انظُرْ وراءك… بهدوء!: الكاتب النبيل هو من يزج قارئه في روح العصر/ لطفية الدليمي
أرادَنا (جون أوزبورن)، الكاتبُ المسرحي البريطاني وأحد أقطاب جيل الغضب، أن ننظر وراءنا بغضب في منتصف خمسينات القرن الماضي، حيث العالم يفورُ بتبعات الحرب العالمية الثانية على أصعدة السياسة والاقتصاد والثقافة.
من جانبي، أرى أنّ جيل الغضب صار تذكرة بواقعة في التاريخ ذهبَتْ إلى قعر النسيان كمثل ملايين سواها من الوقائع العالمية؛ لكن لا بأس من استذكارها لسببيْن: الأول، هَلْ من المُجدي أن ننظر وراءنا، أو بمعنى آخر: أن نستذكر التاريخ الشخصي القريب والبعيد على الصعيد الفردي؟ والثاني، هل هي ضرورة لازمة أن نستذكر تاريخنا الشخصي بغضب؟
الناس في العادة مأخوذون بالمستقبل ومسكونون بممكناته الكثيرة. لماذا؟ لأنه قرينُ الإمكانات المضمرة التي يمكن أن تتحقق، ولأنه ينطوي على شيء من التفاؤل – لو أردنا – حتى لو كان هذا التفاؤل من باب التمرين النفسي فحسب؛ أما التاريخ فقد مضى وصار كتلة من وقائع لها مسار واحد لا نحيد عنه ولا يمكن أن نجد له بديلاً ممكناً باستثناء القراءات التأويلية الشخصية له. التاريخ مقترن اقتراناً شرطياً بالواحدية والحتمية وإن كان من الممكن تأويل وقائعه لصالحنا؛ أما المستقبل فمنفتحٌ على تعددية المسارات وكثرة الممكنات واحتمالية النتائج. أظنّ أنّ هذا السبب هو ما جعل بعضاً من الكُتّاب – أمثال هـ. جي. ويلز – يجعلون من آلة الزمن رمزاً ثورياً للمستقبل وما يحمله العلم من ممكنات في تطوير الحياة واستشراف آفاق لها غير تلك التي قُدّرَتْ على العقل غير العلمي. هل سمعتم يوماً بآلة زمنٍ تغوصُ في قعر التاريخ؟ ولماذا تفعل والتاريخ أمامنا كتابٌ مفتوح مقروءة كلّ صفحاته بدقة؟ ربما قد نفعل ذلك لو شئنا خلق عوالم موازية يمكن فيها متابعة مسارات جديدة لحياتنا غير التي حصلت فعلاً؛ لكنّ هذا الأمر يقعُ في باب التخييل السردي فحسب.
لكنْ من الممكن أن تكون مراجعة الماضي لكلّ من الفرد والمجتمع فعالية حيوية متى ما كانت لمقارنة واقع الحال ووضعه في نطاق المساءلة النقدية: هل تطوّرْنا أم تراجعْنا؟ وما مقدار هذا التطوّر أم التراجع؟ من الطبيعي إذا أردنا قياس مناسيب التطور أو التراجع أن نتخذ مفصلاً زمنياً أداة قياس مرجعية مع الماضي، وليس أفضل من الحاضر مرجعية للمقارنة مع الماضي. أهمُّ ما في الأمر أن تحصل المقارنة بهدوء، من غير غضب، ومن غير انفعالات لحظية يستوجبها ظرف آني ما، وأن نحافظ على حياديتنا الصارمة. لسْنا في معرض مباراة في سوق عكاظ شعري أو برنامج استعراضي للبهرجة الكلامية Talk Show، وليس من المجدي أن يخدع المرء ذاته.
لو أردتُ الحديث عن نفسي لكشف خطّ تطوّري الشخصي فسأقول: أراني اليوم، وبالمقارنة ما كنتُ عليه قبل ثلاثين سنة، كائناً مغترباً عمّا كنتُهُ. الاغترابُ هذا ليس اغتراباً استلابياً سيء المفاعيل والنواتج طبقاً للفلسفة الماركسية؛ بل أحسبه اغتراباً صحياً كشف لي فقر واقعنا الثقافي والعلمي وهشاشة مؤسساتنا الثقافية في العراق. أدركتُ اليوم كم كانت ضحلة تلك المياهُ التي كنا نخوضُ فيها ونحسبها محيطات عميقة. كانت وسائلنا المعرفية وأدواتنا المفاهيمية بسيطة قاصرة، وأقسى ما في الأمر أن يعيش المرء هذه الهشاشة، وهو يحسبُ أنه محمي داخل خزانة مصفحة. كنّا نكتفي بعُدّتنا (وهي عدّة أدبية بالمعنى التقليدي للأدب)، ولم تكن المباحث المعرفية الأخرى ذات شأن لنا. كنا ننظرها من بعيد ونتجاهلها؛ فما لنا والعلم والتقنية والاقتصاد والسياسة؟ ربما كانت لنا بعضُ الشغف والمعرفة في هذه الميادين؛ لكنّ الخصيصة المميزة لهذه المعرفة هي تبعثرها وعدمُ انتظامها في سياق نسقي منتج.
سأسجّلُ لكم مثالاً يبيّن حجم القصور في نظرتنا حينذاك. ما وسيلة الأدب في نهاية المطاف؟ وسيلتُهُ اللغة لأنها وسيطنا التواصلي مع البشر. ما اللغة؟ هي تراكيب رمزية ذات محمول دلالي Semantic وتقعيد نحوي Syntactic ومنشأ بيولوجي عصبي (دماغي) Cerebral. هل تحسبون بعد هذا أنّ موضوع نشوء اللغة وتطورها هو مما لا شأن للمهتمين بالأدب به؟ اللغة موضوع تشتبك فيه البيولوجيا العصبية وعلم النفس الإدراكي والمباحث الفلسفية، وليس من المقبول أن يتعامل المرء بوسيط يجهل تاريخ نشوئه وتطوّره. سيعترضُ معترضون: هل علينا إذا أردنا أن نكون مبدعين أن نتابع أمر اللغة؟ الجواب: نعم، ينبغي هذا لسببين على الأقل، الأول يختصُّ بحقيقة أنّ تعاظم مناسيب المعرفة بوسيطنا الإبداعي (اللغة) سيعمل بوسائل شعورية ولا شعورية في الارتقاء بعملنا الإبداعي، والثاني يختصُّ بحقيقة أنّ استكشافنا للحفريات العلمية في اللغة سيقودُ إلى انفتاح مجالات كتابية إبداعية ليس بوسع الكُتّاب (التقليديين) تصوّرها. هذا مثال واحد فحسب يخصّ اللغة؛ فكيف الحال بمئات وآلاف الموضوعات البحثية الأخرى؟
عندما أرى كتاباتي وأعمالي قبل عشرين أو ثلاثين سنة أشعرُ أحياناً بالضيق وأتساءل: لماذا لم أكتب المسألة الفلانية بشكل آخر وبطريقة أخرى؟ حتى التقنيات الإبداعية والمقاربات السردية تتبدّلُ على ضوء التراكم المعرفي المستجد، وهذه حالة طبيعية لكلّ شخص يستزيد خبراتٍ مع الزمن؛ لكن هذه الاستزادة لن تأتينا بطريقة ميكانيكية، يجب أن نفتح حواسنا وعقولنا وأن نعمل على تغيير طريقة تفكيرنا، ولن يحصل هذا الأمر إلا بمثابرة ومشقة تقودها بصيرة شغوفة.
أطالعُ، وعلى نحو يومي، الكثير من المقالات الصحافية والموضوعات المختلفة في شتى الميادين وبخاصة العلمية والأدبية والفلسفية منها، ويحصلُ كثيراً أن أتحسس منذ السطور الأولى أنّ الكاتب يكتب بطريقة صرتُ أسميها طريقة «صندوقية»، وهي توصيف يرادُ منه الإشارة إلى مَنْ يكتبُ على طريقة ستينات وسبعينات القرن الماضي: تقسيم المعرفة البشرية إلى قلاع حصينة معزولة ومسوّرة بأسوار حجرية شاهقة، كلّ قلعة لا علاقة لها بسواها، والمدافعون عن كل قلعة مسكونون بحمى الدفاع عن أسوار قلعتهم الحصينة في مواجهة القلاع الأخرى.
لنجرّبْ جميعاً هذه التجربة المفيدة وبخاصة لمن يحترفون الكتابة الإبداعية وكتابة المقالات الصحافية والموضوعات الفكرية العامة: لنقرأ شيئاً من الفيزياء والاقتصاد وعلم الاجتماع والفلسفة – وكلّ ما يمكننا قراءته وتأنس عقولنا له – في سياق تفاعلي نسقي يجعل من المعرفة الإنسانية وحدة كلية مستديمة التفاعل والتأثير في حياة البشر. الجميلُ في الأمر هو وجود الكثير من المؤلفات التي تحقق مطلب الوحدة النسقية في هذه الميادين المعرفية، وهذه المؤلفات تخاطب القارئ العام، شرط أن يكون شغوفاً وراغباً في الاستزادة المعرفية. سيكون أمراً مفيداً للغاية أن تكون قراءتنا في سياق تاريخي وفلسفي بدلاً من قراءة المصنّفات التقنية المجرّدة حتى لا ترتدّ نواتج القراءة عزوفاً مِنّا في مرحلة لاحقة، وسنرى أي نتائج ساحرة ستكون لهذه الفعالية على أدائنا الإبداعي.
نحتاجُ جميعاً من وقت لآخر إلى النظر وراءنا، إلى تاريخنا الفكري الشخصي بهدوء، لكي نعرف ملامح التطوّر المعرفي في أدائنا. يبدو أمراً عظيم الأهمية أن نتساءل دوماً: هل نكتب بذات الطريقة والمقاربة الفكرية التي كنا نفعلها من قبل؟ ألا توجد ملامح للجدة في كتابتنا؟ هل أنّ ما نكتبه يصلحُ لأن يمدّ جسوراً مع الثقافة العالمية أم أنه جزيرة معزولة نكتفي بإعادة تدوير أفكارنا فيها؟
كلنا في حاجة لا بديل عنها لنكون شجعاناً ونمتحن تاريخنا الفكري، وبغير هذا سنكونُ كَمَنْ يبدّدُ وقته المحدود والثمين، والأقسى من هذا هو تبديد أوقات القرّاء الذين نخاطبهم. القارئ هو – دوماً – العنصر الأكثر أهمية بين العناصر التي يحسب كلّ كاتب حسابها ويضعها في مركز اهتماماته، وهو (القارئ) مسؤولية كبرى على الأصعدة الرمزية والاعتبارية، وليس بكاتبٍ حقيقي من يتملّصُ من هذه المسؤولية أو يخفف من أعبائها أو يجعل قارئه عاجزاً مركوناً خارج نطاق الحراك الفكري الذي يقودُ العصر.
تحدّث الشاعر الألماني الكبير (غوته) عن مفهوم أسماه روح العصر Zeitgeist هو في بعض توصيفاته إشارة إلى المعرفة الإنسانية النسقية الشاملة المؤثرة في تشكيل الصورة الفكرية لعصرٍ بعينه. كلّ كاتب نبيل سيعرف – ولو بعد حين – أنّ واجبه الأخلاقي الأوّل يتجوهر في محاولة تحفيز قارئه لينغمس في قلب روح العصر بدل الاسترخاء في هوامش الحياة القصية أو صناديق مقفلة للمعرفة.
الشرق الأوسط