ليالي السجن: العازل والإسمنت/ راتب شعبو
في لحظة، ينكمش العالم كله ليصبح فراشاً وسخاً إلى جوار تواليت عربي. تُحشر حياتك فجأة في مساحة ضيقة محاطة بعدوانية نزقة. أربعة جدران متقاربة كأنها كانت تريد أن تتعانق، فأطبق عليها السقف في اللحظة الأخيرة ومنع عناقها، وظل ما يفصل بينها كافياً لاستيعاب فراش متسخ وتواليت عربي.
بعد قليل، يهمد انفعالك المكظوم، وتستسلم. تقول في نفسك: “جيد، بعد كل شيء، أن هناك صفيحة معدنية تستر التواليت”. ترتب الفراش، وتجعل الرأس، كما لو على نحو غريزي، أبعد ما يمكن عن الباب الذي يفصلك عن العدوانية المباشرة. هكذا يصبح الرأس في تجاور مباشر مع التواليت. لا تهم مجاورة التواليت، المهم أن تسمح لك الوضعية باحتياط أكبر ضد ما يمكن أن يأتيك من الباب. تكتشف، بعد حين، أنك الوحيد الذي اختار أن يكون رأسه بعيداً عن الباب، وأن بقية المنكوبين جعلوا رأسهم من جهة الباب، كي يكون أبعد ما يمكن عن التواليت. خوفهم من الباب كان أقل من نفورهم من التواليت. الخوف متأصل فيك أكثر، قد يكون هذا هو التفسير.
*****
تستلقي على الفراش. لماذا تقول “الفراش”؟ ليس هذا سوى عطالة في اللغة. ابتكر أي كلمة! هذا ليس فراشاً على أي حال. الفراش قد يوحي بأشياء جميلة لا وجود لها في المكان الذي صرت إليه، مثل الأمان، أو الاسترخاء، أو الرفاه، أو المرأة. في السجن باتت اللغة أكثر قدرة على استيعاب نقص الحياة. في لغة السجن هذا مجرّد “عازل”، ليس أكثر من بطانية مهترئة مخاطة إلى قطعة شادر مستطيلة، كافية لاستلقاء انسان تعزل جسم المنكوب بهذا المكان، عن الإسمنت. حين تهترئ البطانيات والخيم العسكرية تتحول إلى “عوازل”. استفادة قصوى من المواد التي تخنق الروح.
سوف تعلم لاحقاً إن العازل يمكن أن يكون رفاهية يحلم بها من يُرمون في مثل هذا المكان في عز الشتاء دون أي عازل يقيهم الإسمنت. روى أحد هؤلاء المنكوبين أن أحد عناصر الشرطة ألقى عليه نظرة وهو في مثل هذا المكان، وحين رآه يرتجف من البرد القارس عارياً بعد أن جرد من ملابسه، وواقفاً لا يجرؤ على الجلوس على الإسمنت، أخذته الشفقة، فرمى له شيئاً تبين أنه طبق بيض فارغ، كان بالنسبة له هدية رائعة وذات قيمة كبيرة، فهي توفر له مكاناً “معزولاً” إلى حد ما، لكي يجلس وينطوي على نفسه.
العازل ليس فراشاً، صحيح، ولكن حين ينكمش العالم إلى هذا الحد، يكون العازل مهماً أكثر مما نعتقد. صحيح إنه لا يحمي الورك من قساوة الإسمنت، ولكن مع الوقت، بعد قليل من الألم فوق عظمة الورك، سوف يتسمّك الجلد في هذه المنطقة وينعدم الإحساس فيه، بعد ذلك لن تكترث لحقيقة أن العازل لا يحميك من قساوة الإسمنت، ما يهمك هو أن يحافظ على دوره في التخفيف من تسرب برودة الإسمنت إلى دمك، فيسمح لك أن تستلقي وتتكور في ليلة باردة، وقد يسمح لك بالنوم حين يمكن للنوم بلا عازل، في مثل هذه الليالي الباردة، أن يكون بلا يقظة.
*****
في أعلى الجدار الخلفي لهذا العالم المنكمش، توجد فتحة صغيرة تدخل منها حزمة من الضوء وتستقر على الحائط المقابل على شكل دائرة بمحيط غير منتظم. كان الصيف يافعاً في الخارج حين انهار عالمك فجأة. تعبر ذهنك فكرة تجدها ممتعة وتتسلى بها: الضوء كائن ضعيف يمكن حجبه بسهولة، ولكن لا يمكن حبسه، إذا أطبقت الحصار حول الضوء فإنه يختفي. وهو بالمقابل كائن مشاغب لا يسمح بأي قدر من الخطأ، إنه سوف يتسلل من الشقوق والثقوب والفتحات مهما تكن صغيرة، ولن يتوقف حتى يصطدم بحاجز. تكمل مسار تفكيرك: هذا يعني أن الضوء هو الأصل، حيثما لا يوجد حاجز يكون الضوء.
جيد أن اختناق هذا المكان ليس كاملاً، وأن هناك ثغرة يغزوها الضوء. ثغرة صغيرة تكسر شيئاً من عزلة المكان. تستعيد في ذهنك قول ديميتري كارامازوف، إحدى شخصيات دوستويفسكي، المدان زوراً بقتل أبيه، وهو يتأمل مسبقاً حاله في الأشغال الشاقة في مناجم سيبيريا، حيث يُطرد الضوء دون هوادة: “لأن أعرف أن الشمس تتلألأ، فذلك وحده حياة كاملة”. ها أنت ترى الشمس وهي تتلألأ. يخفّف هذا عنك.
تحاول أن تحفظ مكان بقعة الضوء على الحائط. تفكر: غداً حين تعود هذه البقعة إلى مكانها، يكون انكماش العالم قد أكمل يومه الأول. تقول في نفسك، إذا كان يمكن للعالم أن ينكمش إلى هذه الحدود الدنيا، إذن من الممكن لهذه الحدود الدنيا أن تكون عالماً كاملاً.
بعد أن كررت بقعة الضوء مرورها على الحائط المقابل عشرات المرات، جاء ذلك المساء البائس. كان مساء خريفياً بارداً، خرجت فيه الحنفية عن السيطرة ولم تكف عن التدفق حتى غرق المكان كله بالماء. قضاء لا رادّ له. لا يوجد ما أو من يمكنك الاستعانة به. مهما ضاق العالم وانكمش، هناك دائماً المزيد من الضيق والانكماش. لا قاع للبؤس سوى العدم.
عليك أن تقضي هذه الليلة دون عازل. تستند إلى الجدار كي تخفف الحمل عن ساقيك. الليل ثقيل بلا عازل. جسمك ثقيل بلا عازل. بلا عازل يصبح جسمك عبئاً عليك. بلا عازل، تتمنى أن تكون بلا وزن. خرج العازل عن الخدمة، أصبح جثة بلا روح. تحاول أن تخفف عن نفسك بتفكير عبثي عن العازل: يموت العازل حين يتشبع بالماء. العازل الميت أثقل من العازل الحي. يمكن للشمس والهواء أن يطردا الماء من العازل ويعيدانه إلى الحياة. من حسن حظك أن موت العازل ليس نهائياً. موته ليس موتاً إذن، تسخر من نفسك. ولكنك تتابع مع ذلك: تنحصر حياتك في مشتقات الفعل الثلاثي “عَزَلَ”. لنسمي هذا المكان، “مَعزَل”، فهو يعزلك. ولكنه، لحسن الحظ، ليس مَعزَلاً تاماً، فهو يسمح لحزمة ضيقة من الضوء أن تدخل. العزل هنا فعل عدواني، كلما اتجه إلى الاكتمال زاد سوؤه، أما عزل “العازل” فهو فعل صديق، تتمناه أن يكون أكثر كمالاً كي يحميك من الإسمنت أكثر. ولكن …
صرير القفل في الباب يقطع هذا الخيط التافه من التفكير. تتغير كل المعادلات حين ينفتح الباب. يكف المكان عن كونه معزلاً، ويغدو بالأحرى ملاذاً ومأمناً تريد العودة إليه، حتى لو كان العازل مشبعاً بالماء وكان المكان بلا بقعة ضوء.
رصيف 22