الصحافة في حقل ألغام الجيش الوطني وتركيا: المسموح والممنوع في التغطية الإعلامية/ مرسيل حسن (اسم مستعار)
كيف يعمل الصحفيون والصحفيات اليوم في في مناطق شمال وشمال غرب سوريا، حيث تسيطر فصائل مسلحة موالية لتركيا، فضلًا عن انتشار الجيش التركي وسيطرة الأتراك على كثير من مفاصل الحياة في المنطقة؟ ما هو المسموح وما هو الممنوع؟ أيّة رقابات مفروضة؟ هل من جهات تدعم الصحفيين وتنظّم عملهم؟ من هي؟ وما مدى استقلاليتها؟ يبحث هذا التحقيق في واقع الصحافة وعمل الإعلاميين في مناطق شمال وشمال غرب سوريا.
في شارع الفيلات في مدينة عفرين شمال حلب، وفي حدود الساعة الرابعة عصرًا من يوم العشرين من شباط 2019، وقع انفجار كبير قرب منزل الصحفي رامي (اسم مستعار).
ما هي إلّا دقائق حتى نصب رامي كاميرته على شرفة المنزل وبدأ بالتقاط الصور مدفوعًا بواجبه في توثيق الحدث، لكنه لم يكن يتوّقع أن يتحول هو نفسه إلى حدثٍ يستحق التغطية.
يقول رامي (45 عامًا) الذي كان يعمل وقتها مراسلًا لوكالة أخبار سوريّة في تركيا: “وقفت في شرفة منزلي وبدأت بالتصوير، كان المشهد مرعبًا، وكنت متأثرًا جدًا. لكن خلال قيامي بالتصوير نده لي عناصر من الساحة يقولون: ليش عم تصوّر؟، قلت لهم إنّني إعلامي، فقالوا: بي كي كي؟! (حزب العمال الكردستاني) وجاؤوا إليّ”.
“التقينا في الطابق الثاني، علمت من زيّهم أنّهم عناصر من جيش الشرقيّة التابع للجيش الوطني، ومن الشرطة العسكريّة التابعة للحكومة السورية المؤقتة، وما إن اقتربوا مني حتى شرعوا بضربي وتوجيه الشتائم لي حتى وصولي إلى خارج البناء. كان الضرب على وجهي وظهري بأخمص السلاح. ثمّ ركلوني بالأقدام أمام مرأى وأعين الناس”.
بحسب رامي وشهود آخرين كانوا متواجدين معه في موقع الانفجار، كان رامي يصرخ خلال تلقيه الضربات معرّفًا عن نفسه كصحفي يعمل لدى جهة إعلاميّة مقرها تركيا، “لكن ذلك لم يسعفني بل زاد الأمر سوءًا، ضربًا وإهانة وشتمًا”.
بدأ رامي بالعمل الإعلامي مع انطلاق الاحتجاجات الشعبيّة في سوريا في العام 2011، وكان يوّثق المظاهرات في مدينة الرستن في ريف حمص لصالح وسائل إعلام محليّة، قبل أن يُهّجر إلى ريف حلب الشمالي في شهر أيار (مايو) من عام 2018.
خلال تعرّضه للضرب في عفرين أثناء تصويره التفجير، أسعفه الحظ بتعرّف أحد عناصر الشرطة العسكريّة عليه، “نفدنا بطلوع الروح” يقول “لكنّهم أخذوا الكاميرا، واسترجعتها بعد مدّة”.
لم تنته مشاكل رامي بعد هذه الحادثة، فالمقطع الذي صوّره للتفجير وأرسله للوكالة التي يعمل بها ظهر بعد ساعة من نشره تقريبًا على قناتين تلفزيونيتين، تركيّة وروسيّة. “بصراحة لم أكن أعرف ذلك. في اليوم الثالث بعد التفجير، زارني اثنان من عناصر الشرقيّة في المنزل، قالوا: نريد الدخول وتفتيش المنزل، وبعد ذلك، قالوا: المعلم طالبك بجيش الشرقيّة.. مقرهم كان قرب منزلي”.
ذهب رامي مع العنصرين لرؤية “المعلم”، وهو العنصر الذي كان مسؤولًا عن نقطة جيش الشرقيّة قرب منزل الصحفي في شارع الفيلات، أحد شوارع عفرين الرئيسة، ويوجد فيه حاجز لجيش الشرقيّة التابع للجيش الوطني الذي يعمل تحت مظلة الحكومة السوريّة المؤقتة، المقرّبة من تركيا.
ووجِه رامي بأسئلة واتهامات من نوع: “كيف تصوّر وتظهر الفيديو على قناة روسيا؟ أنت عميل لأيّ جهة؟ أنت إرهابي، تتعامل مع الروس ومع الـ PKK.. كيف أدخلت السيارة المفخخة إلى المنطقة؟”، وصودر هاتفه النقال ليجبر على فتحه بعد تعرّضه للضرب من قبل عناصر “المعلم”. “فتحت الهاتف لهم، كرروا اتهاماتهم لي بالعمالة وبأنّني من أدخل السيارة المفخخة إلى المنطقة، خصوصًا بعدما رأوا في هاتفي العديد من أسماء أصدقائي الكرد، والمقطع الذي صوّرته وظهر على قناة روسيا اليوم”، يقول.
لم ينسَ رامي ما تعرّض له حتى الآن، “غير التعذيب بالضرب المبرح على القدمين باستخدام كابلات الكهرباء تمّ تعذيبي نفسيًا. هناك شخص يُلقب بأبي أحمد الآزوري كان يلقم السلاح في رأسي وكأنّه يوشك على إطلاق النار”.
في تلك الأثناء اقتحم عناصر من الأمن منزل رامي، عبثوا بأغراضه الشخصيّة وأرادوا مصادرة المزيد من المعدّات وربّما استجواب زوجته، “لكن لحسن الحظ كانت زوجتي قد غادرت المنزل فور سماعها نبأ اعتقالي واختبأت عند أحد أقاربنا”، يقول رامي.
ما حدث مع رامي ربما يكون نسخة مصغّرة عن واقع عمل الصحافة في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السوريّة المؤقتة الموالية لتركيا، والتي أُعلن عن تشكليها سنة 2013 وأريد لها رسميًا أن تلعب دور حكومة بديلة عن حكومة النظام، ليمتد نفوذها تدريجيًا على عدّة مناطق ومدن شمال وشرق مدينة حلب وعلى الشريط الحدودي مع تركيا.
تتوزع أجهزة الحكومة المؤقتة في مناطق السيطرة التركيّة داخل سوريا وهي ثلاث مناطق: نبع السلام (تل أبيض ورأس العين والشريط الحدودي بينهما)، وغصن الزيتون (عفرين وريفها)، ودرع الفرات (الباب، جرابلس، مارع، اعزاز، قباسين، بزاعة، اخترين، تركمان بارح، وكامل الشريط الحدودي غرب نهر الفرات)، ويتبع لهذه الحكومة -عبر وزارة الدفاع- فصائل عسكريّة تحت مسمّى “الجيش الوطني”.
لن يتطرق تحقيقنا هذا إلى ظروف عمل الصحفيين في مناطق أخرى تسيطر عليها فصائل عسكريّة سوريّة شمال غربي سوريا، تحديدًا في إدلب وريفها وأجزاء من ريف حلب الجنوبي والغربي، نظرًا لاختلاف طبيعة سلطة الأمر الواقع هناك، المتمثلة بـ”حكومة الإنقاذ” التابعة لهيئة تحرير الشام ممّا يتطلب بحثًا مختلفًا.
حقبة جديدة في الخريطة الممزّقة
في آب (أغسطس) 2016، أطلقت تركيا مع فصائل سوريّة حليفة لها عملية “درع الفرات” شمالي سوريا، وكان هدفها الرسمي هو الحرب على تنظيم “داعش” وتوجيه ضربة لقوات سوريّة الديمقراطيّة (قسد) التي تعتبرها تركيا منظمة إرهابيّة.
استمرت العمليّة حوالي سبعة أشهر، بسطت تركيا خلالها سيطرتها على خط “جرابلس، الراعي، دابق، اعزاز مارع ومدينة الباب”، ثم توّسع نطاق نفوذها سنة 2018 عبر عملية “غصن الزيتون” إلى مدينة عفرين وريفها التابعتان آنذاك لسيطرة قوات سوريا الديمقراطيّة ووحدات حماية الشعب الكرديّة.
استمر النفوذ العسكري التركي في التوّسع في بعض مناطق شرق الفرات كـ “تل أبيض” وكامل الشريط الحدودي غربي نهر الفرات، وصولًا في خريف العام 2019 إلى مدينة رأس العين (سري كانيه) خلال عملية “نبع السلام”.
كان لهذه التدخلات العسكريّة أثر على عمل مئات الصحفيين والنشطاء الإعلاميين في المنطقة. كثير منهم أُجبر على ترك مناطقه أو بدأ يشعر بالتضييق والتهديد بالاعتقال لأسباب مختلفة، منها اتهامهم بالعمل لصالح جهات كرديّة، خصوصًا إذا ما وجّهوا انتقادات للميليشيات المدعومة من الأتراك.
الصحفي الكردي محمد بلو (45 عامًا)، من أبناء مدينة عفرين، اضطر لترك مدينته في شهر آذار 2018 قبل أيام من سيطرة فصائل المعارضة السورية عليها. غادر “محمد” عبر طريق “جبل الأحلام” آخر الممرات المتاحة حينذاك للمدنيين صوب ريف حلب الشمالي، وبعد يوم واحد من سقوط مدينة عفرين في الثامن عشر من آذار استطاع الخروج مع قافلة من مقاتلي “قسد” إلى مدينة منبج، ومنها صوب الحدود العراقيّة إلى إقليم كوردستان العراق.
يقول محمد “بقيت هناك نحو عام ونصف، وبعدها قرّرت العودة إلى مناطق الإدارة الذاتيّة (القامشلي)، ولا زلت مستقرًا فيها مع عائلتي حتى الآن. أعمل مع إذاعة كرديّة وأنشر الأخبار على صفحتي على فيسبوك”.
تحوّل حساب محمد الشخصي على “فيسبوك” إلى صفحة تنقل أخبار مدينة عفرين بشكل يومي وتسلّط الضوء على تصرفات السلطة الحاكمة الجديدة “كتوزيع أملاك مهجري عفرين على المستوطنين” كما يقول في إحدى منشوراته. ومن خلال عمله مع إحدى الإذاعات الكرديّة المستقلّة التي تبث من عامودا، واصل محمد توجيه نقده لما أسماها “الميليشيات الإسلاميّة التابعة للاحتلال التركي” إضافة إلى مشاركته في الحديث في وسائل الإعلام عن انتهاكات تمارسها تلك الميليشيات بحق المدنيين.
في شهر حزيران (يونيو) 2018، توجّه مسلحون إلى منزل محمد في عفرين وسألوا ساكني المنزل عن أيّ كاميرات قد تكون موجودة في المكان، أو أيّ أجهزة كومبيوتر قد يكون محمد قد تركها قبل رحيله. يضيف محمد: “بيتي مستولى عليه من مهجري دمشق منذ شهر نيسان (أبريل) 2018، هناك عائلة من أهالي الغوطة استوطنت بيتي دون أيّ موافقة مني”.
لم تتوقف الانتهاكات ضدّ محمد عند ملاحقته ومصادرة منزله، ففي شهر آذار من العام 2019 وصل إلى “محمد” تهديد من حساب تركي على خلفية مساهمته في إطلاق حملة عفرين أولًا. “الرسالة وصلتني من رجل يكتب باللغة التركيّة، استعنت بمترجم وكانت تهديدًا بالقتل. كان يسألني من أين آتي بالصور والمعلومات التي أنشرها”، يقول محمد.
“من أنتم”.. باللغة التركيّة
يتواجد في المناطق التي يرصدها التحقيق نقاط عسكريّة تابعة لتركيا، إضافة لنقاط تركيّة أخرى في مناطق شمالي غرب سوريا، يصل مجموعها في سوريا تقريبًا إلى 122 نقطة.
كما أنّ تركيا تمدّ المناطق التي يرصدها هذا التحقيق بالكهرباء وخطوط الإنترنت، ويتواجد فيها فروع لخدمة البريد التركي، وبحسب أكثر من مصدر من العاملين في منظمات غير حكوميّة فإنّ أيّ عمل إغاثي أو تنموي في هذه المناطق يحتاج لموافقة السلطات التركيّة.
أيضًا، تحكم تركيا قبضتها الأمنيّة على مفاصل الحياة وفق هاجسها الأمني الممتد على مسافة خمسة كيلو مترات من حدودها نحو داخل سوريا. مثلًا، “أيّ موافقة تصوير في الأماكن المحظورة يجب أن تمر عبر الأتراك”، وهو ما تبينه الأحداث التي جرت مع الصحافي فؤاد طالب.
“من أنتم؟” هذه العبارة باللغة التركيّة، لم يسمعها فؤاد طالب (اسم مستعار/ 32 عامًا) في تركيا، بل أثناء تغطيته ذكرى تهجير أهالي الغوطة في مدينة عفرين يوم الرابع والعشرين من آذار (مارس) عام 2019.
كان فؤاد يقوم حينها باستطلاع رأي في الشارع حول هذه الذكرى. وعند تصويره مع أول شخص فوجئ هو والمصوّر الذي معه بشخص خلفهما يمنعهما من التصوير ويسأل باللغة التركيّة “من أنتم؟”.
فؤاد الذي يعمل صحافيًا حرًّا (غير متعاقد) مذ كان يقيم في غوطة دمشق قبل تهجيره عام 2018 نحو شمال حلب، لم يفهم حينها السؤال. حاول أن يبرز هويته الشخصيّة وبطاقة المهمّة الصحفيّة دون جدوى. “دار جدال بيننا، لم نفهم ماذا يريد. كان يتحدّث بصوت عالٍ. حاولنا رفع صوتنا ليسمعنا ونتفاهم، لكنه اعتبر الأمر إهانة، فاستدعى دوريّة وتمّ اعتقالنا لصالح فرع الأمن السياسي في عفرين، ليحتجزونا لمدة ساعة كاملة في غرفة واحد، أنا والمصوّر”.
يتبع هذا الفرع في عفرين لفصيل “الجبهة الشاميّة”، أحد الفصائل المنضوية تحت لواء الجيش الوطني، ويوجد الكثير من الجهات الأمنيّة والعسكريّة الأخرى التابعة للجيش الوطني، منها الشرطة العسكريّة والأمن السياسي.
يصف فؤاد تفاصيل ذلك اليوم قائلًا: “المصوّر تعرّض للضرب.. ضربوه بأيديهم وأرجلهم على وجهه وجسده (صفعات ولكمات) فقط لأنّه حاول أن يتحدث. قال له الأتراك في الفرع عندما أوقفونا، وذلك نقلًا عن مترجم معهم، عبارات قاسية مثل «لو أنّك عند الأسد لم تكن لترفع صوتك». أنا تعرّضت للتهديد كي لا أرفع صوتي. وقتها طلب منّا العناصر السوريون أن نسكت إذا سمعنا أيّ إهانة، أتذكر أنّ العنصر التركي كان يقف بجانبي مستعدًا لضربي كلما رفعت صوتي”.
يتابع فؤاد بنبرة غاضبة: “عرّونا بشكل كامل قبل إدخالنا إلى الزنازين في فرع الأمن السياسي في عفرين. بكيت. سألوني لماذا أبكي؟ لكنّني لم أجب. لم يكن عندي جواب. شعرت بالذلّ والقهر والإهانة لأنّني تعرّيت بشكل كامل”.
بعد ذلك، تمّ وضع الشابين في زنزانة فرع الأمن السياسي في عفرين لنحو ست ساعات، حتى تحقّق العناصر من شخصيتهما، ثم أفرجوا عنهما، لكن بقيت الكاميرات والهواتف وبقيّة المعدّات في الفرع لمدة عشرة أيام.
الرقابة التي يفرضها الأتراك، تؤكد عليها أيضًا، الصحفية “منى.أ (اسم مستعار): “حين وصلت إلى عفرين كان الوضع مختلفًا، تضايقت كثيرًا. هنا لا تستطيع أن تحمل كاميرا وتمشي فيها بالشارع، لأنّ الأتراك لا يريدون ذلك”.
كانت منى، التي بدأت العمل في الإعلام مع انطلاق الاحتجاجات في العام 2011 قد وصلت إلى عفرين في العام 2019، وذلك بعد أن لاحقتها جبهة النصرة في مدينة الأتارب.
“أول انتهاك بحقي حدث في العام 2015. اعتُقلت عند جبهة النصرة بسبب عملي كامرأة وصحفيّة. قالوا لي أنتِ مرتدة، تخرجين مع الشباب ولا يهمك أحد. بعدها رحلت إلى تركيا، وبقيت عدّة شهور، ولكني لم أستطع البقاء فعدت إلى الأتارب. في عام 2018 كنت أقوم بتصوير المجزرة التي حصلت في الأتارب حين تعرضت المدينة لثلاث ضربات صاروخيّة وكلّ ضربة كانت مؤلفة من عدّة صواريخ. كنت أقوم بالتوثيق بعدسة هاتفي، لكني تعرّضت للضرب من قبل عناصر النصرة حينها، وكانوا يقولون أنت امرأة ماذا تفعلين بين الرجال؟”.
لكن الصحفية التي بدأت العمل في حلب ثم انتقلت إلى شمال غرب سوريا ومن ثمّ إلى عفرين، وجدت نفسها أمام القيود المفروضة على العمل الإعلامي من قبل تركيا. “هنا في عفرين لا يختلف الوضع كثيرًا، بسبب عملي وتواصلاتي دائمًا ما أتعرّض للتحقيق”.
يوضح الصحفي والباحث السوري عروة خليفة أنّ “السبب الرئيس لمحاولة منع التغطيات من عفرين هي الانتهاكات المرتكبة في المنطقة من قبل الفصائل الموجودة، حيث تشهد منطقة عفرين مستوى أعلى من الانتهاكات بالمقارنة مع مناطق أخرى مثل ريف حلب الشمالي (منطقة درع الفرات)”.
أمّا السبب الثاني بحسب خليفة فهو “حساسيّة المنطقة بسبب وجود العامل القومي كعامل أساسي قد يلعب دورًا في جعل تلك الانتهاكات ترقى إلى جرائم حرب أو جرائم إبادة وهو ما أظهرته عدّة تقارير صادرة عن اللجنة الدوليّة المستقلة للتحقيق في سوريا، ما يؤدي إلى توّجه الفصائل التي ترتكب الانتهاكات بمزيد من التعتيم على المنطقة”.
أرقام من جهات معنية بحقوق الصحفيين
يؤكد المركز السوري للإعلام وحرية التعبير في تصريح خاص أنّه وثق 34 انتهاكًا بحق الصحفيين والصحفيات في المناطق الخاضعة للسيطرة التركية منذ عام 2018 وحتى الآن.
فيما وثق مركز الحريّات التابع لرابطة الصحفيين السوريين 28 انتهاكًا منذ شهر شباط 2019 في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون، منها ثلاث حالات قتل، ثلاث محاولات اغتيال، ثماني إصابات ناتجة عن التعرّض للضرب خلال الاحتجاز، فيما تراوحت باقي الحالات بين الاعتقال والاحتجاز.
تُعلّق منسقة الدعم في البيت الصحفي في المركز السوري للإعلام وحريّة التعبير، إباء منذر، في حديثها حول العمل الصحفي في هذه المناطق قائلة إنّ “العمل الصحفي في سوريا وفي مختلف المناطق، يعاني من التضييق في البيئة القانونيّة التي تحدّ من حريّة العمل الصحفي، وهو كذلك عمل يقوم في بيئة صراع عسكري وسياسي شديد ومستمر منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، وعليه لا يختلف العمل الصحفي في هذه المناطق (التي يتناولها التحقيق) كثيرًا عن باقي المناطق، حيث لا يزال الصحفيون مستهدفون من قبل أطراف الصراع العسكري وأحد أقل الفئات حماية إلى جانب كون استقلاليّة عملهم وقدرتهم على النشر الحرّ للمعلومات وحتّى الوصول الآمن للمعلومات الدقيقة، كلّ هذا خاضع للتضيّق والتدقيق. وعليه فهو وضع غير صحي وغير سليم”.
تبدو الأرقام صغيرة نسبة إلى الكلام الذي يدور حول المنطقة والشكاوى التي رصدها فريق التحقيق عند مقابلته عشرات الصحفيين. عن ذلك يجيب داني بعاج، إنّ “عمليات توثيق الانتهاكات الواقعة على العاملين في المجال الإعلامي صعبة ودقيقة بطبيعتها، وترتبط بالعديد من العوامل، من أهمها قدرة الصحفيين أو العاملين في مجال توثيق الانتهاكات على الوصول إلى المعلومات، وحريّة حركتهم، وتنقلهم بالإضافة إلى احترام السلطات المسيطرة لحريّة التعبير والنشر، هذه الحريّات التي تقيّدها معظم سلطات الأمر الواقع المتحكمة في الجغرافيا السوريّة، وتبقى الحكومة السوريّة أكثر من يقيّد ويمنع هذه الحريّات”.
من المسؤول عن هذه الانتهاكات؟
خلال عمليات البحث والتوثيق في الانتهاكات التي يتعرّض لها الصحفيون في هذه المناطق، تبرز أسئلة كثيرة عمّن يحمي الصحفيين والصحفيات في تلك المناطق، ففي شهر تشرين الأول الفائت اعتقلت قوات من الجيش الوطني الناشط الإعلامي أحمد البرهو، بسبب منشور انتقد فيه سلوكيات هذه القوّات عند اعتقالها لمطلوبين في عفرين.
يصل الأمر أحيانًا حدّ التعرّض للاغتيال، كما حصل مع الصحفي حسين خطاب في نهاية العام 2020، الذي اغتيل على يد مسلحين مجهولين، وذلك بعد أن نشر الضحيّة في حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي أن مسلحين قد حاولوا اغتياله، ولم تجدِ مناداته نفعًا، إذ لم تقم السلطات التركيْة بأيّ رد فعل حيال هذه الحوادث، بحسب متابعتنا للمجريات على الأرض.
تجيب إباء منذر منسقة الدعم في البيت الصحفي عن تساؤلاتنا قائلة إنّه ووفق أرقام الانتهاكات الواقعة على الصحفيين، فإنّ “الفصائل التابعة للمعارضة المسلحة والمدعومة من الحكومة التركية هي أبرز المنتهكين” .
هذا أيضًا ما تؤكده صابرين النوي مسؤولة مكتب الشرق الأوسط في منظمة “مراسلون بلا حدود”: “في الغالب تتصرف مجموعات مسلحة سوريّة مثل شبيحة للسلطات التركيّة، لكنّ الصحفيين الذين ينتقدون بحريّة لم يعودوا متواجدين في المنطقة، أو أنّهم بقوا فيها، ويمارسون رقابة ذاتيّة ليتجنبوا الأعمال الانتقاميّة”.
من يملك السلطة على الإعلام، أنقرة أم الجيش الوطني؟
في مناطق “درع الفرات” ثمّة تشديد أمني أيضًا، وإن كان بوتيرة أقل بعض الشيء عن عفرين التابعة لـ”غصن الزيتون”، هنالك أيضًا سلطة كبيرة للأتراك بطبيعة الحال.
“أسوأ شيء شاهدته، أنّنا كسوريين، ليس لنا كلمة ولا نمتلك أيّ قرار في ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي، القرار أولًاً وأخيرًا للعسكري التركي”، يقول أحمد (اسم مستعار/ 29 عامًا) الذي تمّ اعتقاله يوم الخامس عشر من شهر تشرين الأول من العام 2019، حين ذهب لتغطية معارك بين “فصائل المعارضة السوريّة” و”قوات سوريا الديموقراطيّة” في ريف حلب الشرقي.
اتجه أحمد إلى موقع المعركة بعد أن حصل، مع مجموعة من المصورين والمراسلين، على موافقة من الفرقة الأولى التابعة للجيش الوطني لتصوير المعارك. إلّا أنّ هذا لم يشفع لهم، فعند وصولهم المنطقة تمّ اعتقالهم من قبل الشرطة العسكريّة التابعة للحكومة السوريّة المؤقتة، وخضعوا للتحقيق عدّة ساعات في مقرها بجرابلس، ولم يتم السماح لهم بالتصوير أو القيام بأيّ عمل إعلامي.
“لحظة وصولنا إلى خط الجبهة، قلنا للعناصر: السلام عليكم، ولم يرد أحد. توجهنا لإحدى السيارات حتى نسأل عن قائد العمليات ونطلب منه الأذن بالتصوير، ليظهر أحد العناصر ويأمرنا: يلا عالسيارة وعالفرع. للوهلة الأولى ظننت أنّه يمزح، قمت بالرد مازحًا: يلا تكرم عينك، منروح بس شربنا كاسة شاي. لكن فوجئت به يتحدث بشكل جدي”.
طلب أحمد وأصدقاؤه من العناصر توضيحات عن سبب أخذهم إلى الفرع دون أن يتلقوا أيّ إجابة. تمّ توقيفهم من الساعة الواحدة ظهرًا حتى الساعة السادسة والنصف مساءً، وبحسب أحمد، فقد تمّ الإفراج عنهم بعد ضغط من اتحاد إعلاميي الشمال، حيث تواصلوا مع أحد القضاة التابعين للحكومة المؤقتة.
“بعدما أخلوا سبيلنا، أخبرونا أن لا نعود للتصوير من دون تصريحات، وطلبوا منا أن نبصم على تعهد بعدم التصوير دون موافقة”.
كيف يعمل الصحفيون في شمالي سوريا؟
بعيدًا عن حوادث الانتهاكات المذكورة في التحقيق، يوجد حاليًا المئات من الصحفيين والصحفيات حسب تقديرات مستقلة، يعملون في هذه المناطق، لكن ضمن قواعد معينة وفي أُطر مرسومة لا يتجاوزونها، ليستطيعوا الاستمرار بالعمل في المنطقة.
ريتا الحايك (اسم مستعار/ 30 عامًا)، صحفيّة مقيمة في مدينة اعزاز تعمل لصالح إحدى وسائل الإعلام المحليّة، ترى أنّ هذه المناطق (درع الفرات وغصن الزيتون) لا تمنع العمل الصحفي بالمطلق، وتوضح أنّ “التحديات كبيرة، سواء الأمنيّة أو الاجتماعيّة، فهناك خطورة في العمل عمومًا بسبب القصف والمعارك، وهناك تحديات أمنيّة، إذ أن التصوير يمنع أحيانًا خصوصاً خلال التفجيرات، إضافة إلى صعوبة الحصول على تصريحات رسميّة”.
وتتابع ريتا أنّ “هناك نظرة مختلفة نوعًا إلى المرأة التي تعمل في مجال الصحافة في منطقتنا ولو أن هناك حالات تفضّل فيها تلك الجهات عمل المرأة، خصوصًا في المخيمات وبين النساء حيث يكون للصحفيات دور أكبر من الدور الذي يلعبه زملائهنّ الرجال”.
وبالنسبة لريتا تبقى جميع هذه المخاطر في إطار ضيق طالما تمّ الالتزام بقواعد العمل وتنسيق مع المجالس المحليّة التي تتبع الحكومة المؤقتة في كلّ منطقة وأخذ تصاريح منها قبل البدء بالتصوير أو التغطية.
أمّا المراسل الصحفي فادي (اسم مستعار)، والذي يعمل لصالح عدّة وكالات ووسائل إعلام في شمال سوريا، فيقول إنّ “العمل عمومًا مُسهّل وسلس، لكن بشروط على ما يبدو”، ويضيف “أنا عضو في اتحاد الإعلاميين السوريين، وهي منظمة مرخصة من قبل المجالس المحليّة، لكن العمل تحديدًا في مدينة عفرين مختلف وصعب جدًا. لا نستطيع حمل كاميرا في الشارع في عفرين ومن الممكن أن نتعرض للاعتقال في أيّ لحظة”، ويلخص الوضع قائلًا: “أرى الأوضاع هنا ممتازة بالنسبة للعمل الصحفي ما عدا منطقة عفرين”.
يعلّق الصحفي عروة خليفة عن سبب الفروقات بين المنطقتين المصطلح على تسميتهما مناطق عمليات درع الفرات ونبع السلام، فيرى أنّ السلطات المحلية في مناطق درع الفرات تمتلك هامشًا نسبيًا للقرار في حين تسيطر الحكومة التركيّة بشكل أكبر على مناطق مناطق نبع السلام التي تغيب عن الإعلام بشكل شبه تام، وبالمجمل فإنّ الحكومة التركيّة تقوم بالتحكّم بالمفاصل الأساسيّة للإدارة وتشرف على ما يظهر في الإعلام عن المنطقتين، لكن يبدو أنّها أكثر تسامحًا مع ما يتم نشره في مناطق درع الفرات”.
جهات سورية معنية بالصحفيين
ثمّة جهات سوريّة استطاعت تنظيم عملها في المنطقة، مثل “اتحاد اعلاميي الشمال” الذي تشكل نهاية عام 2017، مكوّنًا من أكثر من 500 صحفي وناشط إعلامي في شمال وشمال غرب سوريا، ويشمل مجال عمله كافة المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السوريّة في شمال وغرب سوريا.
بحسب رئيس الاتحاد جلال التلاوي فإنّه “بعد تأسيس الاتحاد وجولته على جميع المجالس المحليّة بالمنطقة ورؤساء أفرع الشرطة العسكريّة والمدنيّة وقادات الفصائل العسكريّة، تمّ الاعتراف به وتنسيق أمور الإعلاميين بشكل كامل في المنطقة. والاتحاد بعد انطلاقه أصدر بطاقات صحفيّة خاصة بأعضاء الاتحاد، ووفق هذه الهويّة يُسمح لهم بالعمل في المنطقة ومعرّف عنهم بالبطاقة أنّهم تحت حماية اتحاد الإعلاميين السوريين”.
يضيف التلاوي أنّ أيّ إعلامي يأتي من خارج مناطق الجيش الوطني، مثل إدلب التي تسيطر عليها جبهة تحرير الشام وحكومة الإنقاذ، “نُسهّل عمله عن طريق إعطائه تصريح مؤقت، أو حسب المُدّة التي يطلبها، هذا التصريح يُعلن للسلطات أنّه مُعرّف من قبل الاتحاد وشخص مضمون، مثلنا مثل أيّ كيان على الأرض. وفي حال تعرّض أيّ إعلامي لأيّ إساءة نحن نتواصل مع قيادة العنصر المُسيء لتتم المحاسبة مباشرةً”، وفي حال حصول أيّ ملاحقة لإعلامي “نتابع الأمر حتى لو تواصلنا مع أكبر قائد في الجيش الوطني، وهم متعاونون معنا ومتفهمون على أعلى مستوى” يؤكد رئيس الاتحاد.
خلال بحثنا عن الجهات المعنية بشؤون الصحفيين، وجدنا تكتل آخر هو “مجلس الإعلام السوري” المكوّن من رابطة الصحفيين السوريين ونادي الصحفيين السوريين ورابطة الإعلاميين للغوطة الشرقيّة، إضافة إلى اتحاد إعلاميي حلب وريفها.
يقول رئيس نادي الصحفيين، عبد العزيز العذاب إنّ النادي حاضر في الداخل السوري وله مكتبان، الأول في شمال حلب والثاني في مدينة إدلب، كما أنّه يمنح بطاقات لأعضائه، وهو (أيّ النادي) عضو مؤسس في مجلس الإعلام السوري.
يضيف متحدثًا أنّه، “وبالنسبة لمنطقة حرب يتمتع الشمال السوري بقدر لا بأس بها من الحريّات الصحفيّة، الانتهاكات مازالت مستمرة ولو بوتيرة أقل من السابق، تتم متابعتها وتوثيقها من قبل الزملاء في المركز السوري للحريّات الصحفيّة… نسعى للعمل في بيئة أكثر أمنًا وأكثر حريّة ينتفي فيها أيّ قيد على العمل الصحفي والإعلامي. هذا هو سعي النادي مع كلّ الكيانات «الجامعة» الشريكة له”.
بحسب فؤاد طالب (اسم مستعار/ 32 عامًا)، الذي ما زال يعمل مراسلًا لإحدى وسائل الإعلام المحليّة في شمال سوريا، فإنّ موضوع التغطية الإعلاميّة وحدود العمل الصحفي هو موضوع نسبي كما يقول، موضحًا: “أحيانًا في مواقع التفجير قد يتيسّر عملك الصحفي وتستطيع التصوير، أمّا في حال وجود استخبارات تركيّة، فإنّهم يعاملوننا كصحفيين أجانب ويجب أن يكون معنا أذن وترخيص للعمل، أحيانًا العناصر السوريين في حال كانوا يعرفوننا يسمحون لنا بالتغطية، لا يمكن أن نقول هناك خطوط حمراء واضحة، المسألة تعتمد حوزتك على ترخيص عمل أو لا”.
حدود العمل الصحفي
للعمل الصحفي في المناطق التي يرصدها التحقيق حدود لأعمال يُسمح بتغطيتها وأخرى غير مرغوب بتغطيتها وقد تسبب مخاطرًا على الصحفيين والصحفيات.
خلال البحث، تبين أنّ الخطوط الحمراء، وإن كانت غير معلنة من قبل السلطات المحليّة، تتمثل بانتقاد السلطات التركيّة أو انتقاد السلطات العسكريّة المُمثلة بالجيش الوطني، وتغطية عمليات التهجير والتغيير الديموغرافي، وعمليات التهريب وتجارة المخدرات، وتغطية التفجيرات ومتابعتها دون تنسيق مع الجهات المسيطرة كالجيش الوطني وأذرعه.
فيما يُسمح بتغطية مواضيع كإنجازات السلطات التركيّة في المنطقة، والقصص الإنسانيّة بشكل عام كقصص النازحين والمُهجرين من مناطق سيطر عليها النظام السوري وقوات قسد، إضافة إلى الفعاليات التي تدعو إليها السلطات المحليّة كالحكومة السورية المؤقتة والمجالس المحليّة والمنظمات الإنسانيّة.
يمكن الإشارة إلى أنّ أوضاع العمل الصحفي من حيث الحريّات في التغطية، تبدو في هذا العام أفضل نسبيا من الأعوام السابقة، بحسب رصدنا لهذا الموضوع منذ منتصف العام الفائت وتأكيد مصادر صحفيّة مستقلة.
يعمل فادي في مناطق شمال سوريا في مجال الإعلام منذ العام 2015، عاصر عدّة سلطات أمر واقع، وواجه مشاكل عديدة منها تعرّضه للاعتقال مع زميله أحمد في جرابلس، واعتُقل مرة ثانية عندما كان يغطي احتجاج الأهالي في باب الهوى على يد “هيئة تحرير الشام” في شهر كانون الثاني من العام 2019.
يقول الصحفي فادي عن الحدود التي يتحرّك ضمنها الصحفيون حاليًا في المناطق الخاضعة للسيطرة التركيّة: “أغلب التغطيات تكون في المجال الإنساني، بصراحة، لم نجرب الحديث عن مواضيع تتعلّق بسلطات الأمر الواقع، أو الجرائم والمخدرات هذه أمور لا يمكننا الخوض بها، من المُمكن أن تسبّب «وجع راس» نحن بغنى عنه، لذا نعمل في الشق الإنساني الذي ينقل معاناة الناس في المخيمات، وهو أكثر شيء نهتم به”.
هذه الحدود والتعقيدات قيّدت العديد من الأعمال الصحفيّة، كما حدث مع فؤاد طالب بعد اعتقاله، فلم يعد يستطيع التصوير أو القيام بأيّ مهمة صحفيّة بشكل طبيعي، قائلًا عن فترة ما بعد اعتقاله: “استمريت بالعمل، ولكن بتغطية المواضيع التي يدعوننا إليها (يقصد السلطات المحليّة كالجيش الوطني والحكومة المؤقتة)”، مضيفًا بلكنته المحليّة: “منروح بماعيتون منصوّر.. في إحدى المرات كنت أقوم بمداخلة مباشرة على الهواء، تمّ استدعائي بعدها ومساءلتي عمّاذا كنّا نسجّل ولماذا، حتى تأكدوا من طبيعة المداخلة”.
في هذا السياق، يرى القاضي إبراهيم الحسين، مدير مركز الحريّات في رابطة الصحفيين السوريين، أنّ الصحفيين في مناطق رصد التحقيق، يعانون كثيرًا خلال قيامهم بواجبهم الإعلامي في نقل حقيقة ما يجري على الأرض: “لعلّ الخط الأحمر الأول الذي قد يؤدي تجاوزه إلى احتجاز الإعلامي، هو الحديث عن الانتهاكات المرتكبة من قبل الفصائل وعناصرها، ومن الواضح أيضًا أنّ تغطية النشاطات والتحركات التي تقوم بها القوات التركيّة في المنطقة ليس بالأمر اليسير، وكثيرًا ما مُنع الإعلاميون من تغطية أحداث مهمة مختلفة، ولا نعلم إن كان ذلك بتوّجه تركي أو بتصرف ذاتي من الفصائل المنضوية ضمن الجيش الوطني”.
تواصل فريق التحقيق مع مسؤولة مكتب الشرق الأوسط في مراسلون بلا حدود صابرين النوي، التي تشير إلى حوادث أخرى وثقتها المنظمة. تقول “وقعت خروقات أخرى في شهر تشرين الأول 2019، وذلك خلال الهجوم التركي على شمال سوريا، وقتها تمّ استهداف مجموعة من الصحفيين عمدًا وبما يُشكّل جريمة شنعاء، وقد قُتل العديد من الصحفيين المحليين خلال القصف التركي على سري كانيه (رأس العين)، مُذاك الحين، لم نوثق انتهاكات أخرى، ليس لأنّ هذه المناطق هي مناطق عمل حرّ للصحفيين، ولكن لأنّ الصحفيين والمراسلين المستقلين قرروا مغادرة المنطقة، أو تمّ حظرهم من قبل القوات المدعومة من تركيا، وبقيت وسائل الإعلام الموالية لأنقرة فقط”.
تؤكد صابرين النوي أنّ “مراسلون بلا حدود” تعتبر مناطق شمال شرق سوريا “ثقبًا أسودًا إخباريًا”، مرجعة ذلك لأنّ المعلومات التي تصل المنظمة قليلة جدًا حول الصحفيين، فلا يوجد صحفيون مستقلون أو ناقدون، وإن وُجدوا، فيتعين عليهم العمل وإخفاء أسمائهم. “يمكننا مراقبة الوضع في القامشلي والحسكة والرقة بسهولة أكبر، على الرغم من صعوبة الوضع بالنسبة للصحفيين المستقلين، التقييم هو نفسه بالنسبة لمناطق إدلب، حيث يتعرض الصحفيون للتهديد من قبل هيئة تحرير الشام وجهات أخرى”.
أمّا داني بعاج، مدير المناصرة في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير فيقول إنه “في منطقة تمّت السيطرة عليها بقوة احتلال عسكري هناك بكلّ تأكيد الكثير من مُقيّدات النشر والمحظورات التي تفرضها السلطة القائمة، لاسيما ما يتعلق بالمعلومات العسكريّة أو الأمنيّة، والتي عادة ما تقوم السلطات أو قوى الاحتلال باستخدامها كذريعة لمنع نشر أيّ أخبار تتناول سياساتها في المنطقة التي تسيطر عليها؛ أو لتقييد حريّة تنقّل وحركة العاملين في المجال الإعلامي، وصولًا إلى مراقبة المحتوى والنشر”، مضيفًا أنّه وعلى الرغم من عدم وجود محدّدات واضحة لما هو مسموح أو ممنوع، “لكن من ملاحظاتنا نستطيع القول إنّه في مناطق النفوذ هذه يمكن الحديث بحريّة عن انتهاكات الحكومة السوريّة والقوات الحليفة لها، حريّة ليست متواجدة بذات المساحة عند الحديث عن الجيش الوطني على سبيل المثال”.
في هذا السياق تبدو الفروقات واضحة بين وضع الصحافة في تركيا، ومناطق النفوذ التركي بسوريا، وهو ما تحدث عنه الصحفي والباحث عروة خليفة: “رغم وجود عدد كبير من الانتقادات حول انتهاكات لحقوق الانسان، إلّا أن تركيا تبقى عمومًا دولة قانون لا يمكن تجاوز عدد من الخطوط الحمراء فيها، خاصةً عندما يتعلق الأمر بمواطنين أتراك، أمّا في مناطق النفوذ التركي في سوريا، فقد تُرك الأمر لفصائل محليّة، عدد كبير منها لم تكن فصائل معارضة حقيقيّة، بل قادمة من خلفيات ارتكاب جرائم جنائيّة، تقوم تلك الفصائل التي من السهل قيادتها وتحريكها من وجهة نظر الأتراك بالاستمرار بالانتهاكات والجرائم التي تضمن لها بسط نفوذها الكامل وحصولها على أكبر قدر من المنافع الماليّة”.
ويتابع خليفة قائلاً مؤكداً أنّ “أيّ انتقادات تُوجّه لعمل تلك الفصائل أو لفضح جرائمها سيقوّض نفوذها أو مكانتها بطريقة أو بأخرى، ولذلك، فإنّ الهامش المتاح لتوجيه انتقادات علنيّة في مناطق سيطرة تلك الفصائل شبه معدوم”.
بعد تلك الواقعة التي حصلت مع الصحفي رامي واقتياده للتحقيق ثمّ تعرضه التعذيب، قرر الرحيل إلى تركيا لانقاذ نفسه وعائلته، بينما أُجبرت منى التي تهجّرت من حلب على ترك شمال غرب سوريا، لتبحث عن وجهة جديدة، هذه المرة بعيدًا عن مناطق “الجيش الوطني” و”النفوذ التركي”.
أمّا الصحفي أحمد الذي تعرض هو الآخر للاعتقال فيقول لنا: “أسوأ شيء بالنسبة لي إنّنا كسوريين ليس لنا كلمة، ولا نمتلك أيّ قرار بريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي، والقرار أولًًا وأخيرًا للعسكريّ التركي”.
(ينشر هذا التحقيق بدعم وإشراف من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية)
حكاية ما انحكت