وقفة مع عزيز تبسي
تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة سريعة حول انشغالاتها الإبداعية وجديد إنتاجها وبعض ما تود مشاطرته مع قرّائها. “يحتاج التغيير للمعرفة والقوة، وهو ما يجب على الشعوب وطلائعها السعي لامتلاكه”، يقول الكاتب السوري في حديثه مع “العربي الجديد”.
■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟
شغلني في الماضي ويشغلني الآن موضوع التغيير باتجاه مجتمع تُدرك فيه الحرّية والعدالة الاجتماعية والمواطَنة تحقّقاتها التاريخية. لكن ما أربكني ويربكني، حالة الاستعصاء التاريخي التي تحكم تقدُّم مجتمعاتنا. أنتمي إلى جيلٍ يساري شهدَ انهيار التجربة السوفييتية والتجارب المُلحقة بها، وتمزيق العديد من الدول، بما يشبه أشرس ثورة مضادّة في التاريخ.
فشلت الإمبريالية المعولَمة في تقديم بديل إنساني من التجارب المنهارة، لكونها لم تملك بديلاً سوى التوسّع المالي والتجاري في اقتصادات هذه الدول، وأوصلت إلى السلطة أشخاصاً كانت أقصى أحلامهم إدارة كازينوهات ومواخير وشركات مقاولات، لك أن تتخيّل قيادات في القمّة السياسية لمجتمعات أوروبية ذات تاريخ عريق، حكمها برلسكوني وساركوزي.
همّشت الإمبريالية المعولمة الأفكار العميقة، وأعاقت ظهور جديدها، في الوقت الذي روّجت فيه لأفكار سطحية، تُستعمل لمرّة واحدة، كالمناديل الورقية وحفّاضات الأطفال. يحتاج التغيير إلى المعرفة والقوّة، وهو ما يجب على الشعوب وطلائعها السعي لامتلاكه.
■ ما آخر عمل صدر لك، وما عملك القادم؟
رواية “أطباق المشمش”. وأعددت للنشر رواية جديدة بعنوان “صيد العصاري”، آملُ أن تحظى بقبول دُور النشر، ولا يتأخّر نشرها كما سابقاتها.
■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك ولماذا؟
عبّرت كتاباتي المنشورة عن تجربةٍ ووعي مُحدَّدين بشرطِهما الزماني والمكاني، وقد وسّعت الحياةُ تجاربي، وانفتح وعيي بالقراءة والحوار، وتعمّق بالتأمّل الحيّ للوقائع، لهذا لست أسيرَ تجارب محدّدة. كلُّ ما حولنا يتغير، وعلينا وعي التغيّرات ومتابعة آثارها على مجتمعاتنا وشعوبنا.
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، فأي مسار كنت ستختار؟
ربّما دراسة الفن السينمائي، والتمكّن من أدواته وتقنياته؛ لتضمُّن السينما إبداعات متنوّعة: الرواية والرسم والموسيقى، وصولاً إلى التاريخ ووثائقه المكتومة، وهذه جميعها تمكن صياغتها بلغة بصرية، تجعلها بمتناول جمهور واسع.
■ ما التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
نزع الأحادية القطبية، التي هيمنت على الكوكب اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، وأنتجت أحطّ شكل من التوحّش الرأسمالي والانحطاط الفكري، وسبّبت للشعوب كوارثَ وإهاناتٍ وجروح لا تندمل. أعتقد أن تحقيق وترسيخ مجتمع عالميّ متعدّد الأقطاب سيساعد الشعوب على تجاوز العقبات التي أعاقت تحرّرها.
■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
أتمنّى لقاء العديد من الشخصيات، طه حسين، كأحد أبرز رموز التنوير العربي، لأناقشَه وأعاتبه على تردّده، وتراجعه عن بعض كتاباته الشجاعة، إذ من المعيب إخضاع التنوير للمساومة، رغم أن مسيرة التنوير لم تتوقّف ولن تتوقّف، إلّا أن تقدّمها البطيء يُشعرنا بركودها وأنها آيلة إلى مستنقع. لا تزال الأسئلة التي طرحت من أواخر القرن التاسع عشر، تُطرح اليوم، وتبقى بلا إجابات ولا حلول. كذلك أتمنّى لقاء المفكر اليوناني – الفرنسي نيكوس بولانتزاس، الذي انتحر وهو في ذروة عطائه وتألّقه الفكري، إذ أعتبره بقامة غرامشي فكرياً، لكنه لم يصل إلى صلابته وقوّة إرادته. ظُلم بولانتزاس في ثقافة اليسار الجديد العربية، تُرجمت معظم كتبه عن لغات وسيطة، ولم تُحَطْ بشروحٍ عنه وعن جهازه المفاهيمي. سأسأله عن الظروف والدوافع التي أدّت إلى خياره، ولماذا لم يستطع تجاوزها بخيارات أُخرى، وكيف أقدَم مفكّرٌ يعتمد المادية العِلمية منهجاً على الانتحار.
■ صديق يخطر على بالك، أو كتاب تعود إليه دائماً؟
يخطر ببالي العديد من الأصدقاء، الذين توزّعوا في بلدان الأرض بعد هزيمة الانتفاضة الشعبية في سوريّة، والأصدقاء الذين افتقدتُهم ولن أراهم أبداً. هناك العديد من الكتب التي أعود لقرءاتها، منها بعض روايات الإسباني كاميلو خوسيه ثيلّا، وروايات ما بعد الواقعية السحرية التي يكتبها الروائيون الأميركيون اللاتينيون، وبعض قصائد الشاعرين محمود درويش وأمل دنقل، وبعض مؤلّفات ماركس وإنغلز، والكثير من كتب التاريخ والوثائق الشخصية والتاريخية.
■ ماذا تقرأ الآن؟
أقرأ كتاب “ما بعد الاستشراق” للمفكر الإيراني-الأميركي حميد دبّاشي، وهو أكاديمي يسيطر على موضوعه بحِرفية عالية ونزيهة، يدعمُها بأدواتٍ نقدية، وسُخرية حادّة، ومنهجيّة متماسكة. أهمّية الكتاب أنه يعتبر أن الاستشراق بات من ماضٍ يعود إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وتضمّن تيارَيْن رئيسيّين: تيار المستشرقين الموجَّهين والمموّلين من وزارات الخارجية والمخابرات، وتيار المستقلّين والباحثين عن الحقائق والمقتنعين بأهمّية وقيمة الحوار بين الشعوب والثقافات المجتمعين تحت مظلّة الأخوّة الإنسانية. لهذا خصّص قسماً من كتابه لتظهير كتابات المُستشرق الهنغاري إغناتس غولدتزيهر، التي تعرّضت للكثير من التشويه، والتقييمات العنصرية المتهوّرة، من المنظّمات الصهيونية والمؤسّسات الإسلامية، ما يدفعنا إلى التحرّر من كارثة وضع المستشرقين جميعاً بموقع واحد… علينا ألّا ننسى فضل المستشرقين بالكشف عن الكثير من الإنتاج الثقافي لشعوبنا: عرفنا من طريقهم “ملحمة جلجامش” و”رباعيات الخيام” ومدوّنات التصوّف الإسلامي، والكثير من تاريخ الحضارات القديمة، والمدن المهملة والمنسية. حينما يتجاوز البحث الاستشراقي حدود النقد المعرفي، إلى نقد الأجناس والشعوب والعادات، يكون قد وضع قدمه على عتبة ستفضي به إلى العنصرية والكراهية، وبالتالي العداء بين الشعوب، وصولاً إلى العداء بين الجماعات المحلّية.
الموضوع الثاني هو عن وجوب تحفّز التابع لتمثيل نفسه، عبر الكِتابة عن مجتمعه والمعضلات التي تواجهه وتعيق تطوّره، كأنما يقول: “اكتب عن نفسك وعبّر عنها، إنْ كنت غير راضٍ عن كتابة الآخرين عنها”؛ عليك تقديم صورتك في السينما بمواجهة الصورة التي تقدّمها عنك السينما الأميركية؛ يحتاج تحرير لسان التابع وقلمه للديموقراطية، وحرية البحث والحق بطرح الأسئلة.
يعزز دباشي فكرة حتمية الحوار في عالم اليوم، رغم عدم تكافؤ الشروط التي تحكم المتحاورين، ويثبت حضوره وأهميته، حيث يتقدّم كلّ يوم أبناء المستعمرات ليشاركوا فيه. يقدّمون آراءهم ويحدّدون مواقفهم من المُشكلات التي تعاني منها شعوبهم. عالم تصنعه كتابات نعوم تشومسكي وجوزيف مسعد وسمير أمين وآخرين في الفكر، وأرونداتي روي وأورهان باموق ووزادي سميث في الرواية، وجوزيبه تورناتوره وسيرجي باراجانوف وألفونسو كوارون في السينما، ومئات التجارب في الموسيقى والمسرح والأبحاث الاجتماعية.
■ ماذا تسمع الآن وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
أعتبر عالم الأخوين رحباني وزياد والسيّدة فيروز بيتي الأول. أترحّل مع موسيقى الشعوب، التي لم تحظَ بمكانة تستحقّها؛ أستمع إلى الموسيقى الأفريقية والأميركية الجنوبية، وأغاني وموسيقى الشعوب الكردية والتركية والفارسية والأرمنية. أقترح الاستماع إلى غناء البرازيلي غرتيانو فيلوسو، والمغنّية الأنغولية سيزاريا إيفورا، والمغنّي الكردي أحمد كايا، والموسيقي المصري راجح داود. أعود بعدها إلى بيتي الموسيقي الأول، أتمنّى لكم قضاء وقت رائق مع أغنية “يا ضيعانو” بصوت فيروز وموسيقى زياد.
بطاقة
كاتب سوري من مواليد حلب عام 1962، درس التجارة والاقتصاد والأدب الفرنسي، إلّا أنّ اعتقاله الطويل من قبل السلطات، ولمدّة زادت عن خمسة عشر عاماً، بتهمة الانتماء لـ”حزب العمل الشيوعي”، حال دون تخرّجه. نشر أول عمل قصصي له بعنوان “اليوم… كلّ يوم” (2015). كما ساهم في كتاب “مآسي حلب: الثورة المغدورة ورسائل المُحاصَرين (2016)، له في الرواية: “روائح عنبرية” (2018)، و”أطباق المشمش” (2022).
العربي الجديد