وأقبلتُ من سُكرٍ أميلُ إلى سُكرِ/ عمار المأمون
يُستخدم في اللغة المحكية أن فلان “سكرَ طينةً”، دلالةً على السكر الشديد، وكأن تارع الخمر عبّ منه إلى حين لفظهِ نَفَس الله الذي كونه بشراً، فعاد طيناً لا حياة فيه. لكن ميتة الخمر صغيرة، يُبعث بعدها الشخص هشاً، مليءَ الرأس مصدوعاً؛ الحالة التي توصف باللغة الإنكليزية بـHangover. وقد استُخدمت هذه الكلمة أولَ مرة عام 1904، وتعني “الشخص أو الشيء المتروك، التذكير، النجاة، أو الأثر اللاحق”. تشير هذه المعاني إلى أن ما بعد السكر، ينفي الشخص من عالم العقلاء، هو ناجٍ من الخمر، ومتروك ليستعيد قواه.
تحوي اللغة العربيّة مقابلاً لهذه الكلمة وهي “الخُمار” أي بقية السكر، أو ما تبقى منه، وقد استخدم الخُمار كثيراً في التراث الأدبي العربي والفارسي، حقيقةً واستعارةً. وهذا بالضبط ما نحاول الحديث عنه: ما بعد السكر، زمن أول الصحو، الحالة التي عادةً ما ترتبط بالصباح، حيث يستعيد العقل اتزانه بعد “تخامره”، أي عودة الصريع إلى الوعي أو بداية الوعي، وهذا ما يجعل مرحلة ما بعد السكر خطيرة؛ هي استعادة للأنا بعد ضياعها، ونقصد هنا إعادة رسم الحدود التي كسرها السكر، و ضبط حوافها فيما يجوز وما لا يجوز.
أي إنْ كان السكر رحلة لاكتشاف الذات، فما بعده هو عودة إليها، وترسيم لحدودها، خصوصاً في ظل حالة جسديّة قاسية، إذ نقرأ في رسالة “الشارب والمشروب” للجاحظ ما مفاده أن السكر :”يطول منه الأرق والصّداع، ثم يورث بالغدوات الخمار، ويختل سائر النّهار…، وفهم الأوقات”. وهنا يمكن أن نفهم معنى الكلمة الإنكليزية “الشخص المتروك” أي ذاك المنفي مؤقتاً من النهار إلى حين استعادته لعقلِه، ونجاته مما هو فيه.
ولا بد أن نشير إلى أن الجاحظ في رسالة “مديح النبيذ وصِفةُ أصحابه”، يذكر: “يدفع مضرة الخُمار”، أي ربما النبيذ وحده هو ما لا يترك صاحبه “طينة”، كونه يختلط بالدم، ويرققه، لا ينفيه ويسمّه.
لعنة الصباح إذ حلّ
ما نحاول الإشارة إليه أن زمنَ ما بعد السكر أو صُبح الخمرة، هو إعلان بداية نهارٍ لَعينٍ، الجسد نفسه فيه منهار ومحطّم، كتلة واحدة يملأها سائلٌ يَشجُ الرأسَ من داخله. وهنا تظهر خصائص ما بعد السكر، إذ يتحول الجسد إلى وعاء اختلطت مياهه، و”الغول” بينها أشبه بكتلة زئبق مائعة كلما مالت كلما حرّكت الألم. أما العودة إلى العقل فتعني نفي هذا “الغول/الزئبق” الثقيل كمعدنٍ ذائب من لظى، يتحرك كلما مال صاحبه يميناً أو شمالاً، ليتحول الجسد بأكمله إلى كتلة ألم، سفينة بلا ربّان وسط عاصفة لا فكاك منها، لا بد له (أي الجسد) من الثبات منعاً لحركة هذا السائل الذي يضرب قمة اليافوخ (ونعلم حالياً أن السكر ينتج عن ارتفاع نسبة الكحول في الدماء).
المهم أن الفرد في حالة ما بعد السكر واعٍ بالضرر الذي وقع على جسده، فتهشّم كيانه وتضررت كلماته، و اختلطت أثقاله وتفاوتت، فالخمر “شديد الملء للدماغ” حسب ابن سينا، بل يمكن أن نستطرد ونقول لإنه يملأ الدماغ حتى غيابه.
رفض الجسد الواعي بحطامه للغول يحرك الرغبةَ بطرد ما في الداخل، فالحل إما بالقيء، الفعل اللاواعي أو اللإراديّ، لطرد الزائد من الخمر خارج وعاء الدماغ والمعدة، أو كما فعل عبد يغوث بن صلاءة، الشاعر الذي وقع في الأسر، والذي لم يرَ بدّاً من موته، فاختار السُكر، لكن ولتجنب صحوةِ ما بعد السكر ويقين الموت، طلب من آسريه قتْلةً كريمةً، فبدأ بشرب الخمر وقطع شريانه “الأكحل”. الملفت أنه استبدل دمه غولاً، فلا اختلاط إذاً في سوائل جسده، ولا صداع الصحو وذنب الإكثار من الشرب، بل مَزٌّ حتى الموت.
البوصلة المكسورة وخلّاط الإسمنت
لحظة الصحو من السكر في الصباح، هي تلك الساعات التي تتفعل فيها العمليات العقلية التي يعيد عبرها الفرد تكوينَ ذاته المُدركة لنفسها، إذ تعيد الأنا رسم أخلاقها بعد السُكر، فما انتُهك زمنَ الانتشاء، لابد من ضبطه زمنَ الصحو، وفي هذه اللحظات، حيث الخجل والإحراج والذنب والألم، تخضع الذات لإعادة النظر من قبل صاحبها، وتعيد تقييم الدور الذي تلعبه أمام الناس صاحيةً. لكن القرارات التي تتخذ في هذه اللحظات هي الأشد صدقاً، وإن لم تكن هي الأصح أو الأحسن. والمفارقة هنا أن هذا “الصاحي بعد سكر” لا يحدق به الآخرون فقط ( أي متخيله عن ذاته لدى الآخرين)، بل يحدق بنفسه أيضاً، وكأن جسده نفسه يتشيّأ، غرضاً أو طينةً لابد من عجنها، لتعود إلى حالها ثم تقسو تحت ضوء الشمس.
وهذا ما يتضح في محاولة عبد الله بن جدعان أن يمسك القمر سكراناً، وبعد صحوه، وإدراكه لما قام به حرّم الخمر على نفسه. وهنا المفارقة، فما حققه الخمر نفاه الصحو، فالرأس المتألم صباحاً، يعلم بدقة، ليس فقط عجزه عن الإمساك بالقمر، بل يقينه بنور الشمس الذي يعمي البصر، ذاك الذي يتفاداه الصاحي بعد سكرة، لكن لا بد من إدراكه كي يستعيد الطين تماسكه ليُعيد صاحبه فرداً.
الأنا التي تصحو من السكر تكتسب معرفة ذاتيّة لم تكن تملكها من قبل، صحيح أننا نعلم الأسباب الكيمائية للألم والإرهاق بل ويمكن أن نقيسها، أي أن نعرف مستوى الغول في الدم، لكن الأنا تستخدم لسان الصحو بأسلوب مختلف لتصف حالها، تلك الحال التي لا يمكن تعميمها، بل لا تتكرر لدى الشخص نفسه، إلى درجة أن الكاتب البريطاني بي.جي.وود هاوس، قسّم على لسان أحد شخصياته في كتاب “موسم التزاوج-1949،” أنواع الصحو ما بعد السكر إلى: “البوصلة المكسورة، ماكينة الخياطة، المذنّب، الذريّ، خلاط الإسمنت، ووحش الليل”.
لا نمتلك شرحاً لهذه المراحل، يكفي فقط تأمل الكلمات، وتخيلها ضمن الرأس المصدوع، فإن كانت صفات شارب الخمر بالتدريج من الكأس الأول حد الإغماء هي “النشوان، ثم الثمل ثم السكران ثم الصريع”، فمراحل الاستيقاظ أشدّ، وربما هي :”المشلول بزئبق يملأ رأسه، ثم الواقف على ماء يتهادى على سطحه، ثم الشبح يبحث عن جسد يسكنه، فالجالس متأملاً البارحةَ بينما تعمي الشمس بصره”، ولا حلّ لهذه الحالة من “الخُمار” إلا بقطع الرأس، وتركه معلقاً ليسيل منه السُكر والدماغ والذات.
رحلة الصحو ممّا بعد السّكر
لا حلّ آنيّاً للصاحي من سُكرِه للتخلص من ألمه، فالتوبة، مثلاً تعني العودة إلى الأصل، أي إلى ما سبق، وفي هذه الحالة، تعني العودة إلى السكر. ولطالما حاول السكارى تفادي هذه “الصحوة”، خصوصاً أنها تعيدهم إلى أناهم وما عليها من مسؤوليات؛ مثلاً نقرأ أبا نواس الذي يقول ساخراً: “قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس/واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس/اترُكِ الرَبعَ وَسَلمى جانِباً/وَاِصطَبِح كَرخِيَّةً مِثلَ القَبَس”. ما يهمنا من الأبيات، هو التخلي المرتبط بالسكر، فلا أطلال ولا حبيبة وأهل، بل الحل هو الشرب حتى الصباح. لكن ما بعد الاستيقاظ والاتزان، هناك ألم فراق الحبيبة، ومشاغل الأهل والأرض التي ضاعت. والملفت هنا أن أبا نواس لا يشير إلى لحظة التوقف عن الشرب، أي لا لحظة للعودة إلى ما سبق، هو الذي صدح: “غدوتُ على خمرٍ ورحتُ إلى خمرِ/وأقبلتُ من سُكرٍ أميلُ إلى سكرِ”.
نرى أن حالة “الما بعد” هذه مكروهة، لا يرغب بها الشاربون، لامتلائها بالصداع وتغوّل الدماء، كذلك لا رغبة بالعودة إلى الحقوق والواجبات المترتبة على الفرد. مع ذلك، وهنا يظهر الاقتباس الأشهر لامرئ القيس: “اليوم خمرٌ وغداً أمرُ”، إذ يقال إنه شرب سبعاً، أي برغم شدة الخبر الذي وصله عن موت أبيه، بقي سبع ليال يشرب، دفع الصحو طويلاً، وأخّر لحظة استعادة “ذاته. طبعاً لن ندخل بالتشكيك بحياة امرؤ القيس نفسه، ولكن في مثل هذه النوائب، عادةً، لا ينقطع المرء عن الشُرب، فبراء بن عامر شرب حتى مات، وذات الأمر مع عمرو بن كلثوم التغلبي (صاحب المعلقة) فإنه شرب حتى مات، وكأن الصحو فيه مذلة، واستعادته فيه هلاك، ليفضل الشارب إثر ما حل به أن ينتهي طيناً بلا روح .
رصيف 22