سنان أنطون: من سيحكي قصص ضحايا الحروب الأمريكية؟
مصطفى الأعصر
يجد أنطون صعوبة في إقناع البعض بضرورة المواقف المركبة، خصوصًا من فئات ما يُسمى المثقفين، يتحدث بغضب وضيق “من المحزن ألا يفهم الناس كون المرء ضد الديكتاتورية في العراق المتمثلة في صدام حسين وضد الغزو الأمريكي، أن تكون ضد بشار الأسد في سوريا وضد التدخل الأجنبي،
زيارة سريعة إلى مصر هي الرابعة في مسيرة حياة الشاعر والروائي العراقي سنان أنطون، مرّ سريعًا على القاهرة والتقى قرّاءه وتناقشوا في أعماله الروائية الأربعة (إعجام، وحدها شجرة الرمان، يا مريم، فهرس) ضمن جولة قصيرة للمنطقة العربية بعد حضور مؤتمر في فرانكفورت. التقت “مجلة رمان” بسنان أنطون لأكثر من ساعتين في مطعم وحديقة الجريون بوسط القاهرة، واتخذ الحوار مناقشات عديدة عن الثقافة والفن والمجتمع والسياسة.
يعتبر سنان أنطون من أبرز الروائيين العرب المعاصرين، على الرغم من قلة إنتاجه الأدبي، ترجمت أعماله الشعرية والروائية إلى مختلف اللغات الأجنبية، ذلك إلى جانب عمله الأكاديمي كأستاذ جامعي بالولايات المتحدة الأمريكية التي هاجر إليها منذ عام 1991 بعد حرب الخليج الثانية، تميزت روايات أنطون بالتورط في مآسٍ إنسانية لا تنفصل عن واقع العراق، ما اعتبرها البعض بمثابة حكايا بديلة عن الرواية الرسمية للتاريخ.
يصف أنطون زيارته الأخيرة لمصر بالحلوة والمرة، “الوضع الاقتصادي والسياسي محزن”، يتحدث أنطون إلى البسطاء من سائقي الأجرة والعاملين بالمقاهِ ويلمس مصاعب حياتهم، أما الجانب الحلو في الزيارة، فجزء منها يعود إلى لقائه بقرائه وأصدقائه الجدد والقدامى، كما أن القاهرة تمثل له مركزية ثقافية لكل من يتحدث العربية، يقول أنطون عن علاقته بالقاهرة “هناك حقيقة مركزية الثقافة لمصرية، لقد نشأت في بغداد التي لها ثقلها وتاريخها، ولكن ككاتب وشاعر شاب مهتم بالثقافة، كانت هناك مكانة مميزة للقاهرة ولبيروت، نشأت في صغري مع مجلات وكتب الأطفال التي تأتينا من مصر، وتربيت مع الأغاني والأفلام والمسلسلات المصرية، وكان لدينا في منزلنا بعض الأعمال الشعرية لصلاح جاهين ولأحمد فؤاد نجم كديوان اصحي يا مصر، أشعر بحميمية تجاه مصر بخاصة وأني أقمت بها لمدة 10 أشهر بين 2002 و2003، فأنا أعرف الثقافة المصرية جيدًا واستمتع بالفطنة اللغوية عند المصريين وحسن الاستقبال والترحيب الذي أتلقاه، كما أني كتبت بعض القصائد في القاهرة خلال فترة إقامتي وأثناء مراقبتي لغزو العراق 2003، وهي قصائد كُتبت في فترة صعبة وفاصلة من تاريخ العراق، لذا أعتز بها ولها عندي مكانة خاصة ونُشرت في ديواني الأول”.
سنان أنطون بين الأكاديمية والكتابة الأدبية
يعيش سنان أنطون في نيويوك ويمارس العمل الأكاديمي منذ 20 عامًا، على الرغم من أن التدريس الأكاديمي لم يكن غاية أو أمنية وأثر سلبًا على فرصه الإبداعية أو كما يقول “التدريس الأكاديمي أخدني من الكتابة” فلم يكن لدى أنطون رغبة في أن يصبح دكتورًا أو أستاذًا، ولكن الظروف هي التي دفعته إلى ذلك، ففي بداية هجرته إلى أمريكا عاش في واشنطن وكان قد تخصص في الأدب الإنجليزي والترجمة في بغداد، فكانت فرص العمل المتاحة أمامه إما العمل مع الحكومة الفيدرالية وإما العمل مع سفارات الأنظمة العربية “عملت في وظائف بسيطة لمدة عامين قبل الاطلاع على حيثيات الوضع واكتشاف وجود منح دراسية، لذا كانت الأكاديمية بمثابة مهرب أو حل مؤقت، كما أني مهتم بالموضوعات الفكرية والتاريخ، فوجدتها فرصة جيدة، الإشكالية أن دخول الحيز الأكاديمي والتعمق في الخطاب واللغة الأكاديمية يكبح الذات الإبداعية بسبب تنمية الذات الناقدة، ولم أستطع الجمع في البداية بين الكتابة الإبداعية والأكاديمية فابتعدت عن الكتابة فترة طويلة امتدت لسبع سنوات، ما زاد من اكتئابي، لأن الكتابة هي ما تمنحني معنى للحياة سواء الشعر أو الرواية، بسبب الأكاديمية تأخرت عن دخول ما يُسمى بالمعترك الأدبي، ولكن بعد ذلك تصالحت مع الأمر، فلا داعِ للإسراع والاستعجال الذي يقتل العمل الأدبي، كما أن الحيز الأكاديمي جعلني قارئًا أفصل وبالتبعية كاتبًا أفضل”.
يعتقد أنطون أن العمل الأكاديمي له جانب إيجابي أيضًا، وأنه إضافة مهمة لأرشيفه النظري، ويظهر تأثير الأكاديمية في أعماله كما في رواية “فهرس” مثلًا، كما أن الأكاديمية منحته الفرصة للتعمق في تاريخ الأدب العربي وإعادة النظر في الرواية العربية كما تُقدم لنا وكما ندرسها في المدارس والجامعات، وعلمته طرقًا جديدة لقراءة وتحليل النص “من الممكن أن يتعلم المرء كل هذه الأمور بمجهود ذاتي، ولكن الأكاديمية تضع إطارًا يجبرك على الانضباط، استفدت كثيرًا من الدراسة بقسم الأدب العربي وما يُسمّى بدراسات الشرق الأدنى”.
نصف عراقي ونصف أمريكي: هل يشعر سنان أنطون باضطراب الهوية الثقافية؟
اكتشفت بالمصادفة -أثناء حديثنا- معلومة جديدة تمامًا وهي الجنسية الأمريكية لوالدة سنان أنطون، وهكذا يصبح أنطون نصف عراقي ونصف أمريكي، يقول أنطون “والدتي كانت أمريكية وأتقنت اللغة العربية، فدائمًا في العراق كانوا يقولون لي أنت نصف أمريكي، فتقبلت الفكرة لبعض الوقت خاصة أن ملامحي تشبه والدتي بشكل أكبر، لكن عندما هاجرت إلى أمريكا اكتشفت أني قد أكون نصف أمريكي في ما يسمى بالجينات لكن ثقافتي عربية، شعرت بنوع من الغربة وعدم الانتماء، وإلى اليوم بعد أكتر من 30 عامًا في أمريكا ورغم إطلاعي على الثقافة الأمريكية لكن دومًا أشعر أني غريب”.
ويعبر أنطون عن أسباب مغادرته للعراق وهو شاب في الثالثة والعشرين من عمره والطموحات التي شغلت عقله وقتها وتأثير هذا القرار على حياته، بأنه مثل الكثيرين كان لديه حالة تمرد ضد النظام الأبوي داخل المنزل وضد المجتمع الذي يعيش فيه بالعراق، ولديه شعور بالاغتراب والاختناق، وأراد البحث عن الحرية الفردية بعيدًا عن مؤسسة العائلة “هناك اختناق بسبب العيش في ظل الديكتاتورية، وأنك لا تقدر على كتابة أو نشر ما تريد من أفكار”.
ويضيف أنطون أن لدينا صوراً نمطية عن الحياة في الغرب، ولكن هناك أمور أخرى نصطدم بها عند الانتقال للحياة في المجتمعات الليبرالية “أنا مدرك لمزايا وجودي في الولايات المتحدة حيث فزت بالحرية الفردية والشخصية، وأستطيع الكتابة والتعبير عن نفسي وآرائي بحرية دون رقابة عمومًا، وأدرك الضغوط التي تمارس على الكتّاب في البلدان العربية وخاصة العراق، ولكن في الغرب عليك بذل مجهود للخروج من القالب الذي يضعونك بداخله ككاتب وروائي عربي”.
يرى أنطون أن تحقيق الأحلام في الغرب مرتبط بعوامل عدة، بعضها قدرية وخارج إرادة الإنسان، مثل وجود الشخص في أي مدينة ومن سيقابل بها “نحن نسميها الحظ، ولكن السياقات المادية والاجتماعية والشبكات الاجتماعية التي تتشكل بالصدفة، لها دور مهم في المساعدة على تحقيق الأحلام أو العكس”. يضيف أنطون أن لديه أحلام لما تتحقق بعد، ولكن من أحلامه التي تحققت، كتابته لرواية عن معنى أن يعيش الفرد في نظام ديكتاتوري بناءً على تجربة في العيش تحت نظام صدام حسين بالعراق.
عن أمريكا والعراق وصدام حسين: أن يعيش المرء في دولة تغزو وطنه؟
حدث الغزو الأمريكي للعراق في الفترة التي أقام فيها سنان أنطون بالقاهرة، وهكذا شاهد مدينته تقصف على الشاشات، ويرى أن المعاناة القصوى هي لمن عاش الحرب والجحيم ولكن هناك معاناة مختلفة تشعر المرء بنوع من العجز والشلل عندما تشاهد مدينتك تُدمّر على الشاشات، شعور مؤلم يضاعف من الغربة.
عندما بدأ الحديث عن غزو العراق، بدأ أنطون في النشاط داخل الولايات الأمريكية والحديث عن خطورة الحرب في المحافل الدولية، وانضم إلى مشروع لمؤسسة Americans For Peace حيث كان عضوًا في فريق مناهض للحرب يتشكل من إحدى الناجيات من هيروشيما وإحدى الناجيات من حرب أفغانستان واثنين من أقارب ضحايا هجوم مركز التجارة العالمي، طاف الفريق الساحل الشرقي الأمريكي وتحدثوا في الكنائس والجامعات عن خطورة الغزو وعن استحالة وجود أسلحة دمار شامل كما تدّعي حكومة الولايات المتحدة، وتحدث الفريق عن تاريخ أمريكا في دعم الحروب، وأن الفرصة متاحة الآن لوقف المجزرة أو الشعور بالندم بعد عشرة سنوات.
ويشير أنطون إلى طبيعة الجيش الأمريكي الذي يتشكل في معظمه من الأقليات الاقتصادية أو العرقية “الحرب عبارة عن مشهد خارجي، لو جاء شخص من الفضاء الخارجي لن يعرف أن أمريكا تخوض حربًا، لأن الفقراء هم الذين يذهبون إلى الحروب كي يموتوا أما الأغنياء والطبقة المتوسطة فمستمرون في حياتهم”.
يغضب أنطون من الخطاب الإعلامي والزخم الثقافي الذي يركز على الجنود الأمريكيين العائدين من الحرب على حساب المدنيين الضحايا، التركيز على محنة الجندي وكأنه الضحية، “هناك نموذج لأشخاص يرفضون الخدمة في الجيش، من الممكن أن تكون ضحية دون أن تلغي وجود المدني على الجانب الآخر من المقصورة، الجندي ليس ضحية الحرب كما يصوروه إنما ضحية للنظام السياسي الذي خدعه وأرسله لغزو بلد آخر. بعد خروجي من العراق عام 1991 رأيت الطريقة التي صورت بها الحرب الخليجية الأولى على السي إن إن واكتشفت معنى المنظور، هم استعرضوا الحرب من وجهة نظر الطيار الذي يقصف المُدن أمّا وجهة نظر المدنيين لم تكن موجودة، تساءلت: من سيحكي حكايتنا؟”
ويضيف أن الحديث الأمريكي عن محاربة الديكتاتورية ونشر الديمقراطية لا يخيل عليه، فهو يتذكر جيدًا دعم نظام الولايات المتحدة لصدام حسين، ويتذكر استقبال ومصافحة صدام حسين لدونالد رامسفيلد (وزير الدفاع الأمريكي في فترة غزو العراق)، ويتحدث بحنق شديد عن الحصار الذي فُرض على العراق لفترات طويلة والذي دمّر الاقتصاد والنسيج الاجتماعي وأجبر ملايين العراقيين على الهجرة، ويرى أنطون أن غزو العراق 2003 حدث مفصلي في تاريخ العراق الحديث ولكنه ليس نقطة بداية التخريب والدمار.
أسهب أنطون في الحديث بمجرد ذكر العراق كجريح ومشتاق إلى حبيبة هجرته، عندما وصل صدام حسين إلى رئاسة الجمهورية كان سنان أنطون في سن الثانية عشر، “شهدت مسيرة تحول العراق وسيطرة فكرة القائد والدولة البوليسية ودولة الحزب الواحد والدولة البوليسية”. دخل صدام حسين في حرب مع إيران (حرب الخليج الأولى) خلال سنوات حكمه الأولى، ويرى أنطون أن هذه الحرب خطفت طفولته وعرضته لأسئلة الحياة والموت، وتم تصوير صدام في الصحافة والإعلام العربي والعالمي وقتها أنه القائد العلماني الذي يحارب إيران المتطرفة وهي رؤية غير صائبة “ولكن هذا الأمر جعلني أدرك في وقت مبكر الهوة بين الخطاب الرسمي للدولة والحياة الحقيقية وروايات المواطنين المسحوقين التي لا يحكيها أحد، أدركت ارتباط الثقافة بالسياسة”.
انتقل أنطون إلى الحديث عن حرب الخليج الثانية، يقول أنه وكثير من العراقيين كانوا ضد غزو العراق للكويت، وهو غباء استراتيجي من صدام حسين، “حلم الولايات الأمريكية الأكبر كان إيجاد ذريعة لوضع قواعد عسكرية في منطقة الخليج العربي، وبغزو صدام حسين للكويت منحهم ذريعة دخول الخليج على طبق من ذهب”، ويضيف أن النظام الأمريكي أخاف النظام السعودي وزرع بداخله فكرة أن صدام ينوى دخول الجزيرة العربية، ثم اتضح بعد ذلك زيف صور الأقمار الصناعية التي قدمها الأمريكان إلى السعودية. يرى أنطون أن الغزو والحرب يكون تأجيلًا لمشاكل أخرى، فالعراق خرج من حرب بخسائر بشرية واقتصادية هائلة، ونال دعمًا كبيرًا من دول وأنظمة بدأت في مطالبته بالديون، فكان الحل الأسهل أمام صدام هو الدخول في حرب جديدة، سواء خُدع من السفيرة الأمريكية أم لا، ولكنه ليس طفلًا والخداع جزء من السياسة الخارجية.
يقول أنطون أن المشكلة الحقيقية في الحروب التي خاضتها أمريكا ضد العراق أنها أصبحت برنامجًا منظمًا لتدمير البنية التحتية، “البنية التحتية عمرها عشرات السنين وهي ملك العراق وليست ملك لصدام حسين، تم قصف ما يقرب من 117 جسر، وكل محطات التوليد الكهربائي ومحطات تصفية المياه”. ويؤكد أنطون على ارتكاب أمريكا لجرائم لا تغتفر مثل استخدام اليورانيوم المنضب الذي يتسبب في تشوهات خلقية وأمراض سرطانية ويظل تأثيره في الطبيعة لملايين السنين، فضلًا عن استخدام الحرب كحقل تجارب للأسلحة الأمريكية.
يرى أنطون أيضًا أن العقوبات والحصار الذي فرض على العراق لا يقل إجرامًا عن الحرب والتدمير المباشر المتعمد، وهناك أبحاث أكاديمية عن فكرة الحصار كوسيلة أخرى للحرب، يذكر لنا أنطون لقاءه بسيدة عراقية في 2003 في بغداد والتي أخبرته “سأغفر للأمريكان القصف لكن لن أغفر أبدًا الحصار، يمكنني الاختباء أثناء الغارات الجوية حتى تنتهي، لكن من أين أجلب الحليب لطفلي في الحصار؟”
ينهي حديثه في هذه النقطة مؤكدًا على كارثة سقوط بغداد واحتلالها، ولكن هذا الأمر يدفع البعض إلى خطأ العودة إلى الخطاب السائد في المخيال الجمعي عن فكرة بغداد العصر الذهبي حيث يبدأ الحنين إلى القائد الذي سقط، “يتم هنا المماهاة والخلط بين شخصية صدام حسين وبين الدولة العراقية العريقة”.
حرب في الشرق وحرب في الغرب
أخذنا الحديث إلى الأزمة الأوكرانية وأوجه التشابه بين غزو روسيا لأوكرانيا وغزو العراق للكويت، يبدأ أنطون كلامه بأنه غير مناصر لبوتين، ويتعجب من مواقف بعض المعادين للإمبريالية الأمريكية المؤيدين لأي نظام ضد أمريكا ولو كان ديكتاتوريًا، يرى أنطون وجود بعض التشابه في الحالتين، فبمجرد قرائته لخبر غزو روسيا تذكر مغامرة صدام حسين بغزو الكويت التي لم يحسب ردود الفعل الدولية عليها “يبدو أن بوتين يفعل نفس الشيء، مع الاختلاف أن العراق كانت دولة خارجة من حرب، وروسيا دولة لديها صناعة ضخمة، لكن في الحالتين هناك سوء تقدير وهناك ديكتاتور محاط بأغبياء، ونقدي لهذا الغزو لا يعني موافقتي على سياسات أمريكا وأوروبا، في نهاية المحصلة أمريكا يمكن أن تضحى بآخر أوكراني من أجل تحقيق مكاسبها الجيوسياسية”.
يجد أنطون صعوبة في إقناع البعض بضرورة المواقف المركبة، خصوصًا من فئات ما يُسمى المثقفين، يتحدث بغضب وضيق “من المحزن ألا يفهم الناس كون المرء ضد الديكتاتورية في العراق المتمثلة في صدام حسين وضد الغزو الأمريكي، أن تكون ضد بشار الأسد في سوريا وضد التدخل الأجنبي، للأسف أصبح لدينا شريحة كبيرة، بخاصة ممن يحسبون أنفسهم على اليسار، يساندون كل من يقف شعاراتيًا في وجه أمريكا، وهذه كارثة جديدة، أن تحدد لنا أمريكا لائحة الأصدقاء والأعداء. لا توجد إمبريالية أفضل من أخرى، رغم فرق النفوذ، فرأينا الإمبريالية الروسية وتدخلاتها في الانتفاضة السورية وتحويل مسارها ودعمها المطلق لبشار، فضلًا عن علاقات روسيا المباشرة بإسرائيل”.
الحديث عن التدخلات الخارجية في المنطقة العربية دفعنا إلى النقاش حول فكرة المؤامرة الخارجية والتدخلات من أجل تفتيت شعوب المنطقة والاقتتال الطائفي وخلافه من المسائل المكررة، يقول أنطون في هذا الصدد، أن هناك دائمًا تأثير خارجي لكن المشكلة أن خطاب المؤامرة غالبًا ما يُستخدم لنزع الشرعية عن ثورات حقيقية والتسخيف من الانتفاضات الشعبية التي ضحت فيها الشعوب بحياة شبابها بكل شجاعة من أجل واقع أفضل وتسميتها مجرد مؤامرات خارجية. ينهي حديثه “من المحزن سواء في العراق 1991 و2003، وحتى في سوريا في بداية الانتفاضة، أن يعتقد الكثير من المفكرين والمواطنين أن التدخل الخارجي سيكون لصالحهم، مع العلم أنه في آخر 70 سنة دومًا ما يكون التدخل الخارجي لمصلحة انقلابات عسكرية وليس لصالح الديمقراطية، سواء في مصدق في إيران أو أمريكا اللاتينية أو إفريقيا، فلا أمريكا ولا روسيا ولا فرنسا جمعيات خيرية”.
“الخيط الممتد على أرض الحنين بين وطن لم يكن وآخر لن يكون”
كتب سنان أنطون نصًا في عام 2003 يقول فيه “الخيط الممتد على أرض الحنين بين وطن لم يكن وآخر لن يكون” وذكر في معرض حديثه أن “الوطن فكرة يحاول الإنسان تحقيقها” فسألناه هل تحققت فكرته عن الوطن؟ يجيب أنطون أن القصد ليس عدم وجود الوطن، ولكن هناك سردية رسمية معينة عن معنى الوطن ترسخها مؤسسات الدول، وهذه السردية محكومة على أرض الواقع بالموقع الطبقي للإنسان وحظوظه الاقتصادية والاجتماعية، فغير متاح للجميع تحقيق فكرته عن الوطن. ويشير إلى وجود صراع دامي –في بعض الأحيان- على فكرة الوطن، يتساءل: ما هي السردية الحقيقية؟
“عندما تترك البلاد، فلا مفر من اجتياح مشاعر الحنين. وهناك نوعان من الحنين، حنين استرجاعي وآخر تأملي، الحنين الاسترجاعي هو عندما يحاول الإنسان استعادة شيء لم يكن أساسًا، أما التأملي فهو أن تفكر فيما كان موجودًا حقًا وتتأمله وتستقى منه المعنى، وهذه الفكرة انعكست في شخصيات رواية يا مريم. لدينا شخصية عاشت العصور القديمة في ظل حكم ديكتاتوري ولكن هوية الوطن حينها لم تكن طائفية، الهوية الوطنية كانت أكثر حضورًا من الهويات الفرعية الطائفية، ولدينا شخصية أخرى عاصرت الفترات الأخيرة ولم ترى غير الحروب والحصار فلا تعرف معنى للعراق، تأتي الطائفة عندها في المرتبة الأولى”.
اقتباسًا من الأديب السعودي عبد الرحمن منيف، تساءلنا: حرية بلا وطن أم وطن بلا حرية؟ يختار أنطون بلا تردد “حرية بلا وطن” شارحًا فكرته “أي نوع من الأوطان؟ أنا أشعر بالغربة داخل وطني، أنا منفي داخل الوطن، ترى اليوم الكثير من الشباب العراقيين يكتبون اللهم هجرة أو اللهم نيزك، هذا التعبير يعطيك مؤشرًا عن انتفاء أبسط مقومات الحياة الكريمة وأبسط حقوق المواطنة. أريد ممارسة الكتابة بحرية لإيجاد معنى لوجودي، الكتابة هي ما تشعرني بأنني أكثر من كائن مستهلك للأوكسجين، في وطني لا أستطيع ممارسة هذا الحق”.
يؤكد أنطون على أهمية زيارته للعراق من وقت لآخر لكن من الصعب عودته مرة أخرى في ظل الأوضاع الراهنة، ويضرب مثالًا بالمثقف العراقي الشيوعي كامل شياع الذي عاد من لندن وتم اغتياله “الوضع الأمني في العراق بائس، والنظام الجديد الذي تشكل والأحزاب والقوى التي تسلمت السلطة معظمها قوى طائفية أنشأت دولة عبارة عن ماكينة للنهب والتخريب”.
هناك كتاب للمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي بعنوان “العالم.. إلى أين؟” ومن هذا المدخل تحدثنا عن مستقبل العراق إلى أين؟ حاول أنطون ألا يكون شديد التشاؤم كي لا يجهض حق العراقيين الذين يناضلون في كل يوم محاولين التغيير ولكنه أيضًا وجد صعوبة في التفاؤل، خاصة بعد آخر زيارة له للعراق في ديسمبر الماضي حيث رأى -على حد تعبيره- معنى دمار 35 عامًا، وبؤس المواطن العراقي بسبب الوضع الاقتصادي الصعب وسيطرة المليشيات وشيوع الفساد.
يعبر أنطون في حزن عن مستقبل وطنه “كثير من معالم الحضارة الإنسانية بدأت في العراق، إلى جانب مصر والصين، ولكن يبدو أيضًا أن العراق بلد النهايات، فنحن نرى معظم مشاكل العالم تظهر وتنعكس في العراق، من تبعات وتركات الحروب والنظام الرأسمالي العالمي، إضافة إلى تبعات الاحتباس الحراري والأزمة المالية والجفاف وغيرها من المشاكل، كما أن العراق يوجد في منطقة جغرافية تشكل واحدة من مسارح الصراعات الإقليمية والعالمية بين المحاور المختلفة، العراق يسير نحو الهاوية”.
الرواية والسينما والجوائز الأدبية والأحلام المؤجلة
الشعور الأجمل عند سنان أنطون عندما يكتب عملًا ويلقى صدى عند القراء، ويجد أهمية ومكانة خاصة للعمل الأول عند الكتاب بشكل عام، يتحدث عن روايته الأولى التي انتهى من كتابتها في 2002 بعد وقت طويل من العمل، وتأخر نشرها لعام 2003 خلال الشهور الأولى للغزو الأمريكي، ولم يكن المناخ العربي السائد ثقافيًا حينها مستعدًا للقراءة عن القمع والظلم في ظل نظام صدام بسبب الهجمة الأمريكية الشرسة على العراق، فلم تأخذ الرواية حقها في القراءة والانتشار، لكن ما يُفرح أنها تقرأ إلى اليوم.
يعمل سنان أنطون على إنهاء عدد من المشروعات الأدبية، أبرزها رواية تُكتب منذ سنين وتناقش فكرة اختلاف تجارب الهجرة باختلاف الطبقة والخلفية الاجتماعية، وكيف يمكن أن تختلف صورة العلاقة مع الوطن في المهجر، فهناك من يحاول محو الوطن وهناك آخر يتشبث به. عراقيان من طبقتين مختلفتين يهربا من العراق في حقب مختلفة، واحد يهرب من الديكتاتورية وآخر يهرب من الاحتلال والعنف الطائفي، فالخيط الممتد بين وطن لم يكن وآخر لن يكون يظهر مرة أخرى في عمل أنطون القادم.
وعلى الرغم من ترشح رواية “يا مريم” إلى جائزة البوكر العربية ووصولها إلى القائمة القصيرة إلا أن سنان أنطون اتفق مع دار النشر ألا ترشح روايته القادمة إلى البوكر، يقول أنطون أن “جميع الجوائز الأدبية تقدمها مؤسسات تروج بدرجات مختلفة لأفكار معينة، وهذا لا يعني أن كل الجوائز سيئة، لكنها تخطيء وتصيب. تكمن المشكلة في وجود درجة مخيفة من انعدام المهنية والتخبط والفساد في الجوائز الأدبية بالمنطقة العربية، بالإضافة إلى عدم وجود معايير واضحة تتبعها لجان الجوائز، يستخدمون في كل عام معايير هلامية غير محددة، فضلًا عن الاستسهال والمحاصصة القطرية بمعنى منح الجائزة في كل عام لكاتب من دولة مختلفة”. يضيف أنطون “الجوائز ليست مقياسًا دقيقًا للجودة الأدبية بدءًا من نوبل ونزولًا إلى جائزة الشيخ الفلاني، قد تصيب لجان التحكيم في اختيار روايات عظيمة، لكن هناك أعمال بائسة تصل للقوائم القصيرة”.
يمتلك سنان أنطون في مخيلته أحلامًا تحقق بعضها ولا زال البعض الآخر بمثابة حلم مؤجل، تمثلت أحلامه المحققة في كتابة الرواية والتمكن من استخدام قدراته اللغوية للتعبير عن الحكايا والمشاعر الموجودة في عقله وترجمة التفاعلات مع العالم بجماله وقبحه إلى نصوص شعرية، أما أبرز الأحلام المؤجلة فتتمثل في رغبته تحويل إحدى أعماله الروائية إلى عمل بصري سينمائي أو تلفزيوني يكون من إخراجه.
كان لأنطون تجربة واحدة مع صناعة الأفلام تزامنًا مع الغزو الأمريكي للعراق، يقول أنطون “كان لدي في أيام الشباب حلم الفنان الشامل، وكنت مهووسًا بالسينما، لكن الانشغالات والظروف الحياتية تحد من أحلام الإنسان. بدأت فكرة تنفيذ الفيلم الوثائقي مع أقرب أصدقائي، وكانت الفكرة في البداية تدور حول السخرية من الجالية العربية في الولايات المتحدة الأمريكية لكن بدء خطاب الحرب على العراق والطريقة المزعجة لتصوير العراق في الإعلام الأمريكي دفعتنا إلى تنفيذ فيلم وثائقي عن العراق يقدم صورة حقيقية وشديدة التعقيد والبساطة في نفس الوقت عن المواطن العراقي، يقدم العراقيين كبشر متعددي الأبعاد وليس إما عبيد للديكتاتورية وإما عملاء للجيش الأمريكي”.
أخيرًا، يرى سنان أنطون أن رحلته الأدبية لا زالت في الشوط الأول، بلغة كرة القدم التي يحبها، فما زال أمامنا شوط ثانِ طويل، سنرى ما سيحدث ونراقب التحولات.
مجلة رمان