“أنا مستعد أن أنتحر إذا أجبرت على العودة إلى سوريا”…هل أصبحت سوريا حقاً آمنة؟/ ليندا بلال
كعادتنا اليومية، أمي وأختي وأنا، نباشر مكالمتنا الهاتفية الصباحية مع فنجان القهوة، عادة بدأت مع تفريقنا بين الدول، إلا أنها كانت هذه المرة مختلفة.
طلبت فيها أمي، المقيمة في تركيا، أن نسامحها إن أجبرت على العودة إلى حلب. كأنها تكتب وصيتها قبل الموت. صمتت أختي المتزوجة من دمشقي رفض قصف أبناء جلدته أيام خدمته الإلزامية في سوريا ليهرب تجاه تركيا، واليوم أصبحت هي وأمي مهددتين بالإعادة “الطوعية” إلى سوريا من تركيا.
أخرسني صوت أمي الخائف، أذكره جيداً يوم غادرت بيتها للمرة الأولى وخرجت معنا أنا وإخوتي إلى تركيا هرباً من الموت المحقق والقذائف العشوائية.
خدر رأسي من فكرة موت أمي في أرض باتت محرّمة عليّ.
أغمضت عينَي لأبدأ جملاً مطمئنة لخوفنا جميعاً: “سمعتُ قصصاً عن ترحيل سوريين من تركيا لأسباب تتعلق بمخالفتهم للقوانين، أما أنتما فأبعد ما تكونان عن ارتكاب المخالفات في تركيا”.
ساد الصمت بيننا وما هي إلا لحظات من صوت أنفاس ثلاثتنا حتى كسرت أختي إرباك صمتنا: “ما يحصل على أرض الواقع مختلف تماماً، تم ترحيل العديد ممن لا ناقة لهم ولا جمل. هنا في مدينة غازي عينتاب السوريون مرتبكون. يخافون من قطع إشارة مرور حمراء. تغير الأوضاع الاقتصادية في عموم البلاد رفع من وتيرة العنصرية”.
هل أصبحت سورية آمنة؟
طال الارتباك معظم السوريين في تركيا وخاصة بعد تداول تصريحات وزير الخارجية التركي “مولود جاويش أوغلو”، الذي تحدث عن مصالحة بين السوريين المعارضين والنظام.
ثم انفجرت بنود “اتفاقية تركية أسدية”، بنقاط خمس لكل جانب، من أبرز ما جاء فيها إعادة أهالي المدن “الآمنة” حمص، حلب، ودمشق إلى سورية.
عندها ولد السؤال المحير للعالم على ما يبدو هذه الأيام، وهو “هل سوريا آمنة؟” لتليه سلسلة استفسارات تبدأ بالمقياس الذي اعتبر على أساسه أن سوريا أو حتى مدنها الكبرى آمنة لجميع السوريين؟ وصولاً للاستفسار الأكبر: “هل انتهت الثورة ليسوقنا العالم إلى جلادنا ككباش لاحتفالات نصره؟”.
يحكي اللاجئ السوري في تركيا، مصطفى باكير37 عاماً، لرصيف 22، عن أوضاع السوريين بعد الاتفاقيات التي تلوح في الأفق القريب: “بدأت القصة حين اقترحت أحزاب المعارضة خطة لإعادة السوريين خلال خمس سنوات. ثم ظهر حزب آخر واضعاً خطة للإعادة في سنتين. يأتي الحزب الحاكم وينافس الجميع بالمدة ويضعنا في بوتقة الإعادة ضمن خطة زمنية أقصاها سنة واحدة. بات الوضع في تركيا خانقاً لمعظم السوريين وهنا أتحدث عن مدينة غازي عينتاب حيث عملت مؤسسات الحكومة مسحاً للمناطق التي يقطنها السوريون ثم منعت خروج أي منهم لاستئجار منزل في باقي مناطق المدينة. ولا يخفى على أحد إلزامنا بطلب إذن السفر في حال أردنا زيارة محافظة أخرى. بتنا نعيش في كانتونات سورية تضيق علينا مع الوقت. بالإضافة لمنعنا من الحصول على إقامات للعمل وبالتالي تعزز تدني الأجور، وتلاشي حقوقنا الأساسية. إن تحدثنا عن التضييق المتواتر على مدى سنوات فسوف نجد أن العودة إلى سوريا لم تعد “طوعية” بل باتت إجبارية”.
يتوقف مصطفى قليلاً كأنه يفكر فعلاً بالعودة إلى سوريا علّه يرمي عن كتفيه أثقال كلّ ما سبق، قبل أن يكمل: “ما من قرارات واضحة أو وعود جريئة بما يخصنا. لا أعرف سورياً يعيش في تركيا، حتى أولئك الذين منحوا الجنسية التركية، إلا ويفكر في الهروب، ولكن إلى أين؟ العودة إلى سوريا بالنسبة لي هي من واحد من شقين أحلاهما مرّ. الأول، العودة لمناطق النظام وهذا يعني الاعتقال أو القتل أو الإخفاء القسري، لكوني منشقاً عن جيش النظام، الذي أمر كتيبتي بقصف مناطق في ريف دمشق. أو الثاني، وهو العودة إلى مناطق المعارضة التي سوف تعود إلى حضن النظام إذا ما نفذت بنود الاتفاقية. ولا يخفى على أحد أن بقاء هذه المناطق تحت سيطرة المعارضة المسلحة لا يعني خلوها من المشاكل السياسية، التنظيمية، الإدارية، الاقتصادية، وحتى القانونية وهذه كلها تجعل من العودة إليها تحدياً أكبر من العودة إلى مناطق النظام. المشهد اليوم يمكن اختصاره بأن الحكومة التركية وضعتنا بين فكي كماشة والهرب منها شبه مستحيل”.
نصمّم أبنية لنقطن الخيام!
يقول المثل الشعبي: “الطبل في دوما والرقص في حلب”، إلا أن طبل الإعادة رقصت عليه حتى حكومات أوروبية ولم يكن حكراً على تركيا أو لبنان. فمصممة الأبنية الدمشقية، علا مروان، المقيمة في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن تسرد لرصيف22 قصص ترحيل السوريين الموجودين في الدنمارك: “خرجت الحكومة عام 2019 بتقريرين من دائرة الهجرة مفادهما أن دمشق آمنة وليست سوريا كلها آمنة. لذا بدأت مؤسسات الحكومة المختصة بفتح ملفات القادمين من دمشق. تبدو عبارة فتح الملف بسيطة لفظاً لكنها تجسيد لرحلة شاقة تقضي بإعادة إجراءات قبول لجوئنا في الدنمارك ثانية. كان الوضع مأسوياً بالنسبة للدمشقيين وأنا منهم. يقطن أغلبنا منذ سنوات عديدة في الدنمارك حيث قطعنا حواجز اللغة والدراسة والعمل وبدأنا بالاندماج الحقيقي في الدولة المضيفة”.
أثار التقريران استنكار السوريين في الدنمارك وبعض الدول الأوروبية. فقد خرج عدد كبير من السوريين للتظاهر والاعتصام لمدة شهر أمام مبنى مجلس النواب الدنماركي، ولكن لم يتغير شيء، تشرح علا: “غالبية من رُفضت ملفات تجديد إقاماتهم كانوا من النساء والأطفال والذين وصلوا الدنمارك عن طريق آلية لم الشمل والحجة أنهن لا يجبرون على تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية في سوريا. إن ربط الأمان بعدم تأدية الخدمة الإلزامية أمر كارثي وعشوائي في الوقت نفسه، وينم عن عدم فهم لمنطق عمل النظام السوري. يمكن للأخير أن يعتقل العائدات كرهائن للضغط على أزواجهن أو أولادهن لتسليم أنفسهم”.
تشتد شوكة النظام السوري، وبخاصة مع انطلاق حملات الترويج لإعادته إلى حضن المجتمع الدولي، وإعادة السوريين إلى حضنه.
بعيداً عن كون المنتفع في العودتين هو النظام، والخاسرين هم السوريون، إلا أن بعض قوى المجتمع الدولي والشركات الأوروبية استثمرت، كما العادة، في هذا الحفل الكبير.
باشرت شركة CultureRoad السياحية الهولندية بتنظيم رحلات إلى المناطق المدمرة في سوريا تحت عنوان سياحة الحرب. فهل باتت بقايا الحرب المتروكة لتمزق فضاء المدن السورية إشارة إلى الأمان الذي يبلغ حده متمثلاً بالسياحة وسط الأشلاء، أو فوقها؟
بالعودة إلى الجيران، الذين من المفترض أنهم اختبروا سوريا عن قرب، يقول باكير: “خُرّبت سوريا أخلاقياً وإدارياً أكثر من ذي قبل. تشوهت البلد بذاكرة دموية تقبع في زوايا الحارات. تحتاج البلد سنوات طويلة لتصير دولة قبل أن تقفز لكلمة آمنة. ما هي الضمانات التي تكفل بقائي حياً كي أكون جزءاً من إعادة إعمار بلاد لفظتني لمجرد رأي مخالف لمن هم في السلطة. رغم كل هذا الواقع المستحيل في سوريا إلا أن البعض يقبل العودة، بدلاً من العيش في تركيا تحت الضوء. يحاول السوري تجنب المشاكل والحفاظ على سجله العدلي في تركيا نظيفاً، فلا مجال لأي خطأ بشري في سياقة السيارة أو أي تأخر بسيط في دفع فاتورة كهرباء. الخطأ يكلّفك حياتك، حرفياً لا مجازاً، نعيش على حدي سكين بعد أن نزعت الحرب أجنحتنا فلم نعد نقوى على الطيران بعيداً”.
يلاحق الخوف السوريين في بلاد ترفض وجودهم، وكأنهم لعنات تُقذف خلف الحدود.
فبعد الحرب الروسية ضد أوكرانيا انحصر الاهتمام بالقضية السورية في إعادة اللاجئين قسراً حتى من البلاد التي تدعي أنها بلاد حقوق الإنسان في القارة العجوز.
ويقف غياب التمثيل الديبلوماسي للنظام السوري عقبة في وجه تنفيذ هذه البرامج، إلا إن روسيا تعمل بقوة على حل هذه العقبة، والبداية على ما يبدو من تركيا.
ليست الدانمارك هي الوحيدة بين بلاد الشمال التي قررت إعادة دراسة ملفات اللاجئين السوريين، حتى فرنسا بحثت في المسألة، ولكن من زاويتها.
يروي عمر الفرخ، 26 عاماً، وهو أحد الهاربين من الغوطة الشرقية عقب الضربة الكيماوية التي قتلت العشرات في سوريا صيف عام 2013: “هربت خوفاً من إجباري على تأدية الخدمة الإلزامية، للدقة اسميها الخدمة الدموية”. يحكي عمر عن تجربته في فرنسا التي وصلها قبل أكثر من خمس سنوات: “قبل فترة اقترح وزير الداخلية الفرنسي قانوناً يقضي بإعادة كل من عليهم أحكام قضائية أو ملفات إجرامية إلى سوريا. مع بداية طرح القانون حصلت بلبلة بين السوريين الخائفين من العودة. الجيد حتى هذه اللحظة أن مجلس النواب لم يصادق على القانون. لا أعتقد أنه يقصد اللاجئين السوريين، بل المجرمين إذا ما ثبت عليهم ارتكاب جريمة في فرنسا. أما بالنسبة لنا كسوريين فلا يمكن ترحيلنا لأنه لا وجود للدولة السورية على المستوى الدبلوماسي”.
يرى عمر سوريا بلاداً للموت فقط، كان عمره أقل من سبعة عشر عاماً يوم دفن أول رفاقه في دوما: “أنا على استعداد أن انتحر إذا ما أجبرت على العودة إلى سوريا غير الآمنة، وفقاً لكلمات ضابط المطار التركي الذي أوصاني بعدم العودة إلى هناك فهي بلاد حرب. لم يدرك الضابط أن الحرب هناك باتت صامتة، يُعتقل السوريون فيها يومياً ويقضون تحت التعذيب”.
يحشر السوريون في شريط الحدود الشمالي الخاضع لتركيا، أو ضمن بيوتهم الكثيرة في مدن البلدان المجاورة، أما في أوروبا فقد بدأت الدنمارك بحشرهم في مراكز الترحيل مع المجرمين المقرر ترحيلهم خارج القارة العجوز: “المانع اليوم من إعادة هؤلاء رسمياً إلى سوريا هو غياب التمثيل الدبلوماسي، فماذا إذا عاد النظام لحضن المجتمع الدولي؟ ما مصير السوريين المعارضين الهاربين؟ وقبلهم جميعاً ماذا عن مصير الملايين المحشورين في إدلب؟”. يقول عمر.
الحرب السورية ليست قنابل ومدافع وبراميل متفجرة وفقط، هي نصال خناجر ذبحت بصمت أبناء مدن برمتها، كابلات معدنية تأكل أجساد المعتقلين، هي حرب خرساء متوحشة يلوك فيها النظام أمان السوريين وأمانيهم وحياتهم دون رقيب أو حسيب، فهل صمت الحرب يعني انتهاءها؟ أتكون البلاد آمنة عندما يكون الحاكم سجاناً؟
رصيف 22