الصراع بين أرنست همنغواي ووليام فوكنر.. أكاذيب وحقائق وتناقضات/ زيد خلدون جميل
كان الأمريكيان أرنست همنغواي ووليام فوكنر أشهر أدباء اللغة الإنكليزية في منتصف القرن العشرين، وكانت المنافسة بينهما قاسية. لكن هذه المنافسة اتخذت اتجاها جديدا عندما قامت جامعة مسيسيبي بدعوة فوكنر لمناقشة الكتابة الأدبية مع مجموعة من الطلاب في الجامعة في نيسان/إبريل عام 1947. وحدث أثناء النقاش أن أحد الطلبة أبدى رغبته في معرفة أفضل خمسة أدباء حسب جودتهم في رأي فوكنر. ولم يتردد الكاتب في طرح رأيه كمرجع كبير في هذا الشأن، وقال «الأول توماس وولف، فقد أمتلك شجاعة كبيرة وكتب وكأن حياته ستنتهي قريبا. وثانيا وليام فوكنر، وثالثا دوس باسوس، ورابعا أرنست همنغواي الذي لم يمتلك الشجاعة ولم يحاول أن يذكر شيئا يخالف رأي أغلب الناس، ولم يعرف عنه كتابة كلمة تجعل القارئ يراجع القاموس للتأكد من أن استعمالها كان صحيحا. وخامسا جون شتاينبيك الذي تأملت الكثير منه في الماضي. وأما الآن، فلا أعرف».
كان فوكنر في الحقيقة يضع نفسه في قمة الأدب الأمريكي، لأن توماس وولف، توفي قبل ذلك بتسع سنوات، وكان غير واضح إن كان غرور الكاتب الشهير أنساه حذره، أو أنه قال ذلك عن قصد. وفي جميع الأحوال سرعان ما انتقل نص ما قاله إلى صفحات إحدى أشهر الصحف الأمريكية. وسرعان ما سمع همنغواي تصريح فوكنر فقال «فوكنر مسكين. هل يظن أن مشاعر عظيمة تأتي من كلمات عظيمة؟ إنه يظن أنني لا أعرف الكلمات المهمة. إنني أعرفها، لكن هنالك كلمات أقدم وأبسط وأفضل، وهي التي أستخدمها» ولمح ساخرا إلى أن فوكنر كان سكيرا، مع العلم أن همنغواي لم يكن أقل منه سكراً.
بعد ظهور تصريح فوكنر في الصحف الأمريكية تبادل الاثنان الرسائل، حيث كتب فوكنر، أن ما قاله كان عبارة عن ملاحظات لا تستحق الذكر في حديث عابر وأنه لم يشك في شجاعة همنغواي كرجل، بل كفنان، وأنه غير سعيد لنشرها، وأنه أسيء فهمه. وقام همنغواي بدوره بالاعتذار عما قاله في رده واقترح ان يستمر الاثنان في الكتابة بينهما. لكن فوكنر في الواقع، لم يسحب كلامه أو يعتذر، ولذلك استمر في القول إنه الكاتب الأبرز في عهده.
وبطبيعة الحال أن الاثنين لم يتراسلا، بل ازدادت حدة المنافسة بينهما، على الرغم من اعتراف كل منهما بموهبة الآخر بشكل لطيف في مقابلاتهما الصحافية. لكن همنغواي كان الأكثر تهجما في مراسلاته مع أصدقائه على غريمه متهما إياه باللجوء إلى حيل في الكتابة وإعطاء رواياته قيمة إضافية عن طريق كتابة جمل طويلة، وإنه، أي همنغواي، يجب أن يدربه على الكتابة الصحيحة. وقد يكون ما زاد حقد همنغواي، أن غريمه كان الكاتب الأكثر ثقافة واعتمد في رواياته على دراسة دقيقة لمواضيعه، على عكس همنغواي الذي لم تكن الثقافة من سماته. وأما فوكنر الذي كان أكثر هدوءا وأدبا، فقد طلبت منه دار نشره أن يكتب همنغواي مقدمة لإحدى رواياته، إلا أنه رفض بسبب المنافسة بينهما، لكنه رضخ للضغوط التي تعرض إليها، فكتب مقالا عن رواية همنغواي الشهيرة «الشيخ والبحر» بشكل لطيف نوعا ما، على الرغم من أن البعض وجدوه متعاليا.
جائزة نوبل للآداب
وكان فوكنر سباقا في نيل جائزة نوبل للآداب عام 1949، وسرعان ما عادله همنغواي في هذا، إذ حصل على هذه الجائزة عام 1955. أما جائزة «بوليتزر» فإذا كان همنغواي الأول حيث نالها عام 1952، فقد حصل عليها فوكنر مرتين عام 1954 و1963، أي سنة بعد وفاته، كما فاز بجائزة الكتاب الوطنية في الولايات المتحدة الأمريكية مرتين (1951 و1955).
كان همنغواي ظاهرة أدبية فريدة من نوعها منذ نشر أولى رواياته «الشمس تشرق أيضا» The Sun Also Rises عام 1926، على عكس فوكنر الذي لم تشتهر روايته الأولى «أجر جندي» التي صدرت في العام نفسه. لكن فوكنر برز تدريجيا حتى وصل إلى مرتبة همنغواي، بل ربما تفوق عليه حيث عرف بتركيزه على الكتابة بعمق عن الحياة في الجنوب الأمريكي وأسلوبه الأدبي المنمق واستعماله جملا طويلة، حتى أنه يحمل الرقم القياسي العالمي لأطول جملة في عمل أدبي، ويستطيع القارئ العثور عليها في الفصل السادس من روايته الشهيرة «أبسالم! أبسالم!» Absalom! Absalom! («أبسالم» أسم شخصية في التوراة). أما همنغواي، فعرف باستعماله للجمل القصيرة والبسيطة ووصفه السهل للمواقف والمشاعر الإنسانية بشكل يكاد يكون سطحيا، وكذلك تركيزه على بطل غير عادي يعاني من مصاعب، وأحيانا جروح، وسط أحداث قاسية تقع في بلدان أجنبية مثيرة للاهتمام، ومواقف رومانسية غريبة، ما جعل رواياته تبدو وكأنها نوع من القصص الخيالية المشوقة. ولهذا السبب كان اتهام فوكنر ورد همنغواي صحيحا. لكن الكاتبين الكبيرين اشتركا في عدة أشياء إضافة إلى تربعهما عرش الأدب الأمريكي، حيث كذب الاثنان حول دورهما في الحرب العالمية الأولى، فبالنسبة لهمنغواي أدعى أنه قاتل مع وحدة جنود النخبة الأيطالية، بينما في الحقيقة لم يكن سوى سائق سيارة إسعاف، ولم يشهد أي قتال سوى انفجار قنبلة مدفع نمساوية بالقرب منه سببت إصابات غير طفيفة في ساقيه.
أما فوكنر، فقد عاد إلى بلاده مرتديا ملابس ضابط ومتكأً على عكازين وكأنه مصاب. وادعى أنه كان طيارا في القوة الجوية البريطانية، بينما في الواقع لم يكن سوى جندي بسيط في الجيش الكندي، دون أن يشترك في القتال نظرا لانتهاء الحرب قبل أنهائه التدريب، ولذلك لم يكن مصابا أصلا. واشترك الاثنان كذلك في كونهما نرجسيين، حيث ظن كل منهما أنه امبراطور الأدب العالمي، لكن حساسية همنغواي في هذا المجال كانت كبيرة إلى درجة المرض، حيث كان دائم الانتقاد لكل المشاهير في عالم الأدب بشكل لاذع وحقود، حتى قبل أن يشتهر هو نفسه والأمثلة كثيرة، إذ انتقد رواية الكاتب الأمريكي جيمس جونز «من هنا إلى الأبدية» From Here to Eternity (1951) نقدا لاذعا حتى أنه أقترح أن يقوم المؤلف بالانتحار، على الرغم من نيلها نجاحا تجاريا كبيرا واستحسان النقاد وجائزة أدبية شهيرة، وتحولت إلى فيلم سينمائي شهير ومسلسلين تلفزيونيين. ودخل همنغواي في خلاف مع الروائية الأمريكية ويلا كاثر Willa Cather عندما نشرت روايتها الشهيرة «واحد منا» One of Ours عام 1922 التي كانت عن الحرب العالمية الأولى، حيث قال إن امرأة لا تفقه شيئا عن الحرب، واتهمها بأخذ التفاصيل من الأفلام السينمائية. ولحسن الحظ أن رأي همنغواي لم يلحق الضرر بسمعة الرواية، حيث نالت جائزة «بوليتزر» الشهيرة علم 1923.
القواسم المشتركة
كانت هناك قواسم مشتركة أخرى بين همنغواي وفوكنر، فالاثنان كانا في قلق دائم حول أحوالهما المالية، لاسيما فوكنر، بينما كان هذا مفاجئا بالنسبة لهمنغواي، الذي نالت الأفلام السينمائية المقتبسة من رواياته نجاحا كبيرا، وكان ينشر مقالاته وقصصه القصيرة في المجلات الشهيرة مقابل مبالغ مالية غير صغيرة. وانحدر الاثنان من خلفية اجتماعية مرموقة، لكن علاقة همنغواي بوالديه كانت مضطربة وأضرت بحالته النفسية بشكل بالغ، حيث انتحر والده وكره والدته، وقضى حياته محاولا إظهار شجاعته وشراسته وعدم حاجته إلى أحد، ولذلك كان يتفاخر بمغامراته وقصص مشاجراته، التي كان أغلبها خياليا، ورحلات الصيد، وكان مهووسا بالظهور في الصور مع الحيوانات الميتة التي لم يكن صيدها بالأسلحة النارية عملا شجاعا. وكان نتيجة رحلاته، وأحيانا سكره، تعرضه إلى عدة حوادث سيارات خطيرة كما تعرض إلى سقوط الطائرة التي كان على متنها مرتين، ما أدى إلى إصابته بارتجاج في المخ عدة مرات، وتمزق في الطحال والكبد.
ويتفق المؤرخون على أنه كان يعاني من حالة خطيرة من مرض الكآبة والارتياب والإدمان على الكحول والاعتقاد بأن الأجهزة الأمنية الأمريكية تراقبه. وقد ساءت حالته في سنواته الأخيرة، فاضطرت زوجته إلى دفعه لمراجعة طبيب نفسي، ثم مكث في عدة مستشفيات شهيرة للمرضى النفسيين تعرض خلالها إلى علاج بالأدوية والصدمات الكهربائية جعلته يفقد ذاكرته لفترة، وأصبح غير قادر على الكتابة حيث كانت كتابة سطر واحد تحتاج منه عدة ساعات. وعلى الرغم من إصابته البليغة في الكبد، فقد سمحت له المستشفى بتناول المشروبات الكحولية. وبعد خروجه من المستشفى بيومين انتحر بالبندقية يوم الثاني من تموز/ يوليو 1962 قبل أن يكمل عامه الثاني والستين بتسعة عشر يوما. ولم يكن ذلك مفاجئا، حيث كان قد تكلم عدة مرات عن احتمال انتحاره منذ انتحار والده، وأبلغ أيضا الممثلة أيفا غاردنر بذلك. ومع ذلك، قد يكون قراره النهائي بالانتحار نتيجة عجزه عن الكتابة، إذ فقد بذلك ما كان يميزه في المجتمع الأدبي، وأصبح شخصا عديم الأهمية، لاسيما أن شهرته كانت قد تهاوت في تلك الفترة. ومن المثير للاهتمام أن سبعة من أقربائه أنهوا حياتهم بالانتحار، ومنهم والده وشقيقه وشقيقته وحفيدته الممثلة مارغو همنغواي.
الكتابة والنجومية
ليس ممتهنو الكتابة في الواقع بالرقة التي يتميزون بها في الأفلام السينمائية، فكل منهم يريد أن يكون الأبرز والأشهر. وتستغرق عملية الكتابة ساعات طويلة من العمل الفردي الذي يعزل الكاتب عن المجتمع، ويجعله يشعر بوحدة بائسة. ويمتاز هؤلاء بنرجسية تتفاوت في شدتها وبحسد غريب، فكل منهم يكره من يحصل على جائزة أدبية (الجوائز الأدبية كثيرة وكبيرة في العالم الغربي) أو من يكون إنتاجه الأدبي غزيرا. وقد يصف الكاتب بقية الكتاب بمختلف الصفات السيئة، لكنه يتجنب نقد الآخرين في وسائل الإعلام لعدة أسباب، فأي تهجم على كاتب من قبل كاتب آخر سيؤدي إلى رد وتبادل للاتهامات، ما يعرض سمعة كل منهما إلى الضرر وسخرية الجمهور منهما.
وبسبب ضيق مجتمع الكتاب، لاسيما الروائيين، فإن احتمال لقاء الكاتب بكاتب آخر على خلاف معه كبير في مناسبة اجتماعية أو أدبية كبيرة. ويزداد هذا الاحتمال إذا كان هؤلاء الكتاب يسكنون في إحدى المدن الشهيرة بالنشاط الأدبي، لاسيما مدينة نيويورك، ولقاء من هذا النوع قد يؤدي إلى موقف صعب. ومن الممكن أن يكون الكاتب الذي يتعرض للهجوم عضوا في لجنة تحكيم لجائزة أو لجنة دار نشر، مما قد يحرم الكاتب الذي بدأ الهجوم إلى فقدان فرصة الحصول على جائزة أو نشر رواية. لكن الاستثناء موجود دائما، فقد تفوقت الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف على همنغواي نفسه، إذ كانت تكتب نقد أدبيا أسبوعيا في كبرى الصحف البريطانية غير آبهة بمن قد يغضب بسبب نقدها القاسي. وهناك أمثلة استثنائية مضحكة، إذ كان الكاتب جيمس جويس ينتقد الكاتبة جرترود ستاين بسبب غزارة إنتاجها. أما الكاتب الأمريكي ترومان كابوت، الذي طالما عبر عن إعجابه بصديقته الكاتبة لي هاربر، فقد انقلب إعجابه إلى نقد علني عندما حصلت على جائزة «بوليتزر» وخسرها هو. ومن الجدير بالذكر أن همنغواي نفسه قال ذات مرة «نحن جميعا متدربون في حرفة لا يصبح فيها أحد بارعا».
من الذي فاز بعرش الأدب الأمريكي في نهاية المطاف؟ على الرغم من أن «فوكنر كان الأشهر قليلا من غريمه في أواسط القرن العشرين، فإنه تضاءل كثيرا بعد وفاته، على عكس همنغواي الذي ما يزال اسما لامعا في عالم الأدب العالمي بشكل عام والأمريكي بشكل خاص، ومن الواضح أن أعماله ترضي جوانب من الثقافة الأمريكية والشخصية الأمريكية الحاليتين حتى الآن.
باحث ومؤرخ من العراق
القدس العربي