بماذا يؤمن من لا يؤمن؟/ عبدالله أمين الحلاق
ما هي النتيجة المتوخاة من حوار أو سجال فكري بين مفكّر علماني، لا بل وملحد، وبين رجل دين؟
يصعب إعطاء جواب قاطع ونهائي على هذا السؤال، وخصوصاً في العالم العربي الذي لم يعرف هكذا مناظرات إلا لماماً، ولم يَنتج عنها، في حال وقعت وجرَت فعلاً، ما يبهج القلب، إذا وضعنا جانباً تلك الكليشيهات التي تبسّط الاختلاف الجذري والعميق بين الملحدين والمؤمنين، ووضعنا معها، جانباً أيضاً، عبارة “الرأي والرأي الآخر” في حالات الضجيج والصراخ التي لا تُنتج أي معرفة ولا يُبنى عليها لحوارات وجدالات لاحقة ومثمرة.
السجال الذي يعرضه هذا المقال يقع في الغرب، وفي إيطاليا تحديداً، والمتساجلان هما أمبرتو إيكو وكارلو ماريا مارتيني. الأول فيلسوف وناقد أدبي وأكاديمي إيطالي مختص بتاريخ القرون الوسطى، والثاني هو كاردينال يسوعي، إيطالي بدوره، وهو أحد كبار وجوه الكنيسة الكاثوليكية ومن أبرز رموز جناحها “التقدمي الليبرالي”. أما ملعب هذه المناظرة المهمة والرفيعة فهو جريدة “Liberal” الإيطالية، في أواسط تسعينيات القرن الماضي، والتي نشرت جدالهما ومراسلاتهما على صفحاتها، وصدرت تلك الرسائل مترجمة إلى العربية في كتاب حمل عنوان “بماذا يؤمن من لا يؤمن؟”.
التقاء ما لا يلتقي
يفترض العنوان أن الملحد هو شخص منزوع الإيمان، يفتقد إلى طمأنينة نفسية يحظى بها رجل الدين أو حتى المؤمن العادي، وهذا صحيح طبعاً إذا كان الإيمان منسوباً إلى الدين فقط، من دون الأخذ بعين الاعتبار الحياة وتجاربها وما يراكمه المرء فيها من قراءات وكتابات واطلاع على ثقافات وأفكار ليس الدين إلا واحداً منها. ويطرح الكتاب إشكالية المفاضلة بين حدّين لا يحتملان المفاضلة ولا جَسْر الهوّة بينهما بسهولة: الدين واللا دين، وهي إشكالية ستستمر ولن تستقر وتركن إلى إجابات قطعية بطبيعة الحال.
يطرح مارتيني على إيكو سؤالاً يتعلق بالمصدر الأسمى للأخلاقيات والذي يستند إليه الشخص العلماني: على أي شيء يؤسس الشخص العلماني يقينه؟ وما الذي يصوغ تصرفاته الأخلاقية علماً بأنه لا يرغب اللجوء إلى مبادئ ميتافيزيقية أو لقيم عُلوية؟ ما هي الأسباب التي تتأسس عليها تصرفات من يسعى إلى التأكيد على مبادئ أخلاقية، والمناداة بها على نحو يتطلب أيضاً التضحية بالحياة، ولكنه لا يعترف، في الوقت ذاته، بإله شخصي له؟
لا يتأخر جواب إيكو ليمنح أخلاقيات غير المؤمن مشروعية وحججاً متماسكة ومنطقية بالقول إن الأخلاقيات العلمانية هي في حقيقة الأمر أخلاقيات طبيعية، فنحن يمكن أن نفكر في عدم وجود دافع للفضيلة، لكن من لا يؤمن يعرف أن لا أحد ينظر إليه من أعلى، وبالتالي يعرف أيضاً أنه لا يوجد من يمكنه أن يغفر له. وعندما يدرك أنه ارتكب شراً ما، تكون وحدته لا نهائية وموته بلا رجاء. لذلك سيحاول أكثر من المؤمن أن يطهّر نفسه من خلال الاعتراف العلني، وسيطلب الصفح من الآخرين، وبالتالي يجب عليه مسبقاً أن يغفر للآخرين. فيما عدا ذلك كيف يمكن تفسير الندم كشعور يظهره غير المؤمنين أيضاً؟
وأثناء نقاشهما هذه المسألة الحساسة فعلاً، يعود إيكو ليثير نقطة كانت وكما تزال عالقة في جلّ النقاشات والجدل الذي يندرج فيه دينيون ولادينيون، بأن يحضَّ كارلو ماريا مارتيني على أن يقبل لوهلة واحدة بإمكانية عدم وجود الله، وأن الإنسان ربما ظهر على سطح الأرض بفعل خطأ قدري وتُرك ليواجه مصيره الفاني… وهذا الإنسان لكي يعثر على الشجاعة في مواجهة الموت، سيصبح بالضرورة متديناً، وسيتطلّع ليؤلف حكايات قادرة أن تمنحه تفسيراً ونموذجاً وصورة مثالية.
ولعل أكثر ما يلفت الانتباه أن رسائل مارتيني لإيكو والأفكار التي يناقشها مع هذا الأخير لا تصدر عن رجل دين محافظ أو متزمت، بل عن عقل منفتح و”ليبرالي” فعلاً، أقلّه قياساً بأجنحة محافظة ورجعية داخل الفاتيكان وخارجه، وأيضاً تبعاً للهدوء والرصانة والانفتاح على الآخر لديه رغم صدوره عن مرجعية دينية. فهو، أي كارلو ماريا مارتيني، وعندما يصطدم بالقضية الأبوكاليبتية: نهاية العالم والمسنودة إلى نصوص في الكتاب المقدّس، يذهب إلى تأويلات بعيدة عن التفسير الحرفي غير المقنع لتلك النصوص، ويبحث في معانيها ودلالاتها الرمزية ليلاقي مساجلَه، أمبرتو إيكو، في منتصف الطريق، حول التقاطع الواقع فعلاً بين الوعي العلماني والوعي الديني لتلك النهاية.
لقد كانت فكرة نهاية الأزمنة هاجساً عاماً في السنوات الأخيرة من الألفية الأولى بحسب إيكو. وقد سجّل المؤرخون “أهوال العام ألف” بوصفها أسطورة سيئة السمعة، تُجسّد حشود الناس وهي تئن في انتظار فجر لن يشرق أبداً. وظهرت في الألفية الثانية عقائد متنوعة حول “فكرة الألف سنة”، وهذه العقائد لم تتشكل فقط في رحم الحركات الدينية، لكنها تشكلت أيضاً داخل حركات علمانية، بل إلحادية، لم يكن هدفها بلوغ ملكوت الله، وإنما تحقيق ملكوت جديد على الأرض وذلك من خلال التعجيل بنهاية الزمن.
فالرعب في حالة نهاية العالم هنا ليس مصدره الأبواق السبعة في سفر الرؤيا، ولا البرَد، ولا البحر الذي يتحول إلى دماء، ولا يرتبط بسقوط النجوم أو الجياد التي تخرج مع الدخان من بئر الهاوية، أو جيوش ياجوج ومأجوج أو الوحش الخارج من البحر، ولكنه يتعلق بتضاعف النفايات النووية والأمطار الحمضية وغابات الأمازون التي تتلاشى، وثقب الأوزون، وهجرة الحشود المهمشة التي تصعد لتدق أبواب الرخاء بعنف أحياناً، هذا فضلاً عن جوع قارات بأكملها وتفشي أوبئة جديدة لا علاج لها. كما يتجسّد في تدمير الكوكب بشكل أناني، والتغير المناخي، وذوبان الكتل الجليدية… ويؤدي هذا كله – وفقاً للمبادئ المثالية للحركات البيئية المتشددة- إلى حتمية انتحار الإنسانية لتنقذ الأنواع البيئية التي كادت تقضي عليها بالفعل، والأرض الأم التي أفسدتها ودمرتها.
هنا وهناك… مجدداً
لكن، هل يوجد تصور ما عن الرجاء يمكن أن يتشاركه المؤمنون وغير المؤمنين؟
يطرح الاثنان ضرورة قبول العلماني بالمتدين والثاني بالأول، فـ “إذا كان الملحد لا يؤمن بـعمل الروح القدس بينما يؤمن به الكاثوليكي بالتأكيد، لا يمثل هذا سبباً لعدم التفاهم، بل احترام متبادل فيما يتعلق بعقائد كل منهما، وتطل اللحظة الحرجة برأسها عندما تنشأ من تلك الخلافات صدامات وسوء تفاهم أكثر عمقاً، يترجم فيما بعد على المستويين السياسي والاجتماعي”. إنها فكرة بقدر ما تبدو بسيطة أو مكررة فكرياً، وصحيحة تجريداً، بقدر ما تبدو شبه مستحيلة “ميدانياً”، خصوصاً أن الحيز الثقافي الذي تدور فيه هذه المناظرة هو الغرب، وليس العالم العربي الغارق سابقاً واليوم في صراعات طائفية ودينية تنذر بعودته إلى القرون الوسطى.
فإذا صح أن أوروبا قد مرت بحروب دينية ومحاكم تفتيش وصراعات بين الكنيسة ومعارضيها، قبل أن يتداعى العالم القديم مع الاكتشافات الحديثة (في حينه) ثم الثورة الفرنسية، فإن هذا لا يكفي لجعل الحروب والمجازر الواقعة اليوم في البلدان العربية، وخصوصاً في المشرق، تقوم بها أنظمة “حاكمة” وحركات دينية، ممراً طبيعياً ننتظر بعده انبلاج فجر الحرية والحداثة والأنوار من قلب بحار الدماء. فالرؤية الميكانيكية التي تكتفي بنسخ التجارب الأوربية، كلامياً، على مجتمعات لم تسائل نفسها وتاريخها وبُناها المتخلفة و”فواتها التاريخي”، قد تغدو تكراراً لأحاديث لاكتْها حركة التاريخ طويلاً حتى ملّت منها.
مناظرة أمبرتو إيكو وكارلو ماريا مارتيني على صفحات جريدة “ليبيرال” تُذكّر بمناظرة فرح أنطون ومحمد عبده في بدايات القرن العشرين على صفحات مجلتي “المنار” و”الجامعة”، من دون أن تشبهها كثيراً، وهي المناظرة التي أشاد بها كثيرون ممن اعتبروا عبده، عن حق، مصلحاً وشيخاً معتدلاً ومنفتحاً على الآخر. لم يعد الأمر بهذه الصورة الوردية لاحقاً، ويكفي المرور مثلاً بمناظرة محمد عمارة مع نصر حامد أبو زيد، بعد تفريق هذا الأخير عن زوجته، ومناظرة القرضاوي مع صادق جلال العظم في تسعينيات القرن الماضي، حتى يقف المثقف الناقد والمستمع للمناظرتين على فكر تكفيري يحاول الكلام المنمّق الصادر عن رجُلَي الدين إخفاءه.
أما أن “العلمانية” المتشددة التي تعادي الأديان وحق المؤمنين في الإيمان موجودة في العالم العربي، ومرفوضة من كل ذي حس سليم على ما نفترض، فهذا طبعاً صحيح، علماً أنها لا تملك القدرة على تحشيد الجموع واللعب على موروثاتها ومكنوناتها السيئة كما يفعل الدين ومشايخه، ولهذا حديث آخر يطول.
رصيف 22