مراجعات الكتب

“الجسد في رواية الحرب السورية”.. بلد أصبح مرتعًا للموت/ جمال شحيّد

قبيل وفاة حسّان عبّاس (7/ 3/ 2021) بأسبوع، أصدرت له دار المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت دراسة متأنّية ومتميّزة عن الجسد كما تجلّى في روايات الثورة السورية بعنوان “الجسد في رواية الحرب السورية”. ثمة من يفضّل كلمة “حرب”، أو “زلزال”، أو “أزمة”، أو “انتفاضة”، أو “سنوات الجمر”…، ولكن المقصود بذلك واحد، أي تلك الحرب التي بدأت في 15/ 3/ 2011، وما زالت عقابيلها مستمرّة.

ويزيّن الغلاف تمثال من دون عنوان للفنّان فادي يازجي يمكننا تسميته بتمثال المساءلات والأحاجي.

نُشرت الدراسة في سلسلة “قراءات مركزة” Synthèse، وهي سلسلة بحثية جيبيّة تعرّف بتاريخ وفنون وأفكار ولغات وآداب ومجتمعات الشرق الأدنى. وتقع الدراسة في 148 صفحة من القطع الصغير والمكثّف. وتتناول تمثيلات الجسد وتجلّياته في الروايات التي تناولت قضيّة الحرب في سورية منذ انطلاقتها عام 2011 وحتى عام 2018؛ وبلغ عددها 153 رواية أُدرِج ثبتٌ بها في نهاية الكتاب. ويتناول “ثلثها الأحداث المأساويّة التي تشهدها البلاد منذ شهر آذار 2011″، كما ورد في المقدّمة. وحافظ حسّان عبّاس، في كتابه هذا، على رؤية موضوعيّة نأت بنفسها عن التأثيرات العاطفيّة والاصطفافيّة، فلم يختر “روايات كتبها روائيّون من موقف سياسي واحد”، وتجاهل شتّى التأثيرات الدعائيّة التي قد ينجرف بعض الباحثين المتحمّسين إليها. واختار 15 رواية من أصل 153، أي ما يمثّل 12% من مجمل هذا الإنتاج الروائي السوري، خلال الفترة المذكورة، و”قبل أن تتحوّل الثورة السوريّة إلى الحالة العبثيّة التي وصلت إليها” (ص 15).

بدايةً، يقتبس حسّان عبّاس عبارة لفريد الزاهي تقول: “الجسد يتدخّل بشكل مباشر في عمليّة إنتاج النص وكتابته، ويشكّل المخزون الذاتي للذات المؤلِّفة التي تثوي، بشكل أو بآخر، وراء النص، وينقل اللغة من التواصل الشفوي إلى صورتها المكتوبة” (“النص والجسد والتأويل”، الدار البيضاء، دار أفريقيا الشرق، 2003، ص 25). ثم ينتقل من جسد الحكاية إلى جسد راويها لأن الجسد الروائي “هو سبيل تستثمره الرواية لتحكي المجتمع”، كما رأى كلود دوشيه الذي يذكره عبّاس، والذي أشار إلى أن الجسد المفرد عبّر عن تفرّده في المجتمع السوري، وصار يصعب على السلطات الشمولية أن تدجّنه، وأن تمحو شخصيته، وتعامله كرقم كما في المعتقلات والسجون. وينتقل الباحث إلى تبيان الثنائيّة بين الروح والجسد، حسب الأيديولوجيا الشموليّة والدينيّة؛ ويصل من ثم إلى الجسد الملحمي، أي المنحلّ في الأمة الإسلامية، أو القومية، التي تسعى إلى صهر الأجساد في بوتقة واحدة، وتلغي بالتالي فردانيّتها. ويتوّقف من ثمّ عند الجسد المقموع جنسيًّا وسياسيًّا وفكريًّا. ويذكر عددًا من الروايات التي كسرت المحرّمات المعروفة كـ”دار المتعة” لوليد إخلاصي، و”وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر، ومسرحيتي “الاغتصاب”، و”منمنمات تاريخية”، لسعدالله ونوس. ويرى أن الرقابة السياسية والدينية المفروضة على الجسد قد فقدت ألقها بسبب مقاومة الأفراد الذين رفضوا التدجين في المجتمع السوري إبّان العقود الأخيرة. ويعبّر هذا الوضع عن “قوّة الحياة في المجتمعات، إذ مهما كانت سطوة الثقافات المهيمنة واضحة وعميقة، لا تستطيع أن تقتل توق الناس إلى التحرّر منها فتنتعش أشكال متعدّدة للمقاومة تبدأ من الزوايا الأقل صدامية (اللباس والطعام والموسيقى والوشم…) لتتفاعل وتتطوّر وتأخذ أشكال تعبئة مجتمعية وحركات احتجاجية” (ص 26). ويتوقف حسان عباس عند هذه التعبئة المجتمعية التي تجلّت في تكاتف الشباب المنتفض والتحامهم في جسد واحد ملحمي تحرّكه الأهازيج الشعبية.

وفي الفصل الخاص بتمثيل الجسد أدبيًّا، يرى عبّاس أن “الأجساد تحمل عالمًا غنيًّا” لا تستطيع اللغة وحدها أن تنقله، لأن الجسد “أكثر فصاحة من اللسان”. ذلك أن هذا الجسد يحمل تاريخًا وثقافة ومعنى. ويستشهد بالمفكر الفرنسي بيير بورديو، الذي رأى أن “الجسد موجود في العالم الاجتماعي، لكن العالم الاجتماعي موجود في الجسد” (ص 32)، لأن هذا الجسد ينتمي إلى مجموعة بشرية لها ثقافتها التي تتجلّى في سلوكياته وتصرفاته.

وانطلاقًا من ذلك، يتوقّف حسّان عبّاس عند المفاصل التي تواشج بين الجسد الروائي والجسد الاجتماعي، وينظر في نوعين من الخصائص التي تسم الجسد: الخصائص الماديّة (البدنية: كالنحول والسمنة والاعتدال والقوّة والهشاشة…، والخصائص المنقولة: كالملابس والزينة والوشوم…)، والخصائص اللامادية (كنبرة الصوت واللهجة والإشارات المصاحبة للغة). وينتقل من ثم إلى تمثلات الجسد في الروايات الخمس عشرة التي اختارها كمهاد لتحليله. فيتكلم على البنية الجسدية العامة فيها، كالبدانة والنحول في “الذئاب لا تنسى” للينا هويان الحسن، وفي “مفقود” لحيدر حيدر، وفي “المشّاءة” لسمر يزبك، وفي “بانسيون مريم” لنبيل ملحم، كما يتكلم عن العضلات المنفوخة والعضلات المفتولة في “الموت عمل شاق” لخالد خليفة، وفي “الخائفون” لديمة ونوس، وفي “السوريون الأعداء” لفوّاز حداد، وفي “أيام في بابا عمرو” لعبدالله مكسور. وبعامة، يصوّر هؤلاء الروائيون أجسام الشبيحة والسجّانين على أنها تتمتع بعضلات مفتولة ومنفوخة، في حين أن أجسام الضحايا هي أجسام نحيلة وضعيفة ومتهاوية ومهترئة. تقول ديمة ونوس: “النحول سمة تجمعهم. العظام النافرة. الجلد الذي ينكفىء على نفسه ويغوص في جسد فارغ. عيون جاحظة، غائرة في محاجرها” (ص 56). وينتقل عبّاس من ثم إلى تمثّلين آخرين للجسد هما الهشاشة والضعف، وهما مرتبطان بالبنية الداخلية للجسد: وجوه مرهَقة، شفاه متقوّسة، قامات زاهدة، كما ورد في “بانسيون مريم”، وعاهات وتشوّهات. وتركّز هذه الروايات على الوجوه، وتخصص حيّزًا وافرًا للعيون، بلمعانها أو برودها أو ذبولها. ويؤكد عبّاس على أن “العين مرآة للواقع السوري” (ص 75).

ويتوقّف مطوّلًا عند الشوارب واللحى، بشتّى مرجعياتها الدينية والسياسية والاجتماعية. في “السوريون الأعداء”، يذكر فواز حداد: “قُصّوا الشوارب واعفوا اللحى خالِفوا المشركين”، وهذه نصيحة وردت في الحديث النبوي. وبسبب أزمة الإخوان المسلمين مع النظام إبّان السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، مُنع إطلاق اللحى في المؤسسة العسكرية. ولكن إطلاق باسل الأسد لحيته المشذّبة كسر هذا المنع، وتحوّلت اللحية الشبابية إلى رمز حداثي في أوساط المجتمع المؤيّد للنظام. ولاحقًا، أرخى الشبيحة لحاهم غير المشذّبة ليزرعوا الرعب في نفوس الناس. ولكن التنظيمات السلفية والجهادية نافست الشبيحة في إطلاق اللحى، وتجاوزت الحديث النبوي الذي يقضي بحف الشوارب. وهكذا اختلط الحابل بالنابل.

وهنا يعود عبّاس إلى الربط بين الشوارب البعثية التي كانت تشبه الرقم ثمانية حسب الترقيم الهندي (الثامن من آذار/ مارس 1963). وقصارى القول إن موضة اللحى والشوارب ارتبطت في كثير من الروايات المدروسة بتسنّم السلطة، أكان ذلك في أوساط النظام، أو المعارضة. يقول حسّان عبّاس: “كلٌّ يتباهى بلحيته التي تمنحه دلالة ثقافية خاصة، تعدّدت الدلالات واللحية واحدة” (ص 87).

وينقلنا الباحث من ثم إلى فصل أدبي بامتياز عنوانه “الجسد المحَيوَن”، ويركز فيه على الاستعارات الواردة في هذه الروايات عن مماهاة الإنسان بالحيوان. ويمايز فيه بين نوعين من الحيوانات: الأهلية أو الداجنة أو الوديعة والطيّبة، والحيوانات المتوحشة التي تحب الدم والافتراس. وغالبًا ما تتمثل الأهلية منها بالمتظاهرين السلميين وبالناس البسطاء. وتتمثل الحيوانات الضارية برجال الأمن وعناصر الجماعات الجهادية ومافيات التهريب (ص 93). ويظهر هذا الفرز جليًّا في رواية “نزوح مريم” لمحمود حسن الجاسم، ورواية “الذين مسّهم السحر” لروزا ياسين حسن. والحيوانات الموظفة في هاتين الروايتين هي العصافير والماعز والقطط وذباب الخيل والتيوس والخفافيش، مع التركيز على الكلاب. ولكي يدلّل عبّاس على المماهاة بين الإنسان والحيوان، أدرج لائحة مقتبسة من رواية “نزوح مريم” تشير إلى الحيوانات الواردة في المتن مع دلالاتها الاجتماعية، كالبؤس والألفة والقلق والصخب والهمجية والوحشية والقذارة. يقول رجل الأمن الطائفي غسان علّام: “سنري هؤلاء الكلاب أن النباح على أسيادهم أمر لا يمرّ بسهولة” (الذين مسّهم السحر، ص 54). وتتكرّر مماهاة الإنسان بالكلب في مواقع كثيرة من هذه الرواية: “يا كلب، شرطي وعم تتظاهر… عم بتعض الإيد اللي بتطعميك؟” (ص 278). وتُظهر ظاهرة الكلبنة أن “السوريين في صراعهم السياسي والعسكري قد استخدموا مخزونهم الثقافي المشترك، متمثّلًا هنا بالرمزية الأخلاقية الدونية للكلاب، سلاحًا يوجّهه كل فريق إلى الفريق الذي يواجهه”، كما خلص عبّاس (ص 108).

الموت ومآل الجسد

يتكلم الفصل الأخير من الكتاب على الموت ومآل الجسد بعده. يقول الباحث إن الموت في المقتلة السورية صار أمرًا مألوفًا، لا بل مرغوبًا فيه، بعد أن كان يثير الحزن والأسى، فكان “مرور الجنازة يثير تعاطف الجميع أيام السلم، السيّارات تفسح الطريق، المارة يتوقفون وفي عيونهم تعاطف حقيقي، لكن في الحرب مرور جنازة حدث عادي لا يثير أي شيء، سوى حسد الأحياء الذين تحوّلت حياتهم إلى انتظار موت مؤلم” (الموت عمل شاق، ص 11). ولكثرة القتلى (465000 إنسان حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، كما تذكر الدراسة)، أصبحت البلاد مقبرة جماعية تنتشر فيها الجثث في كل مكان، ولا يحظى بمراسم الدفن إلا عدد صغير من القتلى: “أصبح القبر منحة قدَرية مهمة لمن فات وحافظ على معالمه واضحة بعض الشيء” (الذئاب لا تنسى، ص45).

وتعجّ الروايات المدروسة بصور الموت المستسهَل وصنوفه؛ وتشمل جميع الفرقاء على الأرض السورية: جنود الجيش، الجهاديين، الناس العاديين الذين يسقطون في الشوارع، أو حتى داخل بيوتهم. تقول رواية “نزوح مريم” عن سكان الرقة التي احتلتها داعش: “من هرب نجا، ومن قاوم قُتل وفجّروه بمركزه، أو أخذوه وقطعوا عنقه، أو أخفوه. الأرض ارتوت بالدماء، تتوالى الجثث في موكب دموي فظيع يفوق الخيال. دوّار النعيم تحوّل ساحة لذبح البشر وقطع الرؤوس، حتى تصبّغت الأرض وتغيّر لونها” (ص 113). ولا تبخل هذه الروايات في توصيف آثار التعذيب والتنكيل اللذين مورسا على هذه الجثث، كما يلاحَظ ذلك في الكم الهائل من الصور التي التقطها قيصر، وفي المجازر الكثيرة التي ارتكبت، وآخرها مجزرة حي التضامن الدمشقي.

وتتميّز رواية “الموت عمل شاق” لخالد خليفة بأنها جعلت من جثة عبد الله السالم مركزًا للحكاية؛ “والحكاية حكايته”، كما يقول حسّان عبّاس (ص 122). فبنقل حسين وبلبل وفاطمة جثّة أبيهم من دمشق ليدفن في العنّابية، بناءً على وصيّته، تنتقل الجثّة عبر سورية من جنوبها إلى شمالها، لتقول إن هذا البلد أصبح مرتعًا للموت. وما تفسّخ هذه الجثة على الطريق إلا اشارة إلى تفسّخ البلد وخرابه. ويقيم حسّان عبّاس مقارنة بين حال الجسد/ الجثة، وحال البلد الجنائزي، متوقّفًا عند سبع محطّات: 1) المستشفى: “كان جسده ورديًّا ومسجّى على نقّالة معدنية في المشفى العمومي” (ص 123). 2) حاجز الجيش: دفع رسوم مرور البضاعة (الجثّة). وبعد تسديد المبلغ يُفرج عن الجثّة. حاجز الأمن: تُعتقَل جثة عبدالله السالم في حاجز القطيفة (10 كم شمال شرقي دمشق)، ولا يُفرج عنها إلا مقابل ثلاثين ألف ليرة سورية (أي ما يساوي راتب موظف في ذلك الزمان). 4) حاجز الدفاع الوطني: بدأ وجه الأب بالانتفاخ وراح الجلد يتعفّن. 5) حاجز الميليشيات الشيعية قرب حلب: “ارتخى نسيج الجسد، والمسامات تفكّكت، زرقة غطّت الجزء السفلي، البطن بدا منفوخًا” (ص 103). 6) حاجز المتشدّدين الغرباء الذين يقودهم أمير أفغاني أو شيشاني: صارت الجثّة تنزّ قيحًا أصفر “تثير شهيّة الكلاب” (ص 115). 7) حاجز الدواعش قبل العنابية: “من المستحيل السيطرة على الروائح القاتلة، تزداد الشقوق التي تنزّ ما بقي من سوائل على شكل قيح”، وتظهر الديدان تتناسل بكثافة من الجثّة، و”تسلّقت نوافذ الميكروباص وغطّت المقاعد” (ص 122، 142).

وفي هذه الرحلة الجنائزية الرهيبة، يتحوّل الجسد إلى جثّة ثم إلى جيفة، كجيف الحيوانات النافقة، كما تتحوّل سورية من بلد شبه طبيعي إلى بلد منخور تسرح فيه الديدان البشرية.

ويستخلص حسّان عباس، في خاتمة كتابه، عددًا من الملاحظات أُجملها كما يلي: لم تعد موضوعة الجسد من المحرّمات الدينية؛ اكتسب الجسد كثيرًا من الفردانية؛ اكتسى الجسد قوة ترميزية عالية تمثل سورية وتحوّلاتها؛ حلّت الحيونة محل الأنسنة؛ أصيب الجسد بالانتهاك والتشويه والتقتيل.

وهذا الكتاب، على صغر حجمه (148 ص)، من أهمّ الدراسات التي تناولت مقولة الجسد إبّان الحرب السورية ومن أعمقها. وعالج فيه حسّان عبّاس موضوعه بحِرَفية لافتة، وبأسلوب علمي نأى بنفسه عن الغوغائية والاصطفاف والتحيّز. وذكر في إحدى المقابلات التي أجريت معه: يمكنني أن أذكر بعض المكونات التي طبعت هوّيتي والتي “جعلت مني رجلًا من دون أن أصبح ذكوريًّا، وعربيًا من دون أن أصبح عنصريًّا، وعلويًّا من دون أن أصبح طائفيًّا”. قال قولته هذه ورحل وترك فينا لوعة حارقة.

عنوان الكتاب: الجسد في رواية الحرب السورية المؤلف: حسّان عباس

ضفة ثالثة

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button