مراجعات الكتب

كتاب “المرض كاستعارة” لسوزان سونتاج.. هوية جمهورية الألم/ مصطفى ديب

الأوهام والخرافات المرتبطة بمرضي السل والسرطان هي موضوع كتاب “المرض كاستعارة” (دار المدى، 2021/ ترجمة حسين الشوفي)، للكاتبة والناقدة الأمريكية سوزان سونتاج، التي تحاول فيه فهم تأثيرها على نظرة الأصحاء والمرضى إلى هذين المرضين على امتداد مراحل زمنية مختلفة، إضافةً إلى دورها في تحديد الصفات التي جرى علاجهما على أساسها.

الغاية من الكتاب هي فهم تأثير الأوهام الملفقة عن المرض على فهم الآخرين له، وتصوراتهم عنه، عمومًا. لكن سونتاج تركز على السل والسرطان، والإيدز في فصل آخر، لأنهما أكثر الأمراض وصمًا بتسميات مرضية لعينة تثير رعب المرضى وتدفعهم إلى الاعتقاد بأن إصابتهم بهما، خاصةً السرطان، فضيحة تعرّض علاقاتهم الاجتماعية والمهنية للخطر، ولذلك يجب إخفاؤه بوصفه مرضًا قذرًا وذا فأل مشؤوم.

لم تُستخدم الاستعارات لوصف هذين المرضين فقط، وإنما للتميز بينهما بعد أن أصبح فصلهما عن بعضهما البعض أمرًا ممكنًا، علميًا، منذ عام 1882. واللافت في تمييز السل عن السرطان، من خلال الاستعارات، هو شيوع أوهام تُعلي من شأن السل، وتجمّله، مقابل تحقير السرطان والمصابين به.

غلاف الكتاب الأصلي بالانجليزية

الموت بالسل والسرطان والفرق بينهما

أولى هذه الأوهام، وأكثرها شيوعًا، عَدُّ الموت بالسل سهلًا مبهجًا ومشرقًا يجعل من ضحيته أكثر جمالًا وفتنة، على العكس تمامًا من الموت بالسرطان الذي يُذّله بالألم والخوف، ويجرده من سموه الذاتي وتفوقه. بل، أكثر من ذلك، اعتُبر الموت بالسل حماسيًا مثل الشعر الحماسي أو الملحمي، في حين بقي السرطان مخزيًا للشعر وبعيدًا عن علم الجمال.

سار تطور هذه الأوهام بطريقة ملفتة للانتباه. فبعد اعتبار الموت بالسل أمرًا مبهجًا وملحميًا ومشرقًا أيضًا، شاع أن الإصابة به هي نتيجة طبيعية للعواطف التي يُبتلى بها الشخص الشهواني الطائش والمُستهلك، أو المُتلف بالغيرة أو الحماس. وكلاهما يُتلف الجسم الذي يُرى إلى الحمى الذي تصيبه على أنها علامة احتراق داخلي.

أما سبب الإصابة بالسرطان، فهي العواطف غير الكافية التي تؤلم المكبوتين أو المثبطين والمحبطين. وهذا الاعتقاد ارتبط أيضًا، في مرحلة ما، بالسل الذي كان يُعتقد بأن سببه هو الكبت الجنسي، وأن ممارسة الجنس هي إحدى طرق علاجه. وترى سونتاج هنا بأن مصدر الكثير من الأوهام التي تربط السرطان بالعواطف هو وايلهيم رايخ، الذي عرّف السرطان بأنه: “المرض الذي ينتج عن الاستسلام للعواطف، إنه تقلص الطاقة البيولوجية للجسم، والاقلاع عن الأمل”.

في مثال آخر على أثر استخدام الاستعارات في التمييز بين هذين المرضين، تقول سونتاج إن مظهر الشخص المصاب بالسل أصبح عنصرًا أساسيًا من العناصر الأخلاقية للقرن التاسع عشر، خاصةً لناحية شحوب اللون الذي كان يُرى إليه آنذاك بوصفه أمرًا فاتنًا.

تعيد مؤلفة “ضد التأويل” هذه الأوهام إلى كلام الرومانتيكيين الذين يرون أن المرض والحزن يجعلان من الآخرين أشخاصًا ممتعين، وأن الموت – بالسل تحديدًا – يجعلهم ممتعين أكثر. والسل، كما الحزن، لا يصيب إلا شخصًا حساسًا جدًا. ومن هنا ارتبط السل بالإبداع، وأصبح المصابون به حساسون ومبدعون لدرجة دفعت البعض إلى ربط انحطاط الآداب والفنون باختفاء السل.

لماذا يحمّل المريض مسؤولية مرضه؟

غلاف الكتاب المترجم للعربية

ورث السرطان معظم الأوهام المرتبطة بالسل، باستثناء تلك المتعلقة بالفتنة والسحر والجمال والإبداع التي ورثتها أمراض أخرى مثل الجنون، الذي يُرى إليه بوصفه مؤشرًا على فرط الحساسية الأرفع مقامًا، وعدم الرضى الخطير. فالشخص المجنون حساس جدًا، ومتطرف عاطفيًا، ولا يستطيع تحمل اليومي المألوف والمبتذل، تمامًا كمرضى السل الذي اعتُبرت الإصابة به بمثابة ترقية، ذلك أنه يجعل المصاب أكثر ذكاءً وفرادة.

السل هو المرض الذي يضع المريض في وسط مضاد لمحيطه، على عكس غيره من الأمراض التي تنحدر بالمصابين إلى محيط مريض. ومع ذلك، لا تلغي هذه الأوهام الشائعة أن السل كان مرضًا مرعبًا لا لأنه مميت فقط، وإنما لأن هذه الأوهام نفسها تحمّل المريض مسؤولية الإصابة به. فالشائع لدى الرومانتيكيين أن المريض هو سبب مرضه لأنه لم يعبّر عن مشاعره ورغباته الجامحة التي تجعله، إن قام بإخفائها، عرضةً للإصابة بالسل.

العواطف والمشاعر المخبأة هي مصدر الإصابة بالسل والسرطان إذًا. فالعاطفة، كما صوّرتها الأوهام الشائعة عن هذين المرضين، تتحرك نحو الداخل لتضرب وتُفسد أعماق الجيوب الخلوية. وهكذا يكون المريض هو خالق مرضه، خاصةً مريض السرطان الذي تجعله هذه الأوهام، في نظره ونظر الآخرين، مدانًا ومذنبًا لأنه فشل في التعبير عن ذاته.

بقيت هذه النظرية التي تربط الأمراض بالعواطف قائمةً حتى القرن الفائت الذي جرى التعامل فيه مع السرطان، ومعالجته أيضًا، بوصفه مرضًا شيطانيًا يجلب الخزي والعار. وهو وصف منح السرطان معنىً ترى الناقدة الأمريكية أنه لا شيء أقسى من منحه للمرض، خاصةً إذا كان معنىً أخلاقيًا.

تقول صاحبة “حول الفوتوغراف” إن: “أي مرض مهم كان سببه ضبابيًا (غير واضح)، وعلاجه غير مجدٍ، يميل لأن يكون مهمًا جدًا، حيث تُربط الموضوعات الأشد رعبًا (الفساد والانحلال والتفسخ والتلوث والشذوذ والضعف) بالمرض أولًا، ليصبح المرض نفسه استعارة. ثم وباسم المرض (أعني استعماله مجازيًا، كاستعارة) يُفرض ذلك الرعب على أشياء أخرى ليصبح المرض صفة، يصبح شيئًا يقال إنه مثل المرض، والمقصود هو أنه يصبح مقززًا أو بشعًا” (صفحة 61 – 62).

استُخدمت الاستعارات إذًا لإعطاء حيوية للتهم القائلة بأن المجتمع فاسد أو غير عادل. وهذه الاستعارات، حسب قراءة سونتاج، هي طريقة للشدة أو العنف، إذ لا يقتصر استخدامها على الحكم على المجتمع ووصمه بالقهر والاضطهاد فقط، وإنما شملت منذ القرن التاسع عشر، حين أصبحت استعارات المرض خبيثة وقاسية ومنافية للعقل، أمورًا مثل السياسة وشؤون الدولة والحكم، إضافةً إلى استخدامه من قبل الحركات الشمولية الحديثة لتبرير تصفيتها لمعارضيها بوصفهم “سرطانات” يجب استئصالها.

تخلص سوزان سونتاج إلى القول بأن استعمال الأمراض القاتلة من أجل الاستعارات المجازية في السياسة فقط، يعطي هذه الاستعارات صفة حادة أكثر. وأن تشبيه الحدث أو الوضع السياسي بالمرض، يعني أن نُلصق تهمة ما بهذا الحدث، وأن نقوم بعدها بالعقاب.

وتشير الكاتبة الأمريكية إلى أن وصف ظاهرة ما بأنها سرطان هو تحريض على العنف، ذلك أن استعمال السرطان في الخطاب السياسي يبرر الإجراءات الصارمة، ويعزز فكرة أن المرض قاتل بالضرورة. وتؤكد أيضًا بأن مفهوم المرض ليس بريئًا، ولكن: “يمكن الجدال أن استعارات السرطان هي بنفسها متضمنة للإبادة الجماعية” (صفحة 85).

الترا صوت

لتحميل الكتاب اتبع الرابط التالي

https://drive.google.com/u/5/uc?id=1Wuegd62P_dMqBpGqeP7LQ1PSJhWGV193&export=download

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى