عمليات تهريب القمح بين المعارضة والنظام وقسد تتوسّع… الكارثة واقعة شمال غرب سوريا/ أحمد رياض جاموس
لم تكتمل فرحة الشاب الثلاثيني سليم أبو دياب، عندما قرر أواخر العام الماضي أن يعود إلى مهنته القديمة في الزراعة، بعد إجراء عملية “الديسك” التي منعته من استمراره في عمله في إصلاح السيارات. المهجّر من ريف دمشق إلى عفرين في ريف حلب الشمالي، كان يطمح إلى تحسين وضع أسرته بعد أن استأجر ثلاثة هكتارات زراعية وزرعها بالقمح، إلا أن مسعاه خاب، بسبب ضعف الإنتاج، إذ سجل الدونم الواحد إنتاج 300 كيلو فقط، في الوقت الذي بيع فيه الطن الواحد بـ425 دولاراً.
وتراوحت كلفة الدونم الواحد الذي زرعه أبو دياب، ما بين 166 دولاراً و180 دولاراً، إذ شملت أجرة الأرض الزراعية وأجور الفِلاحة ومصاريف البذار والسماد ورشّ المبيدات وأجرة الحصاد وتكاليف التعبئة والنقل، كذلك كلفة المازوت المستخدمة لسحب المياه من الآبار، إلا أنه تفاجأ بإنتاجٍ قليل وغلةٍ لا تناسب جهده وتكاليفه.
يعزو أبو دياب أسباب ضعف إنتاج هكتاراته إلى طبيعة الجو غير المناسبة لزراعة القمح في عفرين، بالإضافة إلى قلة أمطار هذا العام، وموجة الصقيع التي اجتاحت المحاصيل في شهر آذار/ مارس الماضي، فيما حمّل الجهات المختصة المسؤولية في تحميله مع بقية المزارعين مصاريف إضافيةً، جرّاء تأخرهم في فتح ساقية المياه من سد ميدانكي في ريف عفرين شهراً كاملاً عن موعدها المعتاد، ما أجبر المزارعين على تحمّل مصاريف سقاية محاصيلهم الباهظة نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات وقتها، ومن جهة أخرى ساهم الرعي الجائر من قطعان الأغنام والماعز المملوكة لمتنفذين في الفصائل العسكرية، والتي كانت ترعى ليلاً خلسةً، في خسارة مزارعين ربع محصولهم، ومنهم من خسر نصف محصوله.
التهريب المستمرّ
نظراً إلى الفارق في سعر طن القمح بين المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والتي للمعارضة السورية وقوات قسد، نشطت عمليات تهريب القمح من مناطق المعارضة في اتجاه مناطق النظام وقوات سوريا الديمقراطية كونها الأعلى سعراً في شراء المحاصيل، إذ تجري عمليات التهريب بوساطة تجارٍ مرتبطين مع متنفذين في الفصائل العسكرية، وعبر ممرات ومعابر غير رسمية، وسط تحذيرات من عواقب التهريب، في ظل أزمة القمح العالمية، كان في مقدمتها بيان أصدرته “نقابة المحامين الأحرار” في 30 حزيران/ يونيو الماضي، أكدت فيه حصول عمليات تهريب للقمح من المناطق “المحررة” في اتجاه مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة “قسد”، عادّةً أن هذه العمليات “نوع من المتاجرة بأقوات السوريين وإنذار بكارثة تهدد حياة القاطنين في تلك المناطق ومصائرهم، ومساهمة في دعم نظام الإجرام والميليشيات الطائفية”.
وحمّل البيان وقتها، “السلطات والقوى الموجودة، خاصةً الجيش الوطني السوري، المسؤولية الكاملة عن حماية قوت الشعب السوري، مع المطالبة بملاحقة عمليات تهريب القمح التي تجري وعدّها خيانةً للثورة والشعب السوري ولدماء الشهداء وعذابات المعتقلين”.
في السياق نفسه، كان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد وجّه اتهامات إلى فصيل السلطان مراد المنضوي تحت جناح الجيش الوطني، بتنفيذ عمليات تهريب القمح، وقال المرصد: “بالرغم من قرار الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف الوطني بمنع تصدير المادة إلى الدول المجاورة، أو تهريبها إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري أو الخاضعة لقسد للحفاظ على المخزون الإستراتيجي من مادة القمح والشعير، والحفاظ على أسعار الخبز، فإن عمليات التهريب المنظمة التي تقوم بها فصائل الجيش الوطني، ومن ضمنها فصيل السلطان مراد مستمرة على قدم وساق، ضاربةً بعرض الحائط كل القرارات الصادرة من الحكومة المؤقتة وغير مكترثة بفقدان هذه المادة الأساسية وتأثيرها السلبي على المواطن”.
وجاء بيانا نقابة المحامين الأحرار والمرصد السوري، عقب انتشار مقاطع فيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي تُظهر شحنات محمّلةً بمادة القمح في معبر الراعي الحدودي ومعدةً للتصدير إلى خارج الأراضي السورية.
نفي حكومي
تواصل رصيف22، مع مجلس قيادة هيئة ثائرون للتحرير، والتي تضم فصائل عسكرية عدة من ضمنها فرقة “السلطان مراد”، إذ أكدت على لسان عضوها مصطفى سيجري، أن الفرقة أجرت جولةً ميدانيةً تفقديةً في معبر الراعي الحدودي بعد الأنباء الواردة عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن “تصدير القمح” إلى خارج الأراضي السورية، كما اجتمعت مع إدارة المعبر واطلعت على سجلات الصادرات والواردات بين سوريا وتركيا، وبناءً على ذلك فإن الفيديو المتداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي حول شحنات محمّلة بمادة القمح متجهة إلى خارج الأراضي السورية، هي في الحقيقة شحنات من القمح الأوكراني الطري، قادمة من الأراضي التركية في اتجاه سوريا، وقد تم التأكد منها بعد الاطلاع على كاميرات المراقبة في المعبر ومطابقة لوحات السيارات وأرقامها.
ولفت سيجري إلى أن معبر الراعي يستقبل يومياً أكثر من سبع سيارات كمعدل وسطي محملة بمادة القمح الأوكراني قادمة من الأراضي التركية عبر ميناء مرسين، وكذلك يستقبل شحنات قادمةً من منطقة نبع السلام والتي تُعدّ فائضاً عن حاجة المنطقة وذلك عبر المديرية العامة للجمارك التابعة للحكومة السورية المؤقتة.
ودعا في ختام حديثه، إلى التحقق من الأخبار والشائعات الكاذبة ومقاطع الفيديو المضللة حول تصدير القمح إلى خارج الأراضي السورية، مؤكداً عدم التسامح أو التساهل مع المتلاعبين بقوت الأهالي وعدم التسامح أيضاً مع المساهمين في زيادة معاناتهم.
فارق الأسعار يفرغ المنطقة
حدّدت الحكومة السورية المؤقتة التابعة للمعارضة السورية سعر طن القمح القاسي بـ475 دولاراً، و460 دولاراً لطن القمح الطري، في حين حدّدت “حكومة الإنقاذ” في إدلب التابعة لهيئة تحرير الشام، 425 دولاراً لطنّ القمح القاسي. أما “الإدارة الذاتية” شمال شرق سوريا، فقد حدّدت سعر شراء الطن بنحو 550 دولاراً، وهو أعلى سعر شراء في سوريا. في المقابل، حددت حكومة النظام سعر شراء الطن الواحد بنحو 500 دولار.
وأدى فارق السعر بين مناطق المعارضة السورية ومناطق سيطرة الأسد وقسد، إلى امتناع كثير من المزارعين عن بيع محاصيلهم للمؤسسة العامة للحبوب التابعة للحكومة المؤقتة، وبيعها لتجار محليين ينقلون بدورهم الشحنات عبر معابر غير رسمية إلى مناطق سيطرة النظام وقسد.
ويرى محمد الموسى (تاجر حبوب)، في منطقة أعزاز شمال غرب سوريا، في حديثه إلى رصيف22، أن “المزارع يبحث في النهاية عن مصلحته في بيع محصوله بالسعر الذي يراه مناسباً، خاصةً مع التكاليف الباهظة التي تحمّلها خلال موسم الزراعة من جهة، وإقبال التجار على ابتلاع القمح بسعر أعلى من الأسعار التي حددتها الحكومة المؤقتة من جهة أخرى، فضلاً عن تكفّل التجار بمصاريف نقله من مخازن الفلاح ثم تهريبه إلى مناطق سيطرة النظام و”قسد”، مستفيدين من الفارق بين الأسعار”.
ويؤكد على امتلاكه قنوات عديدةً وتواصلات واسعةً لتصريف القمح خارج المناطق المحررة، لكنه شخصياً ضد أي عملية لإخراج حبة واحدة من القمح في اتجاه مناطق سيطرة النظام وقسد، لافتاً إلى أنه “حتى لو كان لدينا فائض فيمكن تصريفه نحو الجانب التركي فقط، من دون أن تستفيد منه قوات قسد أو قوات النظام”.
وتعدُّ محاولات تهريب القمح إلى مناطق النظام أو قسد محاولةً لإنعاشهم، خاصةً نظام الأسد الذي يعاني من أزمات اقتصادية وعجزٍ عن استيراد القمح من الخارج، وارتفاع الأسعار الباهظ، بالإضافة إلى خلق مشكلة أمن غذائي في الشمال السوري قد تهدد مصير الملايين.
ويحذّر الموسى من أن تهريب القمح، محاولة لإفراغ المنطقة المحررة من المادة الإستراتيجية و”سيدفع ضريبتها أولاً وأخيراً أهلنا وأطفالنا، فهم المتضرر الأكبر خاصةً أن القمح مادة أساسية تدخل في غذائهم اليومي، ومكوِّنٌ أساسيٌّ لوجباتهم التي تغيب عنها الفواكه واللحوم وغيرهما”.
ويختم: “التجار الذين يقومون بعمليات التهريب معروفون لدى الأجهزة الأمنية، إلا أنهم يتحصنون بعلاقات قوية ونفوذ واسع، يمنعان مساءلتهم”، واصفاً التعليمات الصادرة من الجهات الأمنية بتشديد الرقابة ومصادرة كميات القمح المهربة بالـ”حبر على ورق، فكثيرة هي الشاحنات المملوءة بالقمح التي تمرّ بأمان عبر الحواجز الأمنية وصولاً إلى المحطة الأخيرة ونقطة التماس مع قوات الأسد أو قسد”.
مساعٍ لتلافي الأزمة
منذ بداية شهر حزيران/ يونيو الماضي، افتتحت المؤسسة العامة للحبوب التابعة للحكومة المؤقتة مراكز خاصةً لشراء القمح من المنتجين المزارعين، بسعر وصل إلى 475 دولاراً للقمح القاسي، إذ عدّته المؤسسة سعراً مناسباً تمّت دراسته بناءً على دراسة التكاليف، بحسب واصف الزاب، مدير عام التخزين والحبوب في الحكومة المؤقتة التابعة للمعارضة السورية، الذي يؤكد لرصيف22، أن نسبة أرباح المزارع مقبولة ومناسبة وقريبة أيضاً من السعر الذي طرحه نظام الأسد وقسد، نافياً أن يكون فارق السعر هو العامل المؤثر في عمليات التهريب.
وقدّمت “المؤسسة العامة للحبوب”، جملة تسهيلات، يأتي في مقدمتها تحليل القمح والتكفّل بتحميّله ونقله من أماكن وجوده على نفقة المؤسسة، إلى مراكزها الستة الموزعة في مناطق متفرقة، “تل أبيض، ورأس العين، وبزاعة، وأعزاز، وجرابلس ومارع”، بالإضافة إلى تسليم الحبوب خلال يومين أو ثلاثة، بعد وزنها وتحليلها، من دون إضافة أي رسوم أو ضرائب أو حسومات على المزارعين، حيث يتم تسليم المبالغ بالدولار حرصاً على عدم إلحاق الضرر بالمزارع بعد عمليات التحويل المالية، عكس إجراءات النظام وقسد التي تشتري محاصيل المزارعين بالعملة السورية منخفضة القيمة وتفرض حسومات وضرائب مختلفةً.
وتقدَّر كمية القمح التي تمّ شراؤها من مناطق متفرقة في ريف حلب وتل أبيض ورأس العين، حتى تاريخ إعداد هذا التقرير بـ14 ألف طن، كما تقدَّر كمية القمح المسلَّمة إلى مراكز المؤسسة والتي تمّ تسديد قيمتها بنسبة 90% من الكمية الكاملة.
يشير الزاب، إلى أن الكمية اللازمة لتشغيل الأفران في منطقة درع الفرات وغصن الزيتون في ريف حلب، تتجاوز 150 ألف طن، و50 ألف طن في مناطق نبع السلام (تل أبيض ورأس العين)، وأن توقعات الإنتاج، تتراوح بين 15 ألف طن إلى 20 ألف طن في منطقة درع الفرات وغصن الزيتون، و50 ألف طن في منطقة نبع السلام، وهي توقعات أقل من المعتاد هذا العام للمحاصيل المروية فحسب.
وعن خطة المؤسسة العامة للحبوب في حال بدأت مؤشرات فقدان المادة تلوح في الأفق، يذكر أن “الكمية المتوقع تسويقها هي 20 ألف طن، وتعمل المؤسسة على تحقيقها، إلا أنه في حال لم يتم تحقيق الخطة فستتجه المؤسسة نحو صندوق الائتمان الدولي الذي يدعم الدقيق في المناطق المحررة في ريف حلب، بالإضافة إلى استيراد كميات من القمح الطري”.
الأمن الغذائي غائب
تقول الحكومة المؤقتة إنها تعمل على تدارك الوقوع في خطر كارثة محتملة من خلال شراء كميات من القمح، وإطلاقها تحذيرات لمنع عمليات التهريب من جهة، واستعدادات لإسعافات وخطط طارئة إذا دقّ ناقوس الخطر.
في المقابل، يرى الباحث الاقتصادي السوري عبد الرحمن أنيس، أن الشمال السوري يتجه اليوم ضمن المعطيات الحالية نحو مجاعة وكارثة إنسانية، محمّلاً المسؤولية أولاً وأخيراً للحكومة المؤقتة والائتلاف ثم للمجالس المحلية لعجزها عن توفير أبسط احتياجات السكان من الغذاء، بسبب غياب ما أسماه “التخطيط وإستراتيجيات وسياسات الأمن الغذائي” التي تضمن القطاع الزراعي، بالإضافة إلى غياب الخطط الزراعية، وإلزام زراعة محاصيل محددة في مساحات محددة لإنتاج كميات محددة تكفي الاحتياج وتزيد كمخزون إستراتيجي لعام قادم على أقل تقدير، ومنع تصدير أي مواد غذائية زراعية أو حيوانية، فتصدير المواد التي تتعلق بسلاسل الغذاء يزيد الطلب عليها وينقِص من المعروض، فتزداد أسعارها، وهذا ما غفلت عنه الحكومة المؤقتة طوال السنوات الماضية بالرغم من أن المناطق المحررة ذات إمكانيات محدودة وفقيرة تكاد مواردها تكفي أهلها.
وبالرغم من أن المناطق الشمالية المحررة تعيش كارثةً، لكن في المقابل هي مناطق الاستقرار الأولى وذات أرض خصبة صالحة لزراعة القمح، كما لدى المناطق إمكانية تغطية احتياجات السكان من القمح والحبوب شرط توافر الإرادة الحقيقية والمؤسسات الوطنية لذلك، وهذا يتطلب أولاً إدارةً مركزيةً تُعنى بالملفات الإستراتيجية، منها الأمن الغذائي الذي باتت اليوم مخاطره كبرى ومهدداته متنوعةً، كما يتطلب التحوّط لهذه الكارثة بطلب القمح من المنظمات بكميات تكفي للعام الحالي والعام القادم، وإعادة تشكيل إدارة وطنية بعد فشل الإدارة القديمة للمنطقة تضع فوراً إستراتيجيةً عاجلةً للأمن الغذائي، بحسب توصيف أنيس.
كذلك، يحثّ المنظمات على منح القروض الصغيرة للمشاريع الزراعية، وإقفال الحدود والمعابر في وجه التجار الراغبين في إخراج أي مواد زراعية مهما كانت إلى خارج المنطقة حتى إشعار آخر، ووضع خطة زراعية لتوزيع كافة أراضي الشمال نحو الزراعات الإستراتيجية حتى بين أشجار الزيتون إن أمكن ذلك، والقيام باستصلاح الأراضي غير الصالحة، والأهم، برأي أنيس، تشكيل مجلس أعلى للتنمية والتخطيط يكون من مهامه الأمن الغذائي، وعقد اتفاقيات مع مناطق أخرى لاستيراد القمح وغيرها بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي.
رصيف 22