مراجعات الكتب

بعد سبعة عقود على إعدامه: أوراق جديدة من أرشيف رئيس الوزراء السوري محسن البرازي/ محمد تركي الربيعو

في 14 آب/أغسطس 1949، كان الضابط السوري سامي الحناوي برفقة عدد من الضباط الآخرين، يقودون الانقلاب العسكري الثاني في سوريا على حسني الزعيم ورئيس وزرائه آنذاك محسن البرازي. وسيروي لنا لاحقا خالد البرازي (ابن محسن) كيف سيقاد والده بلباس النوم إلى مقر الأركان، بعد صفعه من قبل الجنود حتى وقع مغشيا عليه. لتنتقل بهما سيارة الاعتقال أو الإعدام إلى سفح قرية المزة، حيث كان حسني الزعيم معتقلا أيضا. وهناك انزل الجنود البرازي الأب (أمام ابنه) إلى جوار الزعيم، وأطلقوا عليهما الرصاص، فسقطا صريعين. وفي هذه الأثناء، تقول إحدى الحكايا، أنّ أحدهم دخل مكتبه وانتزع منها أوراقا خطيرة (ولعلها قصة ملفقة).

ومن بين هذه الأوراق، ما سيقال إنها مذكرات خاصة بالبرازي، حول الفترة التي عاشها في زمن القوتلي، ولاحقا حسني الزعيم. وقد بادرت حركة القوميين العرب بنشر بعض الأوراق المسروقة تحت عنوان «مذكرات الدكتور محسن البرازي الأمين العام لرئيس الجمهورية السابق شكري القوتلي ورئيس وزارء الزعيم حسني الزعيم» وطبعت منها 50 نسخة فقط، ووزعت على بعض الأشخاص، ومن بينهم أكرم زعيتر. ويرجّح البعض أن العلاقة التي ربطت بين الأخير وكامل مروة (مؤسس صحيفة الحياة) هي التي تقف وراء نشر القسم الأكبر من هذه المذكرات على حلقات في الصحيفة بدءا من 16/1/1953. وستعثر المؤرخة خيرية قاسمية بعدها بعقدين تقريبا أو أكثر، على نسخة مصورة من هذه المذكرات، لتقوم بنشرها في بيروت في عام 1993 بعنوان «مذكرات محسن البرازي 1947ـ1949».

لكن قصة مذكرات وأرشيف البرازي الخاص لن تتوقف هنا، فبعد ستة عقود تقريبا من وفاته (2010) سيعثر ابن مرافقه الشخصي (أبو السعود الخطيب، الذي بقي وفيا له من خلال إطلاق اسم محسن على أحد ذكوره، ومحسنة على إحدى بناته) خلال تعزيل أحد منازل أسرة البرازي على أوراق من أرشيفه. لينقل الأوراق إلى زوج اخته المؤرخ الكوسوفي السوري محمد م. الأرناؤوط، الذي نشر في عام 2017 بعض تفاصيلها في ثلاث حلقات. وقد عاد الأرناؤوط مؤخرا وعمل على نشر تفاصيل أخرى عن هذه الأوراق (وملحق صور عنها) مع إعادة تحقيق جديد لمذكرات البرازي المنشورة سابقا. ثم جمعها في كتاب بعنوان «مذكرات محسن البرازي رئيس وزراء سوريا الأسبق» ويصدر في بداية الشهر المقبل في معرض عمان للكتاب عن الآن للنشر.

عائلة البرازي

عائلة البرازي في الأصل عائلة كردية من جنوب شرق الأناضول، وكان أحد أفراد العائلة (حمو آغا) قد تسلم في مطلع القرن التاسع عشر مقاطعة مصياف. وخلفه لاحقا محمد آغا بن البرازي 1834/1891، الذي ساهم في قدوم أفراد العشيرة للخدمة والإقامة في المنطقة. وقد برز لاحقا ابنه خالد البرازي 1856/1913، ممثل الجيل الأول من البرازيين المتعلمين. فقد درس في مدرسة الأميرية في حماة، وأصبح رئيسا لبلدية حماة عام 1912 ونجح في السنة نفسها في انتخابات مجلس النواب العثماني.

ولدينا في أرشيف البرازي (الذي ينشره الأرناؤوط لأول مرة) نسخة باللغة العثمانية للكلمة التي ألقاها في مجلس النواب العثماني بتاريخ 19 حزيران/يونيو 1912 بمناسبة العدوان الإيطالي على ولاية طرابلس الغرب. عبّر في هذه الكلمة عن سخط الحمويين من موقف الحكومة وعجزها. وتوفي خالد البرازي لاحقا في عام 1913، تاركا ابنه محمد محسن البرازي في عمر العشر سنوات تقريبا، فتابع مسيرة أبيه ووصل إلى رئاسة وزراء سوريا عام 1949.

محسن الشاب في باريس

أكمل محسن تعليمه في مدارس حماة العثمانية، ولاحقا التحق بكلية الحقوق في جامعة ليون، ثم أكمل الدكتوراه في الحقوق في جامعة السوربون في يونيو 1929. ناقش في رسالته موضوع «الاشتراكية والإسلامية» ولدينا في أرشيفه قصاصات صحف بالفرنسية والعربية تشيد بالقيمة العلمية لهذه الأطروحة. وخلال وجوده في باريس، انضمّ إلى الجمعية السورية العربية التي تأسّست في 17 آب/أغسطس 1922. وفي هذه الفترة نلاحظ ميوله الوطنية وأيضا ميوله نحو «معارضة المتاجرة بالدين». إذ ينشر في أحد المقالات بعنوان (دعاية الملكيين في الشام ووطنيتهم) أنّ النظام الجمهوري «أضمن لتحقيق الغاية، لذلك قام الأحرار في مشروع دستور البلاد بتأييد الجمهورية» ويضيف أنّ «الإسلام هو دين الأكثرية لا يتفق مع الحكم الجمهوري، وهو قول لا يفتري به إلا الجاهل». وهنا يبدي تأثرا بالأفكار العلمانية الفرنسية، ولذلك يبدي امتعاضه لأن مشرّعي الدستور الجديد «اضطروا لأن ينصّوا على وجوب إسلام رئيس الدولة». ويبدو أنّ الموضوع الدستوري بقي يشغل باله، ولذلك ألّف عددا من الكتب في الفقه الروماني والفرنسي. كما وضع مسودة كتاب لم يكمله (وموجود في أرشيفه الخاص) ويركز فيه على فكرة الدولة التي تحمي الحياة المدنية في البلاد المتمدّنة المتحضّرة.

في فترة الأربعينيات، سيبرز دوره السياسي من خلال تعيين شكري القوتلي له في القصر الجمهوري (عين في حكومة خالد العظم 1941 وزيرا للمعارف لمدة خمسة أشهر). كما أصبح المستشار وحامل الرسائل الخاصة إلى الملك فاروق والملك عبد العزيز بن سعود، وهي رسائل كانت تسعى إلى تشكيل محور يضم سوريا ومصر والسعودية في مواجهة المحور الهاشمي. ويبدو أنّه أصبح كاتب خطب القوتلي (كما يرجح ذلك الأرناؤوط). ولعل ما يدعم هذا الرأي، هي الخطب التي نعثر عليها في الأرشيف (وهناك صور منها في الملحق)؛ ومنها مسودة الخطاب الذي ألقاه القوتلي في الذكرى الأولى لجلاء الفرنسيين عن سوريا، وتبدو في الصفحة الأولى بعض الرتوشات.

لاحقا سيتولى منصب وزير الداخلية (من 6 تشرين الأول/أكتوبر حتى 19 أغسطس 1948). وسيضم أرشيفه الخاص عن هذه الفترة تقارير المخبرين التي كانت تصل إليه من الداخل أو من الدول العربية، وبالأخص الأردن، التي ركزت على أحوال النخبة المحيطة بالملك عبد الله بن الحسين، وما بينها من اختلاف.

واللافت أنه بعد قدوم الزعيم، وعمل البرازي معه (على الرغم من قربه من القوتلي) سيلعب البرازي دورا في تأييد خطوات الزعيم في إجراء استفتاء في سوريا من خلال شرعنتها دستوريا، ليتولى الزعيم على إثرها منصب الجمهورية في 19/6/1949. وبعد هذا الاستفتاء بفترة قصيرة سينقلب سامي الحناوي، ويقوم حرسه بقتل الزعيم والبرازي في بساتين المزة. ويبدو من الأرشيف، أنّ أحد الأشخاص (ربما أحد أفراد العائلة) سيبقى يراكم في أرشيف البرازي. ولعل ما يدعم هذه الاستنتاج أننا نعثر في الأرشيف على التقارير التي أعدها محمد حسنين هيكل في «أخبار اليوم» المصرية بتاريخ 30/8/1949 (بعد 16 يوما من الانقلاب) ما يوحي بأنّ هناك نية ما من قبل أحد الأشخاص لنشر أرشيف البرازي لاحقا، أو جمع قصته. ولعل ابنه خالد هو من سلّم مذكرات والده إلى حركة القوميين العرب، لكنه آثر عدم ذكره اسمه (خلق قصة التسلل لمكتبه لحساسيتها، كونها تضم قصصا وأسرارا تتعلق ببعض أصدقاء والده وأهمهم شكري القوتلي) الذي أبدى حساسية تجاه نشرها، كما يذكر زعيتر، وربما ما يدعم هذا الاستنتاج أنّ شهادته عن مقتل أبيه صدرت في الوقت ذاته تقريبا.

من بين الأوراق المهمة في الأرشيف المكشوف مؤخرا، وجود ملف خاص بالمراسلات بين الأب (محسن) والابن خلال وجود الأخير في المدرسة الثانوية في بيروت، ما يساعد على فهم بعض التفاصيل في علاقة النخب السورية بأولادهم في هذه الفترة، وإجراء مقارنة مع رسائل شبيهة كتبت في هذه الفترة، وأقصد هناك الرسائل التي كان يتبادلها التاجر أبو راتب الشلاح مع أولاده في بيروت وأمريكا، التي كشفت عن تفاصيل اجتماعية وثقافية مهمة عن تلك الفترة.

مذكرات البرازي.. هل هي مذكرات فعلا؟

يبدو من خلال طريقة جمع البرازي للوثائق والتقارير الرسمية التي كتبها، أنّ هناك سببين رئيسيين دفعاه لذلك: الأول، طبيعة المهنة التي كان يعمل بها (المحاماة) والتي جعلته بلا شك يقدر ويثمن قيمة أي وثيقة. ولعله أيضا كان يتحسب من أي تغيرات سياسية، ولذلك آثر الاحتفاظ ببعض الوثائق السرية والرسمية، ومن بينها الوثائق التي نشرت لاحقا تحت عنوان مذكرات. ويخيل لنا أيضا، أنّ جمعه للأرشيف الخاص به، يأتي في سياق اهتمام نخب تلك الفترة بجمع أوراقها، وكل ما يتعلق بتفاصيل حياتها اليومية، من صور، وشهادات، ورسائل. مع ذلك لا نعرف هنا، إن كان هذا الجمع، يعني أن الرجل كان ينوي فعلا كتابة مذكراته، أو يقتصر على جمع وثائق عن حياته، في كل الأحوال، أول ما يلفت النظر في مقدمة المذكرات (طبعة حركة القوميين العرب) أنّ محرر المقدمة (ولعله جورج حبش) يؤكد أنّ «الاتجاه في كتابة التاريخ القومي لا يوافق عليه القوميون العرب، لأنهم يؤمنون بأن من حق كل مواطن عربي واع على أسرار قضيته التي تدفن عن عمد.. لذا عمدنا إلى تقديم مذكرات رجل لعب دورا سياسيا مهما.. وكتبها لنفسه ليدفنها كما دفن غيره أمثالها»؛ إذن نحن أمام مذكرات كما يدّعي المحرر. ولن يتوقف عند هذا الوصف، بل سيقرر أيضا محاصرة أوراق البرازي لجعلها تنطق بأنها مذكرات، وليس شيئا آخر، ولذلك نراه يتدخل في البداية من خلال وضع خلفية عامة لظهور دور البرازي.

تبدأ القصة، التي لا يأتي البرازي على ذكرها في أوراقه، وإن كانت هي أحد الأسباب الأساسية لدوره لاحقا، من خلال نشر المحرر لرسالة الملك عبد الله بن الحسين بتاريخ 24 أغسطس 1947، إلى عدد من الشخصيات السورية والنواب. وتدور الرسالة حول ضرورة الرجوع إلى الأصول (العهد الملكي) أو إجراء استفتاء جديد. ليقرر على إثرها شكري القوتلي (القلق والخائف) إرسال محسن البرازي إلى الرياض مصحوبا بكتاب شكوى من تصريحات الملك عبد الله ونواياه في السيطرة على سوريا. ومع هذا المشهد، سيقرر المحرر السكوت ليتيح للراوي البرازي رواية ما جرى. وهذا ما قد يعزز من فكرة أننا أمام رواية (شاهد حاضر) عن الماضي، لكن ما أن نعبر مع البرازي مجالس ابن سعود، حتى نكتشف أنّ الشهادة التي لدينا، لم تذكر بهدف تدوين الماضي، بل في سياق مهمة رسمية. إذ يدوّن البرازي في هذه الأوراق ما جرى من محادثات بينه وبين الملك عبد العزيز بن سعود، ولاحقا الملك فاروق، ليتيح للرئيس القوتلي الاطلاع عليها. وبالتالي نحن لسنا أمام مذكرات (تدوين الماضي) بل أمام تقارير رسمية تنقل تفاصيل ما جرى. وهذا أمر لا يبدي محرر الخمسينيات حساسية تجاهه، وإنما آثر بدلا من ذلك، الإيحاء وكأنّ البرازي يبوح بها وقت نشر الأوراق. ولا يقلّل هذا التمييز من أهميتها، بل إن الأوراق التي لدينا هي ربما صورة أقرب وأدق عن عالم المذكرات غير البريء. لكن لا بد من الاعتراف بأننا أمام تقارير، أكثر منها نصوص مذكرات، خاصة أن المذكرات هي نصوص سردية تتناول حياة في إطار ظرفها ووضعها التاريخي. إذ يشهد الفرد بما مرّ به كإنسان من أحداث باعتباره ضالعا فيها وشاهدا عليها، وهي نوع من النصوص السردية التي تتمحور في آن واحد حول الأنا والتاريخ (جون جانال/كتابة المذكرات الشخصية).

ولعل فكرة الأنا والتاريخ، تنطبق على القسم الثاني مما سمّي مذكرات البرازي (فترة حسني الزعيم) التي يبدو أنه كتبها في الفترة الأولى من الانقلاب. ولعل ما يرجح هذا التخمين، انحيازه للقوتلي، وتأكيده على عدم موافقته على ما جرى، قبل أن يصبح لاحقا من أهم منظري جمهورية الزعيم. وبالتالي في هذه الأوراق، لسنا أمام تقرير رسمي، بل أمام شخص قلق، يخشى من أن يتعرض للمصير نفسه. ولذلك يحاول أن يرسم لنا صورة عما جرى، وهذا ما يجعلها مذكرات (الأنا) أكثر من أن تكون من التقارير الرسمية السابقة (التي تختفي فيها الأنا لصالح مهام الموظف والمستشار الرسمي).

تبقى نقطة أخيرة جديرة بالذكر، وتتعلق بموضوع علاقة البرازي بالإسرائيليين، في ظل اندفاع الزعيم نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل. إذ يرى المؤرخ الأرناؤوط أنّ الأرشيف الأمريكي يكشف لنا أن البرازي لم يتواصل مع الإسرائيليين، وأن الأمر اقتصر على رسائل وجهها الزعيم عبر السفير الأمريكي، لكن الانقلاب حال دون إتمامها. ويمكن القول اليوم إنه مع وجود أرشيف جديد عن البرازي، ربما نكون أمام فرصة لكتابة السيرة الذاتية له، تمييزا لها عن الذاكرة، خاصة وأنها تضم تفاصيل عن حياته، ومراحل تشكله في إطار اجتماعي وسياسي محدد.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى