عنف نائم وخفي يتسرب إلينا من المدرسة والأسرة/ حسام الدين فياض
السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما، إنها في كل مكان.
العنف ليس دائما فعلا ظاهرا ولا يشمل تأثيره اللحظة التي يقع فيها، بل هناك نمط آخر أكثر خطرا هو العنف الرمزي، الذي يمارس على البشر دون أن يعلموا ذلك، ويتسرب إليهم وإلى أفكارهم ورؤاهم حتى من خلال المدارس، وغيرها من أساليب تضمن هيمنة المسيطر وتبعية التابع.
من الطبيعي أن يكون في أي مجتمع بشري سواء كان أسرة، أو مؤسسة، أو قرية، أو مدينة، أو دولة، نظام يدير شؤون الأفراد فيه وأن فعالية هذا النظام تتوقف على قدرته في ضبط سلوكهم وفق القواعد القانونية والضوابط الأخلاقية التي يحددها العقل الجمعي للمجتمع. وهو ما اصطلح على تسميته بالسلطة أو السيادة (1).
ارتبط مفهوم السلطة ارتباطاً وثيقاً بمظاهر القهر والعنف والنفوذ والتسلط والسيطرة، وخاصةً بعد احتكار الدولة حق ممارسته في المجتمع، فالسلطة بهذا المعنى هي كل ممارسة قادرة على فعلي الإكراه والإجبار، حيث ترتكز على كونها تنصب على علاقات غير متكافئة بين من يمتلك القوة والنفوذ وبين من يمارس عليه فعل السيطرة والهيمنة، وفي هذا السياق نجد أن ماكس فيبر عالم اجتماع ألماني1864) – (1920 سعى جاهداً إلى دمج مفهوم السلطة بمفهوم آخر لا يقل أهمية عنه وهو مفهوم الشرعية (2)، الذي يعمل على شرعنة أفعال وممارسات السلطة مما يجعل القرارات الأكثر تسلطاً وهيمنة مقبولة ومعترفاً بها من جميع أفراد المجتمع (3).
ينتمي بيير بورديو ( 1930-2002 ) عالم الاجتماع الفرنسي المعاصر إلى ما يعرف بالسوسيولوجيا النقدية التي كرّس لها حياته العلمية، حيث جعل مهمته الأساسية فضح سياسة واستراتيجية المهيمنين وتفكيك خطابهم، ذلك أنه يحاول بمنهج علمي رصين إدانة استراتيجيات الهيمنة التي يضعها المهيمنون بطريقة واعية أو غير واعية. فالتحليل الذي يقترحه بورديو يأتي بعد استنفاد الفكر الماركسي لقدرته على استيعاب تطور المجتمعات الأوروبية وتعدد أساليب الهيمنة وتعقدها. فكانت السوسيولوجيا بالنسبة إليه أداة فعالة وذات مصداقية علمية في إحلال العدل، والمساواة الاجتماعية (4).
وفي سبعينيات القرن الماضي طرح بيير بورديو مفهوم العنف الرمزي (symbolic violence) من خلال دراسته وتحليله لمفهوم السلطة والهيمنة التي أضحت تتعلق بإنتاج رأسمال رمزي يمارس العنف من خلال اعتباره شكلاً من أشكال الامتياز والنفوذ من قبل المجتمع الحاكم ضد أفراده، وهذا العنف أكثر خطورة من العنف المادي الجسدي حسب بورديو. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا في هذا المقال، ما هو العنف الرمزي؟ وما هي آليات تشكله؟ وكيف يسيطر على المجتمع؟
مفهوم العنف الرمزي
لا يعتبر العنف ظاهرة جديدة وليدة اليوم أو الأمس القريب، إنما هي ظاهرة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ الإنساني حتى تصل إلى بدء الوجود الإنساني على وجه هذه البسيطة، وقصة قابيل وهابيل هي أبرز مثال على ذلك، حيث شهدت الأرض آنذاك أول جريمة قتل عرفها التاريخ الإنساني تم استخدام العنف فيها (5).
ويُعرّف العنف لغوياً بأنه كل قول أو فعل ضد الرأفة والرفق واللين، وهو فعل يجسد الطاقة أو القوة المادية في الإضرار المادي بشخص آخر. أما اصطلاحياً هو كل سلوك عدواني يتجه إلى الاستخدام غير الشرعي للقوة أو التهديد بهدف إلحاق الضرر بالغير، ويقترن العنف بالإكراه والتكليف والتقييد، وهو نقيض الرفق لأنه صورة من صور القوة المبذولة على نحو غير قانوني بهدف إخضاع طرف لإرادة طرف آخر. ورغم تعدد العوامل المؤدية إلى العنف، إلا أن منطلقه الأساسي هو غريزة العدوانية المتفاوتة في قوتها بين إنسان وآخر، وهي غريزة يتأثر أسلوب التعبير عنها بظروف متعددة منها الثقافة السائدة، فمثلما أن العدوان غريزة، فإن الشعور الاجتماعي والضمير والإحساس بالذنب كذلك مشاعر فطرية لدى الفرد، وبالتالي فإن العنف لا يصدر عن فرد ما على الأغلب إلا وقد رافقته أفكار ومشاعر سلبية يستند إليها لتبرير اعتدائه. ومهما اختلفت الدوافع والوسائل والأهداف والنتائج، فإنها جميعها تشير إلى مضمون واحد وهو العنف الذي يهدف إلى إلحاق الأذى بالذات أو بالآخر (6).
لذا يمكننا اعتبار العنف أشد الظواهر الاجتماعية ملازمة للاجتماع البشري، بل وأشدها غموضاً وأكثرها إثارةً للقلق، لما يخلقه من آثار سلبية على المستوى الفردي والمجتمعي بأسره، فالعنف ظاهرة لازمت مسيرة الشعوب وحياتها، على اختلاف درجات رقيها أو انحطاطها، وإن كانت بدرجات متفاوتة ووفق تمظهرات متعددة.
اتخذ العنف على مدار الإنسانية أشكالاً متعددة وغير مباشرة، خفية ومعلنة، من العنف الجسدي في أبسط صوره وأكثرها غريزية من خلال استخدام القوة العضلية في الدفاع أو التظلم أو حتى لإشباع غريزة الانتصار البشرية، إلى العنف الرمزي الذي اتخذ مسارات وطرائق وتمظهرات عدة لا تقل خطورته عن العنف الجسدي، ليشمل كل أشكال العنف غير المادي التي تلحق الأذى بالآخر سواء عن طريق الكلام أو اللغة أو مختلف الأشكال التعبيرية (7)، أو هو كما يعبر عنه بورديو فرض المعاني التي يمارسها الفاعلون الاجتماعيون من كاهن، وقديس وداعية، ومدرس، والمحلل أو الطبيب النفسي، أو السياسي، وغيرهم (8).
وهذا يعني أن العنف نوعان: الأول عنف فيزيائي يكون بإلحاق الضرر بالآخرين جسدياً ومادياً وعضوياً. والثاني عنف رمزي مهذب يكون بواسطة اللغة، والهيمنة، والأيديولوجيات السائدة، والأفكار المتداولة. ويكون أيضاً عن طريق السب، والقذف، والشتم، والإعلام، والعنف الذهني (9).
يشكل مفهوم العنف الرمزي واحداً من أكثر اكتشافات بورديو الفكرية تألقاً وأهمية، ويمثل حجر الزاوية في نتاجه الفكري (10)، وقد عُرِفَ بورديو بهذا المفهوم كما عُرِفَ هذا المفهوم به وبأعماله المتواترة، وهو مفهـوم سوسيولوجي معاصـر يعني أنه “وسيلة لممارسة السلطة على فاعل اجتماعي بهدف إكراهه” (11) عن طريق فرض المسيطِرين في المجتمع لطريقتهم في التفكير والتعبير والتصور، الذي يكون أكثر ملاءمة لمصالحهم، ويتجلى في ممارسات قيمية، ووجدانية، وأخلاقية، وثقافية تعتمد على الرموز كأدوات في السيطرة والهيمنة مثل اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني وكثيراً ما يتجلى هذا العنف في ظل ممارسة رمزية أخلاقية، والسلطة الرمزية هي سلطة لامرئية، لا يمكن أن تتجسد على أرض الواقع الاجتماعي إلا إذا اعترف بها أفراد المجتمع وخضعوا لها ومارسوها، فهي سلطة بناء الواقع تسعى إلى إقامة نظام معرفي وإعادة إنتاج النظام الاجتماعي (12). بذلك يعتبر “العنف الرمزي” عنفا نائما خفيا هادئا، غير مرئي وغير محسوس حتى بالنسبة إلى ضحاياه. وهو من أهم المفاهيم التي تصدرت طروحات بيير بورديو المبكرة عام 1972.
ويخلص بورديو إلى اعتبار السلطة الرمزية، من حيث هي قدرة على تكوين المعطى عن طريق العبارات اللفظية، ومن حيث هي قدرة على الإبانة والإقناع، وإقرار رؤية العالم أو تحويلها، ومن ثم هي قدرة على تحويل التأثير في العالم بفضل قدرته على التعبئة، وهي قدرة يراها بورديو “شبكة سحرية”، والسلطة الرمزية لا تعمل إلا إذا اعتُرف بها، وهي تتخذ بفضل علاقة معينة تربط من يمارس السلطة بمن يخضع لها، أي أنها تتحدد ببنية المجال التي يؤكد فيها الاعتقاد ويعاد إنتاجه (13).
ويرى بورديو أن أيّ نفوذ يقوم على العنف الرمزي أو أيّ نفوذ يفلح في فرض دلالات معينة، وفي فرضها بوصفها دلالات شرعية، حاجباً علاقات القوة التي تؤصل قوته، يضيف إلى علاقات القوة هذه، قوته الذاتية المخصوصة أي ذات الطابع الرمزي المخصوص (14).
وفي النهاية يمكننا القول إن العنف الرمزي “هو ذلك العنف الناعم واللامحسوس واللامرئي بالنسبة إلى ضحاياه أنفسهم، والذي يمارس في جوهره بالطرق الرمزية الصرفة للاتصال والمعرفة، أو أكثر تحديداً بالجهل والاعتراف، أو بالعاطفة كحدٍ أدنى” (15). أي أنه نمط خاص من العنف العام يسمى أحياناً بالعنف المقنع أو المستور أو حتى العنف الخفي، وهو أسلوب موجه إلى عامة الناس خلاف العنف المادي أو المباشر الذي يكون هدفه محددا، فالعنف الرمزي يتخذ عدة أشكال وأنماط تشكل في مجملها إشارات أو رموز للمواجهة غير المباشرة، حيث يعمد فاعلوه على التخفي دون الظهور علانية (16).
يعتقد بورديو أن العلاقات الاجتماعية، مهما كان حقلها أو مجالها، مرتبطة بآليات بنية التنافس والهيمنة والصراع. وقد أصبحت هذه الآليات راسخة ومتجذرة لدى الأفراد عن طريق عملية التنشئة الاجتماعية، فالأفراد ينتجونها بدورهم بطريقة غير واعية بوصفها أعرافا وقيما ومعايير. وتعد الأسرة والمدرسة فضاءات لترسيخ وإعادة إنتاج الطبقية واللامساواة الناتجة عن وجود طبقة مسيطِرة، وطبقة مسيطَر عليها، حيث تساهم مؤسسات الدولة والأسرة والنظام التربوي في ممارسة العنف الرمزي ضد الفاعلين المجتمعيين المرتبطين بها. ويلاحظ أن الكثير من آليات التنافس والسيطرة تنتقل من جيل إلى آخر عبر منافذ التربية والإعلام والثقافة بشكل رمزي مستتر (17).
اعتمد بورديو في صياغة نظريته عن العنف الرمزي على عدة مفاهيم متداخلة مع بعضها بعضا بما لديها من الأهمية لتضفي قوة على البحث المنهجي باعتبارها الأدوات التحليلية المرتبطة باستراتيجية كونية مؤسسة على مشروع فكري يهدف إلى بناء ودراسة آليات وميكانيزمات وقوانين اشتغال بنية العالم الاجتماعي، وهي كالآتي: النسق، السلطة الرمزية، رأسمال رمزي التي تتساند مع بعضها لكي تنتج مفهوم العنف الرمزي.
يُعرف النسق الاجتماعي بأنه “عبارة عن مجموعة من الأشخاص والأنشطة المشتركة تتميز العلاقات المتبادلة بينهم بقدر من الثبات والاستمرار. مثال: الزوجان اللذان يعيشان في أسرة هما نسق اجتماعي. كما يمكننا القول بأنه “نمط من العلاقات بين مجموعة من العناصر، وينظر إليه باعتباره يملك خواصاً ترتبط به وتتولد عن وجوده، خلافاً لخواص غيره من الأنساق، وينظر إلى النسق أيضاً باعتباره لديه استعداد ذاتي كامن نحو التوازن، وبالتالي فإن تحليل الأنساق يعني تحليل الميكانيزمات التي تحقق التوازن وتحافظ عليه، داخلية كانت أم خارجية. بذلك يتكون البناء الاجتماعي * من مجموعة من الأنساق هي بمثابة نظم اجتماعية رئيسية: (النسق الإيكولوجي، النسق الاجتماعي أو القرابي، النسق السياسي، النسق الاقتصادي، النسق الثقافي) وتتألف الأنساق الاجتماعية الرئيسية بدورها من مجموعة الأنساق الفرعية (18).
أما السلطة الرمزية: مفهوم فلسفي ظهر مع بورديو وهي بطبيعة الحال منافية تماماً للسلطة المادية الملموسة. سعى بورديو إلى الكشف عن مفهوم الرمزية المستتر أو الكامن في كُنه القضايا الاجتماعية، وذلك من خلال تجسدها في الأيديولوجيات والحركات الخفية وراء بينتها وطبيعة العلاقات الرمزية، من خلال مصادرتها واستلابها للفضاءات الاجتماعية والعمومية ومحاولتها خنق وتقنين الحريات والانتفاضات وحتى الثورات (19). ويرى بورديو أن السلطة ليست شيئاً متموضعاً في مكان ما، وإنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة، ونجد أن كل بنية العالم الاجتماعي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار من أجل فهم آليات الهيمنة والسيطرة. إذن السلطة، حسب بورديو، بمثابة نظام معقد، يخترق كل العلاقات والروابط، التي تتحرك وتتفاعل داخلياً، بواسطة آليات دقيقة وفعالة، تتحكم في البنية العامة لذلك النظام (20). كما أن السلطة الرمزية، هي سلطة تابعة، تمثل شكلا من أشكال السلطات الأخرى، إلا أن لها قوى خارقة تجبر المسيطَر عليه من قبلها إلى الخضوع لها والاعتراف بها دون أن تبذل طاقة كبرى في التحكم فيه، بالإضافة إلى أنها تستثمر جموع الرساميل الرمزية في خطاباتها التي تعمل على المحافظة على قوتها داخل الطبقات المسودة، حيث تستند السلطة الرمزية دوماً إلى أسلوب التورية والاختفاء، وهي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المنشود من قبلها، إلا من خلال التعاون الذي يجب أن تلقاه من طرف أغلبية الأفراد، والذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية ولا يعترفون بها ويكتب بورديو حول السلطة الرمزية قائلاً “إن السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية ولا يمكن أن تمارس إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها بل ويمارسونها” (21).
وهكذا تمثل السلطة في نظر بورديو عنفاً رمزياً عندما تستطيع السلطة تكريس دلالات وتطال فرضها على أنها شرعية لما لها من قدرة على مواراة علاقات القوة وفرض سطوتها (22). وهو ما يعبر بشكل عام عن أيّ نفوذ يتمكن من فرض دلالات معينة بوصفها دلالات شرعية حاجباً علاقات القوة التي تؤصل قوته.
وفيما يتعلق بـ: الرأسمال الرمزي، يرى بورديو أن الطبقة المهيمنة في المجتمع تحتاج إلى رأسمال ثقافي حتى تستطيع أن تنتج ما يعني لها من أفكار ومعانٍ ورموز ثقافية تمكنها من السيطرة على الطبقات الأخرى – الجماهير بالمعنى الواسع التي تستهلك مثل هذه المنتجات الثقافية. وتذهب نظرية رأس المال الثقافي (التي مهدت الطريق لظهور مفهوم رأس المال الاجتماعي) إلى أنه بإمكان الطبقات التي تقع تحت الهيمنة أن تستثمر كذلك في رأس المال الرمزي، وأن تكتسب ما يترتب عليه من رموز ومعان ودلالات ثقافية وقد يعتبرونها جزءاً من تكوينهم الثقافي (23). ومن الجدير بالذكر أن الرأسمال الثقافي لا يكتسب ولا يورث دون جهود شخصية، إنه يتطلب من طرف الفاعل عملاً طويلاً ومستمراً ومعززاً للتعلم والتثاقف * بهدف أن يندمج فيه ويجعله ملكاً له، أن يجعله ذاته، بما أنه يحوِّل الوجود الاجتماعي للفاعل (24). وهذا ما تقوم به مؤسسات التنشئة الاجتماعية ورأسها المدرسة ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها ومستوياتها.
نستنتج مما تقدم، أن العنف الرمزي يتخذ صيغته السوسيولوجية، حين يمارس دوره وفاعليته الثقافية في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية، لما له من قدرة على التواري في خفايا الحياة الاجتماعية، بشكل متوارٍ عن الأنظار، حيث ينزع إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرض نظام من الأفكار والمعتقدات التي غالباً ما تصدر عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة، والسيادة، والسيطرة، ويهدف هذا النوع من العنف إلى توليد معتقدات وأيديولوجيات محددة وترسيخها في عقول الذين يتعرضون له وأذهانهم، فالعنف الرمزي حسب ما ذهب إليه بورديو ينطلق من نظرية إنتاج المعتقدات، وإنتاج الخطاب الثقافي وإنتاج القيم، ومن ثم إنتاج هيئة من المؤهلين الذين يمتازون بقدرتهم على ممارسة التقييم والتطبيع الثقافي في وضعيات الخطاب التي تمكنهم من السيطرة أيديولوجياً على الآخر وتطبيعه، مع القدرة على بناء المعطيات الفكرية بالإعلان عنها وترسيخها، والقدرة على تغيير الأوضاع الاجتماعية والثقافية عبر التأثير في المعتقدات وتغيير مقاصدها وبناء تصورات أيديولوجية عن العالم تتوافق مع إرادة الهيمنة والسيطرة التي تقررها الحاجات السياسية لطبقة اجتماعية معينة (25).
فالعنف الرمزي بذلك هو القدرة على بناء المعطيات الفكرية بالإعلان عنها وترسيخها، كما أنه القدرة على تغيير الأوضاع الاجتماعية والثقافية عبر عملية التأثير في المعتقدات وتغيير مقاصدها، وبناء تصورات أيديولوجية عن العالم تتوافق مع إرادة الهيمنة والسيطرة التي تقررها الحاجات السياسية لطبقة اجتماعية بعينها، فالعنف الرمزي تعبير عن حضور رأسمال رمزي يتجلى في صورة عناصر ثقافية (قيم، تصورات، أفكار، معتقدات مقولات، إشارات، ورموز…)، وبالتالي فإن رأسمال الثقافي ينزع إلى امتلاك السلطة الثقافية – أي المشروعية في الحضور والممارسة – وهذا يعني أن ممارسة العنف الرمزي مرهونة بوجود رأسمال رمزي، تسعى السلطة الرمزية إلى التعبير عن مشروعيته، والمشروعية تعني هنا قبول هذه السلطة على أنها مشروعة وحقيقية من قبل هؤلاء الذين تمارس عليهم (26) في البناء الاجتماعي الذي يتكون من مجموعة من الأنساق الاجتماعية الأساسية والفرعية.
تسعى السوسيولوجيا حسب بورديو إلى تعرية واقع الهيمنة والقوة والنفوذ، وانتقاد المجتمع الليبرالي الغربي المعاصر، الذي يتميز بالظلم واللامساواة وصراع الحقول والطبقات الاجتماعية. فتصبح السوسيولوجيا حينئذ أداة فعالة للنقد الجذري، وكشف المضمر، واستنطاق المسكوت عنه، وفضح لعبة التنافس والهيمنة، كالعلاقة الترابطية الموجودة مثلاً بين النجاح المدرسي والأصل الاجتماعي والرأسمال الثقافي الذي ترثه الأسرة، بعد أن كان هذا النجاح مرتبطاً بالذكاء الوراثي (27).
ويذهب بورديو إلى أن موضوع السوسيولوجيا هو دراسة حقول التنافس والصراع والهيمنة ليس على صعيد الطبقات فقط، بل حتى في المجال العلمي نفسه “إن الذي يعتبر أن الانتماء الاجتماعي للعالِم عقبة كأداء تحول دون قيام سوسيولوجيا علمية، ينسى أن عالم الاجتماع يجد علاجاً ضد التحديدات الاجتماعية في العلم الذي تصبح بفضله تلك التحديدات جلية واعية. إن سوسيولوجيا السوسيولوجيا التي تسمح بتسخير مكتسبات العلم الجاهز ضد العلم الناشئ أداة لا غنى عنها في يد المنهج السوسيولوجي” (28). ويعني هذا أن بورديو ينطلق من سوسيولوجيا نقدية صراعية أو مقاربة صراعية. ومن ناحية أخرى، يطرح ميتاسوسيولوجيا أو سوسيولوجيا السوسيولوجيا، من خلال الإشارة إلى ضرورة حياد عالم الاجتماع عندما يبحث في مشكلة مجتمعية ما قوامها التنافس والصراع والهيمنة، بأن يكون واعياً بموقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. ومن ثم، فالسوسيولوجيا الحقيقية هي سوسيولوجيا الخفي والمسكوت عنه. وعليه، تتميز السوسيولوجيا عند بورديو بالطابع العلمي المنطقي، والابتعاد عمّا هو سياسي وأيديولوجي، ودراسة العنف الرمزي وفق مقاربات دقيقة صارمة (29).
خلاصة القول، إن بورديو حاول من خلال نظريته النقدية عن العنف الرمزي توضيح أسسه النظرية والمنهجية أي المقولات وزاوية اقترابه من الواقع الاجتماعي، بالإضافة إلى تحديد طبيعة المفاهيم المساندة معه لتكوين ثقافة رمزية تتوسل القوى الناعمة لتحقيق مصالحها وأهدافها، بل وفرضها على المجتمع باعتبارها مصالح وأهداف عامة، بل أكثر من ذلك حين تصبح ثقافة الطبقة المسيطِرة بكل ما تحمله من معاني، ورموز، ثقافة المجتمع ككل. وهذا يعني أن هدف العنف الرمزي خلق حالة من الإذعان عند الآخر البعيد عن السلطة، حيث يحاول الطرف المسيطر جاهداً إلى فرض الأفكار والمعتقدات. كما يتصف العنف الرمزي بالقدرة الدينامية على إنتاج معتقدات جديدة ورسم أطر أيديولوجية يمكنها تكريس خطاب اجتماعي يرتكز على قواعد قيمية معينة، ويجسّد منطلقات ثقافية يحددها الطرف المهيمن في المجتمع ويقوم بتوظيفها، وفقاً لقناعاته، وأهدافه، ومصالحه.
ينشر بالاتفاق مع مجلة “الجديد” الثقافية اللندنية
الهوامش:
(1) الطاهر لقوس علي: السلطة الرمزية عند بيير بورديو Pierre Bourdieu، الأكاديمية للدراسات الاجتماعية والإنسانية، قسم الآداب والفلسفة، الجزائر، العدد: 16، جوان 2016، ص (39). (2) لمزيد من القراءة والاطلاع حول العلاقة بين السلطة والشرعية انظر حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأصيل، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، الجزء: الأول، ط1، 2021، ص ص (354 – 355). (3) كلثوم بن محمد عبد الرحمان: السلطة والآليات الرمزية عند بيار بورديو، رسالة دكتوراه، قسم الفلسفة، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الحاج لخضر – باتنة1، الجزائر، للعام الدراسي 2019/ 2020، ص (أ). * بيير بورديو (بالفرنسية : Pierre Bourdieu) (1 أغسطس/ آب 1930 – 23 يناير/ كانون الثاني 2002) عالم اجتماع فرنسي معاصر، يعتبر أحد الفاعلين الأساسيين بالحياة الثقافية والفكرية في فرنسا، وأحد أبرز المراجع العالمية في علم الاجتماع الحديث والثقافة المعاصرة، بل إن فكره أحدث تأثيراً بالغاً في العلوم الإنسانية والاجتماعية منذ منتصف الستينات من القرن العشرين. حيث بدأ نجمه يبزغ بين المتخصصين انطلاقاً من الستينات بعد إصداره كتاب الورثة عام 1964 (مع جون كلود باسرون) وكتاب إعادة الإنتاج – في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم عام 1970 (مع المُؤلِّف نفسه)، وخصوصاً بعد صدور كتابه التمييز/التميز عام 1979. وازدادت شهرته في آخر حياته بخروجه في مظاهرات ووقوفه مع فئات المُحتجِّين والمُضربين. اهتم بتناول أنماط السيطرة الاجتماعية بواسطة تحليل مادي للإنتاجات الثقافية يكفل إبراز آليات إعادة الإنتاج المتعلقة بالبنيات الاجتماعية، وذلك بواسطة علم اجتماعي كلي يستنفر كل العتاد المنهجي المتراكم في مختلف مجالات المعرفة عبر التخصصات المتعددة للكشف عن البنيات الخفية التي تُحدِّد أنماط الفاعلية على نحو ضروري، مِمّا جعل نُقّاده ينعتون اجتماعياته بالحتمانية، على الرغم من أنه ظل عبر كتاباته وتدخلاته، يدافع عن تحليلاته مثل ذلك النعت. انتقد بورديو تركيز الماركسية على العوامل الاقتصادية فقط، إذ أن الفاعلين المسيطرين، في نظره، بإمكانهم فرض منتجاتهم الثقافية (مثلاً ذوقهم الفني) أو الرمزية (مثلاً طريقة جلوسهم أو ضحكهم وما إلى ذلك). فالعنف الرمزي (أي قدرة المسيطرين على حجب تعسف هذه المنتجات الرمزية وبالتالي، على إظهارها على أنها شرعية) دور أساسي في فكر بيير بورديو. معنى ذلك أن كل سكان سوريا، مثلاً، بمن فيهم الفلاحون سيعتبرون لهجة الشام مهذبة أنيقة واللهجات الريفية غليظة جداً رغم أن اللهجة الشامية ليست لها قيمة أعلى بحد ذاتها. وإنما هي لغة المسيطرين من المثقفين والساسة عبر العصور وأصبح كل الناس يسلّمون بأنها أفضل وبأن لغة البادية رديئة. فهذه العملية التي تؤدي بالمغلوب إلى أن يحتقر لغته ونفسه وأن يتوق إلى امتلاك لغة الغالبين (أو غيرها من منتجاتهم الثقافية والرمزية) تعد أحد مظاهر العنف الرمزي. (4) الطاهر لقوس علي: السلطة الرمزية عند بيير بورديو Pierre Bourdieu ، مرجع سبق ذكره، ص (40). (5) حسام الدين فياض: الــــعنف ضد الــــمرأة (الاغتصاب الجنسي نموذجاً)، نحو علم اجتماع تنويري، ط1، 2017، ص (1). (6) المرجع السابق نفسه، ص (2). (7) عائشة لصلج: العنف الرمزي عبر الشبكات الاجتماعية الافتراضية (قراءة في بعض صور العنف عبر الفيسبوك)، مؤسسة مؤمنون بلا حدود دراسات وأبحاث، الرباط، 28 يونيو 2016، ص (3). (8) Pierre Bourdieu: Cultural Reproduction and Social Reproduction, Routledge, 1st Edition, 1973. – انظر بيير بورديو، جان كلود باسرون: إعادة الإنتاج في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم، ترجمة: ماهر تريمش، مراجعة: سعود المولى، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2007، ص (95). (9) حسن عالي، زرقة دليلة: مفهوم الفضاء والديناميات الاجتماعية من المنظور السوسيولوجي، مجلة دراسات، الجزائر، المجلد: 10، العدد: 02، ديسمبر 2021، ص (166). (10) علي أسعد وطفة: بيداغوجيا الرمز والعنف الرمزي في منظور بيير بورديو، شبكة النبأ المعلوماتية، السبت 12 أيلول 2020. https://annabaa.org/arabic/studies/24484 (11) عبدالفتاح ديبون: دليل تحضير مباراة الملحقين الاجتماعيين أطر الأكاديميات، دار القلم العربي للنشر والتوزيع، الرباط، ط1، ب. ت، ص (17). (12) سامح محمد إسماعيل: المكون التاريخي لإشكالية الولاية في ضوء العنف الرمزي ودلالاته، مؤسسة مؤمنون بلا حدود دراسات وأبحاث، الرباط، 25 ديسمبر 2014، ص (3). (13) بيير بورديو: الرمز والسلطة، ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط3، 2007، ص (55-56). (14) بيير بورديو: العنف الرمزي – بحث في أصول علم الاجتماع التربوي، ترجمة: نظير جاهل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1994، ص (5). (15) بيير بورديو: الهيمنة الذكورية، ترجمة: سلمان قعراني، مراجعة: ماهر تريمش، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009، ص (16). (16) عامر نورة: التصورات الاجتماعية للعنف الرمزي من خلال الكتابات الجدارية، رسالة ماجستير غير منشورة، قسم علم النفس وعلوم التربية، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة الإخوة منتوري – قسنطينة، الجزائر، العام الدراسي 2005/ 2006، ص (5). (17) عبدالكريم سليم علي: العنف الرمزي Symbolic Violation، موقع كتابات، العراق، تاريخ 22 أغسطس 2016، (تاريخ الدخول إلى الموقع 25/12/2021). https://kitabat.com/2016/08/22/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%86%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%85%d8%b2%d9%8a-symbolic-violation * البناء الاجتماعي هو شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية التي تربط بين الأفراد، وتتضمن أنساقاً ونظماً تؤدي وظيفتها، ومن ثم تتشابك هذه الوظائف مع بعضها، واهتم علماء الاجتماع والانثروبولوجيا بدراسة البناء الاجتماعي بوصفه أداة تحليلية لفهم المجتمع. (18) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مرجع سبق ذكره، ص (187). (19) كلثوم بن محمد عبدالرحمان: السلطة والآليات الرمزية عند بيار بورديو، مرجع سبق ذكره، ص (103). (20) محمد بقوح: نظرية السلطة الرمزية عند بيير بورديو، موقع الحوار المتمدن الكتروني، العدد: 2469، 18/ 11/ 2008. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=153684 (21) بيير بورديو: الرمز والسلطة، مرجع سبق ذكره، ص (48). (22) بيير بورديو، جان كلود باسرون: إعادة الإنتاج في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم، مرجع سبق ذكره، ص (102). (23) سامح فوزي: القوة الخفية (رأس المال الاجتماعي في المجتمع المصري)، تقديم: عمار علي حسن، وزارة الثقافة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الإصدار: 105، ط1، 2012، ص (24). * التثاقف: هو العملية التي يكتسب الفرد أو الجماعة عن طريقها خصائص ثقافة أخرى، من خلال التفاعل والاتصال المباشر، أو هي اكتساب الثقافة بالمشاركة والاتصال، أو هي عملية التغير الثقافي الذي ينجم عن الاتصال المستمر بين جماعتين متمايزتين ثقافياً. انظر حسام الدين فياض: الثقافة بين التثقف والتثاقف، موقع أقلام، 30 نوفمبر 2021. https://www.aqlam.co.uk/archives/4107?v=ebe021079e5a (24) ستيفان شوفالييه، كريستيان شوغيري: معجم بورديو، دار الجزائر، دمشق، ط1، 2013، ص (163). (25) أسعد علي وطفة: من الرمز والعنف إلى ممارسة العنف قراءة في الوظيفة البيداغوجية للعنف الرمزي، مجلة شؤون اجتماعية، العدد: 104، شتاء 2009، ص (68-69). (26) المرجع السابق نفسه، ص (69). (27) الطاهر لقوس علي: السلطة الرمزية عند بيير بورديو Pierre Bourdieu ، مرجع سبق ذكره، ص (40). (28) بيير بورديو: الرمز والسلطة، مرجع سبق ذكره، ص (8). (29) الطاهر لقوس علي: السلطة الرمزية عند بيير بورديو Pierre Bourdieu ، مرجع سبق ذكره، ص (40).
باحث وأكاديمي سوري
العرب