ثلاثة مقالات تناولت رحيل “ميخائيل غورباتشيف”
غورباتشيف الراحل عن “عصر مستعمَل” وخائب/ وضاح شرارة
اقتصر تشييع ميخائيل غورباتشيف (1931- 2022)، آخر رئيس سوفياتي وأول رئيس روسي اتحادي، على “عناصر رسمية”، كنايةً عن مشاركة حرس عسكري في موكب الجنازة. ولم تبلغ العناصر هذه مرتبة سير الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، و”رجالات” الدولة من سلك الاستخبارات، وراء نعش أحد “أسلافه”.
وتوفي غورباتشيف في المستشفى المركزي، في 30 آب/ أغسطس. وفي 31 نُقل من المستشفى، وسُجّي جثمانه في قاعة الأعمدة ببيت النقابات، ودُفن بعد ثلاثة أيام. وفي أثناء أربع ساعات من اليوم الثالث ألقى عدد من مواطنيه الروس نظرة وداعٍ متحفّظة على رجل لم يكتموا انصرافهم عنه.
ففي أول انتخابات حرة نُظّمت في روسيا منذ ثورة 1917، وهي تدين بصفتها هذه إلى المرشح المنافس غورباتشيف- وكان ذلك في 1997، والخصم هو بوريس يلتسين الذي رفعه الأمين العام السابق من اللجنة المركزية إلى المكتب السياسي- اقترع لغورباتشيف، المستقيل منذ خريف 1991، نصف واحد في المئة من الناخبين. وكان ترشّحه هذا، وصرفه على هذه الشاكلة، آخر فصل في حياته السياسية النشطة.
ولاحظ المراقبون ضعف إقبال المواطنين الروس، وهم في خضم حربٍ زجّهم فيها رئيس يبايعه شطر راجح منهم منذ 22 سنة (تكاد تكون تامة)، على وداع رجل إمبراطوريتهم السابقة القوي. وبعضهم عزا تغيُّب الرئيس الحالي، القوي، أو المتقاوي، إلى ضعف الإقبال. ولم يفت المراقبين الفرق الحاد بين فتور الوداع الروسي، الرسمي على الخصوص، وبين حرارة الوداع الغربي. فكأن الطرفين لم يودّعا رجلاً واحداً.
والحق أن الرجل التاريخي لم يكن واحداً، ولم يسعه ولا يسعه أن يكون واحداً في عالم منقسم على نحو انقسامه في أواخر الحرب الباردة، الأولى، وتنازعه اليوم، في مقتبل ما قد “يتطوّر” إلى حرب عالمية ثالثة. فمَن حيا السياسيون الغربيون، وبعض سياسيي شرق أوروبا، رحيله، هو مَن سحب القوات السوفياتية من أفغانستان في أيار/ مايو 1988، غداة عشرة أعوام من التخبط في حرب عدوان خاسرة ولا مسوّغ لها، على شاكلة حرب بوتين اليوم على أوكرانيا.
وهو من وقّع اتفاقات ستارت-1 مع الولايات المتحدة الأميركية، ورضي بمراقبة التسلّح النووي، والحد من عدد رؤوسه، وقواعد إطلاق صواريخه. وأعلن نهاية الحرب الباردة، وتستّرها على نزاع قد ينفجر دماراً كونياً. ولم يحرّك ساكناً، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، حين صدع الألمان جدار برلين، ورُفع الحاجز الذي شَطَرَ أوروبا شطرين، وكان حجر الركن من سياسة توسّع روسية وسوفياتية عزلت شرق أوروبا ووسطها عن مجالهما الحيوي، وعزلت تتمة أوروبا عن عالمها وعن العالم.
“طبيعة” النظام
وسبقت هذا إجراءات “سيادية” داخلية، اجتماعية، ناطت بها الحرب الباردة، ووجهها الأيديولوجي البارز، دوراً حاسماً. فبادر غورباتشيف إلى رد الأرض إلى فلاحيها وزرّاعها ملكيةً خاصة وفردية. وهو حلمٌ روسي وشعبي قديم. وأجاز لهم إنشاء تعاونيات طوعية و”شركات” وأعمال تحتكم إلى مصالحهم وحساباتهم ومواردهم، ويتحمّلون المسؤولية عنها، من غير خشية المصادرات والاعتقالات والوشايات والمجاعات، إلخ. ومن غير “ضمانات” تثبت الفقر والركود والتبعية.
وبادر الأمين العام الجديد و”الفتي”- كان في الرابعة والخمسين من العمر، وخلف 3 أمناء عامين توفّوا من منتصف ثمانيناتهم، وتولى آخر أمينين عامين ولايتهما، الأول يوري أندروبوف طوال أقل من سنة ونصف السنة، والثاني تشيرنينكو 13 شهراً- إلى نشر أعمالٍ محظورة، مثل رواية بوريس باسترناك، “دكتور جيفاغو” (1957). وكان هذا فاتحة سيرورة طاولت مسألة التاريخ السوفياتي في حقبة اللينينية والستالينية، على وجه التخصيص، وملحقاتها التالية.
وتناوُل “مسألة” التاريخ السوفياتي، وهي مسائل، يعني تناول قضايا الحزب الواحد، وسلطات أمينه العام، والإدارة الهائلة التي رزحت على صدور الناس، وتصرّفت في أمورهم وشؤونهم رغماً عنهم، وجمعتهم وفرّقتهم وراقبتهم واعتقلتهم وعذّبتهم وقتلتهم واتهمتهم، وعزلت بلادهم، وقادتهم إلى الحرب، وصادقت عنهم. وإلى هذا، وفوقه كله، قسرتهم على رواية تاريخهم على مثال فرضته، ولم تُشرك في صوغه أو إنشاء معانيه غير مَن ندبتهم إلى الرواية، ووقَفَتها عليهم. ويُلاحظ أن التعليق الصيني، الرسمي طبعاً، على وفاة الرجل ندّد بحرية الإعلام والمناقشة التي أتاحتها إجراءات السياسي المصلح، ومدح مديحاً بخيلاً تقريب الخلاف بين الصين وبين بلده.
ومن المسائل المترتبة على المسألة الأم- “طبيعة الاتحاد السوفياتي” على قول أجيال من اليساريين الأوروبيين، وفي موضع القلب منها المعتقلات والمنافي وموجات التطهير والتصفيات في رعاية الحزب ومركزه وأجهزته- المسألة التالية: لماذا ينتهي رجل مثل غورباتشيف، وهو مَن استجاب حلماً شعبياً عميقاً وحرّر روسيا وبلدان فلكها من الكابوس النووي وسباقه المرهق، هامشياً، ومغضوباً عليه؟
سفيلتانا ألِكسييفيتش وغورباتشيف
لم تتردد سفيلتانا ألكسييفيتش (ولدت في 1948)، الكاتبة والصحافية البيلاروسية، والأوكرانية المولد والروسية اللغة، وحائزة جائزة نوبل للآداب في 2015، في الإجابة. فكتبت، في 2013: تربط “الإنسان السوفياتي” (على نحو القول: إنسان العصر الحجري المتأخر، أو الإنسان العاقل، أو صانع الآلات…) بالموت علاقة خاصة، وتتردّد في الأحاديث كلمات جارحة مثل الرمي، والقتل، والتصفية، والإعدام، وأخرى هي مرادفات للاختفاء مثل التوقيف، والمنع من حق المراسلة، والهجرة…
فقبل سنين قليلة خلت قُتل ملايين من الناس، ونحن كلنا آتون من هناك ومن ذلك الزمن، من بلاد امتحنتها معتقلات “الغولاغ”، وحرب مروّعة (العالمية الثانية)، ومجاعات فتّاكة، وامتحنها انتزاع الأرض قسراً من أصحابها ومزارعيها، واستؤصل ملّاك أراضيها المتوسطون (“الكولاك”) عنوة، واقتُلعت بعض أقوامها من بلادها (قوزاق القرم) وهُجّرت.
هؤلاء، نحن، نطفح كراهية وإدانة، وكثيرون منّا يرون الدولة، السوفياتية، عالمهم البديل من كل شيء آخر وحياتهم، فهم عاجزون عن وداع التاريخ الكبير، وعن السعادة على وجه آخر، غير وجه الحروب الكونية وصناعة الإنسان الجديد، والضياع في حياة خاصة وفردية، نحن من طينة أهل الحرب والقتال… (سفيلتانا إلِكْسييفيتش: “نهاية الإنسان الأحمر” أو زمن الخيبة، صدرت الطبعتان الروسية والفرنسية في 2013، الأخيرة التي أنقل عنها عن دار أكت سود، باريس، بترجمة صوفي بينيش. وصدرت ترجمة عربية عن دار ممدوح عدوان، دمشق، 2015، تولاها د. نزار عيون السود).
وتربط الكاتبة بالسياسي الراحل آصرة خاصة، فهي نشرت كتابها الأول “ليس للحرب وجه امرأة”، وموضوعه الحرب العالمية الثانية، واسمها الرسمي و”الوطني” الحرب الوطنية الكبرى، في 1985، عام تولّي أصغر أعضاء المكتب السياسي السوفياتي وسكرتارية اللجنة المركزية سنّاً، غورباتشيف، أمانة الحزب الشيوعي العامة، وخلافة الأمين الأسبق والقوي يوري أندروبوف، رئيس جهاز الاستخبارات، كي جي بي. ووصفت الكاتبة الحرب التي دأبت الدعاية السوفياتية على تمجيدها منذ ستالين واستأنف بوتين، والقوميون الروس عموماً، تمجيدها، ورووا التاريخ الروسي الخلاصي في ضوئها، بـ”نقيض الوطنية”، وبـ”الفيزيائية الغريزية”، ونسبت إليها “الحط من كرامة الإنسان”.
وكان الأمين العام الجديد والإصلاحي قد دعا، وهو يستهل عهده، إلى المكاشفة (“بيريسترويكا”، أو الشفافية من طريق المصارحة والصدق)، وتناول الوقائع الماضية والحالية من غير تستّر وكمّ أفواه وعقل ألسن. وهذا ما سعت فيه كاتبة التحقيقات المُهيبة، وجامعة أقوال الناس من غير حذف ولا حذر، ومُرتِّبتها على أبواب وموضوعات تبرز إلحاحها وتكرارها وعودها الهاجس والمرير على بداياتها.
فقامت قيامة القوميين والمحافظين و”أهل الدولة”، على المعنى الذي عرفته الكاتبة، عليها، ودعوا الرقابة إلى منع الكتاب. ولكن غورباتشيف انتصر لها، على رغم تحفّظه المرجَّح عن تنديدها بحرب هي من أركان مشروعية الدولة التي ردّد الأمين العام، يومها وإلى مماته، أنه لا يريد غير تجديدها.
أفغانستان، تشيرنوبيل…
وتعاقبت كتب الكاتبة على الحوادث أو الكوارث التي حلّت في الشعوب “السوفياتية”، وفي مقدّمها الروس. فتناول كتابها الثاني الحرب على أفغانستان، “نعوش الزنك”، 1989، غداة جلاء القوات السوفياتية في 1988. وخص الكتاب عودة العائدين من حرب عدوانية واستعمارية تقليدية، لا ناقة لهم ولا لبلدهم فيها ولا جمل، وتردّدت أصداؤها الأليمة والقاسية في سِيَر حياتهم بعد العودة، على شاكلة أعمال انتحار قصفت أعمار مئات من الشبّان.
وفي الأثناء، في نيسان/ أبريل 1986، وقعت كارثة انفجار قلب المفاعل النووي في محطة تشيرنوبيل الأوكرانية. والانفجار ثمرة كذب وتستّر مديدين نجما عن معايير الإدارة السوفياتية، وأمرِها موظّفيها بالتظاهر على الدوام بإنجاز ما توكله إليهم إداراتهم على أكمل وجه وأحسنه. وسكتت موسكو أياماً عن الواقعة نفسها، وتكتّمت على فداحتها أشهراً. وهي لا تحجم اليوم، في عدوانها الفظ على أوكرانيا، عن المخاطرة بتعطيل بعض شروط السلامة النووية- فكتبت ألكسييفيتش في مصاب السكان المحليين “الابتهال”، 1997.
وفي 2013- وكان قد انقضى فوق العقدين على خروج غورباتشيف من السلطة (كانون الأول/ ديسمبر 1991)، وطُويت ولايتا بوريس يلتسين اللتان عمّت فيهما فوضى اقتصادية واجتماعية مدمرة، واستخلف هذا العقيد في جهاز الاستخبارات إن إس بي فلاديمير بوتين، وشن الرئيسان حربي الشيشان في 1994- 1995 و1999- 2000، وانفجر القتال في قره باغ، وهجمت القوات الروسية على جورجيا وسلخت أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (20 في المئة من أراضي جورجيا) عنها، وترأس بوتين الاتحاد الروسي مرتين قبل أن يُخلي الرئاسة لميدفيديف ويستأنف في 2012 رئاسته…- كتبت “نهاية الإنسان الأحمر”.
ودوّنت الكاتبة أجوبة، أو مناجاة، أو تداعيات مئات الناس الذين التقتهم، من الأعمار والمهن وأنواع السّيَر كلها. وأسئلتها لا تتناول “التاريخ الكبير”، الاشتراكية مثلاً، على قولها، بل الحب، والغيرة، والطفولة، والشيخوخة، والرقص، وقصّة الشعر… فهي لا تؤرّخ. والتأريخ يُعنى بالوقائع، أما الانفعالات، ما تُعنى به الكاتبة ويهمها، فتبقى في الهامش.
ومن الهوامش الكثيرة جمع الكتاب سيرة ذاتية مشتركة تتخطى، زمناً، عهد غورباتشيف، الذي اقتصر على ست سنوات و9 أشهر، إلى وقت قريب من منتصف العقد الثاني المنصرم. وهي اختارت من الذين (واللواتي) دعتهم إلى الكلام، أشدّهم إيماناً بـ”النظام”، وتمثيلاً على أحكامه ومعاييره.
التوليد والتكثير
تدرج سفيلتانا ألكسييفيتش السوفيات في أربعة أجيال: جيل ستالين، جيل خروتشيف، وجيل بريجنيف، وجيل غورباتشيف. وهي من الجيل الأخير. وتصنّفه، على خلاف جيل ستالين الذي وسمته الشاعرة الروسية أنّا آخماتوفا (1889- 1966) “أكلة اللحوم”، جيلاً نباتياً ومعتدلاً، وشب هذا الجيل في عهد مسنّي الكرملين، وكانت “محيطات” الدماء المسفوكة قد نُسيت، وأفاق الناس من غيبوبة الشيوعية رغم دوام خطابتها وجعجعة هذه الخطابة.
في محطة قطارات بموسكو، التقت الكاتبة بامرأة قادمة من منطقة تومبوف (جنوب شرق موسكو). كان ذلك في أثناء حرب الشيشان الأولى. قالت إنها ذاهبة إلى بلاد الشيشان لتنتزع ابنها من الحرب. وهي لا تريد له أن يُقتل ولا أن يَقتل. أي أن روحها، على ما تُعلّق الراوية، تحرّرت من ربقة الدولة وسطوتها. وعدد أمثالها قليل، وكثرة الناس تقلقهم حرية الرأي، في حرب الشيشان على سبيل المثل، المتاحة منذ وقت قليل. روت أنها اشترت 3 صحف، وكل صحيفة سردت حكايتها.
وتذكّرت أنها كانت تقرأ صحيفة “البرافدا” الرسمية، وتصدّق حكايتها الوحيدة، أما اليوم فمَن تُصدّق؟ وعند سؤال آخرين- وتنقيل الأسئلة والأجوبة بين جمهرة، أو جمهرات من الناس، تعتمده الكاتبة طريقة تتوسّل بها إلى توليد المعاني والصور وتكثيرها- عن الندم على ما سبق، أجابوا، حين سألتهم المدوّنة: علامَ أندم؟ كنت ضحية بين الضحايا، واعتُقلت وقضيتُ أعواماً في الأعمال الشاقة، وقاتلتُ في الحرب، وشاركتُ في إعادة بناء مدينتي المدمرة، ونقلت الحجارة في الليل والنهار.
لم يكن الأمر متوقّعاً. كانوا كلهم “سكرى بالحرية، لكنهم لم يكونوا مؤهلين أو مهيئين لها”. أين كانت تتجلى هذه الحرية؟ تسأل الصحافية. “في حجرة المطبخ وحدها، حيث جرت العادة على التشهير بالسلطة وثلبها”. فيُهجى يلتسين، لأنه “خان روسيا”. ويلام غورباتشيف لأنه “لم يبق شيء لم يخنه، خان القرن العشرين كله”. وعلى هذا، ينبغي أن تصطلح الأمور في روسيا، هذه المرة. فهي لم تبق استثناءً، على خلاف عادتها، وتشبه البلدان الأخرى، ويشبه شعبها الشعوب الأخرى، وهذا قرينة على استواء حالها وأمرها، ولحاقها بركب التاريخ “العادي”.
وتذكر ما قاله أبوها لها. قال إن موتهم، هو ومَن هم في سنّه من أبناء جيله، في الحرب كان أيسر عليهم من موت الشبان الذين يسقطون اليوم في حرب الشيشان. وقبل اندلاع الحرب (الثانية)، كان يدرس في قسم الصحافة، وحين عودتهم من عطلة الصيف، كان أساتذتهم كلهم قيد الاعتقال والحياة الجديدة، الحياة التي خطت خطواتها الأولى مع غورباتشيف، افتقرت إلى مقدمات وتمهيد. فالمعايير كلها انهارت، ما عدا معيار الحياة، الحياة المجرّدة، مثل الحلم بمنزل، وشراء سيارة جميلة، وزرع أنصاب عنب، وقصارى إنجاز الحرية أن يرد الاعتبار إلى الذهنية البورجوازية الصغيرة التي اعتاد الروس على ازدرائها، ويمجّد “جلالة الاستهلاك”.
ستالين والسيارة الجديدة
“تاريخنا” السابق كله انقضى في محاولة البقاء، وليس في مباشرة الحياة. فلا يُرجى نفع أو عائد من تجربة الحرب، ونسيانها أجدى. وآلاف الانفعالات والأحاسيس، والانفعالات جدّت أو طرأت. وفجأة تغيّر كل شيء: اللافتات، وقطع العملة، والعَلَم، وشكل الأشياء المصنوعة… والإنسان تغيّر، ألوانه كثرت، وانزوى وانكفأ على نفسه، وانفجر شظايا متفرّقة وجزراً صغيرة، وذرّات وخلايا. وانقلب الشر الأعظم أسطورة بعيدة، قصة بوليسية سياسية.
كفّ الناس عن الكلام على المُثُل العليا، وانصرفت أحاديثهم على القروض، والنسب المئوية، والأقساط المستحقة. وفي الوقت نفسه نصفُ مَن تترجّح سنّهم بين 19 سنة و30 سنة يرون أن ستالين “رجل سياسي عظيم”. وتنتشر في البلد الذي قتل ستالين من أهله مقدار ما قتل هتلر شعائر تقديس الأول.
ويبعث الحنين إلى العهد السوفياتي معالم هذا العهد وشاراته. فثمة “مقاهٍ سوفياتية” تقدّم صحوناً سوفياتية، وأسماؤها وطعمها وروائحها أليفة، وتذكّر بسابقاتها. وثمة مجسّمات للمعتقلات السوفياتية، في جزر سولوفسكي، وفي ماغادان، وفي مستطاع مَن شاء “السياحة” فيها. وتَعِد الدعاية الزائرين بارتداء بذلة أو زيّ المعتقل في أثناء التجوال على معالم المعتقل.
وتبعث الأفكار الفائتة: الإمبراطورية الكبرى، و”اليد الحديد”، و”خصوصية الطريق الروسية”. والنشيد الوطني الروسي هو صورة منقّحة عن النشيد السوفياتي. ومنظمة الشبيبة، “كومسومول” التي عناها الشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي، بُعثت تحت اسم آخر، “ناشي” (مَن هم منّا). والحزب الحاكم، حزب السلطة أو حزب بوتين، يكاد أن يكون طبق الأصل، الشيوعي. وسلطات الرئيس لا تقل عن سلطة الأمين العام. والأرثوذكسية تقوم مقام الماركسية- اللينينية.
ويلاحَظ أن المستقبل أخلى المحل الذي يعود إليه ويستحقه، ودخل الروس “عصراً مستعملاً”، على ما يُقال في ألبسة البالة التي سبق لبسُها بيعها وشراءها، ولم تُصنع للابسيها. وتقول سفيلتانا ألِكسييفيتش إنها خالطت عشرات الآلاف من المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع، وأخذت يد بعضهم بيد آخرين، ويضعون شارة بيضاء من قماش في عروة ستراتهم- وهي إشارة إلى تظاهرات 2012 العريضة احتجاجاً على تزوير فلاديمير بوتين الانتخابات. والتقت متظاهرين شباباً يلبسون قمصاناً طُبع عليها وسم المنجل والمطرقة وصورة لينين. فتسأل: “هل يعلمون ما هي الشيوعية؟”.
وتجيب من طرف خفي: الأرجح أن غورباتشيف أراد الخروج من “التاريخ الكبير”، ولم يعلم إلى أين يخرج، و”الشعب” السوفياتي معه. وعلى خلافه، ودّ بوتين لو لم يخطُ سلفه الأسبق خطوهُ خارج الاتحاد السوفياتي، ولكنه أقرّ بواقعة الخروج، وأوهم الروس بأنهم ذاهبون إلى وطن روسي أجمل من الوطن السوفياتي الروسي.
رصيف 22
——————————-
نحن وغورباتشيف وتركته/ بكرصدقي
حين أطلق الزعيم السوفييتي الراحل ميخائيل غورباتشيف برنامجه الطموح القائم على دعامتي إعادة البناء (بيروسترويكا) والشفافية (غلاسنوست) كنا، مجموعة من الشيوعيين المعارضين لنظام الأسد، معتقلين في السجن بلا أحكام قضائية، أي لفترة غير محددة. وكانت ظروف السجن، في تلك الفترة تتيح لنا شيئاً من الاطلاع على الصحف المحلية وبعض المنشورات السوفييتية كمجلتي «أنباء موسكو» و«سبوتنيك». كانت هاتان المجلتان من النوع الدعائي الرخيص، شكلاً ومحتوىً، فلم تحظيا بأي اهتمام أو احترام من قبلنا في السنوات السابقة على الاعتقال، ولكن تغير الحال مع التغيرات العاصفة في العاصمة موسكو، فأخذتا تنشران مقالات انتقادية للمراحل السابقة، وضمناً للنظام الاشتراكي ولدور الحزب الشيوعي في قيادة البلاد.
كشيوعيين لنا وجهات نظر نقدية للنظام السوفييتي، وبخاصة في مجال غياب الحريات، شكل «الغلاسنوست» أفق أمل في تغيير النظام الاشتراكي نحو الأفضل، أما إعادة البناء التي اهتمت بصورة رئيسية بإصلاح النظام الاقتصادي فقد شكلت لغزاً محيراً لا نفهمه بعدتنا الأيديولوجية المتواضعة، الماركسية ـ اللينينية. ترى هل ستتمكن القيادة السوفييتية الجديدة من إنعاش الاقتصاد بالحفاظ على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، أم سيتم التحول إلى اقتصاد السوق وخصخصة الملكية كلياً أو جزئياً؟ وهو ما يعني في نهاية المطاف التخلي عن النظام الاشتراكي.
وترافقت التغييرات المذكورة مع تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية أيضاً، هي التي حظيت بإجماعنا حول القلق من مبادرات غورباتشيف الجريئة تجاه الغرب الرأسمالي. صحيح أن معاهدة التخلص من قسم مهم من الأسلحة النووية بصورة متبادلة مع الولايات المتحدة كانت تطوراً إيجابياً، لكن مجمل هذه السياسة الخارجية بدت لمعظمنا نوعاً من الاستسلام أمام «العدو الامبريالي». سيتطلب الأمر سنوات إضافية لاستيعاب كل آثار التحولات التي أطلقها غورباتشيف، ليس فقط على الاتحاد السوفييتي نفسه الذي سرعان ما بدأ يتفكك، ولا على دول أوروبا الشرقية التي انطلقت فيها ثورات الحرية بدءً من 1989، بل أيضاً على الحركة الشيوعية في العالم بأسره، وضمناً «النظرية الماركسية» التي أصبحت موضوعاً لنقاشات حارة في مختلف البلدان.
وهكذا انضاف إلى عزلتنا في السجن المديد غير المحدد بسقف زمني، «يتم أيديولوجي» موجع. فقد بات علينا أن نرمي وراءنا تصوراً سياسياً للعالم قائماً على انقسامه بين «قوى الثورة» (وتضم منظومة الدول الاشتراكية، والطبقة العاملة في الدول الرأسمالية، وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث) الممثلة للخير المطلق، وقوى الثورة المضادة الممثلة للشر المطلق، وعلى «حتمية» انتصار الاشتراكية على الرأسمالية «في نهاية المطاف» (ما يشبه تصور الآخرة لدى المؤمنين). فقد اتضح أن الجبروت العسكري للاتحاد السوفييتي أخفى تحته اقتصاداً يشبه اقتصادات الدول النامية، قائماً على ريع الموارد الطبيعية، وأن البيروقراطية الحزبية الثقيلة كانت عائقاً أمام أي تطور اقتصادي أو تكنولوجي، فضلاً عن النفقات الخارجية الهائلة على دول وحركات سياسية في إطار الحرب الباردة، كانت نتيجتها إفقاراً مهيناً للشعوب السوفييتية. وكانت تلك الأموال تذهب إلى أنظمة قمعية فاسدة كما في سوريا وليبيا والعراق ومصر قبل انقلاب أنور السادات على ظهيره السوفييتي، أو تبذر على حروب فاشلة كالحرب في أفغانستان.
كان ربيع موسكو الذي أطلقه غورباتشيف قصيراً جداً، سرعان ما تحول إلى حالة من الفوضى التامة، الانقلاب العسكري الفاشل في 1990، تلاه صعود بوريس يلتسين إلى السلطة، وتفككت الإمبراطورية السوفييتية بسرعة، وأطاحت الثورات السلمية بالشيوعيين في بلدان أوروبا الشرقية كأحجار الدمينو. وبدلاً من إضفاء طابع إنساني تحرري على النظام الاشتراكي، كما أراد غورباتشيف، وتمنينا نحن، استولت نخبة الأجهزة القمعية والبيروقراطية الشيوعية على مفاصل الاقتصاد فنهبته بشراهة، أما الحريات التي أطلقها «الغلاسنوست» والديمقراطية السياسية التي حلت محل شمولية الحكم الشيوعي، فقد جاء فلاديمير بوتين ليلغيهما عملياً. وبدلاً من الحرب الباردة التي أعلن غورباتشيف عن إنهائها، جاءت الطموحات التوسعية لبوتين لتطلق حرباً باردة جديدة.
أقام نظام حافظ الأسد تحالفاً استراتيجياً مع الاتحاد السوفييتي تمثل في توقيع «معاهدة الصداقة والتعاون» في العام 1981 حين كان ليونيد بريجنيف على رأس السلطة في موسكو. أتاح هذا التحالف للأسد مصدراً ثابتاً للسلاح بلا مقابل تقريباً، فقد كان ثمن الأسلحة يسجل ديوناً طويلة الأجل لا يسدد منها شيئاً، إضافة إلى مساعدات اقتصادية. كما أتاح له غطاءً سياسياً لقمع الشيوعيين إلى جانب الإسلاميين والقوميين والأحزاب الكردية. حين بدأ التحول السوفييتي تيتم نظام الأسد أيضاً، فكانت مشاركته العسكرية الرمزية في حرب تحرير الكويت، 1991، نوعاً من تقديم أوراق اعتماده لدى واشنطن، سمح له مقابلها بقمع تمرد ميشيل عون في لبنان. لكن أكثر ما أقلق الأسد هو سقوط نظام تشاوشيسكو في رومانيا بتلك الطريقة الدموية المعروفة. فبعده مباشرةً أطل الأسد في خطاب أطلق فيه وعوداً «إصلاحية» غامضة، وكنتيجة مباشرة علينا، نحن المعتقلين السياسيين، أطلق سراح بضع مئات من المعتقلين، وحوّل الآلاف المتبقية إلى محكمة أمن الدولة التي أصدرت أحكاماً تضمن بقاءهم في السجن سنوات إضافية، وفي غضون ذلك سمح للمرة الأولى بحضور ممثلين عن منظمات حقوقية دولية لبعض جلسات تلك المحاكمات.
تجدد تحالف النظام مع روسيا بعد انطلاق الثورة على نظام بشار الأسد في العام 2011، فحماه بوتين في مجلس الأمن باستخدام حق النقض كلما طرح مشروع قرار يضيّق على النظام، ثم تدخل عسكرياً منذ نهاية أيلول 2015 فحماه من السقوط ومن مفاعيل القرار 2254 الذي يدعو إلى انتقال سياسي.
من السهل إطلاق أحكام على غورباتشيف من نوع أنه أطلق مسار تفكك الدولة السوفييتية وإضعاف روسيا أو إنهاء الحلم الاشتراكي.. ولكن يحسب له أنه أنهى نظاماً استثنائياً غير قابل للحياة في بلده وفي البلدان الأخرى التي كان يحكمها الشيوعيون، ولم تؤد نواياه الطيبة إلى ما كان يصبو إليه.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
نحن وغورباتشوف/ راتب شعبو
في 10 آذار/مارس 1985، كنا في الجماعية التحتانية في سجن أو “كركون” الشيخ حسن في باب مصلى في دمشق، حين انتخب المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، بالإجماع، ميخائيل غورباتشوف ليكون الأمين العام، وكان الأصغر سناً بين أعضاء المكتب السياسي، بعد أن رشحه لهذا المنصب أندريه غروميكو وزير الخارجية التاريخي للاتحاد السوفياتي. وكان غروميكو، لو أراد، هو الأوفر حظاً لشغل هذا المنصب، الذي كان قد غدا كأنه منصب يُمنح من أجل تكريم أعضاء المكتب السياسي قبل موتهم. فقد شغله قبل ذلك يوري أندروبوف، وتوفي بعد حوالى 14 شهراً، ثم شغله قسطنطين تشيرنينكو الذي توفي بعد أقل من 13 شهراً، قضى معظمها في المستشفى. على هذا كان غورباتشوف صغيراً حين وصل إلى الأمانة العامة بعمر 54 سنة، وقد شاعت، بعد انتخابه، نكتة تقول إن عجائز المكتب السياسي باركوا له، بقرص وجنتيه.
وفي 25 كانون أول/ديسمبر 1991، كنا في سجن دمشق المركزي (عدرا)، حين جرى إنزال علم اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية عن سارية العلم في الكرملين، واستبداله بالعلم الروسي، بعد أن أعلن غورباشتوف في خطاب مباشر على التلفزيون من الكرملين (وقيل من أستوديو كان مجهزاً لهذا الغرض في مبنى التلفزيون) إنهاء عمله كرئيس لهذا الاتحاد. أقل من سبع سنوات بقليل، غيرت وجه العالم، وعصفت برؤوسنا كما لم يحدث لأصحاب قناعة عقائدية في التاريخ.
مع وصول غورباتشوف، وتغير المناخ السياسي السوفياتي، فلم يعد الأمين العام رجلاً شمعياً يتسمم بالأكسجين، بل أصبح رجلاً نشيطاً وسيماً يضحك ويلتقي الناس في الشوارع، ويمنع عرض صوره في احتفالات الساحة الحمراء، كما أنه رجل يقول بحماس كلاماً عن إعادة بناء و”تفكير سياسي جديد” يتسم بالانفتاح.
أقول مع هذا التغير بأن قلوبنا تفتحت، نحن الشيوعيين المسجونين، لما بدا لنا حيوية بدأت تدبّ في أوصال العملاق السوفياتي الكسول الذي كنا، رغم كل نقدنا لعيوبه، وكل الإحباط الذي كان يثابر هذا العملاق على حقنه في عروقنا، نعتقد، وإنْ بجهد غير قليل، أنه بوابة عالم جديد أكثر إنسانية خالٍ من الاستغلال، وخالص من دوافع الربح والجشع وسباق التسلح، إلخ. هكذا كنا نعتقد ببساطة، كما هو الحال عادة مع أصحاب المعتقدات كافة.
بعضنا كانت تنقبض قلوبهم بالأحرى لهذه التغيرات. ذات يوم حاول كبير الشيوعيين في السجن حينها، المناضل النقابي والسياسي السوري الشهير عمر قشاش، أن يخفف من تفاؤلي، وقد كان متحفظاً منذ البداية تجاه ما يجري في الاتحاد السوفياتي، هناك حيث شارك قشاش في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بعدة دورات حزبية ونقابية، ويحتفظ بمودة عميقة لتلك البلاد وأهلها، مع قلق لا يقلّ عمقاً على مستقبلها. قال لي بلهجة من لا يرغب في النقاش، أو من يعبر عن إحساس أو حدس لا يجد حججاً كافية لدعمه: “يا رفيق، ما يجري هناك لا يُطمئن أبداً”. قلت في نفسي: صحيح، ولكن لا يُطمئن من؟
مفارقة غورباتشوف
المفارقة أن غورباتشوف صعد في سلم القيادة السوفياتية لأنه كان في شخصيته التي عرضها قبل وصوله إلى المنصب الأول في الحزب، معاكساً لما عرضه بعد ذلك من ثورية وتمرّد على السائد. معروف عنه أنه كان دائماً مسايراً للتيار العام والجوّ السائد حوله، وهذا، معطوفاً على شبابه ونشاطه والنتائج الجيدة التي حققها في المجال الزراعي في منطقته حين استلم موقعاً قيادياً هناك، دفع مسؤولين أساسيين في الحزب، مثل سميّه وابن منطقته ميخائيل سوسلوف، ويوري أندروبوف، إلى ترقيته في سلم القيادة، وصولاً إلى المكتب السياسي في 1979.
إذا علمنا أن سوسلوف هو منظّر الحزب وعضو مكتبه السياسي لحوالى 30 عاماً، وممن شاركوا في اتفاق (مؤامرة) الإطاحة بنيكيتا خروتشوف، وأن أندروبوف كان السفير السوفياتي في هنغاريا إبان قمع الانتفاضة الهنغارية 1956، ورئيس الكي جي بي منذ 1967، وواحد من الثلاثة (مع وزير الخارجية غروميكو ووزير الدفاع أندرية غريشكو، ثم خلفه ديمتري أوستينوف) الذين حكموا الاتحاد فعلياً بعد مرض بريجنيف في 1975، وأنه كان المشرف على حملة زجّ المعارضين السياسيين في مصحات عقلية على اعتبار أن المعارضة السياسية للنظام االسوفياتي تنمّ عن خلل عقلي، نقول إذا علمنا ذلك، ندرك إلى أي حد استطاع غورباتشوف أن يكون خفيفَ الملامح، فلا يقلق أصحاب النهج المحافظ في الحزب.
كان الرجل مقبولاً في فترة خروتشوف وكان في عمر التاسعة والعشرين حين دخل الكرملين لأول مرة مندوباً إلى المؤتمر 22 للحزب في 1960. ولم تطاله عمليات تصفية الحسابات عقب الإطاحة بخروتشوف في 1964، والسرّ يعود إلى مهارته في الصمت والوقوف في المناطق غير المتنازع عليها. يقال إنه في المؤتمر 25 للحزب في 1976، لم ينطق بكلمة واحدة.
عدم اتخاذ موقف بارز في القضايا الخلافية، أو الاحتفاظ بـ”بروفيل منخفض” حسب التعبير الإنكليزي، ساعد غورباتشوف في صعوده إلى المركز الأول في الحزب. من موقعه الجديد رأى صاحب كتاب “البيريسترويكا” سوء الحال الاقتصادي في الاتحاد بصورة واضحة، وكتب يقول إنه رأى الأهوال، حين رفع الغطاء ليرى ما في داخل القدر، وكان أمامه إما أن يعيد الغطاء ويستمر على نهج أسلافه، “ويا دار ما دخلك شر”، أو أن يكشف للعموم هول ما رأى ويباشر إلى معالجته. فاختار النهج الثاني وهو واثق من أنه سوف يفلح في إنقاذ الاتحاد.
أمل وجيز
لم يكن وحده واثقاً من نجاحه، كنا نحن أيضاً، أو غالبيتنا، ننتظر ولادة نظام جديد من هذا التزاوج، الذي اعتقدناه ممكناً، بين نظام اقتصادي غير حرّ، وبين انفتاح سياسي وحرية في التعبير. اعتقدنا بإمكانية ولادة نظام يجمع “الكثير من الاشتراكية إلى الكثير من الديموقراطية” كما بشّر في كتابه “البيريسترويكا”، ويكون أرضية لاستمرار الاتحاد بين الأمم والشعوب برضى وطواعية.
بدأت مجموعةٌ منا، وكنتُ من بينهم، بتعلّم اللغة الروسية. لم يدفعنا إلى ذلك فقط الرغبة في قراءة الأدب الروسي العظيم بلغته الأم، بل كأننا كنا نريد أن نستقبل هذه اللغة وهي تخرج من وراء الستار الحديدي تحمل فكراً وأدبا جديداً للعالم، محمولين على راحة من “بيريسترويكا” وأخرى من “غلاسنوست”.
غير أن الخيبات راحت تتوالى؛ أول تأثيرات الانفتاح الذي انتهجه غورباتشوف ظهرت في بروز المشاعر القومية، وبدء تفكك العلاقة الاتحادية بين دول الاتحاد، وشروع تفكك العلاقات داخل المنظومة الاشتراكية. وزاد في تعثر حال الإصلاح حادثتان؛ الأولى هي انفجار المفاعل النووية في تشيرنوبل (نيسان/أبريل 1986)، والثاني هو زلزال أرمينيا (كانون الاول/ديسمبر 1988). خلال النكبة الأولى، جرى في السجن الحديث “الإنكاري” التالي بين شيوعيّيَن، أحدهما مسؤول والآخر غير مسؤول:
– يقولون وصلت التأثيرات الذرية إلى النرويج ووسط أوروبا.
– شو يعني تأثيرات ذرية؟
– يعني إشعاع ذرّي
– فيك تشرحلي بشكل علمي شو يعني إشعاع ذري؟
– لا أعرف بالضبط، ولكنه إشعاع ضارّ تتكلم بشأنه كلّ المحطات.
– لك عيب. ما بيكفي ترددوا ورا محطات الراديو شو ما حكيو متل الببغاوات!
لكي نصلح شيئاً ينبغي أولاً أن يكون لدينا الرغبة في الاحتفاظ به. كانت الرغبة في الحفاظ على الاتحاد في تراجع ثابت، وكان لهاتين الكارثتين وما كشفتاه من ارتباك وتهلهل إداري وفني وسياسي، دورٌ في تسريع رغبة الخروج من الاتحاد. حين أدرك غورباتشوف أن زخم البيريسترويكا في تراجع داخل الحزب، سارع إلى الخروج من تحت سيطرة اللجنة المركزية للحزب، التي يمكن أن تعزله، وصاغ منصب رئاسة الاتحاد السوفييتي، وهكذا صار أول (وآخر) رئيس للاتحاد، منتخب من قبل مؤتمر نوّاب الشعب. تفادى بذلك خطرَ أن يعزله الحزب، ولكنه لم يكن يدرك أنه ينشر بنهجه المتفائل الجذع الذي يستند إليه، المؤسسة الاتحادية.
غام المشهد السياسي في تلك الفترة، فلم تستطع اللغة السياسية المتعارف عليها حينها استيعاب ما يجري. ضاعت الحدود بين التعاريف، في ما يخص التحولات المتسارعة في الاتحاد السوفياتي، بين الإصلاحي والجذري والثوري والمحافظ. من على يسار من؟ غورباتشوف الاتحادي أم يلتسين القومي الروسي؟ هل البيريسترويكا التي تحاول “إحياء” الاشتراكية، أم الليبرالية التي تتجه إلى الغرب الرأسمالي؟ أين اليسار واليمين؟ ساد كلام يعتبر من يدافعون عن الاتحاد السوفياتي محافظين، أي من يدافعون عما كان يعتبر إلى الأمس يسار العالم، وسند التغيير المضاد للرأسمالية.
بدا لنا أن العالم الواقعي يسبق عالم الفكر بشوط بعيد، وأن كلّ التأخر الفكري يعرض نفسه الآن. بات علينا أن نعيد النظر فنرى أن أمريكا، الرأسمالية والإمبريالية و”الطاعون”، والتي “تهدي كلّ طفل لعبةً للموت عنقودية”، هي يسار العالم ونصيرة الشعوب المكبلة داخل ما كنا نراه حتى الأمس الجهةً التاريخية لغدِ العالم ومستقبله.
من يرى السجناء؟
كنا ننظر إلى العالم من داخل جدران سجن تحميه “المنظومة الاشتراكية”، لكن ذلك كان يبدو لنا، في المنظور التاريخي، خللاً عابراً لا يُبنى عليه. مع ذلك، كانت قلوبنا تلهف نحو جيمس بيكر، وزير خارجية أمريكا (1989–1993) في زياراته المتكررة إلى الشرق الأوسط الذي كان يضجّ بحروب الخليج، ويبحث عن شيء من العدل والسّلام بين دولِه وإسرائيل. كان أحد الأصدقاء الظرفاء يتوجه إلى الطائرة التي تعبر سماءَ السجن مفترضاً أنها تنقل بيكر إلى دمشق ويصرخ: “يا بيكر، يا حبيبنا، لا تنسانا يستر على حريمك. يا أخوي نحنا مع الديموقراطية الله وكيلك!”. وكان يمكن لمعتقل آخر أن يقول ساخراً: “تأملون الخير من أعداء التاريخ”.
مهما كان، فإن الثورة الغورباتشوفية فشلت في رؤية قضية المعتقلين السياسيين أو، على الأقل، فشلت في نصرتهم، وهي في هذا لم تختلف عن التراث السوفياتي السابق، حيث لا تفسد قضية الاعتقال السياسي الودَّ مع الأصدقاء.
مع ذلك، وللحق، على جميع من شملتهم قوائمُ الإفراج الكبير الذي شهدته السجونُ السورية نهاية عام 1991، أن يشكروا غورباتشوف، ذلك لأن تفكك النظام الاشتراكي الذي قادت إليه سياساته، وما نجم عنها من موجة ديموقراطية عالمية، هو ما دفع حافظ الأسد، الذي كان التقى غورباتشوف في نيسان/أبريل 1987، وعاد بانطباع يقول إن الاتحاد السوفياتي يحتضر، إلى قرار الإفراج ذاك. الاشتراكية تحتضر، ومن الحكمة أن نسوق مع السوق، فلنصبح ديموقراطيين بنفس الطريقة التي كنا بها اشتراكيين. ضعف “الاشتراكية” إذاً، وليس قوتها، هو ما جلب لنا، نحن الاشتراكيين، كما جلب لغيرنا، شيئاً من “حرية”.
لكن، من ناحية أخرى، كنا محسوبين على التجربة الاشتراكية القائمة، مهما كان موقفنا منها. لم يكن غريباً، والحال هذا، أن يقول رئيس المفرزة السياسية في سجن عدرا، بعد إجراء التفقد المسائي يوم الإعلان عن سقوط جدار برلين: “كويس أنه لسا عندكن صوت يطلع”.
هكذا تابعنا سنوات السجن ونحن محسوبون على تجربة فشلت وهزمت وانسحبت من جدول أعمال التاريخ الحاضر. رغم كل النقد للتجربة الاشتراكية التي تحققت في القرن العشرين، فإن فشلها الصريح، راح يخلف في نفس السجناء الاشتراكيين خواءً “نضالياً”، فيبدو لهم، كما في القول الشعبي الشائع، على بلادته، أن ظِلّ المنظومة الاشتراكية أفضل من “ظِلّ الحائط”.
مات غريباً من الناحية السياسية، فهل مات نادماً؟
في 30 آب/أغسطس الماضي، مات غورباتشوف غريباً من الناحية السياسية، فالدولة السوفياتية التي كان رئيسها تلاشت، وهو المسؤول عن تلاشيها، في مصير لا شبيه له في التاريخ. إنه المسؤول عن تفكيكٍ ليس فقط مصدر قوته بالذات، بل ومبرر وجوده السياسي الرسمي. أما الدولة الروسية الحالية فإنها تنظر إليه على أنه تسبب في “أكبر كارثة في القرن العشرين”. هكذا لم تقم له جنازة رسمية، ولا تكريم، ولا إعلان يوم حداد وطني، واقتصر حضور الدولة في جنازته على بضع عناصر من حرس الشرف إلى جانبي النعش.
يروي غورباتشوف، في إحدى مقابلاته، إنه حين جرى تدريبه، عقب استلامه الأمانة العامة، على استخدام الزر النووي من خلال ألعاب تكتيكية، فإن نفسه لم تطاوعه على ضغط الزر ولو بشكل مجازي. الرجل لم يكن يميل إلى العنف، ويمكن القول إن سلميته الأصيلة أكملت الطريق الذي بدأه يقينه بإمكانية إصلاح الاتحاد. أي إنه حين بدا له أن يقينه غير صحيح وأن الاتحاد يتفكك، لم يلجأ إلى العنف. وبذلك ظل أميناً للنهج الذي بدأه، وهو ما وفر الكثير من الدماء والدمار. ويمكن القول إن هذه الأمانة للسلمية تستحق تقديراً مضاعفاً، لأن هذا النهج الذي أخلص له غورباتشوف، كان يفضي في الواقع، كما بات واضحاً للجميع، إلى تجريد غورباتشوف من أي سلطة، لأنه كان يقود إلى تلاشي الدولة الاتحادية التي يرأسها.
يمكن لأحد أن يقول إن في ذلك جبناً من قبل غورباتشوف، وإن في إعلانه اللاحق إنه “كانت بين يديه فرصة مختلفة للبطش بالخصوم السياسيين كإرسال يلتسين مثلاً إلى مكان بعيد”، ما يشي بندم ما، بعد أن انتهى إلى الهامش وهو يستعيد، لا شك، تلك اللحظة الحرجة التي وضعه بها يلتسين في 23 آب/أغسطس 1991، حين حاول غورباتشوف عبثاً، وبما يشبه الترجي، أمام الكاميرات، منعه من توقيع مرسومِ تعليق أنشطة الحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية، وتأميم جميع ممتلكات الحزب الشيوعي السوفياتي. هل شعر بالندم بعد أن تلقى إهانة شعبية صريحة بحصوله على 0.5% من الأصوات في انتخابات الرئاسة الروسية في 1996؟
ربما لو كان غورباتشوف يعلم إلى أين تقوده خطاه، لما اختار هذا النهج، ولعلنا نقول إن عدم إدراكه إلى أين يفضي نهجه الانفتاحي، كان في صالح البشرية.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22
رصيف 22