تفكير في المكان: الماهية، الغياب، والعودة/ زيد محمد
لعل الصراع على التكوّن، بين أقوياء يعملون للحد منه إلى حد نزعه كلياً، وضعفاء يناضلون لتحقيقه، هو أحد أهم محاور الصراع على امتداد التاريخ الإنساني. لتلك الحكاية وجهٌ آخر، وهو نضالٌ مستميت لاستعادة المكان، لاستعادة الكينونة والقدرة على التكوّن الحر. هذا النص محاولة للتفكير في المكان، يُعنى بتفكيك مفهوم المكان والبحث في معناه وبناه انطلاقاً من التفكير بفعل الكون. يبدأ النص بتناول المكان لغوياً، ليذهب بعد ذلك إلى البحث في ما يجعل المكان مكاناً، من علاقات مع آخرين والبحث في نسبية المكان وتغيّره. يتدرّج النص بعد ذلك إلى البحث في ثلاثة أمكنة: الإنسان، والوطن، والثورة، قبل أن ينتقل إلى العلاقة بين المكان والممكن. في النهاية يناقش النص ثلاثة غيابات للمكان، والتي تصنع الغربة، والمنفى، والشتات، لينتقل بعد ذلك إلى سؤال العودة.
عن المكان: الأصل، التكوّن، والعلاقة، والنسبية
المكان، تأصيلاً لغوياً، صيغةٌ مشتقةٌ تدل على مكان وقوع الفعل. يرتبط التفسير المعجمي لكلمة المكان -عموماً- بالموضع، كأن نقول إن فلانة على الشاطئ؛ أو المنزلة، كأن نقول إن فلاناً ذو مكانةٍ وضيعة. تشير المعاجم أيضاً إلى معنى التناهي الإيجابي، كأن نقول إن فلانةً ذات مكانة، أي إنها رفيعة الشأن. ويرد أن نقول إننا نستبدل شيئاً مكان شيء، وشخصاً مكان شخص، ولا يدل ذلك بالضرورة على الموضع، بل على حلولٍ بدل حلول. للكلمة معانٍ أقل طرقاً، كما ورد في القرآن: «اعملوا على مكانتكم» [هود:121]، أي استمروا على طريقتكم. يستدعي التفكير في معنى مفردةٍ ما، أيضاً، التفكير في ضدها. تشير المعاجم إلى الترحال والتطواف، أي الذهاب من الموضع، كأضداد للمكان. أيضاً، يمكن أن نقول إن اللامكان هو عكس المكان، أي انتفاؤه. ورد في معجم اللغة العربية المعاصرة أن اللامكان هو مكانٌ بعيد، مجهول، أو غير محدد. وقال درويش: «فاللامكان هو المكيدة» [أنزل هنا، والآن]، والتي أقدّر أنها أتت معنىً معكوساً للوصول إلى تحقيق الذات.
تساعد المعاني المختلفة المذكورة إلى الحد، مبدئياً، من حصر التفكير في المكان بالإحالة إلى الموضع، والذهاب بالتفكير إلى أبعد من ذلك؛ بالمكان كمشتقٍّ يجد جذره في فعل الكون. كان، يكون، مكان. تدريجياً، تبدأ العلاقة الثابتة مع المكان بالتحرك. نستطيع التفكير في المكان بأنه حيث نكون. لنتوخى دقةً أكبر: المكان هو ما نكون فيه. إذاً، نستطيع مبدئياً أن نربط الكينونة، أن نكون، بتحقق المكان. يكون المكان مكاناً إن تحققت كينونتنا، سواءً تحققت في شيءٍ أو معه. يتسع المكان، هكذا، ليشمل علاقة ما نكون فيه ومن نكون معه. المكان، إذاً، ليس ثابتاً مستقلاً عنا. هو، على العكس، يتكوّن فينا ومعنا. بهذا المعنى يحيل المكان إلى مناحٍ ثلاثة للتفكير: الأول يحاذي الماضي والحاضر، ما كان وما يكون؛ والثاني يتعلق بالعلاقة، الآخر والكون، أو العالم؛ والثالث ما يتصل بالنسبية، بأن يكون المكان أكثر مكاناً أو أقل، وما يتصل بالعلاقات معه من حميمية ونمو واستقرار وهجرة وتهجير ونفي.
يكون الإنسان. هذه عملية مستمرة، لا تبدأ بالولادة، ولا تتوقف خلال الحياة. نستمر بالكون والتكوّن؛ بدنياً، وعاطفياً، وفكرياً، ومجتمعياً. هكذا نتكوّن. يرتبط التكوّن، في ما يرتبط، بعلاقات متشابكة مع الزمن؛ فامتدادٌ لماضٍ، وحضورٌ لحاضر، وأملٌ بمستقبل. وخلال عملية كوننا، نتكوّن؛ فمثلاً، نتكوّن بين يدي أحبتنا وعلى طرق نضالنا. لا حاضر في كل ذلك غير متصلٍ بماضٍ، ولا ماضٍ في كل ذلك لا يشير إلى مستقبل. المكان، بهذا المنحى، عملية تكوّن. يرتبط مسقط الرأس، مثلاً، بأكثر من موضع الولادة؛ فهو مكان الولادة. وكلما تطورتْ، أو تعمّقتْ، العلاقة إيجاباً مع أحد الأمكنة كلما ازدادت فرص تكوّننا.
العلاقة. يشير تفكيرنا السابق إلى تفكير أكثر تمعناً تجاه العلاقة التي ينتج عنها المكان. بدايةً، نستطيع أن نقول إن ما يجعل المكان مكاناً، هو وجود آخر تجمعنا علاقةٌ معه. أي إن العلاقة ليست بالضرورة مع، وليست مقتصرة على، الحجارة؛ المنزل يكون مكاناً لأننا، بوجهٍ ما، نكون فيه؛ كذا الشارع، الحارة، الحي، المدينة، المكتبة، الملهى، ودار العبادة. بذات السياق، حين يمنع التكوّن، أن نكون كما نحن، أن نعبر عن هويتنا، وأن نطور هذه الهوية وننفتح على آخَرنا، لا يكون المكان مكاناً، بل يصير أقرب للامكان. يحدث ذلك عندما يتعرض الطفل، مثلاً، لتعنيفٍ دائمٍ من (أحد) رعاته. يبقى المنزل منزلاً، لكنه يفقد مكانيته؛ يبقى موضعاً، لكنه يتحول إلى منفى للتكوّن. هكذا، تغترب المرأة عن منزلها، والعامل عن مكان عمله، والإنسان عن وطنه. يصير الأمر إلى أوضاع أسوأ مع تصاعد النفي، واشتداد القمع، فنصير إلى علاقةٍ قسرية مع التكون كما تريد السلطة. من امرأةٍ تعمل كما لا تريد، إلى شابةٍ ترتدي ما لا تحب. أيضاً، فإن الموضع الذي تنامت فيه ذكرياتك، وماضيك، وهويتك، هو مكانك. قد ننظر، مثلاً، إلى الشارع على اعتباره مكاناً، تكونت فيه خبراتٌ متعددة، من الارتماء في الوحل إلى التعامل مع الغرباء. بالإضافة لذلك، لا ينحسر التفكير أو التعاطي مع المكان بوصفه جغرافياً. يجري أن نسأل: «أين أنت؟»، ليكون الرد بأنني مع فلانة دون أن نثير استغراباً. بهذا المعنى، نحن نكون مع فرد، رفيق، صديق، زميل، أو حبيب، ولا نتورع عن اعتبارهم مكاناً لنا.
مكانٌ أكثر، ومكانٌ أقل. ذلك أن كينونتنا نسبية، ومتغيرة، ومتعددة. نكون أقرب لما نحن عليه في أماكننا الأقرب. يمكن للمرء، مثلاً، أن يعتبر داره أكثر أمكنته مكاناً، فيجري الحديث عنه بصفته بيتاً ومسكناً. نهدأ في مساكننا لفرط ما نستطيع أن نكون نحن، إذ نكون منفتحين فيه على مخاوفنا وأحلامنا وتعددنا. نعرف أن لبيت الشعر مكانةٌ جرى تصوير علوها في اللغة والثقافة والأدب، ونعرف أن بيت القصيد هو ما يهم. لذلك حالة إنسانية متطرفة، ألا وهي بيت المرء، ويقصد فيها زوجه وأولاده، لما فينا من انكشاف على بواطننا واستكشاف لها وتغير ونمو مع الأولى، ولما للثانية من استعادة لما مضى من سنين، من امتدادٍ مشتهىً كان أم واقعاً، ومن تغير. إلى ذلك يكون البيت مكاناً أكثر بحضور الأقرب، ويكون مكاناً أقل بغيابهم. وفي ذلك، يكون الآخر مكاناً ومسكناً، ويكون الدار موضع هذا التلاقي. ويكتسب الإنسان أو الموضع مكانيته من تراكماتٍ تحدث. فإن تجرأنا تناول الحب بمقادير تزيد وتنقص، يصبح بالإمكان الحديث عن أن الآخر أكثر مكاناً أو أقل. وقد يكون المكان «افتراضياً». يحدث أن نشعر أن حساباتنا على مواقع التواصل مكانٌ أقل إن غاب عنها بعض من يجعلونها مكاناً، قتلاً أو تغييباً أو يأساً. ويحدث أن تصبح برامج المراسلة الفورية مكاناً للعائلة، تستمر فيها بالنمو بعد تهجيرٍ وتناثر. ويحدث أن نكون في دورنا لتصبح مكاناً أقل إن اختفى البناء المجاور بضربةٍ جويةٍ غاشمة. ويحدث أن تصير الزنزانة مكانا بالتمتمة مع رفاق النضال والألم أمام وحشة غرفة التعذيب. بهذا المعنى، تغدو أمكنتنا صوراً، أو ذكريات، أو حجارة عاثرة، وتتصاعد منافينا في منازل لم تروض جدرانها بعلاقات تنافي المنافي. وإن انطلقنا من أنّ المكان متعددُ المنابع والتشكّلات، تصير أماكننا في الاقتلاع أقل، وكأن ما فقدناه من رفاقٍ وما أُجبرنا عليه من نفيٍ من دورنا يعيقُ تحويل منازل المنفى إلى بيوت. لكن، وفي هذا السياق أيضاً، يمكن أن يحمل الآخر معنى المكان، ويشغل وظيفته في غيابه الكلي أو الجزئي. هكذا يصبح، مثلاً، الحبيب وطناً، والرفيق طريقاً، والصديق استراحة. إذ يعوض الإنسان، في عوالمنا المتطرفة، ما انتُقص من جغرافيا.
عن الممكن وثلاثة أمكنة: الإنسان، والوطن، والثورة
الإنسان
الإنسان مكانٌ لآخَره، والإنسان مكانٌ بآخره. يتبادر للذهن هنا التفكير بالنفس كمكانٍ للآخر. يدرج أن يقول المرء إنه وجد نفسه مع فلان، وهو ما يحيل عادةً إلى معرفةٍ أعمق بالذات أو اكتشافٍ أجمل لها. الزوج مكانٌ لزوجه، يكونان مع بعضهما. يعني أن تكون مكاناً لآخر أن ينمو معك، وقد ينمو فيك. لا يقتصر الكلام هنا، طبعاً، على النمو الفيزيائي، من حميمية العناق والارتماء بحضن الحبيب إلى التداخل البدني بين جسدين إلى التكون في رحم؛ إذ يشمل الكلام أيضاً التكون بين إخوة وأقران. هكذا، يكبر الجنين في رحم أمه، والطفل على كفوف أبويه، والفرد بين إخوته ومع أقرانه. يصبح عالمنا عوالماً بقدر انفتاحنا على الآخرين، أصدقاء ورفاق وأحبة. نتعدّد وتتناسب أمكنتنا مع من نكون معهم. فالعلاقة بين رفيقين مكانٌ للنضال، وبين صديقين مكانٌ للنجوى، وبين حبيبين مكانٌ للولادة والانكشاف على الذات والآخر، وما بين ذلك من اختلاط وتمازج وإبداع واستثناء. قد يصير الآخر بيتاً نسكن فيه وإليه، حديقةً نرتشف الجمال منها، أو ذاكرةً نعود إليها.
إلى ذلك، يحدث أن تعوّض علاقتنا بالإنسان عن غياب أمكنةٍ أخرى، أو لحضور أمكنةٍ أخرى حتى في غيابها. يمكن، في غياب الوطن مكاناً، أن يصير الآخر وطناً؛ سواءٌ أغاب الوطن باقتلاع السكان واحتلال الأرض، أو غاب باعتقال المساحة العامة تحت الاستبداد. أيضاً، يمكن في غياب العدالة أو الحماية أو التقاضي أن يصير الآخر سجناً. نفكر، مثلاً، بحالات العنف المنزلي. فغياب القانون، أو انحيازه لصالح الجاني، يساهم في حضور السجن بصورة الشريك، ويساهم بهذا التحول غير ذلك من تجامع المؤسسات المجتمعية، من المجتمع إلى العائلة، على حث المرأة على «تحمّل» العنف، أو حتى تحميلها مسؤوليته. إلى ذلك، قد تتحول المدرسة، وهي مكان النمو الذهني، إلى سجن؛ وقد يعوض المنزل، إن توفرت الشروط الملائمة، مكان المدرسة. ليس الافتراض هنا أن الآخر لا يمكن أن يكون وطناً في غياب الوطن؛ ولا نفترض أن غياب الوطن يدفع بالضرورة إلى تحوّل آخَرٍ إلى وطن؛ ليس هذا التحول سيئاً أو حاجة، بل هو ضروري وممكن.
الوطن
يشكل الوطن مكان المساحة التي تتكون فيها الذات العامة. أعني بذلك الوطن المستقل؛ خارجياً بالتحالف مع الأصدقاء والتأمين من الأعداء، وداخلياً من القوى القسرية، النخبوية والسلطوية. يكون الوطن مكاناً لذاته وأبنائه بقدر ما هو فضاءٌ للتعدد والتحرر، ويكون مكاناً لخارجه بقدر ما هو منارةٌ للتحرر للمحيط والعالم. متحررٌ من قوى الاعتداء الخارجية والداخلية، يتسع مكاناً إنْ حُرِّر فضاؤه العام للنمو العام والذاتي، وعلى قدر رسوخ هذا التحرر واتساعه الأفقي والعامودي نكون فيه. تبدو القضيتان، الفلسطينية والسورية، مساحتان للتفكير بغيابين قصوويين للمكان العام؛ الوطن، وبالتالي للتكون العام. غُيّبت فلسطين بقوة احتلالٍ خارجي؛ الاستعمار الاستيطاني، مستخدمةً تكتيكين رئيسيين: إبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره وما يتصل بذلك من استيلاء على الثقافة والتاريخ من جهة، وبإنشاء كيان يستولي ويتوسع على أرض الوطن من جهةٍ أخرى. أما سوريا، فغُيّبت بقوة احتلالٍ داخلية؛ نظام الأبد الأسدي، بتغييب السكان عن شأنهم العام. الإبادة بالنسبة لنظام الأبد أداةُ سيطرةٍ وليست أداة وجود، والثقافة والتاريخ هدفان للإفساد والتشويه لا الاستبدال. لكنّ النتيجة، في الحالتين، ألا يكون الشعبان، وألا تكون لهما ذاتان عامّتان. إلى ذلك، يمكن النظر في الثورتين والنضالين على أنهما يهدفان، في ما يهدفان، لتحقيق الكينونة والوجود، مما يحيل إلى معركةٍ وجوديةٍ مع كلتا المنظومتين.
لكنّ الوطن أعمق من أن يغيب كلياً وإن عانى من غيابٍ ظاهري أو ظهورٍ مشوه. غياب الوطن، مكاناً، هو حضور أسباب النضال لأجله. وغياب الوطن ألمٌ لا يُسَكَّنُ ولا يرَوّض. وغياب الوطن استحضارٌ لأوطان متداخلة؛ فيصير الحب متراساً وترساً، ويصير البيت انتماءً وجبهة، ويصير الشتات مقاومةً وطريقاً للرجوع. يدخلك غياب الوطن في معنى الوطن؛ ولربما تفكر أنك تعرف ما تفقد أكثر من معرفتك ما لم تفقد ولم تكتسب. ربما، لهذا السبب، يقدر الضرير الرؤية أكثر من المبصرين. لكنك تعرف أن الوطن جزءٌ منك، وأنك جزءٌ منه، وهذا أحد الأسباب التي تجعله لا يغيب كلياً، وتجعل هذا الجزء المُهدّد فيك أكثر صلابةً ومقاومةً. ستدخل في صراعٍ مع محتل الوطن على الأنا الجماعية، وستدخل في البحث عن الأنا الجماعية؛ إذ إنك تدرك أن الفرد لا يوجد مستقلاً عن الجماعة، وإن الجماعة تحتاج الجميع لتكون. ولذا تكون المعركة أشد وأشرس، فمعركة الاستقلال معركة كينونة؛ معركة الناس؛ معركةٌ «من تحت». هي ليست معركةً شكلية؛ معركة بُنى الدولة؛ معركة «من فوق». بهذا المعنى، تصير أنت، الإنسانْ، لا المجرد ، خط الجبهة.
الثورة
الثورة، في أحد أوجهها، مكانٌ عام يُولد في محاولة استعادةٍ للمكان العام بمعنى القدرة على التكوّن. نثور لنكون؛ نثور على بنىً تصنع واقعاً يمنعنا من التكوّن. ينتج هذا المنع بنىً مختلفة؛ اقتصادية واجتماعية وسياسية، وفي الثورة عليها ثورةٌ لاستعادة الإنسان. أي إنها -بالضرورة- طريقٌ لتحقيق الكينونة والقدرة على التكون الحر. هكذا، تصبح الثورة مساحةً للتكوّن بالانخراط نضالاً ضد بنى القمع، وهو تكوّنٌ شديد العنفوان والتطرف، إذ إنه يكسر أسوار الواقع ليخرج إلى رحابة الممكن المرتبط -بطبيعة الحال- بالإرادة والتضحية، وفي حالاتها الأكثر سحقاً تستميت، أي تخوض المعركة لمبدئها، لا لاحتمال نتيجتها. تعيد الثورة تعريف الواقع وتعيد صياغته. وتعطي الثورة بقدر ما تأخذ؛ أي إنها تعيد تشكيل المنخرط فيها بقدر ما ينخرط، وتكون مكاناً له بقدر ما يضحي لها. بهذا المعنى، تصبح الثورة مكاناً وترتبط، فيما ترتبط، بالمساحة التي تحدث عليها، ولا يبالغ المرء إذ يقول إن التعامل معها يتقاطع مع بنى التعامل مع الحبيب والبيت والوطن وغير ذلك من الأمكنة.
مما يميز الثورة أنها ترتبط بشكلٍ جذري بالجماعة، إذ هي حدثٌ جماعيٌّ بالتعريف. ويرتبط استمرارها باستمرار الجماعة بالإيمان بها والعمل فيها. هكذا، تتشكل علاقاتٌ شديدة الحميمية، كأن تقول الثائرة إن الثورة تبقى حيةً إن ظل واحدٌ من أبنائها فقط حاملاً للوائها. وهذا، في العمق، صحيح؛ فطالما استمر الإيمان والبذل طالما استمر التكون. يسكن الثوار ثورتهم وتسكنهم ثورتهم، وكأنهم يغنون: «أنا لحبيبي، وحبيبي لي، الراعي بين السوسن» [نشيد الإنشاد، 6:3]. ويحدث أن يدخل الثوار بدرجاتٍ مختلفةٍ من السحق إن هم ابتعدوا عن ثورتهم، كأن يعودوا إلى ذواتهم القديمة أو يشعروا بالاغتراب عن نفسهم وعالمهم. وفي هذا الابتعاد، أو الاغتراب، عكسٌ لعملية التكوّن وانفكاكٌ عن بناه. وبين الحميمي الفردي والجماعي، يتشكل مكانٌ داخل المكان وخارجه، يكون الانخراط الكلي عمادَه، والتفاني الكلي تحقيقه.
المكان والممكن
قد يُخيّل، بعد التمعن في صلة القرابة بين المكان والممكن، أن العلاقة بين الاثنين علاقةٌ بين ماءٍ وهواءٍ ينتجان الموج. يحرّض ذلك التفكير: لا يوجد المكان دون الممكن، ولا يوجد الممكن من دون المكان. إذ كيف يكون المكان مكاناً إن هو لم يفتح باب الممكن على مصراعيه، وكيف يكون الممكن ممكناً إن هو لم يجد جذرَه في المكان. فلا مكان من دون كون، أن نكون، ولا تمكين وتَمَكُّنَ من دون ممكن. وليس الممكن، بالضرورة، أن نكون مقبلين على الاحتمال. ليس الممكن، بالضرورة، أن نقبل أن نكون أي شيءٍ وكل شيء. يكمن الممكن في أن نكون أحراراً فنصير ما نريد. والممكن يكمن في أن نتملّك أقدارنا لكي ننقل ما نريد من الاحتمال إلى كينونتنا. هكذا نتمكن، لا أن نعتقل في بنىً تسحق الممكن فلا نكون. وكما أن الحرية ضدٌّ للعبودية، ففي السعي لأن يكون الممكن متاحاً تضادٌّ مع السعي لأن يلتهم القسر والفرض بنى الوجود. يتمخض عن ذلك أن للممكن، كما للمكان، بناه المتجذرة في الإرادة الحرة. ولكي يكون المكان موجوداً لا بد للمُمكن أن يكون حياً.
عن ثلاث غيابات: الغربة، المنفى، والشتات
يحيل التفكُّر بالمكان إلى غياباتٍ عنه وله، ألا وهي الغربة، والمنفى، والشتات. تفترض الغربة مركزاً هو المغترِب، ولا يحيل بالضرورة إلى فاعلٍ أدى فعلاً قسريا يُغَرِّب. أي إن قرار الاغتراب قد يكون قراراً حراً، ويحيل المنفى لمركزٍ تسيطر عليه قوةٌ قامت بفعل القسر؛ أكانت فرداً أم منظومة. لكن هذا الفعل ليس بالضرورة موجهاً لجماعة، كما يفترض الشتات قوةً قامت بفعل القسر تجاه جماعةٍ أخرى، مُعرقلةً تكوّنها. يمكن التعامل مع الغربة بشكلٍ فردي لا يتطلب بالضرورة مواجهةً أو صراعاً مع آخر، إنما يتطلب التعامل مع المنفى نوعاً من المواجهة؛ فرديةً كانت أم جماعية، وينطلق هذا التعامل من مبادئ الصراع مع آخر. أما الشتات، فيستلزم مواجهةً جماعيةً للتعامل معه، وينطلق بالضرورة من صراعٍ مع منظومة.
يمكن التفكير بالغياب الأول كشكلٍ فردانيٍّ من غياب المكان؛ أن يغترب الشخص عن محيطه اغتراباً يزداد مع انحسار فرص تكونه. في هذا الغياب تركيزٌ على شخصٍ يغترب، وقد يحمل تركيزاً على محيطٍ يُغَرِّب. أن نغترب عن ذاتنا، على ما يقول ماركس، أو أن نغترب عن غيرنا. قد يكون الغيرُ هذا محيطاً اجتماعياً عاماً؛ دوائر خاصة. أيضاً، لهذا النوع من غياب المكان وجهٌ يتّصل بآخَرٍ، مثلاً، يتصرف بغرابة، كأحدٍ قريبٍ يتصرّف بشكلٍ غير مألوف؛ وقد يكون غياب إنسانٍ أدى لاغترابٍ عن النفس والعالم. لذا نستغرب فعلاً، ونستغرب شخصاً، ونستغرب بنىً، ونغرُب. تحيل الغربة أيضاً إلى نوعٍ من العزلة الذاتية، وقد تتحلّل بتحلّل العزل أو الانعزال أو بتملك المصير؛ كأن يكون للشخص ارتباطاتٌ اجتماعيةٌ في المغترب، أو أن يستعيد السيطرة على مصيره.
يرتكز الغياب الثاني للمكان، المنفى، على فعلٍ قسريٍّ له مركّبٌ سياسي؛ كأن يُنفى أحدٌ من وطنه. وإن كان المنفى تضادٌّ مع مقابله، أي إن المنفى هو -لغةً- حالةُ نفي وبالتالي تضاد، فالنفي هو أن تنقل الإنسان من حالةٍ يكون فيها إلى أخرى لا يكون. في هذا النوع من غياب المكان فاعلٌ محدد الهوية يقوم بالفعل القسري، كنظامُ سياسي أو اجتماعي أو فرد، ومنفي، هو فردٌ أو جماعة، يكون هدف النفي. يقترح الكاتب في هذا الصدد استخدام كلمة المُنَافى بدل المنفي؛ ذلك أن التعبير الأول يشير للصراع، بينما يحيل الثاني لانتصار المعتدي. وفي التفكير في هذا الصنف مركزٌ نُنفَى منه ونمنع عنه فيقع النفي علينا. والنفي هو ألا يحدث الشيء أو ينكر أو يكون عكسه، لذا قد يصبح الوطن ذاته منفى، وذلك يتطلب نفياً للوطن؛ أي أن يكون عكسه، أن يكون مساحةً للقسر لا التحرر. ولأن طبيعة النفي تتصل بالنافي، فالتخلص منه يستلزم فعلاً مقاوماً لكسره، أي للعودة للتكون.
وبينما لا يحيل الغيابان السابقان -بالضرورة- لحدثٍ جماعي، لا يحدث الشتات إلا تحت شرط القسر الجماعي. يتصل التفكير بالشتات بالتفكير بالمُعتدى عليهم، وبالاعتداء، وبالمعتدي؛ جماعةٌ يُعتدى عليها؛ اعتداءٌ على الذات الجماعية والجماعة ذاتها، وفاعلٌ سياسيٌّ أو أكثر يقومون بالتشتيت. الشتات شتات الذات عن ذاتها، وتشظي وتذري خاص وعام، فيزيائي ونفسي، يتصل بالحاضر كاتصاله بالماضي والمستقبل. المُشتّتون وما شُتّتوا عنه هم مركز الشتات؛ نُشتّت عن كينونتنا، وبالتالي عن مصائرنا. بالضرورة، لا يمكن مقاومة الشتات إلا بفعلٍ جماعي، لأنه فعلٌ يخص، أساساً، تكوّن الذات الجماعية للجماعة ذاتها. ولأن التشتيت هو فعل ضد الجماعة، فلا يمكن أن يُجابه إلا مجابهةً جماعية، ولا يمكن، إلى ذلك، أن يكون الخلاص منه إلا جماعياً. هذا الخلاص يمر لعودةٍ إلى التكوّن الجماعي والفردي.
عن العودة
كما أن الغياب غيابات فإن العودة عودات. لربما نتساءل: هل نعود؟ وإن كنا نعود، فإلام نعود؟ وكيف؟
للعودة، ككلمة، وقعٌ حميميٌّ على القلب. نعود، بدايةً، لأننا نريد أن نعود. نعود لمن نحب ولما نحب؛ نعود لبيتنا وشوارعنا وأوطاننا؛ نعود لمسيرتنا ونضالنا؛ نعود بعد أن نُعتقل ونهجر؛ نعود بعد غيابٍ وفقدان. لحظة. «نعود؟» هل يمكن للعودة أن تكون بهذا الجمال، أم نحن عاطفيون تجاه ماضي يبدو جميلاً؟ وهل حقا يعود أي شيءٍ لأي شيء؟ هل نحن نحن بعد ما نمرّ به؟ ألسنا نتغير بعد سنين من الاعتقال فنعود لأهلنا دون أن نعود؟ ألم تُهدم قرانا إلى غير عودة؟ وتغير وجه مدننا إلى غير رجعة؟ من يعيد الدفء للبيت الذي فقد سكانه؟ من يعيد رائحة العطر التي تحولت لرائحة دم؟ من يعيد البشرة بعد أن غزتها تجاعيد المعاناة؟ من يعيد الهدوء لطفلٍ قطعته عن حليب أمه رصاصةٌ غادرةٌ أو برميلٌ أعمى؟ من يعيد للمعذَّب مشاعره وجسده الممزقَين قهراً وصراخاً؟ من يعيد الابتسامة لوجه صبيّة؟
العودة هشة وقوية. ولربما نكتشف القوة في اجتماع الأضداد، ونضع اليد على المعنى حين نتلمّس الهشاشة. تنبع قوة العودة من قدرتها على استحضار المقاومة والخيال، وهشاشتها من قلة احتمالها. تنبع قوتها من حيلتها كهدف، وهشاشتها من قلة حيلتها كواقع. تنبع قوتها من مقاومتها للجريمة في الواقع، وهشاشتها من استحالة نفي الجريمة من الواقع. وقع ما وقع، ولا مجال لئلا يقع. تغيرنا وتغيرت أحوالنا. نزفنا، ولا يمكن لقطرات الدماء المتساقطة أن تعود لعروق الضحايا. لكننا مع ذلك نناضل للمستحيل؛ لا لندرك الممكن بالضرورة، بل لنقول إن المستحيل ممكن، وإن الحق، على تعذّره، لا بد أن يسود يوماً، فنوسّع من مساحة الممكن على قدر الخيال.
يحدث أن تتمحور التجربة الإنسانية على صدعٍ بين الحلم والواقع، بين ما حلمنا أن يكون وبين ما كان. ويحدث أن تتمحور حيواتٌ لا تُحصى حول هذا الشرخ التاريخي والذاتي والواقعي. قد يكون الصدع جوهرياً إلى درجة التناقض بين حلمٍ وواقع. هكذا، مثلاً، تثور أجيالٌ لتحرير البلاد، فتنتهي بواقعٍ أسوأ، لا ترتبط محصلته بالضرورة بما قامت به هذه الأجيال. في هذا الإطار قد ينحصر تفكير الإنسان بالعودة لرأب الصدع والتشافي انطلاقاً من ألا يحدث ما حدث. أن نعود لشيء أو أحد. أن نعود لمكان. لكن العودة أيضاً مظلةٌ لعوداتٍ يحصل بعضها ويتعذّر بعضها، ولعل ما قد يبتدئ مسيرةَ رأب الصدع سابقة الذكر هو أن نؤوب.
الإياب، في اللغة، شأنٌ يتعلق بمقاصد الأمور؛ أي إنه يتعلق بالمراد والمبتغى. والتفكير في شؤوننا اليوم يحتاج التبحرَ في المقاصد والتفكير بها وموضعتها كأولويةٍ لا بدّ منها. نؤوب لكي نعود، ونؤوب لكي نكون. قد تتعارض العودة مع الإياب إن لم تنطلق منه، وقد تكون نتيجته النهائية. قد يجد المحب نفسه متشبثاً بالعودة لمن يحب متناسياً أن في عودته ضرراً على الآخر. قد تحاول الثائرة أن تعود لثورتها مستخدمةً استراتيجياتٍ وأدواتٍ لم تفلح في إسقاط الظلم. قد يعود المنفيون لأوطانهم بتقديم تنازلاتٍ للظالمين. وفي العودات الثلاث المذكورة تعارضٌ مع المقاصد الأساسية. يحدث أيضاً أن نحقق عوداتٍ تنطلق من تلك المقاصد. قد يحقق الإياب العودة، لكن لا عودة حقيقيةً من دون إياب.
قد نعود. لا بد أن نعود. ولعل العودة الوحيدة التي تتطابق مع الإياب هي العودة للإياب. نؤوب إلى مقاصد عودتنا. إن الإياب طريقٌ لا ينشغل بنهايته فقط، بل ينشغل بقيمة كل خطوةٍ فيه. فلنعد للإياب؛ لعلنا نصارع منافينا وشتاتاتنا كما يليق بقضايانا، ولعلنا نعطي للحياة قيمتها، ولعلنا نُهدي من نحبهم ما يليق بهم.
موقع الجمهورية