سياسة

جيوبوليتكال: التقسيم هو الحل الوحيد لمعضلة سوريا.. وإعادة الإعمار غير واردة

اختفى الصراع السوري إلى حد كبير من عناوين الأخبار مع وصول الوضع السياسي في البلاد إلى طريق مسدود. لكن الحرب التي طال أمدها غالبًا ما تبدأ في جذب المزيد من الاهتمام عندما تشمل الأحداث الكبرى في الخارج (مثل حرب أوكرانيا) واحدًا أو أكثر من اللاعبين الرئيسيين في المشهد السوري.

وتتطلب التسوية في سوريا توصل الأطراف الأجنبية إلى اتفاق، وهو أمر غير مرجح بسبب تضارب مصالحهم، لذلك لا توجد في الأفق نهاية قريبة للصراع السوري.

وتكمن المعضلة الأساسية في حقيقة أن كل مبادرات السلام المقترحة منذ عام 2011 لم تتناول صراحة دور “بشار الأسد” في الفترة الانتقالية ومصيره السياسي في سوريا ما بعد الحرب. وتعد سوريا الدولة العربية الوحيدة التي لم تؤد الثورة فيها إلى سقوط رئيس الدولة، ما أدى إلى صراع مطول تسبب في خسائر بشرية لا تُحصى وتفكك ديموغرافي ودمار مادي.

وبالرغم أن العديد من الأنظمة العربية استبدادية وقمعية، لكن في سوريا، حيث تحكم الأقلية العلوية منذ تولي “حافظ الأسد” السلطة في عام 1971، يتجاوز مستوى القمع حتى ذروة القمع في ظل نظام “صدام حسين” في العراق.

وألهم سقوط حكومة “حسني مبارك” في مصر الثورة السورية التي لم تطالب في البداية بإسقاط النظام. وقدم المتظاهرون السلميون مطالب عادلة بالحرية ومكافحة الفساد، لكن الجيش حاول قمع الاحتجاجات في مهدها.

وبينما كان السوريون يأملون في أن يقود “الأسد” عملية الإصلاح في سوريا، أصيبوا بخيبة أمل من خطابه في 30 مارس/آذار 2011، الذي وصف فيه الاحتجاجات بأنها مؤامرة دبرتها قوى أجنبية وتعهد بالقضاء عليها قبل الشروع في الإصلاحات. لذلك من المفهوم أن معظم السوريين اليوم يفضلون الإطاحة بـ”الأسد” من المشهد السياسي تمامًا. وبعد أكثر من عقد من الثورة التي تحولت إلى حرب أهلية دامية، لم يف “الأسد” بوعوده بالإصلاح وإعادة الإعمار وعودة اللاجئين.

وبالنسبة لـ”الأسد”، فإن البقاء في السلطة هو الضمان لمواجهة التهديد الوجودي له وللطائفة العلوية، لذلك كان أنصاره على استعداد لتدمير البلاد لحماية رئاسته، وتجاهل كل محاولات صنع السلام.

وفي أغسطس/آب 2011، قال الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” إن على “الأسد” إدخال إصلاحات أساسية أو التنحي. وفي عام 2012، أعلنت جامعة الدول العربية عن مبادرة تضمنت تخلي “الأسد” عن سلطاته والاعتماد على نائبه “فاروق الشرع” لقيادة مرحلة انتقالية تنتهي بإصلاحات حقيقية. لكن النظام في دمشق رفضها رفضًا قاطعًا، ومنذ ذلك الحين اختفى “الشرع” من المشهد السياسي.

وفي عام 2012 أيضًا، قدم الأمين العام السابق للأمم المتحدة “كوفي عنان” خطة سلام لا تشير صراحةً إلى رحيل “الأسد” لكنها شددت على الحاجة إلى حل سياسي يلبي تطلعات الشعب السوري، ملمحًا إلى حدوث تغيير جوهري في هيكل النظام. ثم جاء مؤتمر جنيف الذي أسفر عن خطة لحل سياسي أقرها مجلس الأمن بالإجماع في القرار 2254 في ديسمبر/كانون الثاني 2015.

ولم تتطلب خطة جنيف صراحة تنحية “الأسد” من السلطة، وقدمت خارطة طريق لتسوية مقبولة بالنسبة للدول التي وافقت عليها، وفي المقام الأول الولايات المتحدة وروسيا. وناقشت الوثيقة تشكيل هيئة حكم انتقالية تضم النظام والمعارضة وممثلي المجتمع المدني، مع سلطات تنفيذية كاملة من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى حكومة ديمقراطية.

ونصت الوثيقة على أن تكون قرارات الهيئة بالإجماع، ما يعطي حق النقض لكل من المعارضة والنظام. ومع ذلك، اعتقدت قوى المعارضة أنه يجب استبعاد “الأسد” من مستقبل البلاد كشرط مسبق للتوصل إلى حل سياسي.

ووافقت معظم الدول التي شاركت في مؤتمر جنيف على أن “الأسد” ليس له مكان في مستقبل سوريا، باستثناء روسيا التي أيدت حق “الأسد” في أن يكون جزءًا من المرحلة الانتقالية والترشح للرئاسة مرة أخرى.

ومع بدء تدخل موسكو في سبتمبر/أيلول 2015، اتخذت عملية السلام مسارًا مختلفًا. وحلت محادثات أستانا وسوتشي محل وثيقة جنيف. ورافق هذه التطورات تزايد الخلافات بين أنصار المعارضة. واستعاد الروس اليد العليا على الأرض، ما أدى في النهاية إلى جذب تركيا إلى عملية أستانا.

وتضمنت مقاربة روسيا لإنهاء القتال عنصرين؛ أولا: وقف دائم لإطلاق النار و4 مناطق خفض تصعيد، ما يعني تدمير مناطق سيطرة المعارضة ونقل مقاتلي المعارضة إلى محافظة إدلب الشمالية الغربية. وثانيا: إعطاء روسيا الأولوية لتشكيل لجنة لتعديل دستور 2012 أو صياغة دستور جديد. وبعد أكثر من 7 سنوات على بدء عملية أستانا، ظل الدستور دون تغيير.

ويتعارض هذا النهج مع قرار الأمم المتحدة رقم 2254 الذي دعا إلى تشكيل حكومة انتقالية تليها عملية دستورية تؤدي إلى انتخابات برلمانية ورئاسية. لكن الأطراف الدولية التي دعمت المعارضة لم تتخذ موقفا ضد تقويض روسيا لوثيقة جنيف، حتى إن بعض الدول نصحت المعارضة بالمشاركة في عملية أستانا بسبب عدم وجود بدائل قابلة للتطبيق. ولم تعد قضية خروج “الأسد” من السياسة من أولويات الجهود الدبلوماسية. وفي عام 2021، ترشح “الأسد” لولاية رئاسية رابعة وفاز بالطبع بسبع سنوات أخرى.

ومنعت العقوبات الأمريكية، المفروضة بموجب قانون قيصر “الأسد” من تحويل انتصاره العسكري إلى انتصار سياسي من خلال ربط عملية إعادة الإعمار في سوريا بالحل السياسي.

واليوم، تواجه جهود إعادة الإعمار عقبات بسبب عدم إحراز تقدم على عدد من الجبهات، كما أن عملية السلام معطلة، وقد فر ربع سكان سوريا (البالغ عددهم 22 مليون نسمة) من البلاد، ونزح ربع آخر داخليًا، كما أن الاقتصاد والبنية التحتية في حالة يرثى لها فيما ارتفعت معدلات الأمية حيث لم يحصل أكثر من 37% من الأطفال على التعليم الابتدائي. ويعيش أكثر من 90% من السوريين في فقر ويعاني 60% من انعدام الأمن الغذائي. وما تزال معظم الموارد الاستراتيجية، مثل السدود الكهرومائية وحقول النفط ومناجم الفوسفات، خارجة عن سيطرة النظام.

إن العصا الحقيقية الوحيدة التي استخدمتها الدول المعارضة لـ”الأسد” هي العقوبات أحادية الجانب، والتي سمحت لداعميه الرئيسيين في إيران وروسيا والصين بمواصلة دعم نظامه دون عوائق. ونجح “الأسد” في تجاوز العقوبات، تاركًا شعبه يتحمل العبء الأكبر. وتتجاوز تكلفة إعادة إعمار سوريا تريليون دولار، وحتى لو تمكنت الأطراف المتصارعة من إيجاد حل للصراع، فمن غير المرجح أن يرغب المستثمرون في لعب دور في إعادة تأهيل البلاد، مع استمرار عدم استقرار بيئة الأعمال وتفشي الفساد.

ومنذ بدأت الحرب الروسية في أوكرانيا، أصبحت عملية أستانا أقل فعالية. وعُقد الاجتماع الأخير لمجموعة أستانا – المؤلفة من روسيا وإيران وتركيا – في طهران قبل أقل من شهرين ولم يسفر عن نتائج ملموسة. ويبدو أن سوريا الآن معرضة لخطر التقسيم، حيث خلصت الدول المؤثرة إلى أن حل النزاع لا طائل من ورائه وأن الاحتواء هو أفضل سيناريو ممكن.

وستكون التسوية السياسية كارثية بالنسبة لـ”الأسد” لأن أي ترتيب سيؤدي في النهاية إلى الإطاحة به. لقد سئم السوريون، بمن فيهم العديد من العلويين، من العيش تحت سيطرته. ولا يؤيد “الأسد” سوى ثلث السكان في المناطق الخاضعة لحكمه، بينما يريد ثلثا سكان هذه المناطق الهجرة. لكن العقوبات ليست كافية لإجبار “الأسد” على قبول تسوية حقيقية.

وما يزال مصير سوريا غامضا لأن وجود الجيوش الأجنبية لا يسمح لأي من أطراف الصراع المحليين بتقرير مستقبل البلاد. ويبدو أن التقسيم هو السبيل الوحيد الممكن للخروج من المأزق. وفي الواقع، تم تقسيم البلاد بالفعل بحكم الأمر الواقع، حيث طورت الفصائل القومية والدينية والطائفية والسياسية إدارات ذاتية لإدارة شؤونها المدنية. في غضون ذلك، يبدو أن النظام يراهن على أن عودة سوريا إلى الجامعة العربية (إذا حدث ذلك) ستمكنه من إنهاء الأزمة بشروطه.

لقد دمر الفرنسيون سوريا عام 1920 وسيطروا عليها حتى عام 1943، وخلقوا دولة مصطنعة بلا أسس، وقد جمعت الدولة السورية مزيجًا من المكونات غير المنسجمة منذ أن بنتها فرنسا على خط طائفي وعرقي، وكان تفككها مسألة وقت، لذلك فإن إعادة تشكيلها يعد أمرا بعيد المنال.

الخليج الجديد

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button