عن رحيل “جان لوك غودار” -مقالات مختارة، روابط لبعض أفلامه مترجمة إلى العربية، استعراض لأهم أعماله-
Jean-Luc Godard
معلومات عن المخرج، أعماله، الجوائز التي حصل عليها تجدونها في الرابط التالي:
جان لوك غودار التجريبي وصورة العالم العربي/ بشير البكر
يبلغ المخرج السينمائي السويسري الفرنسي جان لوك غودار الثالثة والتسعين في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول الحالي (اليوم)، ولم تمنعه أعوامه الطويلة من العمل على مشاريع جديدة، وفي مارس/ آذار الماضي أعلن، في مقابلة مع مهرجان كيرالا السينمائي الدولي الذي ينُظم في الهند، أنه سيعتزل بمجرد أن ينجز مشروعين جاريين: الأوّل بعنوان “حروب مرحة”، والثاني هو مشروع مع قناة Arte بعنوان “سيناريو”. وفيما لم يكشف حينها عن تفاصيل إضافيّة، أقامت مجلة Variety مقابلة مع المخرج والسينماتوغراف السويسري فابريس أراغنو، الذي يتعاون مع غودار على فيلميه الأخيرين. المقابلة التي جرت في “مهرجان كان السينمائي” في مايو/ أيار الماضي، كشف فيها أراغنو عن المستجدّات المتعلّقة بالفيلمين، إذ صرّح بأن العمل على المشروعين يسير ببطء حتى الآن، مستبعدًا أن يصدر أحدهما العام المقبل. ورغم إجراءات الحجر المنزلي حول العالم “استثمر غودار وقته في البحث في الكتب، والعمل على أفكار الفيلم”، مضيفًا: “بعد انتهاء الصيف، سنجري اختبارات مع ممثلة…. نحتاج إلى أسبوعين من الاختبارات على الأقل، لكننا جاهزون تمامًا للتصوير… الفكرة جاهزة. نحتاج فقط للعثور على الطاقة الجيدة”. وحسب أراغنو، فإن فايروس كورونا لعب دورًا في إبطاء العمل، وعليه يكون “كتاب الصورة” الذي شارك فيه غودار في مهرجان كان عام 2018 فيلمه الأخير حتى الآن، ومن المعروف أن هذا المخرج الكبير يستغرق عادة حوالي أربعة أعوام لإنجاز فيلم جديد، وقد سبق “كتاب الصورة”، فيلمه “وداعًا للغة” عام 2014، الذي حاز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، مناصفة مع المخرج الكندي الشاب كزافييه دولان.
فيلم “كتاب الصورة” يشبه العمل الوداعي، حيث وضع فيه غودار كل شيء، ولذا أثار ضجة كبيرة، وهذا أمر غير جديد بالنسبة لمخرج يذهب دائمًا إلى أماكن غير متوقعة، فهو يصر بعد مسيرة طويلة على أسلوبه التجريبي، ولكنه صدم الجمهور هذه المرة بفيلم لا يسرد حكاية، بل يعرض صورًا. تجميع كثيف وتلصيق للصور والفيديوهات. فيلم عن غروب الحضارة، يقول فيه المخرج إن العالم وصل إلى الأوضاع المأسوية التي نعيشها لأن الغرب بالذات أهمل العالم العربي. ويريد أن يؤكد وجهة نظر مفادها أن العالم وصل إلى نقطة اللاعودة في خضم المتغيرات السياسية الحاصلة. تلك التي لا تحتوي على أي أبعاد إنسانية لها، بل تستمد طاقتها ممن يسميهم غودار في فيلمه “الرأسماليون الحمقى”، وهذا ليس جديدًا على من يعرف سينما غودار وقناعاته التي تدور من حول أن العالم كان يمكن له أن يكون أفضل، لو أن السياسيين كانوا مثقفين وفنانين، وقد حصل هذا مرة في فرنسا حين تولى فرانسوا ميتران الرئاسة من عام 1981 وحتى 1995، وكان مثقفًا موسوعيًا وصديقًا لكبار الكتاب في العالم، ومنهم غابرييل غارسيا ماركيز، ولكنه وقف إلى جانب جورج بوش الأب في الحرب على العراق عام 1991.
هو فيلم ليس وثائقيًا، رغم أنه يعتمد على اللقطات والوثائق. لا يتلاعب بالمادة البصرية والصوتية، بل إنه يستخرج منها دلالاتها الفلسفية، التي تنسجم مع منهجه الراسخ وأسلوبه الخاص منذ أن بدأ “الموجة الجديدة”، أي تحويله لغة الفيلم إلى لغة شعرية تمتلك إيقاعها الخاص من داخلها، وليس من خلال الصدام الدرامي المصطنع. واستقى غودار في فيلمه هذا صورًا من الأفلام والأخبار والرسوم واللوحات التشكيلية، في تكوين للفكر عبر كتابة التاريخ والحكايات في ماكينة السينماتوغراف. ومن خلال الصور تسعى الذاكرة إلى استعادة نسقها المتكسر عبر التقنيات الرقمية. كمية كبيرة من صور العالم العربي، من الأرشيف والمواد الوثائقية والروائية، ومن الأفلام المصرية القديمة بالأبيض والأسود وصولًا إلى الأعوام الأخيرة، واختار المخرج تلك المشاهد من أكثر من ثلاثين فيلمًا منها خمسة للمخرج المصري يوسف شاهين ومشهدين من فيلمين للوي بونويل، وهناك أيضًا لقطات من أفلام عربية مثل “جميلة” و”هي فوضى”، حيث نرى الممثل خالد صالح وهو يصرخ “هنا في قانون واحد بس”، وأخرى من عمل للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو ثم أحدث الأفلام للجيل الجديد من المخرجين، فتظهر مشاهد من أفلام المغربي فوزي بن سعيدي والتونسية ليلى بوزيد. وتصلنا دون الصورة هتافات “ديغاج” (إرحل) للمتظاهرين التونسيين خلال الثورة. ثم غناء أم كلثوم والهادي الجويني. ويعتمد أجزاء من نشرات الأخبار التلفزيونية، ولقطات من بعض الأفلام القديمة سواء من أفلامه مثل “الجندي الصغير” (1963) عن الحرب في الجزائر الذي منعته الرقابة الفرنسية، أو من أفلام غيره مثل “120 يومًا من حياة سادوم” لبازوليني، بالإضافة إلى لوحات فنية ورسوم ولقطات مشوّهة ربما تكون مصوّرة بالهاتف المحمول، مع كتابة عبارات تظهر على الشاشة مثل “أن تكون أو لا توجد”، ونستمع أيضًا إلى مقطع من قصيدة يلقيها محمود درويش. ويبدو غودار مباشرًا حين ينقل لقطة لمجموعة كبيرة من السجناء الفلسطينيين أرغمتهم قوات الاحتلال على الزحف على الأرض، ويضعها أمام اللقطة الشهيرة من فيلم “سالو” لبازوليني، التي تصور مجموعة من الشباب والفتيات العراة يرغمهم الفاشيون على الزحف على الأرض.
ورغم المباشرة، فإن الفيلم ناجح. رسالة غودار تصل بوضوح. وتتجلى معادلة الفن السينما جمالًا ومضمونًا، وتبدو اختيارات غودار جديدة في كل فيلم على حدة من جديد. ويتأكد في هذه الفيلم أنه عبقري وعراب السينما التجريبية. ويبقى مخلصًا لمنهجه الذي يقوم على اللقاء بين الوثيقة والتجريب، بين الحكاية والتجريب، بأسلوب تجريبي يحوله إلى لغة مشتركة بين الكلمة والصورة وبين نص المقال والمعالجة الفنية. وليس في فيلمه هذا فقط، بل مثل “جسور إلى ساراييفو” و”وداعًا للغة”. ويكاد يكون الفيلم من دون قيود السرد، الأكثر تجريدًا في سلسلة أفلام الكولاج، يتميز بكثافة التجربة، وهو أكثر أفلام هذا المخرج الكبير كآبة، مع أنه مشغول فنيا لإبقاء الأمل حيًا، وهذا أثر لا يفعله سوى الفن العظيم.
“كتاب الصورة” يعيد 120 عامًا من السينما. يتداخل فيه التعليق الصوتي التأملي الذي يتألف من تأملات أدبية وفلسفية مع أجزاء صوت متزامنة، وتتخللها الموسيقى على نحو تنعكس فيه على تاريخ العالم الذي حاولت السينما تمثيله. وتبدو العديد من الصور مألوفة من أفلام كولاج أفلامه السابقة، وقد تم تحويلها هنا من خلال التكنولوجيا الرقمية. جرت معالجتها بالومضات والغسيل، وجعلها جديدة من خلال العلاقة بين العين واليد التي تشغل الأقراص. اللوحة الرقمية أو تلك أصابع فرشاة الرسم الرقمية وشاشة اللمس. يعمل غودار على إنتاج فيلم يمكن أن يكون مصنوعًا يدويًا مثل لوحة، ليس فقط لأسباب تتعلق بالمتعة الجمالية، بل يسيطر صوته على جوقة صغيرة من المتحدثين، كما أن الفناء الواضح في نغماته المهتزة والخدش يجعل الفيلم شخصيًا بشكل صريح. النص هو لغودار بحكم الطريقة التي يعمل بها.
غودار جزء من تاريخ السينما الجديدة التي ظهرت في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي في فرنسا، إلى جانب فرانسوا تروفو، كلود شابرول، وجاك ريفيت، ولكن هناك نقادًا لا يطيقون أعماله ولا يرغبون في فك ما يعتبرونه ألغازًا. ويقولون إن غودار يصنع نفس الفيلم منذ عشر سنوات شكلًا، الطريقة نفسها، ولكن المحتوى يختلف، غير أن هناك أكثر منهم ممن تعلم كيف يرى أعمال غودار من منظور المخرج نفسه ويقدرها. والأمر ذاته ينسحب على المشاهدين، فالبعض يعتبره بعيدًا عن المتعة السينمائية، ولكنه وهو يبلغ 93 عامًا، ولا يزال يفكر بأعمال جديدة، بقي وفيًا لاختياراته ومواقفه السياسية والثقافية، وحين يرحل لن يقول عنه أحد أنه حاد عن الخط الذي سار عليه، سواء موقفه الجمالي الراديكالي، أو عمله الدؤوب لاختراق شرائع السينما لإنشاء لغة سينمائية تجريبية، وإذا كان قادرًا في هذا السن على إثارة كل هذا الحب والرفض من حوله، فهذا دليل على أنه لم يمر مرور الكرام في الحياة الثقافية وتاريخ السينما الجديدة، وهذا ما سيبقى في نهاية المطاف. ورغم موقف قطاع من النقاد السلبي من الفيلم اعتبرته لجنة التحكيم في مهرجان كان فيلمًا استثنائيًا، وقررت أن تمنحه سعفة ذهبية استثنائية، وجاء في قرار اللجنة: “بعيدًا عن الأعراف التقليدية، يتحدث فيلم جان لوك غودار بشكل متناقض إلينا، بقوة عن عالم اليوم بطريقة مؤثرة. إذا سمحنا لأنفسنا، فهو جميل بشكل مذهل. في 87 عامًا، لا يزال جان لوك غودار يبدع كما فعل بيكاسو في نفس العمر، وهو فخر كبير للخدمة العامة لمرافقة هذا الفنان العظيم لعقود في جميع فترات إبداعه”.
وكان غودار قد صور في فيلمه “موسيقانا” (2004) محمود درويش، ليروي جمالية ثقافة ورثت النص المهزوم، نص “شاعر طروادة”، وحين العرض في مهرجان “كان” غادر العشرات قاعة العرض مرددين “ماذا يجب أن نفهم؟”، ولم يثنه هذا الموقف من أن يعود إلى درويش في هذا الفيلم أيضًا، ويخصص حيزًا مهمًا لفلسطين؛ ربما يفهم العالم هذه المرة.
ضفة ثالثة
——————————–
غودار الفلسطيني
في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، سافر جان لوك غودار إلى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الأردن وأراد أن ينجز فيلمًا وثائقيًا حول الثورة الفلسطينية بعنوان “حتى النصر”، لكنه بعدما عاد إلى فرنسا، أنجز فيلمًا آخر مختلفًا تمامًا عن الذي جاء من أجله بعنوان “هنا وهناك” العام 1976، بالتعاون مع آن ماري فيل وجان بيير غورين. ويتمحور الفيلم حول جزئين. هنا: عائلة فرنسية نمطية تجلس أمام التلفاز وتشاهد رسوماً متحركة. وهناك: الفدائيون الفلسطينيون من بينهم أطفال في معسكرات التدريب وحياتهم اليومية، وصور أخرى للموت والدمار.
من خلال تركيز غودار على حرف العطف الـ”و” في اسم الفيلم: هنا وهناك، يربط غودار الصور التي التقطها أثناء زيارته للأردن قبل سنوات مستخدمًا أسلوب الكولاج، وعبر تلاعبه بهذه الصور يحاول غودار أن يعكس ذلك التلاعب القائم على الصور في الإعلام وثقافة استهلاكها اليومية، خاصة في ما يتعلّق بمونتاج القضايا العالمية كقضية الفلسطينيين، مسلّطًا الضوء بذلك على الجهات التي حاولت استغلال الفلسطينيين واستهلاكهم. وفي مقابلته المنشورة العام 1970 في مجلة “الهدف” التي أسسها الشهيد غسان كنفاني، يقول جان لوك غودار “إن المجيء إلى هنا لتصوير فيلم ليس القصد منه إعطاء دروس، بل أخذ دروس من أناس متقدمين علينا، إنني أحاول استخدام التقنية وخبراتي الفنية من أجل التعبير عن أفكار الثورة الفلسطينية”.
ونشر غودار في جريدة “فتح” بياناً من وحي تجربته الفلسطينية، سيشمله كتابٌ يصدر قريباً بدعم من مؤسسة “فيلم لاب فلسطين”، بمناسبة الدورة التاسعة من مهرجان “أيام فلسطين السينمائية” حسبما نقل موقع “رمان”، وجاء فيه:
فكرنا أنه من الأصح سياسياً أن نأتي إلى فلسطين من أن نذهب إلى مكان آخر، إلى الموزامبيق أو كولومبيا أو البنغال، فالإمبريالية الفرنسية والبريطانية كانت تستعمر الشرق الأوسط مباشرة (اتفاقية سايكس – بيكو) ونحن مناضلون فرنسيون، من الأصح لنا أن نأتي فلسطين لأن الوضع معقد ومختلف، ثمة تناقضات كثيرة، والوضع أقل وضوحاً مما هو في جنوب شرق آسيا، نظرياً على الأقل.
بالنسبة لنا كمناضلين في مجال السينما حالياً، فإن المهام الملقاة على عاتقنا ما زالت نظرية، فنحن لا نزال في مرحلة الاعتقاد بأن التفكير بشكل مختلف يصنع الثورة، وبهذا فنحن متأخرون عشرات السنوات عن أول رصاصة أطلقتها العاصفة.
قال ماوتسي تونغ: إن الرفيق الجيد يذهب حيث الصعوبات وحيث التناقضات أكثر حدة. نحن نريد أن نعمل دعاية للقضية الفلسطينية، بالصوت والصورة، في السينما وفي التلفزيون وأن نعمل دعاية يعني أن نطرح المشاكل، والفيلم هو بساط طائر يمكن أن يذهب في كل مكان، وهو عمل سياسي، وليس في ذلك أي سحر، يجب أن ندرس وأن نبحث وأن نسجل هذا ثم نعرض النتيجة (المونتاج) على مناضلين آخرين، أن نعرض مقاتلات “فتح” على أخواتهن مناضلات “الفهود السود” اللواتي تطاردهن ف. ب. أي تصوير الفيلم سياسياً وعرضه سياسياً وتوزيعه سياسياً، أمر طويل وشاق. إنه يعني حل مشكلة ماثلة كل يوم، العثور على فدائي، على كادر، على مقاتلة، وترى معهم كيف تضع صوراً وأصواتاً لنضالهم، وتقول للفدائي: “سأصورك وأنت تطلق رصاصة العاصفة الأولى”، وأن تعرف أي صورة تضعها في البداية، وأي صورة بعدها، حتى يكون للمجموع معنى ثوري وأيديولوجي يساعد الثورة الفلسطينية والثورة العالمية، كل هذا طويل وشاق لا بد من معرفة ماهية السينما… ومعرفة “فتح” والإعلام في “فتح”، والتناقضات مع بقية المنظمات. “فتح”، مثلاً، تناضل ضد الإمبريالية الأميركية، لكن الإمبريالية الأميركية هي أيضاً جريدة “نيويورك تايمز” وC.B.S، نحن نناضل ضد C.B.S و”نيويورك تايمز”، هناك عدد كبير من الصحافيين الذي يعتقدون صادقين أنهم من اليسار ولا يناضلون، و”نيويورك تايمز” يعتقدون أنهم يساعدون “فتح” في نشر مقالة في الصحافة البرجوازية، لكنهم لا يناضلون، “فتح” هي التي تناضل وتعمل، ومناضلو “فتح” هم الذين يموتون، يجب إدراك هذا جيداً في الأدب وفي الفن ليتم النضال على الجبهتين السياسية والفنية، إنها المرحلة الحالية، ويجب أن نتعلم كيف نحل التناقضات بين هاتين الجبهتين، في الجريدة اليومية التي تصدرها “فتح”، لا نزال نرى الكثير من صور القادة والقليل من صور المقاتلين، يجب أن نرى أين يكمن هذا التناقض وكيفية حله، وهذه ليست مشكلة فنية تتعلق بتوضيب الصفحات، إنها مشكلة سياسية في المجال الأيديولوجي (الصحافة) يجب أن نتعلم كيف نقاتل العدو بالأفكار وليس فقط بالبندقية، الحزب هو الذي يوجه البندقية وليس العكس، إن تعقيد المسألة الفلسطينية مرتبط بصعوبة تكوين الحزب (كما في فرنسا) وتتميز “فتح” برفضها إطلاق اسم حزب أو جبهة عليها، إنها تعني أن تقول للمسلم: لا تتخلَّ عن أفكارك ومعتقداتك ولكن اترك منظمتك وانضم إلى صفوفنا، منظمة “فتح” ليست في حاجة إلى أن تكون ماركسية بالكلمات والشعارات لأنها ثورية بالأعمال والأفعال، إنها تعرف أن الأفكار تتغير أثناء الممارسة وأنه كلما طالت المسيرة إلى تل أبيب؛ تغيرت الأفكار التي ستسمح في النهاية بالقضاء على دولة إسرائيل.
جبهة سياسية وجبهة فنية
جئنا إلى هنا للدراسة والتعلم واستخلاص الدروس، وإذا أمكن تسجيل دروس ننشرها بعد ذلك هنا أو هناك في أي مكان في العالم. منذ عام جاء رفيقان من مجموعتنا لعمل تحقيق مع الجبهة الديمقراطية وآخر مع “فتح”، وقرأنا النصوص والبرامج، وبوصفنا فرنسيين ماويين قررنا عمل الفيلم مع “فتح” وأطلقنا عليه عنوان “حتى النصر”، لقد تركنا الفلسطينيين يقولون خلال الفيلم كلمة “الثورة”، لكن الاسم الحقيقي للفيلم هو “منهج تفكير وعمل حركة التحرير الفلسطينية”.
المناقشات مع الرفاق في الجبهة الديمقراطية تشبه إلى حد كبير المناقشات مع الرفاق في باريس، لم نتعلم منهم شيئاً جديداً ولا هم تعلموا منا. مع “فتح” كان الوضع مختلفاً، من الصعب الحديث مع أحد القادة عن الصورة الواجب إعطاؤها عن الثورة الفلسطينية، والصوت الذي يجب أن يصاحب هذه الصورة (أو يناقضها)، لكن هذه الصعوبة أمر إيجابي في حد ذاته، لأنها تطرح بشكل مادي التناقض بين النظرية والتطبيق، أي بين الجبهة السياسية والجبهة الفنية، وعندما وصلنا إلى عمّان قالوا لنا: “ما الذي تريدون مشاهدته؟”. قلنا: “كل شيء”. ورأينا الأشبال وتدريب الميليشيا والقواعد في الجنوب والشمال والوسط، شاهدنا مدارس الشهداء، ومدارس الكوادر والمستشفيات، قالوا لنا: “ما الذي تريدون تصويره الآن؟”. قلنا: “لا نعرف”. قالوا: “كيف لا تعرفون؟” قلنا: “لأننا نريد أن نتكلم معكم”. أي أن نتدارس الأمر معكم، إنكم لا تملكون ذخيرة كثيرة لمدافعكم ونحن أيضاً ليس لدينا الكثير من الصورة والأصوات، إن الإمبريالية (هوليوود) قد أتلفتها وحطمتها، لذلك يجب ألا نسرف في استعمالها (الصوت والصورة) لأنهما ذخيرة أيديولوجية ويجب أن يتعلم السينمائي استخدامها لقتل ومحاربة أفكار العدو، ولهذا فنحن بحاجة إلى أن نتحدث معكم، قالوا “حسناً، ومع من تريدون أن تتحدثوا؟”. قلنا: “مع أبو حسن”. لم نكن نعرف من هو، لكننا كنا قد قرأنا مقالاً له في العدد الأول من “فدائي” وتحدث معنا سياسياً، وقال على سبيل المثال: “جيش الشعب ليس أجهزة الرادار الحديثة وإنما هو عشرة آلاف طفل بمنظار مقرب وتوكي – ووكي”. هذه صورة ثورية… نرى على الفور أن الجيش المصري ليس جيش الشعب، فبدلاً من 10 آلاف طفل هناك عشرة آلاف مدرب سوفييتي.
الرصاصة قرب الأذن
كان أبو حسن يقول أيضاً: “إن الرصاصة الأولى للعاصفة لا بد أن تطلق بجانب الآذان أي آذان الفلاحين ليسمعوا صوت تحرير الأرض”. هذا صوت ثوري، وهذه مناقشة تسمح بإقامة علاقة سياسية بين الصوت والصورة بدلاً من عمل صور “حقيقية” لا تعني شيئاً ولا تقول شيئاً لأنه ليس لديها شيء لتقوله، شيء لا نعرفه من قبل وما هي فائدة تكرار الأشياء التي نعرفها سابقاً؟ على أي حال، ليس للثورة التي تبحث عن الجديد وراء القديم، فهذا يتطلب وقتاً كما أنه شاق وطويل، لكن لماذا لا يقابل فيلم عن الثورة الفلسطينية الصعوبات التي تواجه هذه الثورة؟ لماذا يعرض هذا الفيلم في التلفزيون الأميركي؟ هل تسيطر منظمة فتح على شبكة التلفزيون الأميركية؟ لا، إنها لا تسيطر حتى على صالات السينما في عمّان، لكن كل مساء تعمي القاذورات الأميركية عيون الجماهير.
لحسن الحظ، وبفضل أزمة حزيران تمكنت القيادة العامة الموحدة من أن تفتح عيون الجماهير في صباح اليوم التالي على جريدة يومية تصدرها أن مشكلة الإعلام الثوري مهمة للغاية، نقول رؤية التناقض بين هذه المهمة الثانوية والمهمة الأساسية للثورة، وهي هنا النضال المسلح ضد إسرائيل، ويجب أن ندرك أنه في لحظة معينة وفي مكان محدد يمكن للثانوي أن يصبح رئيساً، هذا هو ما نطلق عليه الصراع السياسي لعملية إخراج فيلم سياسي، إنه ليس فقط بإجراء حديث مع حبش أو عرفات أو حواتمة، وليس فقط بعض صور جميلة لأشبال يجتازون حواجز من النار المشتعلة، لكن بعلاقات بين الصور وعلاقات بين الأصوات وعلاقات بين الصور والأصوات تشير إلى التفاعلات داخل الثورة الفلسطينية وبين النضال المسلح والعمل السياسي.
إن كل صورة وكل صوت، وكل تركيبة لصور وأصوات هي لحظات من علاقات القوى، ومهمتنا تتلخص في توجيه هذه القوى ضد قوى أعدائنا المشتركين، وهم الإمبريالية، أي “وول ستريت والبنتاجون، والـ C.B.S ويونايتيد أرتيست… إلخ”.
نحن نعتقد مثلاً أن منظمة “فتح” قد أصيبت بهزيمة في مجال الإعلام أثناء أزمة حزيران وفي ما يتعلق بالبلدان الرأسمالية الأوروبية عمن تتحدث التايمز أو اللومند أو لفيجارو؟ عن رد الجماهير على الاعتداءات القاسية؟ أو عن الدور الذي لعبته منظمة “فتح” وطريقة ردها من الناحية السياسية والعسكرية؟ لا، إن كل هذه الصحف والتلفزيونات والإذاعات الأوروبية الغربية فاضلت بين جورج حبش وياسر عرفات، مشيدةً بالأول أكثر من الثاني… إن مهمتنا كمناضلين ثوريين في مجال الإعلام هي أيضاً تحليل لماذا وكيف تجري هذه العمليات؟ أما بالنسبة للإمبريالية، فإنها كانت تسعى لا لتحطيم الوحدة المزمع إقامتها بين المنظمات الفلسطينية المختلفة، وإنما إلى إفساد معنى الثورة الفلسطينية وتضليل الجماهير الثورية في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، التي ترى أن الثورة الفلسطينية مثل الثورة الفيتنامية خميرة ثورية ثمينة. إن نصاً مثل “حوار مع فتح” الذي كتبه أبو إياد لم يترجم إلى الآن للفرنسية، وهذا أمر خطير… ورغم أن هذه الهزائم قد تعتبر ثانوية فإنه يجب باسم الصدق الثوري تحليلها كهزائم بالتتابع، نضال ثم فشل ثم نضال جديد، ثم فشل جديد ونضال جديد حتى النصر، هذا هو منطلق الشعب، كما يقول الرفاق الصينيون، وإنه منطلق الشعب الفلسطيني أيضاً في حركة تحرره القومي تحت قيادة منظمة “فتح”، وهذا هو ما نحاول تقديمه في فيلمنا هذا، والسؤال الآن أين سيعرض هذا الفيلم؟ إن هذا يتوقف على الوضع الحالي للنضال، فقد يعرض في أحد شوارع القرى في جنوب لبنان فنشد ملاءة بيضاء بين نافذتين أو عمودين ونعرض الفيلم، أو أمام طلبة في “بيركلي” أو وسط عمال مضربين في كردوبا أو ليون أو في مدرسة أميلكار كابرال، أي أنه سيعرض بوجه عام أمام العناصر المتقدمة سياسياً من الجماهير.. لماذا؟ لأنه يقدم قوى التحرير في لحظة النضال.
العلاقات بين الصور
يجب إذن أن يكون الفيلم مفيداً… (على المدى القصير أو الطويل) وأن تستخدمه عناصر أخرى من هذه القوى أثناء نضالها، أي في اللحظة التي يمكنه أن يخدم فيها نضالها، لنأخذ مثلاً: صورة فدائي يعبر نهراً ثم صورة فدائية من منظمة “فتح” تعلم اللاجئين في المعسكر القراءة والكتابة، ثم ثورة “شبل” يتدرب، ما الذي تعنيه هذه الصور الثلاث؟ منفردة ليس لها أي قيمة، وقد تكون لها قيمة عاطفية أو قيمة فوتوغرافية لكن ليس لها وحدها أي قيمة سياسية، كل واحدة من هذه الصور لا بد أن ترتبط بالصورتين الباقيتين حتى تكتسب هذه القيمة السياسية، وفي هذه اللحظة، فإن ما يصبح مهماً هو الترتيب الذي سيتم عرضها به، لأنها تشكل جزءاً من كل المفهوم السياسي، والترتيب الذي سيتم عرضها به يمثل الخط السياسي، إننا نسير على خط فتح، لذلك فإننا نرتب الصور هكذا: (1) فدائي في عملية. (2) فدائية تعلم القراءة. (3) أطفال يتدربون. ويعني هذا: (1) النضال المسلح. (2) عمل سياسي. (3) حرب شعبية طويلة الأمد.
إن الصورة الثالثة هي حصيلة الأولى والثانية، إن النضال المسلح + العمل السياسي = حرب شعبية طويلة الأمد ضد إسرائيل، إنها أيضاً الرجل (الذي بدأ القتال) + المرأة (التي تتحول وتصنع الثورة)، التي تلد طفلاً سيحرر فلسطين يوماً ما (جيل النصر)، لا بد من إظهار لماذا وكيف، ولا يمكن تصوير الطفل الإسرائيلي بالطريقة نفسها، الصور التي تقدم صورة لطفل صهيوني ليست هي صور الطفل الفلسطيني نفسه، يجب في الحقيقة عدم التحدث عن الصور وإنما عن العلاقات بين الصور.
عملاء هوليوود
الإمبريالية هي التي علمتنا أن نعتبر الصور في ذاتها، هي التي جعلتنا نعتقد أن الصورة هي واقع، بينما الصورة لا يمكن أن تكون سوى وهم، لأنها في نهاية الأمر صورة، إنها انعكاس صورتك في المرآة، ما هو واقعي هو أنت أولاً، ثم العلاقة بينك وبين هذا الانعكاس الوهمي، ما هو واقعي بعد ذلك هو العلاقة التي تقيمها بين هذه الانعكاسات المختلفة وذاتك، أو بين مختلف هذه الصور ونفسك، إنك تقول مثلاً أنا جميل أو يبدو أني مرهق، لكن بقولك هذا فإنك لا تصنع سوى إقامة علاقة بين عدد من الانعكاسات، واحد منها وأنت تبدو مستريحاً والآخر وأنت مرهق، تقارن وتقيم علاقة، ولذلك فيمكنك أن تستخلص ما يلي: “يبدو أني مرهق”، العمل السياسي في الفيلم هو إقامة هذا النوع من العلاقات السياسية لحل المشاكل السياسية، أي على صورة عمل ونضال فعليين. وبالفعل، فإن الإمبريالية وهي تعمل على جعلنا نؤمن بأن صور العالم واقعية بينما هي وهمية، فإنها تسعى إلى منعنا من عمل ما يجب عمله. إن إقامة علاقات حقيقية (سياسية) بين هذه الصور وهي صورة شبل يتدرب وصورة فدائي يعبر نهراً هي الحقيقة الثورية الوحيدة لأنها تثير مسألة السلطة وتتابع هذه الصور كما وضعناها وتعلن أن السلطة على فوهة البندقية. إن الإمبريالية تريد أن تكتفي بتصوير فدائي يعبر نهراً أو فلاحة تتعلم القراءة أو شبل يتدرب. الإمبريالية ليست ضد كل هذا، فهي تصنع كل يوم مثل هذه الصور (أو يصنعها عملاؤها) كما تذيعها في البي. بِي. سي. وفي مجلات لايف والاكسيرسو وخلافه، ومن ناحية أخرى توجد وكالة الغوث L’U.N.R.W.A (للمعدة) كما توجد هوليوود وأتباعها من اللبنانيين والمصريين. السينما الإمبريالية علمتنا ألا نقيم علاقات بين الصور الثلاث التي تحدثنا عنها، أو أن نفعل ذلك لكن بترتيب آخر حتى لا تتعارض ومخططاتها.
الأفكار والتناقضات
مهمتنا نحن المناضلين حالياً في مجال الإعلام المعادي للإمبريالية، هي أن نكافح بكل قوانا في هذا المجال، وأن نتحرر من سلسلة الصور التي فرضتها الأيديولوجية الإمبريالية من خلال أجهزتها المختلفة من صحافة وإذاعة وسينما وأسطوانات وكتب، إنها مهمة ثانوية نضعها نحن في المرتبة الأساسية، ونحاول من خلالها حل التناقضات الخاصة بها، فمثلاً ونحن نناضل على هذه الجبهة نصطدم كثيراً بعدد من الرفاق. إن هؤلاء الرفاق هنا في منظمة “فتح” مثلاً لديهم أفكار متقدمة وسليمة عن الجبهة الرئيسة للنضال المسلح، لكن أفكارهم أقل صحة بالنسبة للجبهة الثانوية أي الإعلام، وبالنسبة لنا يجب أن نتعلم حل هذه التناقضات كما لو كانت تناقضات نابعة من وسط الشعب، فليس هناك تناقض بيننا وبين العدو، فإن صنع صور متناقضة يدفع إلى التقدم على طريق تحليل هذه التناقضات، وهنا بعد أن طرحنا مسألة إنتاج هذه السلسلة من الصور (إذا أخذنا المثال نفسه، يمكننا أن نطرح الآن وبشكل أكثر دقة وبشكل سياسي مسألة عرض هذه الصور، وحيث إن بين هذه الصور علاقات حقيقية (متناقضة)، وبسبب هذه العلاقة الواقعية، فإن الذين سيرون ويسمعون هذه الصور سيكون لهم كذلك علاقة حقيقية معها، ومشاهدة الفيلم ستكون لحظة حقيقية من حياتهم وواقعهم، وهي حقيقة سياسية هذه المرة، فبوصفك فلاحاً مضطهداً، أو عاملاً في إضراب أو طالباً في ثورة، أو فدائياً أمام الكلاشنكوف.. سنقول لك (ليسقط الاستعراض ولتحيا العلاقات السياسية الحقيقية).
الأسنان والشفاه
بهذه الطريقة يمكن أن يصبح الأدب كما كان يريد لينين، جزءاً صغيراً حياً في جهاز الثورة، أي باختصار عدم إظهار فدائي مصاب، لكن كيف تساعد هذه الإصابة الفلاح الفقير، وحتى نصل إلى هذه الغاية، فإن الطريق شاق وطويل لأنه منذ اختراع الفوتوغرافيا، صنعت الإمبريالية أفلاماً حتى تمنع الذين تضطهدهم من عملها، صنعت صوراً لتزييف الواقع بالنسبة للجماهير التي تضطهدها. إن مهمتنا هي تحطيم هذه الصورة واستخدام وتعلم عمل صور أخرى أبسط، لخدمة الشعب وحتى يستخدمها الشعب بدوره، والقول إن هذا عمل شاق وطويل يعني أن هذا النضال (الأيديولوجي) هو هنا جزء من الحرب الطويلة والممتدة التي يقودها الشعب الفلسطيني ضد إسرائيل. إنه يعني القول إن هذا النضال مرتبط بنضال جميع الشعوب ضد الإمبريالية وحلفائها، مرتبط مثل الأسنان والشفاه، مثل الأم وطفلها، مثل أرض فلسطين والفدائيين.
المدن
—————————–
جان لوك غودار.. آلهة السينما تموت أيضاً/ محمد صبحي
هناك اقتباس مشهور من جان لوك غودار يقول إن “السينما تبدأ بدي دبليو غريفيث وتنتهي عند عباس كيارستمي”. بالمثل، يصحّ القول إن هناك سينما ما قبل غودار وأخرى منذ ظهوره.
عندما عرض الناقد السينمائي الناجح فيلمه الطويل الأول “حتى آخر نَفَس” في العام 1960، في عمر الثلاثين، أعطى الوسيط السينمائي صدمة ثقافية لم يتعاف منها أبداً. تماماً كما فعل مايلز ديفيس مع موسيقى الجاز، أو بوب ديلان بالأغنية الأميركية. ارتقى غودار بشكلٍ فني كان يُعتبر ترفيهاً جماهيرياً في ذلك الوقت أكثر مما هو عليه اليوم (على الأقل من قِبل هذه الجماهير نفسها)؛ فعلها بذكائه وألمعيته وثقافته، دون أن يتخلّى عن الإمتاع في الطريق لتحقيق ذلك.
لم يعد بالإمكان قول هذا الأخير عن أعماله المتأخرة، لكنها ليست أقل إدهاشاً لذلك السبب أيضاً. في السبعين عاماً أو نحو ذلك التي قضتها السينما مع غودار، منذ أن كتب مقالاته/مراجعاته الأولى، بلغتْ سن الرشد فعلياً. ومع ذلك، في الوقت نفسه، يغلق عمل غودار المتأخر، بعد انعزاله في ريف سويسرا، دائرة وحقبة أعلنت الفيلم وسيطاً رائداً ونصّبت السينما محوراً مركزياً للحياة الحضرية. في عصر أمازون ونتفليكس، تختفي تلك الحقبة أمام أعيننا.
جنباً إلى جانب أصدقائه (وأحياناً منافسيه) من نقّاد “دفاتر السينما” ومخرجي “الموجة الجديدة” لاحقاً، طوَّر غودار نظرية فيلمية جماعية في خمسينيات القرن الماضي تتبّعت مسار سينما المؤلف في إنتاجات هوليوود. لم يرغب أي من هؤلاء الشباب، بريسون وتروفو وفاردا وشابرول وريفيت ورومير ورينيه، على سبيل المثال لا الحصر، في أن يتم استغلالهم في مصنع الأحلام أو أن تبلعهم أضواء النجومية. هذا النضج المبكر أعطى بدوره دفعة للمطلب السياسي المتمثل في وجوب وجود ثقافة سينمائية معترف بها ومدعومة علناً. ليس من قبيل المصادفة أن النضال الشبابي الذي شارك فيه غودار وتروفو بقوة من أجل الإبقاء على السينماتيك الفرنسي (مؤسسة السينما الفرنسية) بمواجهة حكومة استبدادية من يمين الوسط، بعيدة عن اهتمامات جيل الشباب؛ كان نقطة محورية في احتجاجات مايو/أيار 1968 التي عمّت فرنسا قبل أن تتردّد أصداؤها في أنحاء أخرى من العالم. الآن، يصعب تخيُّل نزول شخص يتيم إلى الشارع من أجل المطالبة بحقه في ثقافة سينمائية أو شيء من هذا القبيل.
“وداعاً للّغة” هو عنوان أحد أفلام غودار الأخيرة، واللغة التي يودّعها هي بالطبع اللغة المشتركة التي ساهم في الارتقاء بها سينمائياً. كان زمناً آخر غير الذي نحياه الآن، بمحاذير وحساسيات أقل ومساحات أكبر للابتكار واللعب والقول السينمائي.
لو أن مقال التكريم هذا كان فيلماً، فإن مقتطفاً من كوميديا معاصره السويدي بو فيدربيرغ سيظهر الآن للتدليل على شعبية غودار في منتصف الستينيات. في فيلم فيدربيرغ المعنون “حبّ 65” (1965)، يقول البطل، وهو مخرج سينمائي، “أريد أن أصنع فيلماً حقيقياً كما لو كان جالساً على مائدة الإفطار”. وبعد ذلك مباشرة، أثناء ممارسته الجنس مع زوجة صديقه، يقتبس من مثله الأعلى: “قال غودار: السينما حقيقة، تتكرر أربع وعشرون مرة في الثانية. هذا أقرب ما يمكن للسينما الوصول إليه. ويعتقد أنتونيوني أن كل تكوين مصوَّر يملك موقفاً أخلاقياً. هل أنا مملّ بالنسبة لكِ؟ – “لا. لكنك مستلقٍ على ذراعي”.
إذا كان بإمكان المرء تعلُّم السينما في السرير، كما يدّعي مُعلّمو يوتيوب عن اللغات الأجنبية، فمن المحتمل أن يحدث ذلك في أوائل الستينيات إلى منتصف الستينيات، عندما هبّت رياح جديدة في السينما العالمية بشكل لم يسبق له مثيل ولم يحدث من حينها كذلك. في الواقع، كانت جملة غودار الشهيرة حول الحقيقة السينمائية قد ظهرت بالفعل في فيلمه الثاني، “الجندي الصغير” (1960). لكن بسبب موقفه النقدي من حرب الجزائر، حظرته الرقابة الفرنسية على الفور، لذا لم يكن من الممكن عرضه حتى العام 1963، بعد انتهاء الحرب وإعلان الجزائر استقلالها. وفي الوقت نفسه، عزّزت أفلام غودار الأخرى شهرته: الكوميديا الشعرية “المرأة هي المرأة”، والدراما المؤسِّسة “هي تعيش حياتها”، واللذان نصّبا بطلتهما (وزوجته لاحقاً) آنا كارينا نجمةً للموجة الجديدة.
ثم اجتذب غودار نفسه نجوم السينما في العام 1963 بفيلمه “احتقار” (عن رواية لألبرتو مورافيا)، مستعيناً بطاقم تمثيل ضمّ بريجيت باردو وميشيل بيكولي وجاك بالانس وفريتز لانغ (الذي زوّد الفيلم باستطرادٍ لافت عن صناعة الأفلام). حتى يومنا هذا، لم يفقد هذا الفيلم الجريء أياً من سحره وإلغازه. تناقضاته ومعارضاته الأدبية والسينمائية تبقيه نضراً ومقلقاً وفتّاح سكك. فيلماً بعد فيلم، نجح غودار في ستينيات القرن الماضي في خوض غمار أنواع وأعراف السينما الجماهيرية وفي نفس الوقت الابتعاد عنها بمهارة. بهذا خلق مسافة من ثقافة الاستهلاك المتناسلة آنذاك، وأحدث ثورة في صناعة الأفلام ظلّت ملهمة لسينمائيين لاحقين حتى بعد عقود من ذروة نشاطه في الستينيات.
بأعجوبة، لا يبدو أن هذه البنية المثقفة والذهنية أثقلت كاهل فيلم جريمة مثل “عصبة الغرباء” (1964) أو فيلم عصابات مثل “بييرو المجنون” (1965)؛ على العكس من ذلك، فقد غذّت أفلام غودار جمهورها بفائض فكري لم يبل أو يتقادم حتى يومنا هذا. لم تكن السينما الطليعية أكثر شعبية مثلما حدث معه، ولكن يبدو أن تلك الشعبية تحديداً أضحت عبئاً متزايداً على المخرج. بدا عازماً على التخلص من أتباعه ومعجبيه بأعماله اللاحقة. لكن أولئك الذين اختاروا متابعة أعماله حصلوا على مكافآت غنية مراراً وتكراراً. على سبيل المثال، مع المونتاج الصوتي المتطور لأفلامه مثل “الموجة الجديدة” (1990)، الذي أُصدرت موسيقاه التصويرية في أسطوانة حملت علامة ECM الشهيرة، أو في الوثائقي الثوري “موسيقانا” (2004) بتوليفته الغودارية بين صور ونصوص وتعليقات صوتية لإنجاز فيلم سياسي بطريقة سياسية، عن الحرب والعنف والهزيمة.
في مهرجان كانّ السينمائي، الذي دأب على عرض جديده بانتظام، أتقن غودار لعب الغميضة مع الجماهير والنقاد، فعادة ما تغيّب عن المؤتمرات الصحفية المقررة. في العام 2018، عُرض فيلمه الأخير، “كتاب الصورة”، هناك: مرة أخرى، حوّل تجريبه المونتاجي والتوليفي قصرَ المهرجان إلى كهف أفلاطوني، ملقياً بصور وشظايا صوتية في فضاء للتفكّر الافتراضي. مستنداً إلى فكرة الطباق الموسيقي، يغوص الفيلم في تاريخ متوالدٍ ذاتياً لأكثر الصراعات وحشية، متسائلاً عن علاقتنا بالسينما والثقافة والسياسة العالمية. يستعرض غودار تاريخاً سابقاً يعود لآلاف السنين للنضالات الثقافية للحاضر في مئات المقاطع من الأفلام الكلاسيكية ولقطات النشرات الإخبارية، مازجاً بين فيديوهات جرائم داعش (مشبعة بالألوان ومشوّهة بحيث يتعذّر التعرف عليها تقريباً) ومشاهد أيقونية من كلاسيكيات الأفلام لسيرجي آيزنشتاين أو كينغ فيدور أو ماكس أوبهيلس.
بعد العرض، أظهر نفسه للصحافة بشكل مفاجئ، على شاشة هاتف ذكي رفعه أحد المنظمين في القاعة، وهكذا عُقد المؤتمر الصحافي للفيلم. بصبر وسحر، أجاب على جميع أسئلة الصحافيين، بما فيها سؤال حول سُبل بقاء ونجاة صالات السينما في زمن صعود منصّات البث. “لا أستطيع القول حقاً، على الرغم من أنني أتمنى بقاء مساحة التفكير هذه.” بعدها بقليل، أتبع بجملة فلسفية قال فيها: “أحياناً تبدو السينما بالنسبة لي مثل كاتالونيا الصغيرة التي تحاول يائسة الوجود”.
يرغب العديد من صانعي الأفلام في إرضاء جمهورهم وإثارة إعجابهم. لكن ليس غودار. من أول أفلامه حتى آخرها، وجد المعلّم الفرنسي السويسري رغبة أكثر في السخرية والزعزعة والتنفير والإقلاق. كان مهتماً باستكشاف ودفع حدود صناعة الأفلام باستمرار. ترك عمداً الأعراف والتقاليد السردية تتلاشى في شقوق ووصلات الفيلم. وكل ذلك لإحضار المُشاهد إلى تجربة جديدة تماماً للفيلم والواقع. صنع سينما لا أفلاماً. وكان لهذه التجربة الغنية والمستمرة ثمنها. أصبح غودار واحداً من أكثر المخرجين نفوذاً ومحاكاة في كل العصور، ورائد أفلام أظهر لجميع الأجيال قدرة السينما. في الوقت نفسه، ابتعد عن جمهور السينما السائدة. قال ذات مرة: “طوال معظم مسيرتي المهنية، جنيت دخلاً لائقاً من أفلام لم يرغب أحد في رؤيتها”.
المدن
———————-
رحيل جان لوك غودار… المخرج النابغة الذي عاش لسينماه التزم أسلوبه واتجاهاته الفنية والسياسية لسنين طويلة/ محمد رُضا
توفي اليوم المخرج السويسري جان لوك غودار، وفازت صحيفة «ليبراسيون» بالخبر قبل سواها. نعته وذكرت بما لا يحتاج إلى تذكير من نبوغ هذا المخرج وصدق اتجاهاته الفنية والسياسية.
مارس غودار السينما بأسلوب مختلف تطور وتنوع منذ البداية تبعاً لمراحل وظروف، لكنه لم يخرج من الخط الذي رسمه لنفسه: أن تكون مخرجاً هو أن تعبر عن موقفك من السياسة والثقافة والتاريخ. إذا كنت قادراً على مزج كل ذلك بأسلوبك الخاص. وغودار مارسه بأسلوبه الخاص بلا ريب.
لقاء بدأ مسيرة
بالنسبة إليه الفيلم عليه أن يحكي الموضوع الذي يطرحه من جهة، وأن يحكي عن الفيلم أيضاً ومكوناته ومرجعياته الفكرية. هذا ما عمد إليه في أكثر من 70 فيلماً روائياً وغير روائي بدءاً من فيلمه الأول «نفس لاهث» سنة 1960 وصولاً إلى آخر فيلم له، ذاك الذي حققه سنة 2018 تحت عنوان «كتاب الصورة» (The Image Book).
وُلد غودار في باريس في 3 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1930 لعائلة بروتستانتينية ميسورة. في سن الثالثة عاد والداه إلى مدينة ليون في سويسرا. وفي أواخر الأربعينات تطلق والداه وعاد هو إلى باريس ليدرس علم الأجناس في السوربون سنة 1941، وخلال تلك الفترة واظب على حضور الأفلام في «نادي سينما الكارتييه لاتان»، حيث تعرف على المنظر أندريه بازان، وعلى هاويين للسينما انتقلا لاحقاً لصنع الأفلام هما جاك ريفيت وإريك رومير. كانت لقاءات لطرح الأفكار وتبادل الآراء حول الأفلام التي يشاهدونها والحديث عن السينما الفرنسية والأميركية غالباً. هذه الأحاديث قادت إلى التفكير بتأسيس مجلة سينما. والمجلة فعلاً تأسست في عام 1950 باسم «كاييه دو سينما» التي لا تزال تصدر إلى اليوم. وأول مقال نقدي كتبه غودار للمجلة نُشر في عام 1952 عن فيلم ألفرد هيتشكوك «غريبان في قطار» (Strangers on a Train)، لكن شغفه الأساسي لم يكن الكتابة فقط، بل توخاها للوصول إلى غاية أخرى هي الإخراج. عندما وجد أن الكتابة لن تصنع له هذا المستقبل عاد إلى سويسرا وعمل في البناء (من بين أشغال أخرى) بغية جمع ما يكفي لتحقيق ذلك الهدف.
في عام 1956 عاد إلى الكتابة من جديد، ومن ثَم توقف مرة أخرى عنها ليُخرج فيلمه الروائي الطويل الأول «نفس لاهث» الذي صوره سنة 1959 وعرضه في عام 1960 عن سيناريو كتبه رفيقه الآخر فرنسوا تروفو. وهو منذ ذلك الحين لم يتوقف عن العمل باستثناء فترة منعزلة من حياته امتدت من عام 1972 إلى عام 1978 أخرج فيها أفلاماً قلما شوهدت نسبة إلى شروط حياة وتقاليد عمل وضعها لنفسه.
عندما غلبت السياسة
من عام 1959 تاريخ تحقيقه أول أفلامه، مرت سينما غودار بمراحل أربعة. كل منها يتميـز بخضم من الأفكار التي أنجزت له مكانته الكبيرة الحالية رغم ما مر بها من صعاب.
> امتدت المرحلة الأولى من فيلمه الأول «نفس لاهث» إلى «واحد زائد واحد» سنة 1968، في تلك الفترة جرب غودار حلولاً عدة لرغبته كسر التقليد السردي المتبع. شغله على أسلوبه كان قائماً، حسب تفسيره، على «الشكل المختلف ضد الشكل التقليدي»، وشمل تأسيس كل ما قامت عليه سينماه لاحقاً.
> المرحلة الثانية شهدت تبلور غودار من الإيمان بالوجودية إلى الإيمان بالماوية (حسب تعاليم ماو تسي تونغ). كذلك بدت تأثيرات السينمائي الروسي دزيغا فرتوف، ومنهجه المسمى بـ«سينما الحقيقة»، واضحة على أعماله. إنها الفترة التي بدأت بفيلم «حكمة مرحة» (1968) وامتدت لبضع سنوات رفض فيها العمل ضمن «النظم البرجوازية»، كما وصفها فرتوف في أبحاثه التي حلل فيها التركيبات الاجتماعية، وبين أوجه ما سماه بـ«الصراع الذي يعايشه المخرج الملتزم إذا ما سمح لنفسه بالتعامل مع النظام الرأسمالي». إعجاب غودار بدزيغا فرتوف دفعه، وجان بيير كورين، لتأسيس «جمعية دزيغا فرتوف»، وإلى إعلان غودار أن منهجه بات «صنع أفلام ثورية بأسلوب ثوري». خلال هذه الفترة انقطع غودار عن التعامل مع أبناء الصناعة السينمائية في فرنسا ملتزماً بتحقيق أفلامه عن الطبقة البروليتارية وحدها.
> أما المرحلة الثالثة فتقع أيضاً في السبعينات، وفيها بلغ تطرف غودار السياسي حداً انقلب فيه حتى على أعماله السابقة. انتقل للعيش في بلدة غرينوبل مع زوجته الثالثة آن ماري ميافيل، وأسس شركة يدل اسمها على منحاه الجديد في هذه المرحلة وهو «Sans image» (بلا صورة). أعماله القليلة في تلك الفترة كانت أقرب إلى «أفلام البيت» (Home movies)، وأنجزها بعيداً عن أدوات السينما وبكاميرا فيديو مبكرة. الملاحظ أن هذه الفترة وقعت مباشرة بعد أن تعرض غودار لحادثة حين كان على دراجته النارية وكاد أن يُقتل فيها. تأثير ذلك النفسي عليه ليس معروفاً لنا على نحو معمق، لكنه أدى بوضوح إلى عزلته واختيار الطريق الذي انعزل فيه وسينماه عن التواصل مع الآخرين حتى ولو كانوا من المؤيدين لطروحاته، الفنية أو السياسية السابقة.
> مع نهاية السبعينات، بادر إلى التبلور من جديد فيما يمكن أن يطلق عليه الآن «مرحلة رابعة»، إنها فترة النضج الفني حتى ضمن أسلوبه الخاص. لكن عوض التبعثر فكراً وأسلوباً صار أكثر تنظيماً، وضب غودار أفكاره وصاغ منها مواضيع شيقة سردها بأسلوب يحكي أكثر مما يُبدي.
هذا واضح في كل أعماله المتوالية في الثمانينات مثل «الاسم الأول كارمن»، و«هايل ماري»، و«تحري»، وصولاً إلى التسعينات وما بعدها كما الحال في «موتزار للأبد» و«موسيقى أخرى»، و«فيلم سوشياليزم»، و«غودار عن غودار: بورتريه شخصي»، وحتى «كتاب الصورة» الذي لم ينجز بعده شيئاً، وإن قيل إنه كان يحضر لتحقيق مشروع آخر على الأقل في القريب العاجل.
الفيلمان الأول والأخير
ما بين فيلمه الأول وفيلمه الأخير مسافات شاسعة ونبوغ واحد.
«نفس لاهث» فيلم روائي، ويمكن له أن يوصف بفيلم بوليسي في الوقت الذي ينتمي إلى «سينما المؤلف» (تلك التي تبنتها جماعة نقاد «كاييه دو سينما») بكل راحة.
هو عن ميشيل (جان – بول بلموندو)، الذي يسرق سيارة أميركية موديل أواخر الخمسينات لسبب يعلن عنه لاحقاً بقوله «أنا معجب بصناعتين أميركيتين: السيارات والأفلام». بعد مطاردة قصيرة يقتل ميشيل رجل بوليس، ومن ثَم يعود إلى باريس ليسترد ديناً لصديق وليقابل المرأة الأميركية التي يحب (جين سييبرغ). يقول لها «الرجل لا يحب إلا من لا تناسبه»؛ وهناك جزء طويل من الفيلم يدور في غرفة فندق يتبادلان فيه الكثير من الحديث الكاشف عن نقاط نفسية وعاطفية ستقود لما سيلي. تحاول باتريشا تجنب فعل الحب معه رغم إصراره. يدرس غودار العلاقة بينهما من منطلق منظور ميشيل أساساً إلى الحياة وموقف كل منهما حيال الآخر. هو مشهد طويل ليس لاختيار خطأ من المخرج، بل لأسلوبه في سرد الحكاية. الغاية إظهارهما قريبين – بعيدين: هي الباحثة عن شيء لا تعرفه، وهو ذو القناعة بأشياء يؤكد عليها: «أنتم الأميركيون معجبون بأغبى الشخصيات الفرنسية: لا فاييت وموريس شيفالييه»، يقول لها موقظاً الحس بأن غودار هو الذي يقول. وغودار أيضاً هو الذي يضع على لسانها العبارة التالية (ولو في مشهد آخر): «لا أعرف إذا ما كنت غير سعيدة لأنني غير حرة، أو غير حرة لأنني غير سعيدة».
حب ميشيل لفتاته لا يقابله حب متبادل إذ تخبر عنه وينتهي مقتولاً في أحد شوارع العاصمة الفرنسية.
إلى جانب ما تبثه الحكاية من مشاعر وآراء، فإن الإنجاز المنفرد هو التوليف المتوتر الذي نتج عن حذف فقرات من ثواني الفيلم، بحيث تقفز اللقطة على الشاشة قصداً. هذه الحلول جاءت مدروسة وخالية من الخوف ما صنع عملاً فنياً نموذجياً لسينما جديدة أرادت تغيير وجه السينما الفرنسية وكان لها ما أرادت.
أما فيلمه الأخير «كتاب الصورة» فهو تسجيلي، أو على وجه الدقة فيلم غير خاضع للتصنيف. وينتمي إلى أعمال غودار الأخيرة التي لا تحكي شيئاً محدداً، لكنها في الوقت نفسه تحكي عن كل ما يخطر على بال غودار من أفكار عن الموسيقى وعن الحياة وعن الثقافة والسياسة، وطبعاً عن الصورة.
شغل كهذا تطلب منه التركيز على التوليف، كيف يستطيع أن يخلق منه الشكل الطاغي والفريد عوض أن يسرد مواضيعه، تسجيلية كانت أو روائية، بالتتابع التقليدي وحسب لقطات رقمية.
هذا التوجه مارسه في «موسيقى أخرى»، و«تاريخ السينما»، و«وداعاً للغة»، ولو امتد به العمر لمارسه لاحقاً كذلك.
كان غودار دوماً شخصية مثيرة للاهتمام، ليس مخرجاً فقط (وهذا كافٍ بالتأكيد)، ولكن شخصية شاركت في ثورة 1968 الثقافية، وكان لها موقف مؤيد لفلسطين، وعندما رفض نياشين الدولة مثل «نيشان الجدارة الوطنية الفرنسي» قائلاً، «لا أحب تلقي أوامر وليست عندي أي جدارة». كذلك عندما هاجم غولدا مائير في فيلمه «هنا وفي غير مكان» (1976)، فاتُهم بمعاداة السامية، وطُلب منه نفي ذلك، لكنه لم يكترث للرد وأكمل طريقه في السينما كما أحب ورغب.
مهما كان من أمر غودار ومواقفه، فإنه من أولئك الذين يمكن وصف السينما به كأحد أركانها ومحدثيها وفنانيها الكبار.
الشرق الأوسط
——————————
جان لوك غودار.. روح “الموجة الجديدة” وأحد أعمدة السينما/ عبد الكريم قادري
رحل المخرج الفرنسي/ السويسري جان لوك غودار Jean-Luc Godard (1930-2022) عن عمر يناهز (91 عامًا)، بعد أن عاش حياة عريضة أنفق معظمها على تأثيث عوالم السينما بأساليب جديدة ومبتكرة لإحداث قطيعة مع الماضي، وهذا ما فعله انطلاقًا من حركة “الموجة الجديدة” التي أسّسها رفقة مجموعة من أصدقائه الذين تقاسم معهم نفس الحلم والرؤيا. وعندما نتحدث عن هذا المبدع الكبير لا بد من أن نُعرّج أولا على أهم حركة سينمائية في العالم، وهي “الموجة الجديدة La Nouvelle Vague” التي كان أحد أعمدتها، بعد أن تشبع بأفكارها، وأهدافها، وطريقة صناعتها للسينما، ووجد بأنها تتناسب معه إلى حد بعيد، وتحاكي متطلباته الفنية والتقنية، وقد جاءت هذه الموجة التي لا يمكن أن نفصلها عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية للبلاد، كنتيجة أساسية ومُحاكاة مباشرة لنفسية وطموحات الشاب الفرنسي، الذي ضاق ذرعًا بالموروث والتقليد الذي لم يعد يلبي حاجياته، لهذا بات يبحث عن كل جديد، يُحرره من الماضي دون أن يتخلى عنه، ويرسم طريقا للمستقبل، وقد انعكس هذا الطموح على مجموعة من الشباب الذين يعشقون السينما وعوالمها، لكنهم لا يَجيدون الدعم لصناعة أفلامهم وإبراز مواهبهم، بحكم الأوضاع الاقتصادية المتردية، وهيمنة السينما الكلاسيكية على الساحة، وما تقوم به الأخيرة من ضخ أغلفة مالية ضخمة لصنع أفلامها، وهذا ما لا يساعد على تطوير السينما والدفع بها إلى الأمام، وعلى ضوء هذه المعطيات تلقّف السينمائيون الشباب تعبير “الموجة الجديدة” وأطلقوه على حركتهم الثورية، التي يدعون من خلالها إلى ضرورة كسر العادات السينمائية التقليدية.
جاء الوعي والشغف الكبيرين بالسينما عن طريق الاستعداد النفسي والإيمان بالموهبة، ناهيك عن ظهور المجلات السينمائية، التي انطلقت في تخصيص مساحات وصفحات لمناقشة الأفلام التي تنجز وتعرض النظريات السينمائية بعد الحرب العالمة الأولى، من بينها مجلات الشاشة الفرنسية (L’Ecran Francai) والمطالعة السينمائية (Revue du Cinema)، لتنتقل الحماسة بعدها إلى تأسيس النوادي السينمائية، أكبرها وأشهرها نادي (السينماتيك الفرنسي Cinematheque Française) الذي تأسس سنة 1948، حيث تحول هذا النادي إلى قبلة لعرض مختلف الأفلام، التي تُجري عليها مناقشات عدة، من طرف روادها، بالإضافة إلى التعليمية والتكوين اللذين كانت تقدمهما لكل محبي صنّاع السينما.
انطلاقًا من هذه الفضاءات تعلم جان لوك غودار السينما، وشرب تقنياتها، وترك من أجلها التدريس في “السوربون”، رفقة صديق عمره المخرج والمنظّر (فرانسوا تريفو Francois Truffaut)، وفي سنة 1951 تأسست المجلة العريقة كراسات السينما (Cahiers du Cinema)، والتي ضمت العديد من الأقلام المهمة، من بينهم (أندريه بازين Andre Bazin) الذي يعد الأب الروحي للموجة الجديدة، (جاك ريفيت Jacques Rivette)، و(إريك رومير Eric Rohmer)، وغيرهم.
وهكذا فإن شباب الموجة الجديدة أثبتوا قدراتهم الكبيرة في مجال صناعة السينما، بعد أن جسدوا رؤاهم النقدية التي ألهبوا بها صفحات كراسات السينما، ونجحوا في هذا المسعى بعد سلسلة النجاحات الكبيرة التي بدأها تريفو، كما أخرسوا بعض الأصوات التي كانت تقول بأن أطروحاتهم مجرد أوهام لا يمكنها أن تتجسد ميدانيٍا، وأنها مجرد حماسة شباب، وقطار السينما سيسير رغم تشويشهم عليه، لكن سرعان ما أسكتوا تلك الأصوات نهائيا، وأقنعوهم بأن حركة الموجة الجديدة تحمل أفكارًا حقيقية يجب الرجوع لها، إذ أنها باتت منطقية جدًا.
رجل مواقف
الحركات والمدارس السينمائية مترابطة إلى حد كبيرة، ولا يمكن الحديث عن واحدة دون الإشارة إلى الأخرى، وقد حدث هذا من خلال إشارة المخرج الإيطالي الكبير بيير باولو بازوليني، من خلال بحثه الشهير حول “سينما الشعر”، لتجربة جان لوك غوادر، بكثير من الإسهاب، ولم يشر لأي عمل من أفلامه، كما فعل مع أنطونيوني وبيرتولوتشي مثلًا، كأنه تحريض خفي منه لدراسة جميع أعماله، وتتبعها بشكل موسع، لإبراز مسببات تكوين وظهور هذه القامة السينمائية المُؤثرة.
كانت ولادة جان لوك السينمائية متزامنة مع نجاحات فيلم صديقه تريفو “400 ضربة”، وهي السنة التي شهدت الولادة السينمائية الفعلية له، بعد سنوات من التمثيل وإخراج الأفلام القصيرة والوثائقية والكتابات النقدية.
في السنة التي تحصل فيها تريفو على جائزة أحسن مخرج بمهرجان “كان” السينمائي سنة 1959، قابل هناك أحد المنتجين، حيث قدّم له صديقه غودار، هذا الأخير اقترح على المنتج العديد من المواضيع التي تصلح كمشاريع لأفلام، ومن بينها فكرة صديقه تريفو التي استوحاها من إحدى الجرائد، تردد المنتج في بادئ الأمر فلم يكن يريد المجازفة معه لأنه لم يكن معروفًا، لذا وضع العديد من الشروط من أجل الدخول في هذه المغامرة، من بينها مشاركة بعض الأفراد من الموجة الجديدة الذين لديهم تجارب في صناعة السينما ومعروفون نسبيًا، من بينهم كلود شابرول Claude Chabrol كمستشار فني، أما تريفو فهو من كتب النص، ليخرج أول عمل روائي لغودار بعنوان “على آخر نفس” À Bout de Souffle سنة 1960.
يحكي فيلم “على آخر نفس” وفي ترجمة أخرى “اللاهث”، قصة في غاية البساطة، لكنها معقدة ومُتشابكة، بطلها شاب يحاول التحرر من القيود الاجتماعية التي لجمت طموحه وحركاته نحو التحرر، حيث يتعرف على فتاة أميركية لديها نفس هذه الهواجس الداخلية، وتعيش تقريبًا بنفس الأسلوب، ومن هنا نشأت بينهما هذه العلاقة التي يصعب تفسيرها، لتدور الأحداث على هذه الشاكلة، حيث تحس بأن الفيلم لا يحمل أي رسالة اجتماعية أو أخلاقية يمكن من خلالها فهم رسالة المخرج الذي يبدو أنه لا يريد أن يكون واعظًا أو حكيمًا، بل ترك حبال القصة تسير من غير هدى، لعلمه بأنها في يده، كما أنه لا يمكن أن تعثر على أي عمق يعكس الشخصيتين، حتى أنه في نهاية الفيلم تقوم الشابة بخيانته، دون أن يلتزم غودار بوصفه مخرجًا أو تريفو ككاتب للنص أن يقدما تفسيرًا لهذا النفور وسببًا لهذه الخيانة، لهذا كان هذا الفيلم بمثابة بطاقة صفراء في وجه السينما الكلاسيكية، خاصة وأنه عمل على نقل رؤى “الموجة الجديدة”، وإثبات آخر على قوتها، واستعدادها الكامل لخوض تجارب جديدة وصناعة ثورية في الفن السابع، بمقاييس تقنية وجمالية جديدة، وهي التي نقلها “على آخر نفس”، بكل مكوناته من ناحية الشكل والمونتاج، لكسر أفق التوقع المنتظر، ولتعويد المتلقي/ الجمهور على أسلوب جديد في السينما، يرضي جميع أطراف المعادلة، من خلال عمليات البحث عن الباطن، وملامسة المميز العميق، ولن يكون هذا سهلًا، لكن في المقابل لن يكون مستحيلًا، خاصة وأن أصعب ما في العملية قد حدث، وهي البداية التي يلامس بها الواقع، بعد أن ترك القوقعة وتخلى عن لفظة “لو”، إنها السينما في أجمل صورها، وفيلم “على آخر نفس” هو انتصار للفكرة على التقنية، والتجديد على التعود، بالنسبة لغودار إنها صناعة المستقبل بكل ما تحمل الكلمة، بل عملية استباقية له، قبل أن يلفظهم الحاضر.
قضية الثورة الجزائرية سينمائيًا
جاء فيلم غودار الثاني “الجندي الصغير” Le Petit Soldat في محاولة منه لكسر جدار الصمت، خاصة وأنه من معتنقي الفكر الحر، وعكسته قصة الفيلم، الذي لم يسلم من الرقابة، حيث تم منع عرضه لمدة ثلاث سنوات، وتعرض من خلاله المخرج إلى انتقادات كبيرة من جميع الأوساط تقريبًا، حتى اليسارية، إذ يتناول الفيلم الأحداث في أثناء اندلاع الثورة الجزائرية سنة 1954، ويروي قصة تمرد جندي فرنسي وذهابه إلى سويسرا، وهناك التقت به مجموعة تنتمي إلى اليمين المتطرف، وكلفته باغتيال صحافي سويسري متعاطف مع الثورة الجزائرية، مع العلم أن الفيلم لم ينتصر إلى أي جهة كانت، بل صور الأوضاع كما هي، أوضاع يعكسها تشوش الجندي المتمرد برونو، الذي فر من أزيز الرصاص ودوي القنابل إلى فضاءات سويسرا، لكنه وقع هناك بين فكي المخابرات الفرنسية واليمين المتطرف، ورجال جبهة التحرير الوطني، ليقع هو الآخر في حيرة من أمره، بعد أن كُلف بقتل باليغودا، المتعاطف مع القضية الجزائرية، لكنه في المقابل يحدث أمر يغير مجرى أحداث الخوف والرعب السائد، وهذا حين يلتقي فيرونيكا وتقع بينهما علاقة حب، وهذه الأخيرة تعمل هي أيضًا لصالح جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، التي تقبض على برونو بعد أن قرر السفر إلى البرازيل رفقة فيرونيكا، يتم تعذيبه من طرف الثوار، غير أنه يجد طريقًا للهرب، لكن هذه المرة يتشجع من أجل قتل باليغودا بعد أن عقد صفقة مع الفرنسيين لتسهيل سفره إلى البرازيل، لكن تتغير المُعادلة مرة أخرى، حيث يتم اكتشاف بأن فيرونيكا تعمل لصالح الجبهة، وهنا تقع هي الأخرى تحت طائلة التعذيب القاسي، لتلقى مصرعها تحت أيدي جلاديها.
نقل الفيلم مستويات عدة من التجديد، رغم أن النقاد وقتها لم يتفطنوا لجماليته من شدة ما لحق صاحبه غودار من هجومات شرسة من عدة أطراف، وصلت إلى حد وصول عشرات الرسائل التي تهدده بالقتل، ناهيك عن مطالبة السلطات وقتها بنزع الجنسية الفرنسية عنه، لكن من جهة أخرى نقل فيلم “الجندي الصغير” فكره الفلسفي، ويساريته الطافحة، مع ذكر أنه الفيلم الروائي الثاني، إذ لا تزال شعلة كسر البُنى الموروثة تتقد فيه، وخطوط النص وخاصيتها الكلاسيكية قناعة يجب تخطيها.
تجربة أخرى لتكريس الرؤى
يعتبر فيلم “عاشت حياتها” Vivre Sa Vie تجربة أخرى تشكل وعي غودار التطبيقي في مجال صناعة الأفلام، خاصة وأنه الفيلم الروائي الطويل الرابع، بعد “على آخر نفس” و”الجندي الصغير” و”المرأة هي المرأة”، وقد وضع غودار في هذا الفيلم كعادته دائمًا مستويات عدة من التجريب السينمائي والتجديد، خاصة على مستوى المونتاج الذي كان تقريبًا غائبًا في الفيلم، بعد أن تم الاعتماد على أسلوب الفصول في المسرح، ناهيك عن أنه كسر مرة أخرى الخط الدرامي المعروف، هذا من الناحية التقنية، أما من الناحية الفلسفية فقد جاء النص مشبعا بالأسئلة الوجودية التي كان ينادي بها جون بول سارتر، بعد أن صور شوارع باريس على حقيقتها، الشوارع التي تتُاجر في الجسد النسوي وتنهشه. النص كان غنيًا بالأحداث والأفكار التي كانت تنادي بها فرنسا، وقد امتلك فيلم “عاشت حياتها” مقدرة حقيقية على تجسيد المفاهيم الفلسفية عن طريق الصورة والمواقف، ليكون مرآة حقيقية لمخرجه، كل هذه المفاهيم عكستها المومس “نانا” الشخصية الرئيسية في العمل، في مغامراتها ورحلاتها، بداية من المتجر الذي كانت تعمل فيه، وحلم حياتها يحفر في أعماقها من أجل أن تصبح ممثلة، ليحيد هذا الحلم أو يجبرها على المشي على طرق الشوك، وتواصل مغامرتها الحياتية، من عملها كبائعة، إلى عملها كمومس، تبيع جسدها لكل من يدفع، وهنا اكتسبت رؤيتها، بعد أن عايشت وخبرت مختلف المواقف الإنسانية، عن طريق عوالم بيع الجسد والمتاجرة فيه، الذي دخلت فيه مكرهة ومرغمة لإرضاء الماضي والحاضر، الماضي وتوابع الحلم، والحاضر وتوابع العيش. إنه فيلم يُعري المجتمع ويفضحه، من خلال تسليط الضوء على هذه المومس، التي تم وضعها في الدائرة الفرويدية، لتقديم فهم أفضل للتصرفات وتبريرها نفسيًا، وقد اتبع غودار هذه الثورية التجديدية على مستوى التقنية ما أدى إلى بروز نوع من التعالي المبرر، وفهم سوسيولوجي للنفس البشرية، وقد أحسن الكاتب محمد الغريب، في مقاله “فلسفة السينما بين غودار وبريسون وبيرتولوتشي”، وصف هذه العملية بقوله: “المونتاج جاف وعنيف وحاد بشكل مذهل، وبالمثل الحوار والتصوير وكل شيء، خشن وجاف، وهذا لا يعني أن الفيلم ليس مبهرًا أو جميلًا، ولكن هذه الخشونة، ليست إلا تجسيدًا لفلسفة غودار في انهيار الوجودية الفرنسية والمجتمع الفرنسي بشكل تدريجي وجذري وعنيف إلى أبعد حد”.
ومن هنا يبرز هذا المخرج تميزه على مستوى التجديد، ويثبت أن طريقة العمل التي تدعو لها “الموجة الجديدة” هي في مجملها ثورة على كل شيء، عن طريق الفلسفة والأفكار التي كان يصعب تجسيدها سينمائيًا، ومما لا شك فيه أنه رغم الإمكانيات البسيطة التي استخدمها الفيلم، إلا أنه استطاع مراوغة الواقع لصالحه، ونسج علاقة تشاركية معه، قام من خلالها بخلق نص عميق وجوهري.
“كل أفلام غودار تقريبًا جاءت مثيرة للجدل والنقاش على مستوى العالم، خصوصًا وأنه كل مرة يُفاجئ المتلقي/ المشاهد وحتى المنظرين والباحثين في السينما بطريقة عمله، من ناحية الأسلوب أو المواضيع التي يطرحها”
يقول بيتر والين واصفًا غودار بأنه “أكثر من أي مخرج آخر أدرك الإمكانيات الرائعة للسينما بوصفها وسطًا للاتصال والتعبير. على يديه أصبحت السينما مزيجًا متساويًا تقريبًا للرمزي والأيقوني والدلالي. أفلامه تمتلك المعنى المفاهيمي، الجمال التصويري، والحقيقة الوثائقية. بالتالي لم يكن مفاجئًا انتشار تأثيره بين المخرجين عبر العالم”.
كل أفلام غودار تقريبًا جاءت مثيرة للجدل والنقاش على مستوى العالم، خصوصًا وأنه كل مرة يُفاجئ المتلقي/ المشاهد وحتى المنظرين والباحثين في السينما بطريقة عمله، من ناحية الأسلوب أو المواضيع التي يطرحها، ففي فيلم “بيير المجنون” Pierrot le fou 1964، تنقل شخصية فردينال غريفون التشتت الفكري والنفسي لدى الفرد والمجتمع، حيث يقرر البحث عن السعادة والحلم، ويُطالب بحق العيش في هذه الحياة، العيش وما يتطلبه من آليات لتحقيق هذه الغاية. فبعد أن يتم التخلي عنه في التلفزيون يقرر غريفون ترك أولاده والرحيل مع إحدى الفتيات اللاتي كانت تجمعه بها علاقة سابقة، وهي ماريان رينوار، في اتجاه الجنوب الفرنسي، وعلى الطريق تجري الكثير من الأحداث، كل واحد منها يروي قصة منفصلة، ويحمل رسالة إلى العالم، يتم التورط في قضايا عدة، من بينها السرقة وتهريب الأسلحة، كما يدين الفيلم بشكل مباشر في أحد هذه المشاهد الذي نقله بطل الفيلم مع شريكته ماريان حادث سرقة سياح من الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتم السخرية من احتلال هذه الأخيرة لفيتنام، ويواصل الفيلم نقل هذه المشاهد التي تسخر وتدين كل شيء، الفن والسياسة والمجتمع والحياة، لتأتي نهاية الفيلم صادمة ومدهشة وغير متوقعة تمامًا، وهذا أثناء قتل فردينال غريفون صديقته ماريان التي شاركته المغامرة، مع أخيها المزعوم، ليلحق بها بعد أن يفجر نفسه بمادة الديناميت.
نقل غودار العديد من مواقفه السياسية، والفكرية، والجمالية، في أفلامه بطرائق مختلفة في كل مرة، ويصعب تحديد فيلم عن آخر، وهو نفس الأسلوب الذي حافظ عليه حتى في أفلامه الأخيرة، وكل واحد من تلك الأفلام أثار جملة من النقاشات العالمية، من بينها أيضًا فيلم “موسيقانا” Notre musique (2004)، الذي قسّمه إلى ثلاثة فصول، كل فصل يحمل عنوانًا خاصًا “الجحيم”، “الطهارة”، “الجنة”، نقل عن طريق كل فصل مآسي البشرية عبر العديد من العصور، نتيجة لاستعمالهم لغة الحروب، ولقد اعتمد في مجمله على الأرشيف الفوتوغرافي والفيلمي في هذا الأمر، من صور حية ومصورة عن طريق السينما، بالأبيض والأسود، وبالألوان، المهم أنّه استطاع نقل معاناة الإنسان جرّاء الحروب العصرية، ليكون الفيلم عبارة عن تحفة فنية جديدة على جميع المستويات، يعرض المسألة ويُدينها، يُبسط الموضوع ويُعّمقه، كان الفيلم بمثابة الرؤية المتشابكة التي تأتي في الحلم، نقلها للواقع بحرفية كبيرة، هي أفلام وأخرى نقل غودار من خلالها الجوهر الإنساني، وطرح فيها الأسئلة العميقة.
عطاء مستمر
كما أثبت غودار في فيلمه “وداعًا للغة” Adieu au Langage (2014)، رغم تقدمه في السن (83 سنة) بأنه من دعاة التجديد في الأشكال السينمائية، وأن هذا الأمر قناعة راسخة في ذهنه رغم مرور أكثر من نصف قرن على طرحه لهذه الأفكار عن طريق “الموجة الجديدة”، ومن خلال كتاباته النقدية على صفحات كراسات السينما، أو تحقيقها ميدانيًا كمخرج، فقد استعمل في الفيلم تقنية “3 دي” المبهرة والساحرة، والتي تستعمل عادة خاصة من طرف هوليوود، من أجل إبهار المتلقي والسيطرة عليه، لكن غودار استعملها في فيلمه كي يخلق علاقة تشاركية، وهكذا جاء “وداعًا للغة” كي يُحاور المتلقي ويدفعه إلى التفكير في ما وصل إليه وما وصلت إليه البشرية، وهذا عن طريق قصة بسيطة فيها ثلاثة أبطال، كلب وشاب تجمعه علاقة غرامية مع امرأة متزوجة، فقد جاء الفيلم حزينا حسب تعبير الناقد السينمائي أمير العمري؛ “حزين لأنه يعلق بحزن على الحالة التي وصل إليها الإنسان في عالم اليوم، عجزه عن التواصل، ضيقه بالآخر، تبريره لانعزاله، وقوفه على هامش ما يحدث في البنية العليا في المجتمع أي على مستوى السلطة”.
لكن كيف جاء كل هذا، هل فقدنا روحية التواصل العادي، أين اللغة، أين النقاش، أين الكلام، كيف نحل مشاكلنا، كيف نعيد ترتيب حياتنا وكوكبنا، كل هذه المواقف نقلتها الشخصيات المذكورة، بمساعدة المناظر والمشاهد المفتوحة والمعبرة، ذات الدلالات الرمزية، وكيف يمكن تفسير هذا التخاطب الذي يتم من خلاله التركيز على الحوارات السياسية وويلات الحروب، ألم يبق شيء يتم تناوله، أين الحديث عن الجمال والحب والحلم، تهشمت كلها في هذا العصر الذي تم من خلاله مزج الحقيقة بالخيال، لم يعد العالم كما عرفه وخبره غودار في سنواته السابقة، المناظر التي نقلها الفيلم ترمز إلى الحياة والمستقبل والأمل، وشكّل حضورها عملية مقارنة كبيرة، وهذا ما تعكسه رمزية الطبيعة في الفيلم.
“أثبت غودار في فيلمه “وداعًا للغة” Adieu au Langage (2014)، رغم تقدمه في السن (83 سنة) بأنه من دعاة التجديد في الأشكال السينمائية، وأن هذا الأمر قناعة راسخة في ذهنه”
وعليه فإنّنا نكتشف ككل مرة في أي عمل من أفلامه بأنه لا يكل ولا يمل من التجديد، سواء على مستوى التقنية أو الفكرة، وقد أعاد تثبيت الفكرة مرة أخرى في هذا العمل، الذي رآه البعض بأنه ربما يكون نبوءة من المخرج، نقل من خلالها رؤاه للعالم الجديد، الذي سايره بتقنيته الجديدة، مبرزًا العلاقة الجدلية بين أداة التواصل والتخاطب في السينما، علاقتها مع الصورة بشكل شامل، وقد لعب فيه تقريبًا على جميع مستويات الفيلم وآليات السينما، ومع تجديده المستمر فقد حاول أكثر من مرة خلق طرق توزيع جديدة، يكسر من خلالها احتكار الموزعين الكبار الذي يبحثون عن الربحية لا غير، والبحث لتخصيص أوقات معينة لعرض الأفلام، لعلمه بمدى انعكاسها لفهم المنتوج، بطريقة لا تجعل منه انفصامًا، بقدر ما يكون للأمر علاقة تشاركية بين الفيلم والمتلقي.
لا يمكن بحال من الأحوال تقديم فهم جيد لطريقة عمل غودار، وهذا من جميع النواحي، إذ إنه يجيد صنع المفاجأة دائمًا، بواسطة تلاعبه الجمالي بالكاميرا، التي يؤنسنها ويجعلها تفكر وتحس مثلها مثل الإنسان، والمهم في عملية غودار الفنية أنه استطاع أن يحدث ثورة حقيقية على مستوى السينما، وقد كان حسب تعبير لوي دي جانتي “أكثر المجددين تطرفًا في السينما المعاصرة، وإن مداه الطرازي رفيع واسع بشكل لا يصدق، ويشمل – وغالبًا ضمن نفس الفيلم- أساليب السينما التسجيلية، إضافة إلى أكثر مبالغات السينما الطليعية بذخًا”، ليرحل أخيرًا، تاركًا خلفه تراثًا سينمائيًا لا يمكن نسيانه أو تجاوزه مطلقًا، ولتبقى روحه دائمة التحليق فوق سماء السينما.
العربي الجديد،
———————–
جان ــ لوك غودار مجدداً: انتحار أم مساعدة على الموت؟/ نديم جرجوره
رحيل جان ـ لوك غودار (13 سبتمبر/ أيلول 2022)، منبثقٌ من رغبةٍ لديه في الموت. “ليبراسيون” (الصحيفة اليومية الفرنسية) تذكر أنّه يطلب المساعدة على الانتحار، ناقلةً عن قريبٍ له قوله إنّه “لم يكن مريضاً، بل مُنهكاً، بكل بساطة”.
موتٌ رحيم أو انتحار؟ إنّه “طلبٌ للمساعدة على الموت”، متأتٍ (الطلب) من شعور عميق بأنّ الجسد والروح مُثقلان بتعبٍ غير مُحتَمل. تفكيرٌ بالموت يُرافقه منذ سنين مديدة، وردٌّ يتفوّه به على سؤالٍ في حوار مع داريوس رُشُبان، في برنامج Pardonnez-Moi (“إذاعة وتلفزيون سويسرا”، RTS، 26 مايو/ أيار 2014)، يكشف موقفاً يبدو، غداة رحيله، متجذّراً فيه. يقول رُشُبان: “عندما تموت، بعد وقتٍ متأخّر قدر الإمكان…”، فيُقاطعه غودار قائلاً: “ليس بالضرورة في وقتٍ متأخّر قدر الإمكان”. يتساءل المُحاوِر عن مدى استعجال/عدم استعجال غودار في الموت، فيردّ مخرج “وداعاً للّغة”، المعروض حينها في المسابقة الرسمية للدورة الـ67 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2014) لمهرجان “كانّ” السينمائي، بأنّه “غير متلهّفٍ على الاستمرار (في الحياة) بالقوّة”، مضيفاً أنّه، عندما يُصبح مريضاً جداً، “لن تكون لديّ رغبةٌ في أنْ أُجَرَّ في عربةٍ”، مُشدّداً على رفضه هذا بتكرار مفردة “أبداً”.
كلامٌ كهذا غير مُنتهٍ. غودار يُقيم في سويسرا منذ أعوامٍ طويلة، وهناك يُسمح قانونياً بـ”المساعدة على الانتحار”. المادة 115 من قانون العقوبات، الصادر عام 1937، تنصّ على أنّ “الدافع الأناني” الذي يحثّ شخصاً على الانتحار، أو يساعده في ذلك، يؤدّي إلى عقوبة بالسجن 5 أعوام كحدٍّ أقصى، أو إلى دفع غرامة مالية (غير مُحدّدة). قارئو المادة يقولون إنّ “الدافع الأناني” هذا “يُتيح هامشاً مهمّاً من التقدير”، ويسمح لجمعياتٍ مختلفة (Exit و Dignitas و Life Circle) بتقديم مساعدة طبية لمن يرغب في الموت.
البيان الصادر باسم زوجته آن ـ ماري مِيَافيل يُؤكّد أنّ موته حاصلٌ “بسلام”، بين مقرّبين إليه، في منزله في “رول”، على ضفاف بحيرة “ليمان”. هناك من يُخبر “ليبراسيون” بأنّه “غير مريضٍ، بل مُنهك”، وهذا دافعٌ له إلى اتّخاذه قرار “إنهاء حياته”. في الحوار الإذاعي/التلفزيوني نفسه، يسأل داريوس رُشُبان عما إذا كان مستعداً للّجوء إلى “طلب المساعدة على الانتحار”، فيُجيب غودار بـ”نعم” حاسمة، قبل أنْ يذكر له أنّ هذا الموت المُختار، “لا يزال صعباً للغاية”، حالياً (أي لحظة الحوار، وفي المدى الزمني المنظور، على الأقلّ، حينها).
بعد 8 أعوام، يؤكّد أقارب لجان ـ لوك غودار إقدامه على هذه الخطوة. مفردة “مُنهَك”، المعطوفة على طلب المساعدة على الانتحار/الموت، مُثيرة لتفكيرٍ، يستعيد لحظاتٍ سابقة، تشهد أكثر من محاولة للانتحار يُقدِم عليها، في ظروفٍ مختلفة، مع التنبّه إلى أنّ له “تفكيراً فلسفياً” يتعلّق بسؤال الانتحار. علاقته بالممثلة الفرنسية آنّا كارينا، مثلاً، عاصفةٌ، بدءاً من رفضها تأدية دور صغير في A Bout De Soufle، يعرضه غودار عليها عام 1960. في تصوير Une Femme Est Une Femme، عام 1961، يحصل جدلٌ عنيف بينهما، يؤدّي به إلى قطع عروقه.
للناقد السينمائي الفرنسي جان ـ لوك دْوان قولٌ مفاده أنّ “غودار مفتونٌ بالانتحار” (“جان ـ لوك غودار، قاموس المشاعر”، منشورات “ستوك”، باريس، 2010). في “موسيقانا” (2004)، يطلب من ممثلةٍ مشاركة في فيلمه هذا قراءة جملة من “أسطورة سيزيف” (1942) لألبير كامو: “هناك مشكلة فلسفية واحدة جدّية: الانتحار” (“ليبراسيون”، 13 سبتمبر/ أيلول 2022). غداة رحيله، يتذكّر سينيفيليون عديدون أنّ مسألة الانتحار حاضرةٌ في بعض أفلامه، كما في Soigne Ta Droite، المُنجز عام 1987، إذْ يضع بين يديّ الممثل ميشال غالابْرو كتاب “الانتحار، تعليمات للاستخدام” لكلود غيّيون وإيف لوبُنْياك، الصادر عام 1982 (مائة ألف نسخة مباعة)، والمُعرَّض لسجالات ومحاكمات، بعد “تحريضه” على انتحار أناسٍ عديدين، والممنوع بيعه في فرنسا 9 أعوام بعد صدوره. لاحقاً، يُسأل غودار إنْ كان لا يزال يحتفظ بهذا الكتاب، فيُجيب بـ”نعم”، مرفقة بأنّه غير قارئ له مُجدّداً، “منذ فترة طويلة”.
دْوان نفسه يُشير إلى أنّ السينمائيّ يضع في محفظته شفرة حلاقة، ويذكر أنّ إيريك رومر، المخرج الفرنسي المُشارك مع غودار وآخرين في ابتكار الموجة الجديدة في السينما الفرنسية (ستينيات القرن الـ20)، يعثر عليه ذات يوم “غارقاً” في دمه، في الاستديو الخاص به، “كي يصنع أنشودة ملحمية يختتم بها حياته بطريقة وحشية”. غودار نفسه يُفسّر معنى إحدى محاولاته المتعدّدة للانتحار، في حوار مع روبر ماجوري (“ليبراسيون”، 15 مايو/ أيار 2004): “(هذه محاولة) مُنجزة بشكلٍ دجّال، إلى حدّ ما، لإثارة انتباه الناس إليّ”، وذلك في منزل صديقٍ له، لم يذكر اسمه. هذا حاصلٌ بعد “أيار 68″، ووالده، الطبيب بول، “يضعه” في مصحّ للاضطرابات النفسية: “هناك، سيُرغموني على ارتداء سترةً مُقيِّدة، منعاً لقيامي بحركات تعيسة، على الأرجح”. عندها، ينتبه غودار (كما يروي) إلى ضرورة المحافظة على الهدوء، “وإلّا، فإنّهم لن يطلقوا سراحي أبداً”.
في 13 سبتمبر/ أيلول 2022، يُطلق جان ـ لوك غودار سراح نفسه وروحه، فيُغادر حياةً يملؤها بسجالات وإشكاليات ومسالك وأفلامٍ، ستبقى مؤثّرة وفاعلة في الثقافة والفنّ والفكر والاجتماع والإعلام والعلاقات والتفاصيل الحياتية.
العربي الجديد،
—————————
غودار ودفاعه عن المستضعفين أفرادًا وجماعات/ بوعلام رمضاني
ليس سهلًا أن ينافس خبر رحيل فنان ما مهما أوتي من خصوصية إبداعية وحضور فكري وشخصي تاريخي، خبر رحيل أهم وأشهر ملكة في العالم تربعت على العرش مدة سبعين عاما. المخرج الكبير الفرنكو سويسري جان لوك غودار الذي رحل يوم الثالث عشر من الشهر الجاري في بيته الكائن في قرية رول القريبة من جنيف وغير بعيد عن بيت شارلي شابلن عن عمر يناهز الواحدة والتسعين، نافس الملكة البريطانية ميتًا أيضًا، واستطاع أن يحتل المرتبة الثانية في سلم التغطيات التي أفردتها وسائل الإعلام لحظة نقل القداس الديني للملكة البريطانية الراحلة مباشرة من أيرلندا الشمالية. كما جرت العادة، حينما يرحل أحد كبار القوم في أي مجال كان بفرنسا الفنون والثقافة، تقدم رئيس الجمهورية المعزين والمكرمين واصفًا المخرج غودار “بالكنز الوطني وصاحب النظرة العبقرية” وقائلًا: “كان في البداية يمثل ظهورًا سينمائيًا عاديًا، ولم يلبث أن تحول إلى أحد أسياد الفن السابع. السينمائي الأكثر فرادة خارجة عن التصنيف الجاهز، والمتمرد على ما سبقه من مقاربات سينمائية، أبدع فنًا جديدًا وحداثيًا متحررًا من القوالب القديمة”. صاحب الأفلام التي أرخت للموجة السينمائية الجديدة، احتل مكانة استثنائية عند عامة وخاصة الناس، ولم يكن فنانًا خالصًا فحسب، وتجاوز ذلك إلى المستوى الأيديولوجي والإجتماعي بارتباطه تاريخيًا بسياق سياسي فرنسي عرف ثورة في الذهنيات والسلوكات وفي التوجهات الفكرية تحت وطأة انتفاضة 1968. ككل الرجال الكبار، لم يكن الراحل محل إجماع المتخصصين والنقاد والساسة والصحافيين والمواطنين العاديين، سواء تعلق الأمر بشخصيته المشاكسة والاستفزازية أو بتوجهه الماركسي والماوي تحديدًا في فترة ما والمحسوب على الهامش، أو بتوجهه السينمائي القائم على البحث الدائم والأشكال الفنية غير المسبوقة، لكنه حقق الإجماع باعتباره أحد أهم مبدعي السينما فرنسيًا وعالميًا. يجدر الذكر أن غودار الذي كان يعاني من مرض عضال، قد طلب من عائلته التعجيل بتحريره من العلاج، وبالتالي مساعدته على الانتحار المرخص في سويسرا وبلجيكا، والذي سيناقشه الفرنسيون قريبًا حسب تصريح الرئيس الفرنسي نفسه.
سيل من التكريمات
إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كانت إليزابيت بورن، رئيسة الوزراء، المسؤولة الرسمية الثانية في الدولة من مكرمي غودار، وجاء على لسانها: “صاحب الألف وجه، استطاع أن يغير مجرى السرد في السينما، ورحل طفل السينما المرعب تاركًا لنا إرثًا سينمائيًا في شكل تحف غير مسبوقة، وسيفتقده الفن السابع”. وكعادته كان جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي وصديق الفنانين، ومؤسس عيد الموسيقى، وأشهر وزراء الثقافة بعد أندريه مالرو في عهد الرئيس الراحل فرنسوا ميتران، من السباقين لتكريم الراحل جان لوك غودار. وقال لانغ لإذاعة “فرانس أنفو”: “هناك قبل وبعد غودار. غودار صاحب منجز سينمائي غير مسبوق، وغني وقوي، وكان صاحب نظرة جديدة وثورية وقطيعة سينمائية، وسيد الفن السابع وفيلسوف الصورة. كان غودار فيلسوفًا وشاعرًا مزج بين الثورة والجمال والرجاء والحب والملل. أنصح الجيل الجديد بمشاهدة كل أفلامه”.
رشيدة داتي، الوزيرة السابقة المغربية والجزائرية الأصل، وعمدة الدائرة الباريسية السابعة، اليمينية مثل رئيسة الوزراء، قالت عن الراحل القريب من يسار اليسار: “لقد رافق أجيالًا من الفرنسيين، وساهم في التغيير الاجتماعي، وأثّر في السينمائيين عبر العالم بأسره، وبرحيله يغيب أحد عمالقة الثقافة الفرنكوفونية”.
آن إيدالغو، عمدة باريس الاشتراكية، ضمت صوتها إلى صوت المكرمين من اليمين قائلة: “ستبقى أفلامه خالدة، وخاصة فيلم “إلى آخر نفس”، ومساهماته كأحد صناع التراث السينمائي لا تقدر بثمن. نفتقده في أول يوم لرحيله”.
زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي فابيان روسيل قال عن الراحل بدوره: “غودار مارس الفن السينمائي بشكل غير مسبوق لم يقم به أحد قبله”، أما فاليري بيكريس، المرشحة اليمينية الأخرى التي فشلت مؤخرًا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فقالت: “غودار سينمائي استفزازي وغامض ورومانسي، واستطاع أن يدفع بالفن السينمائي إلى أقصى درجة. كان سيد الموجة الجديدة، ويتطلع إلى المساهمة في صنع عالم جديد”.
النجمة بريجيت باردو، ممثلة الإغراء التي ظهرت رفقة الراحل ميشال بيكولي في فيلم “الاحتقار”، كانت هي الأخرى من السباقات لتكريم غودار بقولها: “كان من أكبر صناع النجوم”.
ألان ديلون، النجم الشهير والوسيم والمسن مثل باردو، قال من جهته عن صانع الموجة الجديدة إلى جانب فرنسوا تريفو وكلود شابرول في كلمة أرسلها لوكالة الأنباء الفرنسية: “صفحة من تاريخ السينما تطوى برحيل غودار. شكرًا غودار للذكريات التي تركتها لنا، ويجب أن تدرك أنني سأبقى فخورًا بعملي تحت توجيهك”.
الناقد والمخرج السينمائي فيليب لابرو انضم إلى كوكبة المكرمين الذين لا يسع ذكرهم كلهم في هذا المقال، وقال عن الراحل لصحيفة “لوفيغارو”: “كان يحب التحدث مع الصحافيين، ولم أكن صديقه، لأنه من الصعب نسج علاقة صداقة معه. كان منظمًا مثل السويسريين”. كما كان منتظرًا، أدلت وزيرة الثقافة ريما عبد المالك بدلوها، وقالت عن الراحل غودار: “لقد أحرق كل قوانين السينما، ساعيًا إلى زرع موجة فنية عارمة في العالم، وقائمة على الشجاعة والحرية. ترك لنا كتاب صور يحمل بصمة غير قابلة للمحو”. والممثلة ماشا ميريل راحت تكرم المخرج الذي وجهها بطريقة غير عادية بقولها: “ماتت الملكة إليزابيث، ومات الملك غودار”، وقارنته ببيكاسو من منظور إبداعي تمامًا كما قارنه جيل جاكوب، المدير العام السابق لمهرجان كان السينمائي الدولي، برامبو، صاحب الثورة الشعرية، وإلى الشيء نفسه ذهب المخرج رومان غوبيل بقوله: “كان سينمائيًا ثائرًا فنيًا وفكريًا”.
رائد الموجة الجديدة
جان لوك غودار الذي يصنع الحدث الثقافي والفني لحظة كتابة هذه السطور، مطاردًا وهو ميت من دوائر معروفة بسبب تأييده نضال الشعب الفلسطيني كما سنرى لاحقًا، من مواليد 3 كانون الأول/ ديسمبر 1930 بالدائرة الباريسية السابعة، وابن بول غودار وأوديل مونو. المخرج الراحل كاتب سيناريو وحوارات ومنتج ومركب وممثل ومنظر وكاتب وطالب سابق في جامعة السوربون، قبل أن يخوض تجربة سينمائية استثنائية أرخت لولادة تيار الموجة الجديدة. كان سينمائيًا كاملًا يسيطر على كافة ضروب الإبداع السينمائي، ومنها التركيب الذي تناوله الفيلسوف الشهير جيل دولوز بالشكل الذي يكشف عن الشيء غير المرئي وغير المحدد على حد تعبيره. بدأ حياته السينمائية عام 1954 مثل إريك رومر وفرنسوا تريفو وكلود شابرول وجاك ريفيت، وانطلق ناقدًا سينمائيًا. في الفترة نفسها شرع في إخراج أفلام وثائقية ودخل معترك الأفلام الطويلة بفيلم “حتى آخر نفس” عام 1959 معلنًا عن موهبته اللافتة وعن نشأة الموجة الجديدة. غودار الملتزم والمدافع عن نضالات الشعوب، أخرج عام 1960 فيلم “الجندي الصغير” الذي تناول الثورة الجزائرية أو حرب الجزائر، كما يصفها عدد كبير من مؤرخي وقادة فرنسا، وأردفه بأفلام أخرى. تعددت لاحقًا أفلامه الوجودية التوجه والملتزمة اجتماعيًا وأيديولوجيًا، وككل مخرج كبير يفشل وينجح، ويذكره النقاد أكثر استنادًا لأفلامه المتميزة، وراح غودار يخرج أفلامًا تاريخية أكدت نبوغه الفني وليس التزامه الإنساني والسياسي فحسب. وصنع الحدث السينمائي بفيلم “الاحتقار” عام 1963، و”امرأة متزوجة” عام 1964، و”بيار المجنون” عام 1965، وهو الفيلم الذي اعتبره النقاد تحفة فنية، وعاد إلى موضوع الدعارة في فيلم “الصينية” عام 1967 بعد أن عالجه في فيلم قصير “يعيش حياته” عام 1962. الأفلام المذكورة، هي الأفلام التي جسدّت أكثر مزاج وتوجه وحساسيات غودار الفنية مقارنة بأخرى، لكن هذا لا يعني أن عشرات الأفلام الأخرى لا تعكس خصوصيات إبداعية وفكرية واجتماعية. كان الإلتزام جوهرها الأيديولوجي غير المنفصل عن مقاربات سينمائية غير مسبوقة تقوم على قوة تعبير الصورة أساسًا. نال غودار عدة جوائز.
راديكالية 1968
عندما اندلعت الانتفاضة الطلابية في باريس عام 1968، كان غودار أحد الذين ساهموا في اندلاعها بحسه الثوري المسبق الذي انعكس في عدد كبير من أفلامه، وظهوره بجانب الفيلسوف جان بول سارتر لم يكن أمرًا اعتباطيًا. كان السياق يومها فرصة للمخرج لكي يؤكد راديكاليته الفكرية أو هامشيته، كما قال له أحد الصحافيين في سؤال أراد إحراجه من خلاله، وذلك من خلال أفلام لم تسلط عليها الأضواء إعلاميًا. عاد غودار إلى السينما عام 1980 بفيلم “الحياة” بشكل أحيا فترة الخمسينيات والستينيات التي تبقى مرتبطة باسمه كما مر معنا، وأمضى منتصف السبعينيات مخرجًا موزعًا بين التلفزيون والفيديو رفقة زوجته آن ماري مييفيل. انطلاقًا من مطلع التسعينيات، تفرّغ الراحل لأفلام تجريبية عالج من خلالها تاريخ السينما، وأخرج لاحقًا أفلام “نشيد الحب” (2001)، و”موسيقانا” (2004)، و”فيلم الاشتراكية” (2010)، وأشرف على معرض ضخم في مركز بومبيدو الثقافي، ولم يتم إنجازه للصعوبة الفنية التي طرحها، وعوض بمعرض “أسفار في الطوباوية”. فنيًا، انفرد غودار بمقولات وظف من خلالها الصورة والموسيقى والأدب والفلسفة والتاريخ، وكل المقولات المستعملة هي ملك للإنسانية على حد تعبيره: “وأنا لست سوى الذي يربط بين دوستويفسكي في مطعم وبين صغار وكبار الممثلين”. فنيًا أيضًا، أحدث غودار قطيعة مع البعد السردي التقليدي في السينما الكلاسيكية ومع فكرة الشخصيات، وعمل على فصل الصوت عن الصورة لكي يتحولا إلى عنصرين منفصلين. مزج بين الخيال والتوثيق والنضال والرسم وعلم الاجتماع والموسيقى وفن الفيديو، ولم يكن ينطلق من سيناريو جاهز ولا حوارات معدة سلفًا، واعتمد على لصق وموزاييك عناصر بصرية ونقاط مسجلة، وكان على المتفرج البحث عن المعنى الذي اكتسته صوره، والمعنى يظهر بعد المشاهدة وليس قبل على حد قوله. اتهم غودار بالغموض الكامل، وعليه تنطبق عليه مقولة بول كلوديل: “الإبداع يكمن في الغموض الذي يفسره المتلقي على طريقته”. أخيرًا وليس آخرًا، كان المخرج غودار صاحب مزاج صعب ومتقلب، وعانى معه الكثير من الممثلين والممثلات، وعلى رأسهم الراحل الكبير جان بول بلمندو. بلمندو وآلان ديلون وماشا ميريل وميشال بيكولي وبريجيت باردو كانوا من أبرز الشخصيات الذين ارتبطت مسيرتهم بالمخرج الراحل وشهدوا على عبقريته.
فلسطين في القلب والعقل
لا يمكن التحدث عن مسيرة ومواقف الراحل جان لوك غودار من دون التوقف عند دفاعه عن المستضعفين، أفرادًا كانوا أو جماعات، ووقوفه بجانب ثوار الجزائر وفلسطين ليس إلا قطرة في نهر التزامه الإنساني الشامل والكامل والمتعدد الألوان والتجليات.
وبدأت مشكلته مع الرافضين لتأييد نضال الشعب الفلسطيني بكل السبل انطلاقًا من عام 1970 من خلال فيلمي “هنا وهناك” و”موسيقانا”، الأمر الذي تسبب في اتهامه بمعاداة السامية. وبلغت ذروة الاتهام عام 1974 حينما ربط بين هتلر وغولدا مائير من منظور نازي واحد، وإثر مقارنته اليهود بالنازيين بتصريحه: “إن اليهود يفعلون بالعرب ما فعله النازيون في اليهود”. بالنسبة لأنطوان دو باييك، كاتب سيرة غودار، فإن المسألة اليهودية موضوع ثابت في مسار ومسيرة غودار، ويتناولها من منظور المعادي للصهيونية، ورغم هذا التوضيح، هاجم اللوبي اليهودي الأميركي غودار عام 2010 معبرًا عن رفضه منحه أوسكار شرفي. وكان غودار من مؤيدي مقاطعة السينما الإسرائيلية.
ضفة ثالثة
——————————–
«هنا وهنالك»: فيلم جان لوك غودار عن الفدائيين/ سليم البيك
لا تنحصر علاقة السينمائي جان لوك غودار بالفلسطينيين في مرور سريع أو متمهّل لقضيتهم في أكثر من فيلم، منذ مرحلته في الثمانينيات (مرحلة ما بعد «الموجة الجديدة» والثورية) حتى الأخيرة، وجميعها سياسية شكلاً، إن لم تكن مضموناً، وقد تغيرت أساليبه ومواضيعه وتفاوتت وتجددت على مراحل في العقود السبعة من صناعته للسينما، منذ ستينيات القرن الماضي التي أسّس فيها مع غيره «الموجة الجديدة» قبل أن يتركها متوجهاً إلى مخيمات الفدائيين في فلسطين، في مرحلته الماوية (بدءاً من 1969) ليعيش معهم ويصنع أخيراً فيلماً سيصير اسمه «هنا وهنالك» (Ici et Ailleurs) بعدما كان الاسم «حتى النصر».
كتب غودار بياناً سينمائياً فكرياً سياسياً في مجلة «فتح» عام 1970، الفترة التي أمضاها في عمّان بين الفدائيين. شرح في البيان المطوّل منهجه في صناعة سينما ثورية فلسطينية، وأسباب مجيئه إلى الفلسطينيين، وقدم تعريفاً ثورياً للسينما ،مفهوماً وصناعةً ووظيفة. نشرت «رمّان الثقافية» البيان يوم رحيله (13/9/2022). لكن وثيقة أخرى غير متاحة، نشرتها صحافة الثورة، («الهدف» 1970) المجلة الصادرة عن «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» نقلاً عن صحيفة «الأكسبرس» الفرنسية من خلال مراسلها في عمّان، وكانت مقابلة مختصَرة مع المخرج الثوري الفرنسي السويسري، وكان لها عنوان هذه المقالة «غودار عند الفدائيين».
تمحور اللقاء حول العمل السينمائي الذي يسعى له غودار بين الفلسطينيين، وتحديداً إنجاز فيلم نضالي طويل ملوّن (16 ملم) عرّفه غودار في المقابلة بأنّه سيكون «فيلماً سياسياً، أو بالأحرى تقريراً سياسياً» بعنوان «أساليب التفكير والعمل في الثورة الفلسطينية» ويقدّم «تحليلاً سياسياً للثورة الفلسطينية». ورد العنوان الذي سيصير أخيراً «هنا وهنالك» بهذه الترجمة في المقابلة المنشورة في «الهدف» أما الترجمة الأقرب للأصل الفرنسي فكان ما ورد في البيان المنشور وهو «منهج تفكير وعمل حركة التحرير الفلسطينية» (البيان منشور بالفرنسية في La Palestine et le cinéma، وبالعربية في كتاب سيصدر قريباً بعنوان «فلسطين في السينما»).
طلبت اللجنة المركزية للثورة الفلسطينية، يقول غودار (والمقصود «حركة فتح») منه القدوم وإنجاز فيلم عن الثورة. كان غودار وقتها ضمن مجموعة «دزيغا فيرتوف» السينمائية الثورية مع جان بيير غوران، وكانت للمجموعة أفلام ثورية ماركسية منها «برافدا» و»النضال في إيطاليا» و»فلاديمير وروزا» صُنعت بين 1970 و1971.
لا يسعى غودار في فيلمه «إعطاء دروس، بل أخذ دروس من أناس متقدمين علينا» فهو يحاول «استخدام التقنية والخبرات الفنية، من أجل التعبير عن أفكار الثورة الفلسطينية». وفي البيان المذكور، يكتب غودار في ذلك قائلاً «نحن متأخرون عشرات السنوات عن أول رصاصة أطلقتها العاصفة» معطياً الأولوية للعمل الثوري على العمل السينمائي والفكري.
يحدّد غودار لفيلمه هذا هدفين: أولهما «مساعدة الأشخاص الذين يناضلون بشكل أو بآخر ضد الإمبريالية في بلدانهم المختلفة» وثانيهما «تقديم نوع جديد من الأفلام، نوعٍ من الكتيّب أو المنشور أو الملف السياسي». وفي توضيح فكرته، قال إنّهم، أي العاملين في الفيلم، لا يحاولون عرض صور، بل عرض العلاقات ما بين الصور، بذلك يصبح الفيلم سياسياً، وهذه العلاقات تذهب في اتجاه الخط السياسي للقيادة الموحدة للثورة الفلسطينية، يضيف بأن ذلك سيستغرق وقتاً، فالفلسطينيون «في حالة حرب شعبية طويلة الأمد، وليس هنالك سبب إلا بأخذ هذا الفيلم وقتاً كافياً».
استغرق الفيلم فعلاً وقتاً طويلاً جعل بعض العاملين في السينما من الفلسطينيين يستغربون عدم إنجاز غودار لفيلمه، وقد منحوه ما احتاج من الوقت والمواد واللقاءات. وقد أشارت مقالة بعنوان «غودار ومجموعة دزيغا فيرتوف: السينما والديالكتيك» («فيلم كوارترلي» 1972) إلى أن هذا التأخير يعود إلى حادث سير تعرض له غودار، وأساساً إلى الأحداث في الأردن وخروج الثورة منها ودخولها مرحلة جديدة، وإلى تريّث المجموعة في العمل على الفيلم اللازم، لضرورة المراجعة الفكرية، بسبب تعلقه بمراحل تطور الثورة، فلا يكون متعجّلاً. لكن ما قاله غودار في حواره المذكور، كان سابقاً لكل تلك الأسباب التي ما أثّرت سوى في إطالة فترة الانتظار وحسب، انتظار كان ضرورة منهجية، ليخرج الفيلم أخيراً عام 1976.
أما الصعوبات في إنجاز الفيلم فكانت من داخله لا من خارجه، وقد أتت من فهم غودار لطبيعة الفيلم المتمثلة في عنوانه الأولي، فقال إنّ «الصعوبات تأتي لكون الفيلم لا يخرج بدافع التعاطف السياسي، بل جراء مناقشات سياسية. ويشترك أعضاء المقاومة الفلسطينية في إخراج الفيلم» موضحاً أن الفيلم يُناقَش باستمرار في كل طور من أطواره. لكن العمل على الفيلم، وكذلك المقابلة، تزامنا مع تواتر وتسارع الأحداث في الأردن، وعنها قال غودار إنّها «سمحت بتحديد الأمور، نحن ندرس أساليب تفكير وعمل الثورة الفلسطينية. إن تميز الثورة الفلسطينية وجدتها تخيف الأنظمة القائمة في الشرق الأوسط وحماتها، الروس والأمريكان». هو ما يفسر الطبيعة التي أرادها غودار لفيلمه، في جدلية علاقتها مع الواقع الراهن والمتغير للثورة، ما جعل فيلمه أقرب للمقالة السينمائية التحليلية المتعمقة، أما ما تضمنه الفيلم كما خرج أخيراً، من مَشاهد تُجري مقاربات بين عائلة فلسطينية في المعسكرات ومع السلاح، وأخرى فرنسية في البيت أمام التلفزيون، كان ما أكمل الفيلم بصيغته النهائية وتأملاته الفكرية، وهو ما أوصل إليه الانتظار لستّ سنوات، وهو ما طوّر في العنوان بنسخه الثلاث.
سيصير الفيلم واحداً من أبرز الوثائق السينمائية التي قاربت الثورة الفلسطينية في السبعينيات، وأبرز الوثائق التي قاربت الفعل الثوري سينمائياً وعالمياً، وذلك قبل أن يكمل غودار مشواره وتجاربه السينمائية والفكرية التي واصلها في ما يمكن توصيفه بإعادة خلقٍ للسينما في مفهومها وجمالياتها ومقارباتها، في إعادة تفكيك السينما وتركيبها بين فيلم وآخر، إلى أن رحل قبل أيام.
كاتب فلسطيني سوري
القدس العربي
————————
غودار وجينيه في فلسطين: برهة المطهر/ صبحي حديدي
مؤلفات كثيرة صدرت، والأرجح أنها سوف تتعاقب، حول المخرج والمنظّر السينمائي السويسري/ الفرنسي الكبير جان – لوك غودار (1930-2022)؛ لا تقتصر على تثمين منجزه الحافل في إخراج أفلام شكّل معظمها منعطفات فارقة، أو التنظير للسينما من جوانب شتى فنّية وسياسية وفلسفية، بل كذلك مساءلة آراء غودار والاشتباك معها من مواقع اختلاف أو اتفاق، أو ضمن منزلة وسيطة بين الحماس المطلق أو القبول المشروط أو الرفض الأقصى. وهذه كانت وتظلّ إرثاً منتَظراً تماماً إزاء حصيلة حافلة ندر أنها لم تتخذ مسالك إشكالية على أصعدة شتى؛ خاصة وأنها، في السياسة مثلاً لم تتخلّف عن مفاعيل حراك 1968 التاريخي في فرنسا والعالم، وفي الإيديولوجيا سعت إلى مزاوجة شاقة بين ماوتسي تونغ ووالتر بنيامين، وسوى ذلك كثير وافر.
وإذا كان المقام، هنا، لا يتيح استعراض الكثير من عناوين المؤلفات المتميزة حول غودار، أو حتى ذكر بعضها الأبرز في الحدود الدنيا، فإنّ هذه السطور لن تفلح استطراداً إلا في اختيار كتاب واحد، والسعي إلى إنصافه تحت سقف حفنة محدودة من الكلمات، ليس أكثر. اعتبار آخر يمكن أن يسوّغ هذا الاختيار، مفاده أنّ الكتاب لا يتعمّق في تشخيص تجربة غودار وحده، بل يضعه في مصافّ تقدير متماثل مع الشاعر والروائي والمسرحي الفرنسي الكبير جان جينيه (1910-1986)؛ كما يتقرى الكثير من سمات امتيازهما على خلفية ملفات عادلة بقدر ما هي شائكة، تتصل بالقضية الفلسطينية. ثمة، إلى هذا، إغواء خاصّ يقترن بهذا الكتاب تحديداً، قوامه أنّ مؤلفه شاؤل سيتر يعمل أستاذاً للأدب والفنون والنظرية في جامعة تل أبيب؛ الأمر الذي يتيح أكثر من فرصة واحدة للوقوف على قراءات باحث إسرائيلي في أعمال اثنين من كبار أدباء فرنسا وفنانيها، تعاطفا بقوّة مع شعب فلسطين والمقاومة الفلسطينية.
الكتاب بعنوان «الجماعية في النضال: غودار، جينيه، والثورة الفلسطينية خلال السبعينيات»، وقد صدر بالإنكليزية سنة 2021 ضمن منشورات Lexington في لانهام، ماريلاند؛ ويبدأ سيتر صفحاته الـ 185 صفحة، وأربعة فصول ترفدها مقدمة وخاتمة، باعتراف جدير بالتنويه هنا: هذا كتاب مرّ تأليفه بمراحل زمنية مطوّلة، تشابهت خلالها أطوار الكتابة مع تحوّلات غودار وجينيه الإبداعية بصدد القضية الفلسطينية: انتفاضة، ثمّ انقطاع، ومآلات تتراوح بين «التأمل النقدي الكئيب أو الاتقاد الاستيهامي». هذا في أطوار بيركلي، حيث كان سيتر يدرس، وأمّا في فلسطين المحتلة فقد مكّنه فلسطينيون وإسرائيليون كثر من تصويب زوايا عديدة كانت في السابق تحكم نظرته إلى مواضيع الكتاب.
وفي أصل دوافع سيتر أنّ «برهة 1968» دشنت عصر نضال ثوري ينفتح على العنصر السياسي ويسبغ عليه فضاءات تتجاوز ما هو دبلوماسي وتفاوضي، وما ينحصر في الديمغرافي أو السوسيولوجي، وما يتمحور حول الاستنكار المعنوي؛ وفي ترجمة ذلك على مستوى القضية الفلسطينية، يشير سيتر إلى ثلاثة نماذج عليا: 1948، 1967، و1968 ذاتها. وبدلاً من وضع مشروعَي غودار وجينيه داخل إطار انفتاح الفنّ الفرنسي على النضال في الشرق الأوسط، بما تميّز به عن نظائر أوروبية واستشراقية، فنية وسياسية، فردية وجماعية؛ حرص سيتر على تأصيل المشروعين في برهة 1968 من جهة أولى، وعلى توظيفهما مفهومياً من أجل تحدّي المقولات التي تفصلهما عن تلك البرهة من جهة ثانية. بذلك فإننا «لا نبدأ من كتابة التاريخ فقط، بل الكتابة في التاريخ»؛ وتلك، في رأي سيتر، ظلت سمة جوهرية في النضال الفلسطيني خلال عقد السبعينيات، وبرّرت لكاتب/ مناضل مثل غسان كنفاني أن يقترح تعبير «أدب المقاومة».
تبقى إشارة أولى إلى أنّ الشاعر والأكاديمي الصديق كاظم جهاد قدّم للمكتبة العربية ترجمة، إبداعية بقدر ما هي أمينة، لكتاب جينيه «أسير عاشق»، صدرت سنة 1997؛ يستعيد في معظم فصوله وقائع شهور امتدت على سنتين، عاشها جينيه في ضيافة المقاومة الفلسطينية، في عجلون الأردنية، مطلع السبعينيات، تحت الاسم الحركي «الملازم علي». إشارة ثانية إلى أنّ غودار أنجز، من العاصمة الأردنية عمّان مطلع السبعينيات، شريطه «حتى النصر»، الذي سيصبح عنوانه «هنا وهناك»، حول الفدائيين الفلسطينيين؛ كما أشرك محمود درويش في شريطه «موسيقانا»، 2004، صحبة الإسباني خوان غويتيسولو والفرنسي بيير بيرغونيو وممثلين عن أقوام أمريكا الأصليين؛ وكانت مدينة سراييفو بمثابة مسرح لإعادة تمحيص التاريخ في مراحل دانتية ثلاث: الجحيم، المطهر، والفردوس.
يبقى، ختاماً، بُعد إضافي في الكتاب يجسده إلحاح سيتر على أنّ أعمال غودار وجينيه تكشف أيضاً الجوانب الكتابية للنضال ذاته: «طرائق نضال المقاتلين الفلسطينيين ليصبحوا رواة أفعالهم أنفسهم. المقاتلون يصورون ويتولّون المونتاج، يقفون أمام الكاميرا ويستخدمونها، وهم الممثلون في مسرح سياسي وأفعالهم تتخذ غالباً منحى إيماءات ذاتية الصنع. يجهدون كي يكونوا مؤلفي حكايتهم، وأن يكتبوا كلماتهم هم في كتاب التاريخ». وهكذا، وإذْ شارك غودار وجينيه في مصاحبة المقاتلين الفلسطينيين والاستجابة (عبر الصورة السينمائية والنصّ الكتابي) لطلباتهم في أن يتصرفوا كمؤلّفين؛ فإنّ «بنية الكتابة» انقلبت بذلك إلى «برهة ثورية» أشبه بالمطهر، وأسفرت عن السيرورة التالية: «الانشطار بين الفعل والنصّية، بين الجسد والكلمات، وبين المادّة والوعي، والذي لاح أنه مدماك بنيوي، إنما فقد ركيزته».
القدس العربي
———————————–
———————————–
غودار والقضية الفلسطينية.. مبدع إنساني وعادل/ جورج كعدي
أطنان من الكتب والدراسات تناولت سينما الكبير Jean – Luc Godard (1930- 2022) الذي غاب اختياريًّا بـ”الموت الرحيم” قبل نحو أسبوعين، المجدّد والمثوِّر للغة السينمائيّة ومفهوم الصورة وعلاقتها بالكلمة وأيّهما تسبق الأخرى. ولأنّني لستُ في مساحة دراسةٍ أو كتاب، إنّما في حيّز مقالة مكثّفة لعلّها تفي بمجرّد التنويه بفرادة ما قدّمه غودار للسينما، وبموقفه الفريد من القضيّة الفلسطينيّة تحديدًا عبر فيلميه “موسيقانا” (Notre musique) و”هنا وفي مكان آخر” (Ici et ailleurs)، أكتفي بهذين الجانبين: التنويه المختصر، والإضاءة شبه الوافية على فيلميه “الفلسطينيَين” إن جاز الوصف والتعبير.
1- في فرادة سينما غودار
كثيرٌ ما أتى به غودار للغة السينمائيّة تجديدًا و”خربطةً” لقواعدها التقليدية التي كانت سائدة قبله. صحيح أنّه صنّف بين مطلقي “الموجة الجديدة الفرنسية” (French new wave) التي ضمّت رفاقًا وأصدقاء له من “السينفيليين” النهمين ثقافةً ومشاهدةً وكتابة نقديّة تحت رعاية “أبيهم الروحيّ” أندريه بازان Bazin، وبينهم Chabrol و Truffault (الصهيونيّ المقيت رغم براعته السينمائيّة، وله حديث خاص آتي إليه لاحقًا) وRohmer وRivette وVarda وDemy وMalle وآخرون، إلاّ أنّ غودار، منذ البداية حتى الرحيل المؤسف والمؤلم بـ”الموت الرحيم” في سويسرا، بقي نسيج وحده، شديد الفرادة، عظيم الثقافة، عميقًا، مرحًا، مثوِّرًا ومخالفًا المواضعات السينمائيّة المعهودة، مفتتحًا عصرًا سينمائيًّا جديدًا مختلفًا أدهش العالم في جهاته الأربع، حتّى صار له أتباع ومريدون أينما كان متأثرون علنًا وفخورون بأنّهم “غودارديّو” الأسلوب والهوى.
الصعوبة تكمن في كيفيّة اختصار سينما غودار وفكره وأسلوبه المجدّد. سأحاول، وسأتألم، ولن أنجح إلاّ بقدر محدود جدًا ضمن الفسحة الضيّقة المتاحة، إذ لا يمكن إيفاء هذا الكبير حقه ودوره ومكانته السينمائية سوى بكتاب تحليليّ بحثيّ مستفيض، أو بدراسة مطوّلة تشفي جزءًا من الغليل. ومع ذلك، سأحاول، قبل بلوغ الجزء الثاني من عجالتي والخاصّ بفيلميه عن فلسطين.
اتّسع نطاق التجريب لدى غودار على نحو مذهل، إنْ في أفلامه الذاتيّة والحميمة التي تعكس جانب “الهوس الثقافيّ ” (Pseudo – intellectualisme) لديه في مختلف فروع الفكر والفن، أو أفلامه السياسيّة التي تؤكد صفة الالتزام (engagement) عنده انطلاقًا من خلفيّة انتمائه الفكريّ اليساريّ، الماويّ المعلن تحديدًا. فلا فيلم يشبه الآخر في فيلموغرافيته الطويلة، بل إنّ كلًا من أفلامه يطأ رقعة جديدة على أرض التجريب. وأوّل ما يلفتنا في سينما غودار استخدامه طريقة القطع “الفظّ” والمباغت بين لقطة وأخرى، فالجزئيّات (Fragments) تتجاور على نحو صادم ولا يتبدّى لنا على الفور منطق جليّ من هذا التجاور المولّف. ومن هنا سمة “الصعوبة” التي طبعت أفلامه ونأت بها عن أن تكون في متناول جمهور عريض يلقى صعوبة ومشقّة في فهمها، سوى المشاهدين الذين “يفهمون على غودار” ويتلقّون خطابه السينمائيّ الفريد بالحدس أو بالإدراك والتفضيل. سينماه مزيج من الصور والأصوات التي تتناغم أحيانًا وتتنافر أحيانًا أخرى. منذ فيلمه الروائيّ الأوّل و”الفاتح” عام 1960 تحت عنوان “لهاث” (“A bout de souffle” العنوان الأصل بالفرنسيّة، و”Breathless” في الترجمة الإنكليزية) رفض غودار اللجوء إلى أسلوب السرد التقليديّ، أو الحبكة ورواية قصة ذات بداية وتطوّر دراميّ ونهاية، وحتى طريقة تقديم الشخوص السائدة حتّذاك، فاعتمد اللقطة العامة التي تليها لقطة أو لقطتان متوسطتان وفي النهاية لقطة مقرّبة أو ما يسمّى Close up. وعلينا بالتالي أن نتمعّن في خاصّيات كل جزئيّة من الجزئيّات المكوّنة للّقطة كي يتسنّى لنا فهم مبرّرات هذا الأسلوب في المونتاج. كلّ صورة في أيّ فيلم من أفلام غودار محمّلة بالاقتباسات (الأدبية أو الموسيقية أو التشكيلية أو الفلسفية.. إلخ) والإحالات على مشاهد من أعمال سينمائيّة معروفة، غمزًا في اتجاهها أو محاكاة ساخرة لها. كما تتوقف كاميراه دومًا على بعض الأشياء العاديّة أو حتّى المبتذلة (banals) التي تطالعنا يوميًّا في الواقع وتقفز إلى أنظارنا عنوةً كالملصقات والإعلانات ولافتات النيون والصور الفوتوغرافيّة وغُلُف المجلاّت والبطاقات البريديّة وغُلُف الأسطوانات وعبوات الشامبو… أشياء كثيرة بعضها عاديّ وبعضها الآخر قد يكون بلا قيمة فعليّة.
بدأ غودار حياته السينمائيّة ناقدًا، كان على معرفة تامة بالأساليب السينمائيّة المتنوّعة (من السينما الهوليوودية إلى اليابانية مرورًا بالفرنسية والأوروبية عامةً) وكبار المبدعين في السينما واتجاهاتهم المختلفة. ففي أحد أفلامه، مثلًا، “المرأة هي المرأة” (Une femme est une femme) – 1962 – يردّنا، بالصورة أو بالكلمة، إلى Cyd Charisse، Gene Kelly ،Bob Fosse، Burt Lancaster، Ernst Lubitsch… وبالقدر نفسه، يحيلنا على رواية جيمس جويس Ulysses الذي يداني أسلوبها الأدبيّ أسلوبه السينمائيّ. فلا ترسم أفلام غودار صورة تسجيليّة مباشرة للعالم، بل تلتقطه بسلسلة من الإحالات والإلماعات. كذلك ممثلو أفلامه، يؤدون شخوصًا لم تُرسم ملامحها التامّة كما في الروايات ذات البناء المتماسك، ويختلّ جوّ الإيهام ويضطرب حين تظهر شخصيات معروفة وذات هويّات حقيقيّة، مثل المخرج الألماني الكبير Fritz Lang الذي يظهر بشخصيته الحقيقية كمخرج في إحدى تحف غودار السينمائيّة “الاحتقار” (Le mépris) – 1963 – المستوحى – على طريقة غودار – من رواية لألبرتو مورافيا. كذلك يظهر فريق “رولينغ ستونز” في فيلم “واحد زائد واحد” (One plus one) – 1968 – وهو وثائقيّ عن فريق الروك البريطاني … كما أَلِفَ غودار العمل من دون سيناريو معدّ سلفًا ومحكم التفاصيل، بغية إخفاء أثر ما يميّز التمثيل عن الواقع، فما أن يدرك ممثلوه أنّ مخرجهم يرتجل السيناريو قبل التصوير مباشرة حتى ينعكس الأمر على أدائهم أدوارهم بطريقة تلقائيّة مماثلة، فتغدو ردود أفعالهم العفويّة جزءًا لا يتجزأ من الفيلم. فضلًا عن سمة أساسيّة أخرى متكرّرة لديه هي مخاطبة الممثل أو الممثلة الكاميرا مباشرةً (سبقه إلى ذلك المعلّم السويديّ الكبير إنغمار برغمان).
إنّ البيئة التي تعيش فيها شخوص غودار لا تهب سوى بصيص أمل ضئيل، فهو يصوّر المجتمع كما لو كان سجنًا، وانطباعه عنه كئيب على الدوام، سواء كان فيلمه يحكي عن الاغتيال السياسيّ في فيلم “الجندي الصغير” (le petit soldat) – 1963 – ، أو الحياة الرتيبة في الضواحي في فيلم “اللامنتمون” (Une bande apart) – 1964 – ، أو باريس المليئة بالمراهقين المتذمّرين وفاقدي الأمل في فيلم “مذكّر – مؤنّث” (Masculin, Feminin) – 1966 – ، وحتّى عندما يتطلّع غودار إلى المستقبل في فيلم “ألفافيل” (Alphaville) – 1965 – فإنّه لا يعثر في هذا المستقبل على مخرج من الواقع القائم. النظامان الاجتماعيّ والسياسيّ يفرضان على الفرد أداء دورين، إما الإذعان، أو التمرّد. وثمة شبه قويّ في هذا الجانب بأفلام العصابات الأميركية أو ما يُعرف تحديدًا بال Film noir (لا ترجمة له حتى بالإنكليزية إذ يعتمده الأميركيون بلفظه الفرنسي وبلكنتهم الخاصة، ولا ترجمة له بالعربيّة ولا بأيّ لغة)، فهذا النوع السينمائيّ الهوليوودي ترك تأثيرًا شديدًا لدى غودار وأتاح له التعبير عن همومه الاجتماعية من خلال المحاكاة الساخرة لأفلام هذا النوع.
نظرة غودار إلى الإنسان واللغة والمجتمع هي في جوهرها نظرة متشائمة. أسلوبه مقطّع الأوصال وبلا رابط لكي يقول إنّه لم يعثر على الروابط والعلاقات التي تجعل الفرد في حالة انسجام مع ذاته، أو قادرًا على التواصل مع أقرانه، أو العيش في المجتمع والعمل على نحو خلاّق. وفي هذا سلك غودار طريقين رئيسين، الحبّ والنضال السياسيّ، لفكّ الحصار الذي تفرضه علينا روح النظم الانهزاميّة. بيد أنّ ردود فعله في كلا المجالين – الحبّ والنضال السياسيّ – بالغة التناقض إلى حدّ بقاء فكرة الانهزام قائمة. فيلم “بيارو المجنون” (Pierrot le fou) – 1965 – يشي بهذا الاقتناع الثابت لديه، وهو يصفه بنفسه بأنّه “قصة حبيبين رومانسيين هما آخر الرومانسيين”، فقصّة حبّ جان – بول بلموندو وآنّا كارينا وفرحهما بالحريّة التي ينعمان بها وإحساسهما بعدم المسؤولية وحيويتهما الفائقة في الانتقال من مكان إلى آخر على هواهما، تنقلب في النهاية إلى نهاية مأساويّة. يعود التشاؤم ليطغى دومًا في النهاية على نظرة غودار إلى مأساة الفرد في المجتمع.
فيلم “بيارو المجنون” أساسيّ في فيلموغرافيّة غودار الغزيرة التي بلغت مئة فيلم بين روائيّ وتسجيليّ واختباريّ تأريخيّ (له في النوع الأخير وثائقيّ في أربع ساعات ونصف ساعة تحت عنوان Histoire (s) du cinema -1988- وفيه تأريخ للفن السينمائيّ على نحو تجريبيّ فريد، غريب، معقّد، بأسلوبه الخاص الذي لا يشبه أي أسلوب آخر، لا قبل ولا بعد). “بيارو المجنون” هو الفيلم الأوّل لغودار الذي يتبدّى فيه وعيه السياسيّ الذي راح يسود بعده الأفلام التي أنجزها أواخر الستّينيات ويهيمن عليها. صحيح أن القضايا السياسيّة لا تعالج مباشرة في هذا الفيلم إلاّ عبر قصاصة جريدة سينمائية عن حرب فيتنام، وفي تلميحات طفيفة أخرى، غير أنّ ذلك كان بداية اهتمام سياسيّ سيظهر في أعماله اللاحقة كقضية بن بركة في فيلم “صنع في الولايات المتحدة” (Made in USA) – 1966، وفيلم “بعيدًا عن فيتنام” (Loin du Vietnam) – 1967 -، وفيلم “الصينيّة” (La Chinoise ) – 1967 – الذي يفصح فيه عن ميله الماويّ… وصولًا إلى الفيلمين عن فلسطين وهما الموضوع الأساسيّ للجزء الثاني من مقالتنا – التحيّة.
2- غودار متبنّيًا القضيّة الفلسطينية ومدافعًا عنها
عاش جان لوك غودار “مسيّسًا” حتى العظم من منطلق يساريّ ماويّ، حتى أنّه نزل إلى الشارع مناضلًا مثلما ناضل بالتزامه السينمائيّ، فهو من قادة الثورة الطالبية في فرنسا عام 1968، ويعدّ في السينما نموذجًا لما يُعرف بـ”السينمائي الملتزم” (cinéaste engagé) الذي يسخّر أدوات تعبيره، صورةً وكلمةً، للدفاع عن قضايا محقّة، عادلة وإنسانيّة، مثلما هي القضيّة الفلسطينيّة، فضلًا عن قضايا أخرى مرّ عليها قبلًا وبعدًا، كفيتنام وساراييفو وسواهما. ولكونه مناهضًا للحروب والعنف فإنّ الوضع البشريّ أفضى به إلى تلك النظرة التشاؤمية المعروفة لديه، رغم الظُرف والحميميّة التي اتسمت بهما أفلامه غير السياسيّة، فتشاؤمه لم يمنعه من أن يبدو مرحًا، ضاحكًا، ظريفًا، عميق الخطاب والثقافة، عاشقًا للسينما والكتب والموسيقى والنساء، أي متفائلًا عند ذروة التشاؤم.
علاقة غودار بالقضيّة الفلسطينية تتجلّى في فيلمين، “موسيقانا” (Notre musique) – 2004- ، وبالأخصّ “هنا وفي مكان آخر” (Ici et ailleurs) – 1976 – المكرّس للقضية الفلسطينيّة حصرًا. كلا الفيلمين من النوع الوثائقيّ أو التسجيليّ، إنما بنفحة غودار الخاصة وفرادته المعهودة، فهما مملوءان بمداخلاته النصّية والروائيّة بحيث يدانيان ما يُعرف بالـ “Docu-Drama”، أي الوثائقيّ الذي يخالطه الروائيّ، عبر النصّ المرافق والرأي والموقف المميز والنظرة الخاصة التي تدلّ على أسلوب صانعها.
في “موسيقانا” يخاطب غودار ذكاء المشاهد، محاولًا العثور على الجذور المشتركة لسائر الحروب، واقفًا في القضيّة الفلسطينيّة إلى جانب الشعب الفلسطينيّ، واضعًا نفسه أمام الكاميرا محاضرًا في جمهور من الطّلاب ومستخدمًا صورتين ملتقطتين عام 1948، أي سنة التهجير والمذابح وإنشاء الدولة الصهيونيّة المشؤومة على أرض فلسطين. الصورة الأولى يظهر فيها إسرائيليون طائرين فرحًا لدى نزولهم إلى شاطئ “الأرض الموعودة”، فيما تظهر الصورة الثانية فلسطينيين مطرودين من أرضهم ومتوجّهين إلى الشاطئ للرحيل. المعنى لغودار في هاتين الصورتين المتعاكستين، أنّ الإسرائيليّ يدخل بالنسبة إليه في الخيال (Fiction) في حين أنّ الشعب الفلسطينيّ المرغم بالقوّة على ترك أرضه يدخل في الوثائقيّ (Documentery). يستعين غودار بهذا المثل ليدلّ على ماهيّة حقل الصورة (champ) وحقل الصورة المعاكس (contre champ) في السينما. نظرة، ثم أخرى، فيولد المعنى.
المثير في فيلم “موسيقانا” أنّ الشاعر الفلسطينيّ محمود درويش حاضر فيه بشكل أساسيّ. “يستنطقه” غودار حول قضيّة وطنه الضائع المحتلّ من خلال حوار يدور بين الشاعر والصحافية الإسرائيلية الشابة “أولغا” (شخصيّة مبتكرة) التي تحادث درويش عن مسألة فلسطين، فيتكلّم هو بالعربيّة وهي بالعبريّة، وكاميرا غودار تبدو حياديّة مع أنّها ليست كذلك البتّة. عشر دقائق في الفيلم عن فلسطين، والباقي من الفيلم “الكالييدوسكوبي” أي “المشكاليّ” أو “المرآتيّ” الذي يولّد صورًا مختلفة الأشكال والألوان، هو عن حروب وقضايا أخرى كالحرب في ساراييفو والمجازر التي ارتكبت هناك عقب انفراط العقد اليوغوسلافيّ، ففيلم غودار هذا بمثابة مرايا متعاكسة لعدّة مآسٍ ونزاعات في أنحاء متفرّقة من العالم، للبلوغ كما ذكرنا أعلاه إلى فهم ما هو المشترك بين تلك الحروب والمآسي على امتداد جغرافيا العالم والقارّات. “موسيقانا” يشبه كلّ سينما غودار أسلوبًا. أجزاء مبعثرة تخضع لنظرة تصوّرية مفهوميّة (conceptuelle) لعالمنا. توليف بصريّ متقاطع، يمضي ذهابًا وإيابًا بين هذه الحرب وتلك، وللمشاهد الفطن أن يجهد لالتقاط المعنى، بالحدس ربما لا بالعقل، بالإحساس لا بالتتبّع العاديّ. حتى أنّ غودار استعار “الكوميديا الإلهية” (La comedie Divine) لدانتي للقيام برحلته المجزّأة مثل تحفة الشاعر الإيطالي الكبير إلى ثلاثة أقسام هي الجحيم والمطهر والنعيم. إلاّ أنّ غودار لا يبحث مثل دانتي عن معشوقته بياتريس، بل يسعى في رحلته المحاكية للأصل إلى فهم ما يحصل في عالمنا، وتحديدًا الحروب وجحيم العنف الذّي تولّده، واضعًا ثقافته العميقة في خدمة تصوّره كتبًا وصورًا وأدباء وشعراء (يظهر الشاعر الإسباني خوان غويتيسولو أيضًا في الفيلم، فضلًا عن درويش). كتب، مقاطع سينمائيّة روائية، أو تسجيليّة، فوتوغرافيات، لقاءات، محاضرات … هي بعض عناصر “موسيقانا” المكوِّنة لهذه المقطوعة البصريّة المثيرة والفريدة وغير المختلفة عن عالم غودار المعهود وأسلوبه المعروف. فالإنسان هو الأسلوب، وقد دأب السينمائيّ الفذّ على هذا النوع من الصدم واستفزاز المشاهد الذكيّ المطلوب منه التقاط المعاني والتصوّرات. ولعلّ مختلف العناصر هي أكثر من الموسيقى التي أُعطيت عنوانًا للفيلم. إنّها فرادة غودار وغرابته المألوفة.
إلى الشريط الأبرز، في ما يعني القضيّة الفلسطينيّة، بالنسبة إلى غودار ونظرته والتزامه. “هنا وفي مكان آخر” (كان مفترضًا في البداية أن يحمل عنوان “حتى النصر”، وأيًّا يكن العنوان الذي استقرّ عليه صانعه، إلاّ أنّه بقي في خانة الأفلام غبر المكتملة، أي غير المنجزة على نحو تام مئة في المئة). وأنجزه غودار بالتعاون مع المخرجة السويسرية آن – ماري مييفيل Anne – Marie Mièville ، رفيقة المهنة والحياة منذ 1972 حتى ساعة رحيله، والتي تعاونت معه كمصوّرة فوتوغرافية وكاتبة سيناريو ومولّفة ومديرة فنّية ومخرجة مساعدة، قبل أن تنجز أفلامها الخاصة لاحقًا ذات المنحى التسجيليّ والاجتماعيّ بنبرة تجريبيّة مسائلةً الحبّ والزمن ومعنى الأشياء.
بناءً على طلب من منظمة فتح عام 1970 إنجاز فيلم عن الثورة الفلسطينيّة والمناضلين الفلسطينيين، في عمّان عهد ذاك، لم يتردّد غودار في القبول وكان منتميًا حينها إلى مجموعة “دزيغا فرتوف” (Vertov) السينمائيّ الأوكرانيّ الرائد والطليعيّ في مرحلة ما بعد الثورة البولشفية واشتهرت له تحفته السينمائية “الرجل وكاميراه السينمائية” – 1929 – The man with a movie camera ” وبنظريته الفذّة “السينما العين” (بالفرنسية ciné –oeil ، أو Kino – eyes). ومجموعة “دزيغا فرتوف” أنشأها Pierre Gorin في فرنسا تحت تأثير أسلوب فرتوف الطليعيّ سابق زمنه. وكانت المجموعة السينمائية الثورية قد أنجزت عددًا من الأفلام ذات الإسناد الماركسيّ مثل “برافدا” و”فلاديمير وروزا” و”النضال في إيطاليا” مطلع السبعينيات. صمّم غودار على إنجاز هذا الفيلم عن الفدائيين الفلسطينيين بكاميرا 16 ملم وبالألوان، معلنًا أنّه “سيكون فيلمًا سياسيًّا، أو بالأحرى تقريرًا سياسيًا، عن أساليب التفكير والعمل في الثورة الفلسطينية، وتحليلًا سياسيًا للثورة الفلسطينية”، مؤكدًا أنّه لا يسعى إلى “إعطاء دروس، بل تلقّي دروس من أناس متقدمين علينا” وكان يعني الفدائيين والمناضلين الفلسطينيين، مقرًّا بصدق معبّر ومقدّر: “إنّنا متأخّرون عشرات السنين عن أوّل رصاصة أطلقتها العاصفة”، ملمحًا إلى تأخّره في إيلاء القضية الفلسطينية حقها من زاوية السينمائي الملتزم بالقضايا العالمية العادلة. وقد حدّد لفيلمه هذا هدفين، الأول “مساعدة الأشخاص الذين يناضلون بشكل أو بآخر ضدّ الإمبريالية في أوطانهم”، والثاني “تقديم نوع مختلف من الأفلام قد يشبه الكتيّب أو المنشور أو الملفّ السياسيّ”، منبّهًا إلى أنّ إنجاز الفيلم سيستغرق وقتًا، فالفلسطينيون بحسب تعبيره “في حالة مقاومة شعبية طويلة الأمد، ولا إمكان سوى أن يحظى هذا الفيلم بالوقت الكافي” الذي استمرّ في الواقع خمسة أعوام أَنجز فيها معظمه وبقي جزء يسير منه لم ينجز بسبب تعرّض غودار لحادث سير، فضلًا عن توتر العلاقة بين منظمة التحرير والأردن (حوادث “أيلول الأسود” المؤسفة والمأساوية) وطبيعة فيلم غودار المتمهلة والممتدّة زمنيًّا، إذ شاء عمله الفذّ والتاريخيّ هذا عملًا جدليًّا مع واقع الثورة الراهن والمتبدّل، علمًا بأنّه يسير في خطّين متوازيين: قسم منه في فرنسا مع عائلة فرنسية تشاهد رسومًا متحركة وبرامج تلفزيونية ترفيهية، أي غافلة عمّا يحدث في العالم (هنا) ويوميّات الفدائيين وتدريباتهم وحياتهم وأفكارهم (قي مكان آخر) لإخراج وثيقة تقارب العمل الثوري سياسيًّا ونضاليًّا وسينمائيًّا.
الجدير ذكره أنّ غودار أوضح غايته من الفيلم ونواياه في بيان قيّم ورائع (لا مجال لنشره هنا بسبب طوله) نشرته جريدة “فتح” آنذاك وسيعاد نشره قريبًا في كتاب تصدره مؤسسة “فيلم لاب فلسطين” مع انعقاد الدورة التاسعة من مهرجان “أيّام فلسطين السينمائية”. كما تحدّث عن تجربته هذه في حوار مع مجلة “الإكسبرس” الفرنسية (عبر مراسلها في عمّان) ونشرت مجلة “الهدف” التي أسّسها الراحل غسان كنفاني ترجمتها العربية عام 1970، إلاّ أنّ الوصول إلى هذا الحوار المهمّ غير متاح بسهولة إلاّ من خلال بحثّ في الأرشيف. أمّا البيان الرائع الذي نشر في بعض المواقع فقد تكون لنا عودة إلى دراسته ومناقشته لدى صدوره في الكتاب المنتظر.
في هذا الشريط ابتكر غودار مع شريكته مييفيل تعدّدًا في وجهات النظر يقوده خيط أساسيّ: إعادة التفكير في “المكان الآخر” (فلسطين) عامذاك 1970، من “هنا” (فرنسا)، الآن، أي عامي 1973 – 1974، وجمعها في ثلاث حقائق مقرّرة (axioms)، فلسطين وفرنسا والمشترك بينهما، من خلال المكان والزمان والمحور الجيوبوليتكي، ساعيين إلى إظهار صلة القضية الفلسطينية بالتاريخ من خلال وجهات نظر الثورة الفلسطينية، في نطاق العمل الصحافي، التاريخيّ، السينمائيّ، الإيديولوجيّ الماويّ، وعبر أصوات رجال ونساء مرافقة. تتناغم وجهات النظر عبر تجاوز الصورة ̸ الصوت وال Voice over (التعليق أو النصّ المرافق خارج حقل الصورة). في الجانب الفرنسي (هنا) تظهر صحف، روايات جيرار دو فيلييه De Villiers، التلفزيون، الأغاني، أشرطة الرسوم المتحركة والشعر (نسمع قصيدة “سأقاوم” لمحمود درويش، وقصيدة أخرى للشاعر خالد أبو خالد عنوانها “بيسان … والشهيد”). ومن خلال المونتاج، كلّ وجهة نظر تتحدّد تبعًا لعلاقاتها بالتحوّلات، وتعبر الصور والأصوات متكرّرة ومتجاوزة. وإذ بنى غودار الفيلم مع مييفيل أقسامًا فإنّهما أنجزا نسخات مختلفة للثيمات والتصنيفات الأساسيّة، جامعين دومًا الصور والأصوات تبعًا لهذا التصنيف. كأنّهما وضعا نفسيهما أمام “قاعدة بيانات” فلسطينية بحيث تكون الصور مبهمة مع المعلومة التي تحوي طبقات من الصور غير الظاهرة فيها. ثم يأتي منفّذو التوليف أو المونتاج (الذي، تخيّلوا معي، دام ثمانية عشر شهرًا!) فيعودون إلى “قاعدة المعلومات” ويدرجونها في الفئات المخصصة لها، معتمدين منهجية التسلسل لا التجاور.
“هنا وفي مكان آخر” مكوّن من الصور المتكرّرة الملتقطة في المخيّمات الفلسطينيّة عام 1970، والتي جُمعت في سلسلات خمس مختلفة أخضعت توليفًا لمبدأ المكان والزمان، والهدف مراكمة الرموز وأدلجة الصورة والعبرة السياسية. كما تظهر الشعارات الفلسطينية المعروفة مثل “إرادة الجماهير”، “الكفاح المسلّح”، “ثورة حتى النصر”، “المقاومة الشعبية طويلة الأمد”، “النضال السياسي”. شعارات خمسة تتكرّر طوال الفيلم وفي أكثر من جزء أو “سلسلة” منه. وصوت غودار يردّد أكثر من مرّة في الفيلم “صوّرنا هذا في الشرق الأوسط On a filmé ça au Moyen Orient”. في تعبير آخر، تخضع الصور لخطاب غودار من وحي التوجّه الماركسيّ – اللينينيّ للثورة الفلسطينية. من خلال التقسيم إلى سلسلات تتحوّل الصور من أيقونات أو رموز للمقاومة والبروباغاندا الخاصة بها إلى صور مفككة الرموز تحمل إمكان التحوّل إلى صور مدمغة خاصة ومحميّة (Trademark – images) وصور حقائق (Factograph – images) وصور تعليميّة (Pedagogy – images). أمّا بعض وقائع “أيلول الأسود” فيستعين لها غودار بأرشيف التلفزيون الفرنسي.
على هذا النحو، منح غودار القضيّة الفلسطينية عبر “هنا وفي مكان آخر” سنوات خمسًا من عمره، وإنّ دلّ ذلك على شيء فعلى صدق التزامه، ونبله الإنسانيّ، وتفانيه في عمله الذي يبقى شهادة سينمائيّة كبيرة للتاريخ. مع الإشارة في الختام إلى أنّ غودار لم ينجُ من تهمة “معاداة الساميّة” ولم يستمرئ الصهاينة البتّة ما فعل للقضية الفلسطينية. هذا السينمائيّ العظيم، المؤثّر، الذي منحته هوليوود أوسكارًا شرفيًّا عن مجمل أعماله (Life achievment)، والحائز العديد من الجوائز الكبرى في أبرز المهرجانات العالمية (الأسد الذهبي في البندقية مرتين والدب الذهبي في برلين ثم الفضي ثانيةً و”سيزار الشرف” الفرنسي مرّتين وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في كانّ)، دعا عام 2018 إلى مقاطعة السينما الإسرائيلية التي عرضت في تظاهرة “موسم فرنسا – إسرائيل”، موقّعًا على بيان المقاطعة، وهذا ليس شأنًا بسيطًا أو عاديًا في فرنسا المتصهينة، قائدة أوركسترا اللازمة الصوتيّة الناشزة “معاداة السامية” أو “اللاسامية”.
برحيل جان – لوك غودار خسرت فلسطين واحدًا منها، وخسرنا عربًا مؤمنين بالقضيّة نصيرًا كبيرًا لها. يكفي أن نرى صورةً لغودار وهو يصوّر “هنا وفي مكان آخر” واضعًا الكوفيّة الفلسطينيّة حول عنقه. كان غودار المبدع، الصادق، الإنسانيّ والعادل، واحدًا منّا حقًّا.
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
————————
“عرّاب الموجة الجديدة”.. خمسة أعمال للمخرج جان لوك جودار
يُعتبر المخرج الفرنسي السويسري، جان لوك جودار، “عرّاب الموجة الجديدة” في السينما، باعتباره أحدث نقلة نوعية في طبيعة الموضوعات التي تعالجها السينما وأسلوب نقلها للمشاهد، ما اعتبر إلى حد بعيد تجديدًا يدخل على التقليدي المألوف.
جودار توفي في 13 من أيلول، في منزله في بلده رول السويسرية، ولجأ لإنهاء حياته عبر المساعدة على الإنهاء الطوعي للحياة (الموت الرحيم)، وهو إجراء قانوني وفق المادة 115 من قانون العقوبات السويسري، الذي يرجع تاريخه لعام 1937.
ونقلت صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية، عن زوجة جودار، آن ماري مييفيل، أنه “لم يكن مريضًا، كان مرهقًا ببساطة”.
الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، نعى جودار، ووصفه بـ”أكثر صانعي أفلام الموجة الجديدة تحررًا، فنًا حديثًا للغاية وحرًا للغاية”، معتبرًا أن فرنسا فقدت برحيله “كنزًا وطنيًا”.
Ce fut comme une apparition dans le cinéma français. Puis il en devint un maître. Jean-Luc Godard, le plus iconoclaste des cinéastes de la Nouvelle Vague, avait inventé un art résolument moderne, intensément libre. Nous perdons un trésor national, un regard de génie. pic.twitter.com/bQneeqp8on
— Emmanuel Macron (@EmmanuelMacron) September 13, 2022
توفي جان لوك عن عمر يناهز 91 عامًا، منح كثيرًا منها للسينما والعمل السينمائي، وأمضى وقتًا طويلًا برفقة الكاميرا، ليترك خلفه عشرات الأفلام والأعمال مختلفة القالب الفني، وفيما يلي خمسة من أبرزها:
“The Image Book”
فيلم “كتاب الصورة” بالعربية، صدر عام 2018، من تأليف وإخراج جودار، وكان الاسم المبدأي للعمل “Tentative de bleu and Image et parole”، أي “تجربة الأزرق والصورة والكلمة”.
ومنذ كانون الأول 2016، أعلنت إحدى شركات التوزيع أن جودار يصوّر عمله منذ عامين في دول عربية مختلفة، منها تونس.
تنقسم قصة العمل لخمسة فصول يرويها جان لوك بنفسه، وتبلغ مدة الفليم 88 دقيقة، وتقييمه 6.2 من أصل 10، عبر موقع “IMDb”، لنقد وتقييم الأعمال الدرامية والسينمائية.
ويشارك في العمل كل من ديمتري باسيل، وباستر كيتون، وجان بيير جوس.
“Goodbye to Language”
“وداعًا للغة”، صدر عام 2014، على طول 70 دقيقة، وهو فيلم سردي تجريبي ثلاثي الأبعاد “3D”.
جرى تصوير العمل في الأجزاء الناطقة بالفرنسية من سويسرا، ويتمحور حول علاقة غرامية بين رجل وامرأة، وهو الفيلم الـ42 للمخرج.
الفيلم من تأليف وإخراج جان لوك جودار، ومن تمثيل هيلوس جوديت، وكامل عبدلي، وريتشارد شافيلييه، وجيسيكا إريكسون، وحاصل على تقييم 5.8 من 10، عبر موقع “IMDb”، لنقد وتقييم الأعمال الدرامية والسينمائية.
“Breathless”
“منقطع الأنفاس”، هو فيلم بالأبيض والأسود صدر عام 1960، من تأليف فرانسوا تروفو، وسيناريو وإخراج جان لوك جودار.
الفيلم يروي حكاية شاب مجرم معجب بشخصية هومفري بوجارت، أحد نجوم السنيما الأمريكية خلال القرن العشرين، وبلغ تقييمه 7.7 من 10، عبر موقع “IMDb”، لنقد وتقييم الأعمال الدرامية والسينمائية، ومدّته 90 دقيقة.
ويشارك في البطولة كل من جين سيبيرج، وجون بول بلموندو، ودانيال بولنجر، وهنري جاكوز هيوت، وروجر حنين، وفان دوديه.
“Godard Mon Amour”
صدر فيلم “جودار حبيبي”، عام 2017، ويروي حكاية عاطفية عاشها المخرج الفرنسي خلال تصوير أحد أفلامه، حين يقع في غرام الممثلة الشابة، آن ويزيمسكي، وتقود تلك العلاقة لزواج كثير المنعطفات والأحداث.
العمل من إخراج وتأليف ميشيل هازانفيسيوس، عن مدونة ذاتية لآن ويزيمسكي، ومن بطولة لويس جاريل ستايسي، ورومان جوبيل، وجريجوري جاديبوا.
وبلغ تقييم الفيلم 6.6 من أصل 10، عبر موقع “IMDb”، لنقد وتقييم الأعمال الدرامية والسينمائية، ومدّته 107 دقائق.
“Notre musique”
صدر فيلم “موسيقانا”، عام 2004، من إخراج جان لوك جودار.
إلى جانب ذلك، فالفليم يعكس حالة من الفوضى والاضطرابات، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعُرض خارج منافسات مهرجان كان السينمائي عام 2004.
بلغ تقييم الفيلم 6.8 من 10 عبر موقع “IMDb”، لنقد وتقييم الأعمال الدرامية والسينمائية، ومدّته 80 دقيقة.
—————————-
أفلام للمشاهدة
Breathless 1960
https://cimalek.club/movies/godard-mon-amour/watch/
أو
——————————–
جان لوك غودار أدخل السينما في حداثتها وترك ثروة بصرية/ هوفيك حبشيان
رائد العقود الستة من تاريخ الفن السابع لا يقارن سوى بنفسه
كيف نكتب عن قامة فنية وسينمائية وفكرية مثل جان لوك غودار في رحيله عن 91 عاماً، ومن أين نبدأ في الحديث عنه؟ نحن الذين عشنا حياتنا كلها في زمنه. أعود إلى مشاهدة لقطات من أفلامه عبر “يوتيوب”، لعلها تساعدني في الإمساك بطرف الخيط، أو لربما يلهمني مشهد أو تمدّني جملة بالوحي، فتكر السبحة، لكن ما من عنوان يختزل سيرة هذا العملاق. هناك شعور باليتم يسيطر علينا ونحن نودّعه. غودار هو ستّة عقود من تاريخ السينما، أعظم الذين نظّروا فيها، المعلّم الذي يعرف الجميع شيئاً عنه حتى مَن لم يشاهد فيلماً واحداً له في حياته. هو الأسطورة التي أدخلت السينما في حداثتها، المتحدّث الغامض الذي كان يقول إن هذا الفن أجمل تنصيبة في العالم، الرهيب الذي رحل تاركاً خلفه ثروة بصرية، معرفية، سياسية، نقدية، جمالية.
كلّ شيء بدأ في الخمسينات. أواخرها تحديداً. كانت السينما الفرنسية، على الرغم من الأسماء الكبيرة التي أسستها ما بين الحربين، من مثل رونوار وغريميون وكلوزو، صنيعة الأدب والاستوديوات. “الموجة الجديدة” التي جاءت بغودار وتروفو وشابرول وريفيت ورومير وكلّ هؤلاء المتمردين على “سينما الآباء”، وُلدت من الحاجة إلى الاعتراض على هذه السينما القائمة وأساليبها. بقية الحكاية تاريخ، يعرفه كلّ مهتم بالسينما جيداً، وفقدنا جزءاً منه أمس مع رحيل غودار، الذي كان، مع جاك روزييه، آخر الأحياء من “الموجة الجديدة”.
من الشارع
جيله يتحدّر من الشارع، لم يكن خريج مدارس السينما. اختبر الحياة بحلوها ومرها قبل أن يجسّدها على الشاشة. كان هؤلاء ملمين بالأدب والشعر والموسيقى بقدر إلمامهم بالسينما. مثقّفون من الدرجة الأولى. أما الأفلام الأميركية، فكانت عشقهم وشغلهم الشاغل، فباتوا من أشد المدافعين عنها في مجلّة “دفاتر السينما”، خصوصاً راوول ولش ونيكولاس راي وهاورد هوكس وألفرد هيتشكوك. غودار كان ابن السينماتيك الفرنسية التي أسسها هنري لانغلوا، هناك اكتشف عالماً لم يحدثه أحد عنه، كما روى، لا المدرسة ولا الأهل. حدثوه عن غوته لكن ليس عن كارل تيودور دراير. يروي أنه هو ورفاقه كانوا يشاهدون أفلاماً صامتة في حقبة السينما الناطقة، وكانوا يحلمون بالأفلام، ويسمعون عن أفلام لم يشاهدوها أبداً. كانوا مثل مسيحيين اهتدوا من دون أن يروا أبداً المسيح أو القديس بولس. غودار اعتنق السينما كديانة.
في هذا الجو انطلق غودار ورفاقه. شابرول قدّم “سيرج الجميل” (1958). تروفو جاء بـ”حياة المجون” (1959). أما غودار فوصل متأبطاً الفيلم الذي كان سيصنع سمعة “الموجة الفرنسية الجديدة” في أنحاء العالم كافة: “مخطوف النفس” (1960). يقول غودار إن قبل وصولهم، كان “كلّ شيء ممنوعاً، متحجّراً، حِرفياً في أسوأ معاني الكلمة”. ويتابع: “فقلنا: كلا، لا ممنوعات. (…) الموجة الجديدة وُلدت أيضاً من روحية التعارض”.
مع “مخطوف النفس” (1960) الذي وضع له السيناريو فرنسوا تروفو، دخل غودار الأسطورة وثار على السينما كما كنّا عهدناها قبل ذلك التاريخ. الفيلم لقاء بين طالبة أميركية (جان سيبيرغ) تبيع الصحف في الشان إليزيه لتوفّر كلفة دراستها في السوربون، وشاب “صايع” (جان بول بلموندو) لا هدف له في الحياة. لن يحدث الكثير. غودار من خلف الكاميرا موجود في كلّ لقطة. انها سينما المؤلف بامتياز! الفيلم كان بمثابة قنبلة جمالية وسردية، نسف بها غودار التقاليد السائدة في السينما منذ اختراعها. صحيح أنّ كانت هناك تجارب مثل هذه من قبل، لكن كانت خجولة. لم يسبق لسينمائي أن كان على هذا المستوى من التباهي في خربطة الأوراق، وصناعة سينما حرة مستقلة، لا تخضع لا لقيود الإنتاج ولا لرقابة السلطات ولا لرغبات المُشاهد. القيود الوحيدة هي تلك التي فرضها غودار على نفسه، لأنها كانت تحفزه على العمل. مع هذا الفيلم وغيره من أفلام الموجة الجديدة، خرجت الكاميرا من الاستوديوات للنزول إلى الشارع، حيث القصص الحقيقية لناس نصادفهم كلّ يوم، ولا نعرف شيئاً عنهم، فهم ليسوا أبطالاً على الشاشة. حُمِلت آلة التصوير على الأكف، داهمت تفاصيل اليومي والعادي التي لم يهتم السينمائيون قبله بتصويرها.
مسدس وفتاة
ما عادت الحكايات تقتصر فقط على الأحداث الكبيرة والحبكة الدرامية. “يكفي مسدس وفتاة لصناعة فيلم”، كما قال غودار في تصريح شهير له. أما السيناريو، فهو لم يعد مُنزلاً، بل أحياناً كان يلقي به غودار في القمامة، في حين أشكال الممثّلين بدأت تختلف عن النجوم الذين عرفتهم السينما سابقاً. حتى كيفية تحركهم داخل الكادر خضعت لتغيير. كانت الموجة الجديدة نقلة على كلّ المستويات، الإنتاجية والجمالية والمونتاجية، وعلى صعيد الكتابة الفيلمية خصوصاً. فتحت الطريق للأجيال اللاحقة وحلّت مدرسة وألهمت الجميع من أقصى الشرق إلى هوليوود. وكأن السينما عادت أدراجها بعد أكثر من 60 سنة على ولادتها، لتولد من جديد. كلّ شيء بدا جديداً طازجاً فيه روح العصر وهواجسه، بعيداً من الأدب والاستوديوات.
مع ذلك، عاد غودار مراراً إلى بداياته، ولأنه يحمل روحاً اعتراضية وعقلاً نقدياً حيال كلّ شيء وأي شيء، بما فيها نفسه وأعماله، فقال إن جيله اعتقد بسذاجة أن “الموجة الجديدة” ستكون بداية، ثورة. ولكن، كان الأمر متأخراً جداً في نظره، اذ كلّ شيء كان قد انتهى. “النهاية وقعت لحظة لم تصوَّر معسكرات الاعتقال. في تلك اللحظة، فوّتت السينما كلياً واجبها. كان هنالك ستة ملايين ضحية، قتلاً أو خنقاً بالغاز، من اليهود في شكل خاص، ولم تكن السينما حاضرة. ومع ذلك، من “الديكتاتور” إلى “قانون اللعبة” كانت تنبأت بكلّ المآسي”.
مع “الاحتقار” (1963) بلغ غودار ذروة فنّه وعطائه وألقه. هذا فيلم عن السينما ومن داخل السينما، وقد حلّ مراراً في المراكز الأولى لعدد من الاستفتاءات التي أُجريت مع النقّاد عن أفضل الأفلام على الاطلاق. منذ الجنريك، يستعيد غودار جملة لأحد الذين تتلمذ على أيديهم وهو الناقد أندره بازان: “السينما تستبدل بنظرتنا عالماً يتطابق مع رغباتنا”. ميشال بيكولي وبريجيت باردو وفريتس لانغ هم الشخصيات المعذّبة لهذا الفيلم الذي التُقِطت مشاهده في كابري، على نحو أصبحت الجزيرة الإيطالية شخصية من شخصياته التي لا تتجزأ. لا يمكن لأي عاشق سينما أن ينسى المَشاهد الحميمة بين بيكولي وباردو والمداعبات والحوارات التي بينهما، على خلفية موسيقى جورج دولورو. أما الحكاية فهي عن علاقة بين رجل وإمرأة أصبحا على شفير الانفصال.
أقصى النمط الغوداري
“بيارو المجنون” (1965) ذهب بالنمط الغوداري إلى أقصاه. هنا غودار في واحد من أفضل ما أنتجه في حياته وكان طليعياً في نظرته إلى السينما والعلاقات بين الجنسين. انقسم النقّاد حول الفيلم عندما عُرض في مهرجان البندقية السينمائي، لكنه اليوم محلّ إجماع واعتراف. الفيلم موزاييك مدهش من ألوان وأساليب وحس تجريبي متأصل، يحضر فيه الأدب والشعر والدعابة والموسيقى والفنّ التشيكلي. آنا كارينا وجان بول بلموندو يخطفان القلب. “بيارو المجنون” من نوع الأفلام التي باتت تُعرف اليوم بـ”فيلم الطريق”، يبحث فيه البطلان عن حبّ وحرية على طرق جنوب فرنسا. الشاعر لوي أراغون من الذين دافعوا عن الفيلم، عبر مقال نُشر في مجلّة “الآداب الفرنسية” وعنوانه: “ما هو الفنّ؟ إنه جان لوك غودار”.
بيد أن غودار لم يكتفِ بتكرار ما يجيده وتكريس نمط واحد لصناعة السينما. فراح بعد ثورة أيار 1968، يتمايل مع الرياح، ذاهباً إلى حيث كانت ستحمله. قدّم أفلاماً من وحي اللحظة، فهو من التجريبيين الكبار الذين ما إن يجرّبوا شيئاً حتى يصبح الإنتقال إلى شيء آخر ضرورة. السينما التي أنجزها لاحقاً، صحيح فيها مراحل وفترات وصعود وهبوط ومد وجزر، إلا أنها امتداد للحرية التي بحث عنها دائماً سواء في الفنّ أو العيش، وظل وفياً للروح الثورية التي في داخله والتي لم تنطفأ حتى اللحظة الأخيرة من حياته. هذه الروح التي كانت مصدراً لخلافاته مع بعض من رواد الموجة الجديدة الذين عادوا وأنجزوا أفلاماً كانوا يحاربونها بأقلامهم وكاميراهم في مقتبل تجربتهم. السينما التي أنجزها غودار في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وفي الفترة التي أصبح فيها ماوياً، سياسية ومتنوعة وطليعية. هناك أيضاً في تلك الفترة أعمال لافتة مثل “انقذ ما استطعت – الحياة” و”شغف” و”الاسم كارمن” و”محقق” و”موجة جديدة”.
من المستحيل العودة إلى كلّ هذه الأفلام التي أنجزها غودار طوال حياته المهنية في مقالة، فعددها يقارب المئة، وقد عُرضت 21 منها في “كانّ”، المهرجان الذي توقّف عن المشاركة فيه خلال السنوات الماضية، رغم عرض أفلامه فيه ورغم نيله “السعفة الخاصة” بمبادرة من كايت بلانشيت قبل ثلاث سنوات. ولكن كعادته، كان غودار حاضراً في كلّ مكان غاب عنه، وهو سيبقى حاضراً في غيابه الأبديّ لوقت طويل. في آخر فيلم له، “كتاب الصورة” (2018)، تجاوز غودار نفسه، منتزعاً من المُشاهد صفة المتفرج جاعلاً إياه شاهداً. هكذا كان غودار، ينتزع منك شيئاً ليمدّك بأشياء. في هذه الخاتمة السينمائية التي تليق به وبتاريخه، بدا فوق النقد. تحبّه أو تنبذه لكن ليس ثمة ما يُقال. فلا توجد مرجعية يمكن الإستناد اليها لتقييم “كتاب الصورة”، أو أي من أعماله الأخيرة. من الضروري التشديد على أن غودار لا يُقارن إلا بنفسه.
في لقاء لي قبل ثلاث سنوات مع مساعده وكاتم أسراره فابريس أرانيو، سألته: “هل يدهمه الإحساس بضيق الوقت، وبأن عليه الإستعجال؟”. فكان ردّه: “لا. لا يهوى الإستعجال. حين يدق الموت بابه، سيدق. لن يفعل شيئاً لمنعه. لا يخشى الموت، ولكن يخاف ان يتعذّب كجميعنا”.
اليوم، ولأول مرة منذ الثالث من ديسمبر(كانون الأول) 1930، السينما من دون غودارها. صحيح أنه يصعب تقبّل رحيل فيلسوف الشاشة، فهو كان ينظّر لموت السينما وينجزها في آن واحد، في أجمل مفارقة، لكنّ إرثه المعنوي والفكري غير قابل للتبديد. صدى عبقريته ونقده اللاذع ورؤيته للإنسان والتاريخ والحضارات سيبقى يتردد في كلّ أنحاء العالم وسيبقى ماثلاً في وجدان كلّ سينمائي. وها هو اختيار موعد رحيله انتحار تحت إشراف طبي، في لحظة تواجه فيها السينما أكبر تهديد عرفته في تاريخها، سوى جواب آخر من أجوبته غير المتوقعة.
————————-
=======================