سلافوي جيجك: من السذاجة الاعتقاد بأن الـ«NFT» والبيتكوين يمنحاننا الحرية
ترجمة أحمد نبوي
في عالم أصبح فيه التحكم والتلاعب الرقميان هما المعيار، يعتقد كثيرون أن العملات المشفرة والرموز غير القابلة للاستبدال، أو الـ«NFTs»، تمنحان الحرية. لكن هذا ليس صحيحًا تمامًا.
أفضل مؤشر على التغيرات التي تؤثر على نظامنا المالي هو ظهور ظاهرتين جديدتين مترابطتين: العملات المشفرة والـNFTs. كلاهما انبثق عن فكرة تحررية لتجاوز أجهزة الدولة وإقامة اتصال مباشر بين الأطراف المعنية.
ومع ذلك، في كلتا الحالتين، نرى كيف تحولت الفكرة إلى نقيضها، حيث تمتلك البتكوين والـNFTs الآن 1٪ الخاصة بها والتي تهيمن على المجال وتتلاعب به. وهنا ينبغي لنا أن نتجنب كلا النقيضين: فلا نُثني على البيتكوين أو الـNFTs على أنهما يقدمان لنا حرية جديدة، ولا نرفضهما باعتبارهما أحدث جنون رأسمالي مُضارب.
ففي تجربتنا المعتادة للنقود، يتم ضمان قيمة دفعها من قبل بعض سلطات الدولة، مثل البنك المركزي، ويمكن للدولة أيضا إساءة استخدام سلطتها، عن طريق طباعة النقود والتسبب في التضخم، إلخ.
قيمة البيتكوين، وهي عملة رقمية أو عملة مشفرة، غير مضمونة من قبل أي مؤسسة عامة مملوكة للسلطة. حيث يتم تحديد هذه القيمة من خلال ما يرغب الناس في دفع ثمنه الآن. وهم على استعداد لدفع ثمنها وقبولها كأموال إذا كانوا يؤمنون، ويثقون بها.
هنا، في مجال المضاربة المالية البارد والقاسي، تأخذ الثقة مكانها على المسرح: فالبيتكوين مثل المسبب الأيديولوجي الذي يُوجد كقوة حقيقية فقط إذا كان عدد كافٍ من الناس يؤمنون به – بدون الأفراد الذين يؤمنون بالقضية الشيوعية، على سبيل المثال، لم تكن هناك شيوعية.
هناك تشابه بين هذا وكيف يتم تسعير الأسهم: إذا كان عدد الأشخاص الذين يرغبون في الشراء أكثر من الراغبين في البيع، فمن المرجح أن ترتفع الأسعار، في حين أنه عندما يكون هناك عدد أكبر من الراغبين في البيع، فإن سعر السهم عادة ما ينخفض. ومع ذلك، فإن أحد الاختلافات –على الأقل، من حيث المبدأ– هو أن قيمة الأسهم ليست ذاتية المرجع بطريقة بحته، فهي تشير إلى الاستثمارات التي من المتوقع أن تولد ربحًا من الإنتاج “الحقيقي”.
الحد الأقصى لعدد عملات البيتكوين التي يمكن إصدارها أو سكها محدود. وقد حددها مخترع العملات المشفرة ساتوشي ناكاموتو ب 21 مليون (تم بالفعل استخراج حوالي 19 مليونًا). وهذا يجعل البيتكوين مشابهة للذهب والمعادن الثمينة الأخرى، ولكن ليس لها “قيمة حقيقية” جوهرية.
كيف يُمكن هذا؟ يجب تسجيل البيتكوين في البلوك تشين وهي “سجلات لامركزية بشكل أساسي”. مكان لتخزين المعلومات، والأهم من ذلك، نظرًا لأنها لامركزية، لا يمكن تحريرها دون معرفة المستخدمين الآخرين على البلوك تشين. الفكرة هي أن سلاسل الكتل (البلوك تشين) قادرة على تخزين سجلات المعلومات دون الحاجة إلى أطراف ثالثة (على سبيل المثال، البنوك والمؤسسات المالية)، بحيث يكون النظام في الأساس مكتفياً ذاتيًا ومنظمًا ذاتيًا. كبنية تحتية رقمية، وتتمثل الفائدة الإضافية في تجنب الرسوم القانونية الضخمة التي تضيفها الأطراف الثالثة،” وفقًا لمقال نشره موقع Aesthetics for Birds.
هنا تواجهنا مشكلة فيما يتعلق بالبلوك تشين: على وجه التحديد نظرًا لعدم وجود طرف ثالث ولأن النظام مكتفٍ ذاتيًا في الأساس ومنظم ذاتيًا، فإن كل تسجيل/نقش لعملة بيتكوين جديدة ينطوي على قدر هائل من العمل الذي سيتم من خلاله جلب عملة البيتكوين الجديدة إلى “معرفة المستخدمين الآخرين على البلوك تشين”. نظرًا لعدم وجود طرف ثالث يمكن لكل مالك بيتكوين الرجوع إليه، يتعين على كل مالك جديد تطوير نسيج معقد من الخوارزميات والرموز التي تضمن أن الهوية المحددة للبيتكوين الجديدة سيتم إدراكها بوضوح من قبل كل الآخرين دون تحويلها إلى شيء يمكن الاستيلاء عليه من قبل الآخرين.
تحتاج البلوك تشين – بما أن فكرة “الآخر الكبير”[1] غير مُعتمدة في هذا السياق – إلى الكثير من العمل أكثر من النقش من طرف ثالث منفصل، وهو ما يخلق “البروليتاريين” الجدد لهذا المجال الجديد من “عمال المناجم” الذين يقومون بهذا العمل. ننتقل من عمال المناجم القدامى الذين يقومون بعملهم الصعب في أعماق الأرض باعتبارهم البروليتاريين القدامى في القرن التاسع عشر، إلى عمال المناجم الذين يكدحون لبناء وتأمين المساحة للبيتكوين في “الآخر الكبير” الرقمي.
المفارقة هنا هي أنهم لا يعملون على إنتاج قيم استخدام جديدة، بل لخلق مساحة جديدة لقيمة الصرف. ومن أجل ضمان أن البيتكوين لا تحتاج إلى سلطة قانونية خارجية والرسوم القانونية المصاحبة، يلزم بذل جهد يستغرق الكثير من الوقت ويستخدم الكثير من الطاقة (الكهرباء) وهو ما يشكل عبئًا بيئيًا ثقيلًا.
وبالتالي فإن الفكرة التقدمية المحتملة للبيتكوين على أنها عالمية ومستقلة عن أجهزة دولة معينة، تتحقق في شكل يقوض افتراضاتها. وهذا يجعلها مشابهه لـNFTs.
وقد أعلن قاموس كولينز كلمة NFT كلمته لعام 2021. وتم نحْتُها أيضًا كمحاولة ليبرالية لا مركزية معادية للدولة لإنقاذ استقلالية الفنانين من براثن المؤسسات. الثمن الذي ندفعه مقابل هذه الفكرة هو أن “إنشاء NFT هو محاولة لخلق ندرة مصطنعة حيث لا توجد ندرة. إذ يمكن لأي شخص إنشاء NFT لأصل رقمي، حتى لو لم يكن هناك أصل فعلي وراءه!”.
التحكم الرقمي والتلاعب ليس شذوذاً، وانحرافاً، عن المشروع الليبرالي اليوم، بل هو إطاره الضروري، والشرط الرسمي لإمكان حدوثه. لا يمكن للنظام أن يوفر مظهر الحرية إلا في ظل ظروف رقمية وغيرها من طرق التحكم التي تُنظم حريتنا – لكي يعمل النظام، يجب أن نبقى رسميًا أحرارًا وننظر إلى أنفسنا على أننا أحرار.
المفارقة في الـNFTs هي أنها تُدخل الندرة في مجال العناصر فيه بالأساس في متناول الجميع مجانًا. لهذا السبب، تُجبرنا على إعادة التفكير في مفهوم الملكية، وفي معنى امتلاك شيء في الفضاء الرقمي:
من خلال خدمات الاشتراك، يُصبح لدينا مدخل مؤقت، لكن بدون أن نمتلك أي شيء على الإطلاق. وبمنطق في غاية الأهمية، ربما نسأل، إذا كنا نمتلك شيئاً ما، فماذا عساه يكون؟ تُحفة أصليّة من فيلم أو لون موسيقى؟ ربّما. لكن في الحقيقة كل ما يمكننا القول أننا نمتلكه هو خاصية الوصول المؤقت أو خاصية التحميل. ومن المحتمل أن يكون التنزيل مطابقا تماما لكل تحميل آخر يتم. وبعبارة أخرى، فإن امتلاكنا للشيء الذي قمنا بتحميله لا يمنع الآخرين من امتلاكه بعملية تحميل مشابهة. هذا هو السبب في كون فكرة امتلاك قطعة فنية عبر الإنترنت تُعتبر سخيفة بشكل ما. إذا كانت الأغنية موجودة كملف، فيمكن أن توجد بشكل متطابق في عدد لا نهائي من المساحات الرقمية. لكن الـNFTs توفر نوعًا من “الحل”: الندرة المصطنعة. فهي تُعطينا مقتنيات رقمية في عالم لا تكلف فيه عملية النسخ أي شيء.
ما يثير الاهتمام في الـNFTs هو فكرة أخذ أصل رقمي يمكن لأي شخص نسخه والمطالبة بملكيته. لا يكاد يكون للـNFT أي قيمة استخدام (ربما تجلب بعض المكانة الاجتماعية للمالكين)، وما تحافظ عليها هو قيمة الصرف المستقبلية المحتملة. إنها نسخة بثمن، عنصر من الملكية الرمزية البحتة التي يمكن أن تجلب الربح.
تتمثل الرؤية الهيجلية الرئيسة هنا – تمامًا كما هو الحال في البيتكوين – في أنه على الرغم من أن البيتكوين والـNFT يظهران على أنهما نوع من الاختلاف، كانحراف مَرضِي عن الأداء “الطبيعي” للمال والسلع، فإنهما يحققان فعليًا إمكانات موجودة بالفعل في مفهوم السلع والمال نفسه.
مثال على ذلك هو شخصية بيتر ثيل، الملياردير الألماني الأمريكي والمؤسس المشارك لموقع PayPal لتبادل الأموال، الذي أعلن أن “[الذكاء الاصطناعي] شيوعي والعملات المشفرة تحررية”. لماذا؟ لأنه مع الذكاء الاصطناعي، “ستحصل على عين سورون الكبيرة[2] التي تراقبك في جميع الأوقات وفي كل الأماكن”.
“تطبيقات الذكاء الاصطناعي الرئيسة التي يبدو أن الناس يتحدثون عنها تستخدم بيانات ضخمة لمراقبة الناس،… حيث يمكنهم معرفة ما يكفي عن الناس الذين يراقبونهم أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم، وهو ما يُعتبر تمكين للشيوعية من العمل، ربما ليس بقدر ما هي نظرية اقتصادية، ولكن على الأقل كنظرية سياسية. لذلك فهو شيء لينيني بالتأكيد. وبعد ذلك، هو شيوعي حرفيًا، لأن الصين تحب الذكاء الاصطناعي…” يقول ثيل.
هذا يبدو واضحاً و مقنعاً ومع ذلك، كما لاحظ توم دان في حينه:
“يبدو أن نقد ثيل الكبير هنا يتعلق بالاستخدام الاستبدادي للبيانات والمراقبة. حسناً، رائع، أوافقك الرأي، هذا فعلًا يدعو للقلق. أنا لا أعرف ما علاقة ذلك [مع] حزب طليعي ثوري ُيشكل دولة انتقالية من أجل إنشاء مجتمع بلا طبقات ولا قيادة، ولكن، نعم، بالتأكيد. من الناحية الفنية، تُطلق الصين على نفسها اسم الحكومة. لذلك أعتقد أنني أفهم ما يقوله هنا. لكن فقط لنكن واضحين: هذا هو الرجل الذي ساعد في تأسيس Palantir. شركة تحليل البيانات الضخمة التي حرفيًا قامت بتعليم شركة ICE كيفية تنظيم تكتيكاتها الاستبدادية. وبيتر ثيل هو نفسه الذي أسس أيضا شركة Anduril للمراقبة، واستخدم ملياراته لتدمير مؤسسة إخبارية ناجحة قامت بانتقاده. وهو خائف من الذكاء الاصطناعي بسبب… الشيوعية؟”.
من المستحيل أن تمر المفارقة هنا مرور الكرام: ثيل التحرري المناهض لللينينية يعتمد على آليات الذكاء الاصطناعي “اللينينية” التي يشجبها. وينطبق الشيء نفسه على مستشار ترامب السابق ستيف بانون، الذي يُزعم وهنا (مفارقة أخرى) أنه وصف نفسه بأنه “لينيني”:
كانت مغامرة بانون في البيت الأبيض مجرد مرحلة واحدة من رحلة طويلة في هجرة اللغة والتكتيكات والاستراتيجيات الثورية الشعبوية من اليسار إلى اليمين.. قال بانون بصيغة تقريرية: “أنا لينيني. لينين… أراد تدمير الدولة، وهذا هو هدفي أيضًا. أريد لكل شيء أن ينهار، وأن أدمر كل المؤسسات القائمة اليوم” يُذكرنا ثيل.
بانون هذا نفسه الذي يظهر مشوشًا في مواجهة الشركات الكبرى التي، جنبا إلى جنب مع أجهزة الدولة، تُسيطروتستغل العمال الأميركيين العاديين، يزعم أنه نوى أن يستعمل الذكاء الاصطناعي أثناء الحملة الانتخابية في 2016. تم الكشف عن أن Cambridge Analytica) CA)، وهي شركة استشارية سياسية كان بانون نائبًا لرئيسها بين عامي 2014 و2016، قد قامت بعمل مسح لكميات كبيرة من بيانات مستخدمي فيسبوك لتوفير معلومات عن السكان المهتمين بالحملات السياسية حول العالم.
تم إغلاق الشركة في عام 2018، بعد أن كشف كريستوفر وايلي، وهو موظف سابق في كامبريدج أناليتيكا، عن كيفية مشاركة الشركة في عمليات استخراج البيانات. وايلي، وهو نباتي كندي مثلي الجنس، في الرابعة والعشرين من عمره، توصل إلى فكرة أدت إلى تأسيس كامبريدج أناليتيكا والتي وصفتها صحيفة الجارديان بأنها “أداة حرب نفسية لبانون.” عند نقطة معينة، كان وايلي مذعورًا بشكل حقيقي: “هذا جنون. أنشأت الشركة ملفات شخصية نفسية لـ 230 مليون أمريكي. والآن يريدون العمل مع البنتاغون؟ فيما يُشبه ما فعله الرئيس نيكسون في فضيحة ووترجيت”.
ما يجعل هذه القصة مذهلة للغاية هو أنها تجمع بين عناصر ننظر إليها عادة باعتبارها متعارضة. يقول اليمينيون إن ذلك يعالج مخاوف الناس العاديين البيض، الذين يعملون بجد، المتدينين بعمق والذين يدافعون عن القيم التقليدية البسيطة ويكرهون الغرباء مثل المثليين جنسيًا والنباتيين، ولكن أيضًا المهووسين بالعالم الرقمي – ثم نتعلم أن “حربهم النفسية” تم شنها من قبل هذا المهووس بالضبط الذي يدافع عن كل ما يعارضونه. هناك أكثر من قيمة قصصية في هذا: فهي تشير بوضوح إلى فراغ الشعبوية اليمينية المتطرفة، والتي يتعين عليها أن تعتمد على أحدث التطورات التكنولوجية للحفاظ على جاذبيتها الشعبية.
لا يوجد تناقض بين معاداة ثيل للينينية ولينينية بانون: إذا فهمنا ما وراء هذه “اللينينية” من ممارسة للسيطرة الرقمية الكاملة على السكان، وهو ما تتم ممارسته مع الحفاظ على وجه ليبرالي. يكمن الاختلاف فقط في حقيقة أن اللينينية تعني، بالنسبة لبانون، تدمير الدولة وأجهزتها (بالطبع، دون أن تنوي ذلك).
في الختام، إن التحكم الرقمي والتلاعب ليس شذوذاً، وانحرافاً، عن المشروع الليبرالي اليوم، بل هو إطاره الضروري، والشرط الرسمي لإمكان حدوثه. لا يمكن للنظام أن يوفر مظهر الحرية إلا في ظل ظروف رقمية وغيرها من طرق التحكم التي تُنظم حريتنا – لكي يعمل النظام، يجب أن نبقى رسميًا أحرارًا وننظر إلى أنفسنا على أننا أحرار.
هوامش:
[1]: يُعتبر مفهوم “الآخر” المفهوم الأكثر تعقيدًا في أعمال جاك لاكان، حيث يشير مصطلح “الآخر” إلى نوعين من الآخرية (otherness) متوافقة مع النظامين: “الرمزي” و”الواقعي”. النوع الأول والذي يُشير إليه جيجك هنا هو “الآخر الكبير” المتعلق بالنظام “الرمزي”، وهو “الروح الموضوعية” التي تشتمل على كل البنى الاجتماعية-اللغوية المتجاوزة للفرد حيث تشكل الفضاء الذي به تتفاعل الذوات فيما بينهما. كما يُشير الآخر الكبير “الرمزي” أيضًا إلى أفكار (غالباً متخيلة أو خيالية) عن قوة السلطة و/أو معرفة الأشياء المجهولة (سواء كانت من الله أو الطبيعة أو التاريخ أو المجتمع أو الدولة أو الحزب أو العلوم أو المحلِل النفسي.
[2]: شخصية شريرة في رواية جي آر. آر. تولكين سيد الخواتم، تمتلك عينًا مكونة من اللهب تستطيع مراقبة الأرض لمسافات كبيرة.
[تُرجمت المقالة عن الإنجليزية، ونُشر الأصل على موقع روسيا اليوم].