهم الساحقة. ورغم ما يحمله هذا المشروع مِن مخاطر على صحتهم وبيئتهم، بشهادة الكثير مِن مراكز الأبحاث والخبراء والمختصين الإسرائيليين، ورغم سَلْكِ الأهالي جميع السبل القانونية والاعتراضات السلمية لدفع الشركة، ومِن خلفها سلطات الاحتلال، إلى التراجع عن المشروع، فإن الجهتين المذكورتين تضربان كل ذلك عُرض الحائط.

الأمر الآخر، هو الاكتظاظ العمراني الذي تعاني منه قرى الجولان جراء سياسات التضييق الممنهجة التي تستخدمها إسرائيل منذ اليوم الأول للاحتلال، بعد الجريمة التي اقتُرفت بحق هذه القرى، ولا سيما مجدل شمس، والمتمثلة بسلخ أراضيها التي تقع راهناً شرقي خط وقف إطلاق النار عنها، بطريقة مجحفة وتعسفية، بعد اتفاقية “فصل القوات” الموقّعة بين نظام الأسد وإسرائيل في أيار/ مايو 1974 ما جعل مِن هذه القرى أشبه بمقابر إسمنتية متراصّة، أكثر ما تفتقر إليه هو المساحات الخضراء، عند النظر إليها مِن زوايا مختلفة.

أبناء الجولان والجنسية الإسرائيلية

موضوع حيازة الجنسية الإسرائيلية واحد مِن القضايا الموضوعة على نار حامية، ويحتل حيزاً متقدماً يقف على رأس أولويات أهالي الهضبة: يناقشونه ويستعرضون تبعاته ومخاطره، سواء في المجالس الخاصة أو العامة.

البعض يقول إن هناك مبالغة في تقدير الأرقام التي تعمد أجهزة الدعاية الإسرائيلية إلى تسريبها بين الأهالي “لغاية في نفس يعقوب”. لكن في بيان “المرصد- المركز العربي لحقوق الإنسان في الجولان”، الذي أصدره بتاريخ 20/12/2021، ذكر أنّه “بلغ عدد حَمَلة الجنسية الإسرائيلية، حتى تاريخ 30/09/2021، والمسجّلين كمقيمين في قرى الجولان الأربع: مجدل شمس، بقعاثا، مسعدة وعين قنية (باستثناء قرية الغجر) 3792 جنسيّة. يشمل ذلك الأبناء والبنات ممّن ورثوا الجنسيّة عن آبائهم وأمّهاتهم، وكذلك الزيجات من خارج الجولان، والأفراد والعائلات الذين انتقلوا من الجليل والكرمل أو أماكن أخرى للإقامة في الجولان. بينما لا تزال قوانين حكومة الاحتلال تصنّف الأغلبية الساحقة من سكّان القرى، وعددهم 21346، كـ‘مقيمين دائمين’ وقوميّتهم ‘غير معرّفة’، ويشكّلون 85% من مجمل تعداد السكّان (…) وخلال الثلاث سنوات ونصف الأخيرة، ارتفعت معدلات تقديم طلبات التجنّس بنسبة 3%، وقُدِّم خلالها 401 طلباً، ما يجعل النسبة الإجمالية لحملة الجنسية المسجلين في القرى الأربع، قياساً بالعدد الإجماليّ للسكّان، تبلغ 15%”.

بكل تأكيد أن الجيل الذي كان واعياً وقت الاحتلال أو مَن ترعرع على أصوات المجنزرات الإسرائيلية وما كانت تثيره من إرهاب وإزعاج في شوارع قرى الجولان، مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بعد إقرار قانون ضم الجولان في الكنيست الإسرائيلي في 14/12/1981، والإضراب الكبير، العام والشامل، الذي نفّذه الأهالي في 14/02/1982، واستمر أكثر مِن خمسة أشهر متواصلة رداً عليه، يختلف عن الجيل الذي يقضي معظم أوقاته في المدن الإسرائيلية، لغاية العمل أو التعليم، أو يسافر للخارج للتعليم أو السياحة.

لكن هنالك مستجد جديد. ذكرت صحيفة “يسرائيل هيوم”، بتاريخ 7 آب/ أغسطس الجاري أنه: “قريباً سيتعين على الإسرائيليين (حمَلة الجنسية الإسرائيلية) استصدار تأشيرة دخول إلى دول الاتحاد الأوروبي. هذا جزء من تغيير السياسة بسبب موجات الهجرة الكبيرة إلى القارة”. هذا الأمر لو تحقق سيكون له مفاعيله الواضحة والملموسة لجهة الحد مِن إقبال الشباب على التقدّم للحصول على الجنسية والـ”دَركون” (جواز السفر الإسرائيلي)، الأمر الذي سيُفرِح الكثير مِن رافضي الجنسية، ويجعلهم يتنفسون الصعداء، ولو مؤقتاً.

أسلحة ومخدرات…

انتشار الأسلحة الحربية ورواج المخدرات، بشكل غير مسبوق، دون قيام الدولة المحتلة بأي إجراء فعلي للحد مِن تلك الآفات المدمرة، واتهام الأهالي إسرائيل بانتهاج سياسة مُعدّة سلفاً، لنخر المجتمع الجولاني وتسهيل تمرير مخططاتها وإحكام قبضتها عليه، إضافة إلى اتهام الكثيرين سلطات الاحتلال بنخر الجهاز التعليمي وبتدخل أجهزة الاستخبارات الفاضح فيه، إنْ لجهة المناهج أو التدخل في توظيف الكوادر ووضع عراقيل جمة أمام كل المخلصين منهم ممن يمتلكون خطاطاً ورؤى ترتقي بالوضع التعليمي، كلها قضايا وهموم يومية تقض مضجع الأهالي.

الأخطر مِن كل هذا مشاهد المجنّدين، مِن أبناء الهضبة، في سلكَي الجيش والشرطة، والتي بدأت تظهر للعيان، رغم حصرها، حتى الآن، بأفراد لا يتجاوزون أصابع اليد. هذه المشاهد تثير الكثير مِن الريبة والاشمئزاز بين الأهالي وتدقّ ناقوس الخطر وتطرح علامات استفهام لا حصر لها، مُنذرةً بعواقب وخيمة لا يمكن التنبؤ بها، وليس مِن المبالغة وصفها بالصواعق القابلة للانفجار في أية لحظة.

الكثير مِن الهواجس تدور بخلد الأهالي، في وقتنا الراهن: هل تريد إسرائيل إبرام صفقة رخيصة مع نظام دمشق، تكون بمثابة “تسكيتة جَوْعَة”، كما يقال – على غرار ما حدث في “اتفاقية فصل القوات” (1974) التي أعادت إسرائيل إلى نظام الأسد بموجبها 50 كم2، مع إبقائها على 1250 كم2 تحت قبضتها – تُرجِعُ إسرائيل بموجبها إلى نظام الأسد القرى الأربع الآهلة بسكانها، لقاء تجديد عقد حراسته لحدودها وتمديد اتفاقية السلام (غير المعلنة) في ما بينهما لخمسين عاماً أخرى، بعد قضائه على الثورة وإعادة تدويره بنجاح، بقبول إقليمي ودولي؟ وما الذي يُحضَّر للمنطقة الجنوبية الغربية في سوريا في ظل تسريب الكثير مِن السيناريوهات والقلاقل والغموض اللذين يلفان هذا الأمر؟

سياسة “الكعكة المفتوحة”

حقيقة، لا مناص مِن الاعتراف لإسرائيل بنجاحها، بشكل منقطع النظير، في ما أسماه مفتِّش المعارف والثقافة في هضبة الجولان، في حقبة الثمانينيات، أهرون زبيدة، في أطروحة الماجستير التي قدّمها إلى جامعة حيفا، بسياسة “الكعكة المفتوحة”، ومؤدّاها دفع كل مواطن، مِن تلقاء نفسه، إلى اقتطاع حصته مِن هذه الكعكة تحت ناظر السلطات الإسرائيلية، مِن دون حاجته إلى وسيط ممّن هُم في عُرف الأهالي “عملاء لسلطات الاحتلال” كلما احتاج إلى خدمة أو قضاء حاجة، والعزوف عن انتهاج سياسة القبضة الحديدية التي لم تحصد جرّاءها إلا الفشل الذريع في تعاملها مع أهالي الهضبة المحتلة؛ وهذا ما حصل بالفعل.

أيضاً لا بد مِن الإقرار، في هذا السياق، بأن ما فعله نظام الأسد بالسوريين في الأحد عشر عاماً المنصرمة جعل كثيراً مِن الموالين للنظام والمناهضين له، على السواء، يتشاركون بعدم رغبتهم في العودة إلى “حضن الوطن”؛ أطاب لهم الاعتراف بذلك أم لا. الفئة الأولى ليقينها بأن ما ينتظرها هو الفقر والجوع والذل والقهر، والثانية لأنها، مِن الأصل، ترفض العيش كالعبيد في ظل نظام بربري دكتاتوري دموي ومتوحش.

لكن حتى الآن، يبدو أن الغالبية، وكلامي هنا مبني على استنتاج وتحليل شخصي لا على استطلاع أو سبر آراء، تفضل المحافظة على الوضع السياسي الراهن لأهالي الجولان، باعتبارهم أبناء أرض محتلة و”مقيمين دائمين” تحت الاحتلال ودافعي ضرائب، وأن تكون “اتفاقية جنيف الرابعة”، لعام 1949، وباقي المواثيق والأعراف الدولية، هي الأدوات الناظمة لعلاقتهم بسلطات الاحتلال، باعتبارهم مدنيين خاضعين للاحتلال مِن جهة، وباعتبار علاقة الاحتلال بهم مِن جهة أخرى.

مِن النافل التذكير بأن حكومات الاحتلال المتعاقبة، لم تعدِّل، قيد أنملة، مِن سياساتها المجحفة بحق الأهالي، لجهة سوء الخدمات، فالكثير مِن الشوارع والطرقات الرئيسية والحيوية غير معبّدة، والكهرباء في حالة يرثى لها، ولا يكاد يمر يوم واحد دون انقطاعها، منذ سنوات. هذا عدا عن بنية تحتية متهالكة تتعامل السلطات معها بما يمكن تسميته بسياسة “القطّارة”، مع الكثير مِن التمنين وتربيح الجميل القائمة على تذكير أبناء الجولان، بشكل دائم، بأوضاع نظرائهم البائس والميؤوس منه داخل وطنهم سوريا وفي الكثير مِن البلدان العربية.

ثم أتى “قانون القومية”، الذي أُقِّر في 19 تموز/ يوليو 2018، لـ”يُكمل النقل بالزعرور”، ويقطع الشك باليقين بأن إسرائيل لا تريد العرب أكثر مِن (Good Boys)، بالتعريف الأميركي، حتى مَن يخدمون في جيشها ويموتون في حروبها. فالقانون لم يوفّر حتى لغتهم العربية، في بنده الرابع، إذ عمد إلى تخفيض مكانتها من لغة رسمية إلى لغة “تحظى بمكانة خاصة في الدولة حيث إنها متاحة في الدوائر الحكومية للمتحدثين بها”.

خلاصة القول أنّ أهالي هذه المنطقة المحتلة لم يسبق لهم أن وقفوا على رمال متحركة كما هو حالهم في أيامنا الراهنة، على مختلف النواحي والصعد، و”الفضل الراجح” في ذلك، مِن دون ريب، يعود إلى سلطة جائرة تخلت عنهم، عام 1967، دون قتال، واستمرت تحكم وطنهم وشعبهم بالحديد والنار وتجلدهم بحجة تحرير الجولان المحتل؛ وليس مِن تحرير ولا مَن يحزنون! وصولاً إلى “إحراق البلد كرمى لعيون الأسد”، بعد اندلاع الثورة، وإحراق كل أمل لهم بالتحرير أو بقيامة وطن يشرِّف مَن ينتسبون إليه.

رصيف 22

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button