بدأنا بحثنا منذ حواء/ لادان عثمان

ولدت لادان عثمان في الصومال، وهاجرت إلى الولايات المتحدة، حيث نشأت ودرست وحصلت على إجازة جامعية من كلية أوترباين، وعلى الماجستير من جامعة تكساس، مركز ميشينر للكتاب. فاز ديوانها “شهادة ساكنة المطبخ”، الصادر عن مطبعة جامعة نبراسكا في 2015، بجائزة سيلرمان للكتاب الأول. نشرت في مجلات مرموقة، مثل: “أبوغي”؛ “كولومبيا بويتري ريفيو”؛ “رور ورومبوس”؛ “ترانزيشن”، و”واكسوينغ”، وتعمل حاليًا في مجال السينما والتصوير الفوتوغرافي، وكمحررة في مجلة “أوفينغ” الأدبية.
تتناول في شعرها مواضيع السلالة، والجندر، والإقصاء، والكولونيالية، والنسوية. آخر مجموعة صدرت لها بعنوان “منفيو عدن”، وهو كتاب شعري يجمع بين الصور الفوتوغرافية وكتابة النص التجريبي. تميل في شعرها إلى الغنائية وتقصّي الواقع في حالات يكون فيها التصور حول القدرة الأنثوية محدودًا، وفي أمكنة كثيرة لا تُمنح النساء فيها مصداقية من حيث الاستقلالية والتحلي بالمنطق والحكم السليم. قالت في لقاء صحافي إن كتابة الشعر بالنسبة لها مسؤولية وإخلاص للصنعة ومحاولة للوصول إلى نص إبداعي عن طريق السعي إلى مستويات أعلى من الفهم والدقة، وتحاول أن تجعل قصيدتها تعبر عن مظاهر في التجربة الإنسانية تضيء عوالم الذات الداخلية.
في ديوانها “شهادة ساكنة المطبخ”، تترحل القصيدة عبر المشاهد الداخلية لعوالم غير مؤكدة، تعيش في تحول مستمر. أثنت مجلة “باريس ريفيو” على هذا الديوان، قائلة إنه يعكس قدرة عثمان على خلق التناغمات، وتغيير النبرة، بلغة غنية تصعيدية وتحويلية في القصيدة نفسها، بحيث تصبح متعددة المستويات.
ترفض عثمان، كما قالت في حوار معها، أن يصنفها أحد تحت مسمى ما، فالذات هي دائمًا في رحلة بحث، والشعر، أيضًا، في تحول مستمر، ولهذا فأي تصنيف هو سجن.

في هذه المختارات التي نقدمها للقارئ العربي، ما يلقي، جزئيًا، الضوء على شواغل وهموم وطرق لادان عثمان الشعرية.
[اختار القصائد وترجمها عن الإنكليزية أسامة إسبر]
—————————
رفض يوريديس (مقطع)
نرفضُ أن نموت بالرقى.
نرفضُ أن نموت في هجومٍ.
نرفض أن نموت في السقوط.
نرفض أن نموت مكتئباتٍ.
نرفض أرواحًا تحاول قمعنا،
نرفض أرواحًا تسعى إلى امتلاكنا.
نرفض بشرًا يدعون نفسهم آلهة،
يحاولون أن يطعّموا أجسادنا بنيران الجحيم،
رافعين أعمدة نيران في فناءاتنا.
نبحث عن أساطير أفضل.
لقد تعبنا من السقوط
والعثور على أنفسنا بين الأقدام.
نفتش في أنحاء الأرض
عن صورٍ تنسجُ أمثالًا وحكايات.
تركنا الثعابين تحت الأقدام بسلام
بيد أننا نرفض لدغاتها.
نرفض الموت بالخطاب.
نرفض الموت بالمنفى.
نرفض الموت بالسقوط،
نرفض الموت مكتئبات.
نبحث عن أساطير أجمل وأفضل
ولقد بدأنا بحثنا منذ حواء.
———————-
مشهد طبيعي لإبادة جماعية
كانت أمي أثناء حملها تتمشّى كل صباحٍ على شاطئ ليدو
لهذا أعرفُ الرائحة المعدنية للماء المالح أينما يمّمْتُ، أعرفها
إذا خبزتْ الشمسُ معدنَ الأرض،
إذا تعرقتْ فروةُ رأسي الرطبة،
إذا وضعتُ راحتيْ كفيّ المصبوغتين بالحناء على وجهي.
أقول: “يا ألله! لا إله إلا الله” في راحتيْ كفيَّ اللتين تفوح منهما رائحة المعدن.
حين بدأ دمي يتدفق في عروقي، بدأت الحرب.
ومنذ نشوبها وأنا أصبغ قرص حناء على كل راحة كف.
أجدد الحناء إذا صار لونه بنيًا، كدم قديم.
“يا إلهي!”، أتمتمُ في راحتيْ كفيَّ اللتين تفوح منهما رائحة معدنية حين أرى الشارع يعجُّ بأغطية بيضاء، ورجالٍ نحيلين يحفرون القبور
من الليل حتى مطلع الفجر
إلى الليل ثم حتى مطلع الفجر.
يتوقفون عند كل صلاة.
تسحبني كرةٌ ضوئية إلى شارعٍ معتم، ترفعني من قدمي،
فأصيح: “هذا ضوئي!” وأمسكهُ بقوة وأشده على بطني.
أنا هادئةٌ، تجاوزتُ الهدوء المعروف،
أمتلكُ جاذبيةً خاصة بي، ورغم ذلك لم أضئ الشارع.
كان آخر شيء وعدتْني به أمي هو صورة لها،
في الشهر الخامس من حمْلها، على الشاطئ، فيما المحيط يُضيء ظهرها.
قالت: “اذهبي عند مطلع الفجر”. كانت المياه أكثر دفئًا عند مطلع الفجر.
والفتيات ينطلقْن فجرًا إلى الشاطئ في أي لباس يرتدينه،
حتى لو كن سيذهبن إلى المدرسة لاحقًا.
لم تستطع أمهاتهن منعهن من الذهاب إلى الماء،
من الخوض بلباسهن الكامل فيه.
لم يكن هنالك مكان يمكن الذهاب إليه إلا ليدو.
كرةُ الضوء حجرٌ رخاميٌّ كبير في حجابي الحاجز سيعوم معي هناك.
لم يكن هنالك مكانٌ نستطيع الذهاب إليه سوى المحيط.
بين هذه الصحراء الداخلية وحافة
عالمي المعروف، رمال برتقالية مصطبغة بشاي أسود
ترتسم عليها عجلات وآثار أقدام واضحة وشبه مرئية.
أشجار أكاسيا متفحمة ساقطة على وجوهها في الغبار.
صباريات تعلّم عناقيد من القبور،
قبور بشرٍ وأشجار مثمرة، عظام ماشية طويلة،
قبابٌ مذهلة لأضلاع جِمالٍ تنتصب كقاعة كبيرة
تضيئها شمس لا تعرف اللين.
لا مكان نستطيع الذهاب إليه سوى المحيط
بين هنا ورائحته المعدنية، عظامُ بشر،
صغيرة وليست صغيرة، أسودُ أدغال وأشبالها،
وثمة دومًا بقايا عظامٍ على الخط الفاصل بين العوالم المعروفة
والوحشية. بين هنا وليدو، كانت الأرض في سجود كامل.
كانت الأغنية الوحيدة المسموعة معدنيةً. تناثرت قذائف، أو رصاصات كاملة تحت الأقدام، وأحيانًا كنت أرى أكوام جثث
على أطراف البلدات، وفي مراكزها وجوهها مدارة إلى الأسفل
في الليل، في الفجر، أثناء صلاة العصر، في الغسق.
بين هنا وليدو، الأرض وكلّ ما فيها
في خضوع تام لرائحة مائنا المعدنية
ودمنا وعجزنا عن قول أي شيء،
حتى “يا ألله! لا إله إلا الله!”
ونحن ننطلق عند الفجر.
—————————-
إلى امرأة حبها طائر مهاجر
أنا مسكينةٌ جدًا أمامكَ،
مجرّد طائر مغرد
ألوانهُ زاهيةٌ كألوان الطاووس،
أحيانًا يزداد جمالها ألقًا في الضوء الكامل للشمس.
قصيدةُ الحب
التي نويتُ أن ألقيها ضاعتْ
عوضًا عن ذلك شتمتُ،
أطلقتُ لعنات كمن تتحدّث لغة أجنبية.
وبدلًا من “أغرب من هنا”
قلتُ: “اجلدني”. إن الكلمة الملائمة
صوتُ صوصٍ في بيضة، منقارٌ في شقٍّ صغير.
دمكَ حارّ ويتدفق
مفصلاتُ صمّامات باب قلبكَ
تسمح للأشياء بالدخول إلى جميع غرفه
ألهذا القُبلُ الصغيرةُ لا تكفي؟
في تنهيدتكَ صوتُ ماءٍ ينسكبُ
في إبريقٍ حارٍ فارغٍ.
أقول: لنحلم الحلم نفسه اليوم،
فتتوهّج ابتسامتكَ
كزجاجٍ أحمر في ضوء معتم.
أحلمُ أن سنّي الأمامي
عمودٌ يتساقط ويتفتت
وأنك مدينة الخطيئة التي تنهار برمتها.
بدلًا من “غادري” تقول: “دمّري”.
أنت مسكينٌ جدًا أمامي.
فدعْنا إذًا نرسم المحيط
عوضًا عن فعل أي شيء آخر.
نغمس ريشتين في قماشةٍ
تخطفهما من أيدينا.
الآن أنت ذيلُ طائر مغرّد
يجذبُ الأعين من الطرف الآخر للطريق
وأنا أفضلُ غرفةٍ في قلبك.
————————
ماء
جئتُ إليكَ حاملةً الماء
أتيتُ إليكَ حاملةً ماء موحلًا
من بئرٍ مياهها متعكرة،
حملتُ الماء في إبريق خرطومه مشقوق.
طعمُ مائي مالحٌ كالتراب، وبالتالي كالدم.
أحضرتُ قدْر ما أستطيع حمله
في دلو نقّطَ جداول ماء صغيرة
على ساقيّ الرماديتين من الطين.
سرتُ بين البئر
والمنزل بما يكفي طوال أيامنا معًا
ولهذا الممر معلّم
بطُرقِ كعبيَّ المتشعبة.
سلكتُ إليك طريقًا فيه دروب كثيرة
ستراها إذا انحنيتَ في الغبار ونظرتَ.
أستسلم لك كما يستسلم الماءُ للقمر.
تخضعُ لي كما الجدارُ خاضعٌ لسقفه.
أتوقع دفقك عليَّ فجأة كالماء،
هجومَك كلحمٍ ينبثقُ من شقوق في القماش.
وكحائط ترتسم فيه شقوقُ تَهَدُّمٍ،
تنتقشُ شعيراتُ التغير
يومًا بعد يوم على سطحنا.
جئتُ إليك بالماء من بئري العميقة.
جئت إليك بالتراب لمائك الجاهز،
ماء لكل شق في الوادي
الذي يقسم لسانك
وضعت رأسكَ بين ذراعيَّ وسافرتُ
على طرق كثيرة
تقود خارج ذلك الوادي.
———————–
الرجلُ الذي يضعُ التراب على رأسه
أحرثكِ يا حديقتي.
أُزيلُ أعشابك
ولا أتردّد إلا حين تشدو الطيور
بلحنٍ عذب فريد.
أتساءل إن كانت النباتات الأصغر التي تتمسك بترابكِ
تمتلك الحق في هذا،
أنتزع أذرعًا من أساساتها
وهي تمتد إلى جيرانها من أجل المساعدة،
أرى الحليب يخرج منها حين تختنق،
وأمنعها من الحصول على ذرية. كان
لها حق في التربة، حين لم تفهم
كيف تتضخم أنشودةُ طائرٍ في كاتدرائية الشجرة
كيف يمكن لشخص أن يترك حياة على طاولة المطبخ،
وكيف تكون الحاجة أكثر إلحاحًا قبل مطلع الفجر،
ساعة الموت المشهورة.
لن يبردكِ هذا التراب. أزيلُ الأعشاب
وأتركُ الزهرة البرية. آخذ الزائد وأضعه على رأسي.
من يقلب التربة؟ مَن الحديقة؟
في الأيام التي كانت تواكبنا فيها الفراشات
والخنافسُ في عملنا، كنا ماء وريحًا في آن
بذرةً وبتلةً، فلاحًا وتربة تقاوم، ثم تلين.
نزيل الديدان المتطفلة.
آه كم يذكّرنا لونها بأمكنة خاصة،
فيما تتمسّك بجذور أي شيء!
———————-
مواقف مطلوبة
هل هناك شخصٌ قادر أن يكون أقرب إليّ
من سبابتيّ،
ومن ذراعي وضلعي؟
أبحثُ عن رجلٍ يتركني
أجعل نفسي صغيرةً ثم أزحف
وأدخلُ إلى جيبه وهو يشاهد التلفاز.
عليه أن يعرف كيف يحبّ ظله،
كيف يقول: “أحبكَ” حتى لمحيط جسمه.
لنكن أرساغًا تحكُّ بعضها
سأظهر لك نوايا حسنة.
سأكون صديقتكَ بالطريقة التي تُصَادَق بها المرايا
ثم أنمّي مياهًا. غير أن وجهي إبريقٌ أسود
يمكنك شرب مياهه، لكنك لا تستطيع أن ترى قاعه
إلى أن تصدم حشرةٌ شفتيك.
إذا كنتَ راغبًا
سأريكَ كيف تعرفُ الأصابع بعضها البعض.
حتى الطيور
تحاول أن تبني أعشاشها مرة تلو أخرى.
———————-
إلى هابيل
أنشدْ أنشودتك فجأةً،
اتركْها تصبح بابَ سيارة
يضربُ عظْم صدر،
دمعة صغيرة في رمشة عين.
من سيسمعها إذا واصلتَ دندنتها
في قاع حنجرتك؟
أنا أسمعها.
أنا الشقيقة التي راقبتْ طائرًا يدفنُ موتاه
ولم تفهم.
قلتَ: “النجدة”، وأعلنتَ “النجدة” بأنين
علق في صندوق صوتكَ.
لكن الكلاب سمعته،
اتصلت بسيارات الإسعاف
التي أخذتكَ بعد أن تشوشت الخطط،
وحدك على محفة
من بين الخطوط المشققة
التي تعلم مكان رَكْن السيارة.
لا أحد منا يعرف أفضل الصلوات
لكن في وسعنا التظاهر،
في وسعنا أن نتركها تتردد
في خلفية حناجرنا كألحان.
———————
البدو
نحن بذورٌ لا تعرف أين ستستقر.
نحن بدْوٌ.
يا إلهي، نحن نكدح.
أقدامنا مغبرة.
إلى أين كنا نركض طوال هذا الوقت،
فيما الأرض والأفق يتراجعان؟
وجّهْنا يا إلهي
كما توجِّه الطيورَ والعناكبَ التي تعرف أين بيوتها
كما ترشد زغبَ نبتة الطرخشقون.
لن نكون الخنفساء وهي تهرب
صاعدة جدار المصلى.
لن نجري تحت تنانير نساء يشعرن بالقرف.
كم منا نساء بمكانس في أيديهن؟
كم منا يراقبن الخنفساء؟
إذا شعرت الأفواه
أنها محشوة بالقطن قبل الموت،
يجب أن نموت في الحال.
أعْطنا ماء
أو خذْنا إلى داخل البحر.
——————-
المترجم: أسامة إسبر
ضفة ثالثة