عن رعب “غرف الملح” في سجن “صيدنايا” بسورية
———————————
معتقلون سابقون يروون رعب “غرف الملح” في سجن صيدنايا
بيروت: في أحد أيام شتاء 2017، وقبل نقله من السجن إلى المحكمة، دفع حارس بعبدو داخل غرفة لم يرها من قبل، فإذ بقدميه الحافيتين تغرقان في كميات من الملح الصخري.
لم يكن قد ذاق طعم الملح منذ دخوله قبل عامين سجن صيدنايا الذائع الصيت قرب دمشق والذي يمنع القيمون عليه الملح في الطعام عن السجناء، فما كان منه إلا أن أخذ بقبضة يده كمية من الملح الذي تبين أنه يغطي الغرفة، واستمتع بمذاقه.
بعد دقائق قليلة، تجمّد رعبا عندما تعثّر بجثة نحيلة ملقاة على الملح وإلى جانبها جثتان أخريان. ويروي لوكالة فرانس برس التجربة “الأكثر رعباً” في حياته في سجن يصفه معتقلون سابقون بـ”القبر” و”معسكر الموت” و”السرطان”.
وتوثّق رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا في تقرير ستنشره قريباً للمرة الأولى “غرف الملح”، وهي بمثابة قاعات لحفظ الجثث بدأ استخدامها خلال سنوات النزاع الذي اندلع في العام 2011، مع ارتفاع أعداد الموتى داخل السجن.
وكون سجن صيدنايا يخلو من برادات لحفظ جثث معتقلين يسقطون بشكل شبه يومي فيه جراء التعذيب أو ظروف الاعتقال السيئة، لجأت إدارة السجن على ما يبدو إلى الملح الذي يؤخّر عملية التحلّل.
وبناء على تقرير الرابطة ومقابلات أجرتها وكالة فرانس برس مع معتقلين سابقين، تبين أن في سجن صيدنايا العسكري “غرفتي ملح” على الأقل تُوضع فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها، فيما يغيب الملح تماماً عن كميات الطعام القليلة التي يحظى بها المعتقلون، الأرجح لإضعافهم جسدياً.
ويقول عبدو (30 عاماً) لوكالة فرانس برس، طالباً عدم الكشف عن اسمه الحقيقي خوفاً على أفراد من عائلته لا يزالون يقطنون في مناطق سيطرة النظام في سوريا، “بداية، قلت لنفسي (الله لا يوفقهم) لديهم كل هذا الملح ولا يضعونه في طعامنا؟”.
بعدما تناول كمية من الملح، توجّه إلى الحمام الخالي من المياه في زاوية الغرفة، وبعد خروجه منه تعثر بالجثة الأولى. ويقول “دستُ على شيء بارد، كانت رجل أحدهم”.
وتجمّد عبدو من الخوف بعدما رأى الجثث الثلاث الملقاة على الملح، وقد نُثر عليها المزيد منه، وبدأت رجلاه ترتجفان.
ويقول من منزله في لبنان “ظننت أن هذا سيكون مصيري… وأنه حان دوري لإعدامي وقتلي. لم أعد أقوى على الحركة، جلست قرب الحائط وبدأت بالبكاء وتلاوة القرآن”.
“قلبي مات”
لم يتحرك عبدو من مكانه لما يقارب ساعة ونصف الساعة.
ويضيف “كان هذا أصعب ما رأيته في صيدنايا جراء الشعور الذي عشته ظناً بأن عمري انتهى هنا”.
ويصف عبدو الغرفة المستطيلة، ستة أمتار بالعرض وسبعة أو ثمانية بالطول، أحد جدرانها من الحديد الأسود يتوسطه باب حديدي. تقع الغرفة في الطابق الأول من المبنى المعروف بالأحمر، وهو عبارة عن قسم مركزي تتفرع منه ثلاثة أجنحة.
لم يتنفس عبدو الصعداء سوى حين عاد السجان، ووضعه في سيارة نقل السجناء، وتأكد أنه بات في طريقه إلى المحكمة.
أثناء خروجه من الغرفة، رأى قرب الباب أكياس جثث سوداء فارغة مكدسة، هي ذاتها الأكياس التي نقل فيها في أحد الأيام، وبأمر من الحراس، جثث معتقلين.
ويقول عبدو الذي أفرج عنه في 2020، “في صيدنايا، قلبي مات. لم يعد شيء يؤثر بي. حتى وإن قال لي أحدهم إن شقيقي مات، بات الأمر بالنسبة لي عادياً”.
ويضيف “جراء الموت والعذاب والضرب الذي رأيته، كل شيء بات عادياً”.
ويروي معتصم عبد الساتر (42 عاماً) تجربة مشابهة في غرفة مختلفة تقع في الجناح نفسه من الطابق الأول من المبنى الأحمر.
ويصف معتصم غرفة بعرض أربعة أمتار وطول خمسة أمتار، ولا يوجد فيها حمام.
دخل معتصم تلك الغرفة في 27 نيسان/ أبريل 2014.
يومها، شعر وكأن قلبه سيخرج من صدره من شدة الخفقان بعدما نده عليه السجان لإطلاق سراحه. لا يزال يتذكّر كلّ تفصيل من ذلك اليوم، وبينها طعام الإفطار الذي كان عبارة عن قطعة خبز وثلاث حبات زيتون.
ودّع معتصم رفاقه وسار فرحاً خلف سجّانه، لكنه فوجئ بطلب هذا الأخير منه الدخول إلى غرفة لم يرها سابقاً.
ويقول من منزله في الريحانية في جنوب تركيا “غرقت قدمي في مادة خشنة. نظرتُ فإذا به ملح بعمق 20 إلى 30 سنتمتراً”، مشيراً إلى أنه الملح الصخري ذاته الذي اعتاد أن يرى شوالات منه إلى جانب الطرق خلال أيام الشتاء، وتستخدمه السلطات لتذويب الثلج المتراكم في الشوارع.
معتصم عبد الساتر مع عائلته يروي ما شاهده في سجن صيدنايا
“أشبههم”
تذوّق معتصم بعض الملح المحروم منه في السجن، لكن سرعان ما وقعت عيناه على أربع أو خمس جثث ملقاة في المكان.
ويقول “شعور لا يوصف، أصعب من لحظة الاعتقال. قلت لنفسي سيعدمونني الآن ويضعونني بينهم… أنا أساساً أشبههم”.
حين دخل معتصم السجن في العام 2011، كان يزن 98 كيلوغراماً، لكنه خرج منه بوزن لا يتجاوز 42 كيلوغراماً.
ويضيف “كانت الجثث تشبه المومياء، وكأنها محنطة… كانت عبارة عن هيكل عظمي مكسوٍ باللحم يمكن أن يتفكّك في أي لحظة”.
بقي معتصم في الغرفة ثلاث إلى أربع ساعات. ويقول “كان الملح يذوب من تحتي من شدة تصبّب العرق مني”.
ويضيف المعتقل السابق الذي لا يزال يتذكّر أسماء أصدقاء توفوا إلى جانبه في المهجع جراء الضرب والأمراض، “ليست الجثث ما أثّر بي.. بل فكرة أنني بتّ أنتظر إعدامي”.
من شدة الخوف، تبوّل معتصم في الغرفة، ثم سارع إلى تغطية البول بالملح حتى لا يعرف الحارس.
“الكثير من الموت”
ويشير المعتقلان السابقان إلى عدم انبعاث أي رائحة كريهة من الغرفتين، وإلى أنهما لم يتمكنّا من تحديد سبب وضعهما فيهما لبعض الوقت.
ويقول معتصم “قد يكون ذلك لإخافتنا”.
وليس واضحاً ما إذا كانت الغرفتان استخدمتا في الوقت ذاته “كغرفتي ملح” في العامين 2014 و2017، أو إذا تمّ استبدال واحدة بأخرى. كما ليس معروفاً ما إذا كانت تلك الغرف لا تزال موجودة.
وبناء على شهادات معتقلين وموظفين سابقين في السجن، تعتقد رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا أن أول “غرفة ملح” وُجدت في النصف الثاني من العام 2013، مع اشتداد التعذيب وتردّي الأوضاع في السجن.
دياب سرية الشريك المؤسس في رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا
ويقول الشريك المؤسس في الرابطة دياب سرية من مكتب الرابطة في غازي عنتاب التركية لفرانس برس “تمكننا من تحديد غرفتي ملح على الأقل، وكل منهما استخدمت لتجميع جثث الأشخاص الذين قضوا تحت التعذيب أو توفوا جراء الأمراض أو عمليات التجويع”.
ويضيف أنه كان يتمّ الإبقاء على الجثث بين يومين وخمسة أيام داخل المهاجع إلى جانب المعتقلين كأحد أساليب العقاب، قبل نقلها إلى غرف الملح لـ”تأخير تحلّلها”. ثم تُترك الجثث يومين داخل “غرف الملح” في انتظار تجميعها قبل نقلها إلى مستشفى عسكري لتوثيق الوفاة ثم إلى مقابر جماعية.
ويوضح سرية “برأينا، الهدف من الملح هو حفظ الجثث، إذ أن الملح يمتص السوائل والإفرازات، ويحول دون أن تفوح رائحتها، وذلك لحماية السجانين وإدارة السجن من البكتيريا والأمراض”.
ويضيف “هناك الكثير من الموت في صيدنايا لكن ليست هناك برادات للموتى”، مشيراً أيضاً إلى صعوبة نقل الجثث يومياً إلى خارج السجن خصوصاً في فترات اشتدت فيها المعارك بين قوات النظام والفصائل المعارضة بين 2013 و2017.
ويوضح الأستاذ المساعد في علم التشريح في جامعة “بوينت لوما” في كاليفورنيا جوي بلطا أن “لدى الملح القدرة على تجفيف أي نسيج حي عبر امتصاص المياه، ما يقلّل من تكاثر الميكروبات”، مشيراً إلى أنه يمكن حفظ الجثة في الغرف الباردة لأسابيع من دون أن تُظهر علامات تحلّل، فيما “يتيح الملح فترات حفظ أطول”.
ويُعدّ الملح، على حد قوله، أحد مكوّنات عمليات التحنيط التي اشتهر بها الفراعنة، إذ كانت توضع الجثث داخل محلول يُسمى “النطرون”، ويتألف أساساً من ملح كربونات الصوديوم.
ويُعتقد أن الملح الصخري في صيدنايا يُستقدم من سبخات جبول في محافظة حلب، وهي الأكبر في سوريا، وفق سرية.
“ليس ثقباً أسود”
وسيكون تقرير رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا الدراسة الأولى والأكثر تفصيلاً حتى الآن حول الهيكلية الإدارية للسجن وآليات عمله وعلاقاته التنظيمية.
ويقدم التقرير الذي يعتمد على مقابلات مع عشرة معتقلين سابقين و21 عنصراً من الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للنظام، شرحاً دقيقاً للبنية الإدارية والألوية العسكرية العاملة في صيدنايا، فضلاً عن خلفية عن مدرائه كافة.
ويقول سرية “أراد النظام أن يكون هذا السجن ثقباً أسود، وألا يعرف أحد عنه شيئاً. هدف تقريرنا أن يقول العكس. ليس ثقبا أسود بل هو جهاز من أجهزة الدولة محكوم بقوانين وعلاقات تنظيمية”، وهو أيضاً “معسكر موت”.
وروى معتقلون سابقون لفرانس برس كيف توفى زملاء لهم في المهاجع جراء التعذيب والضرب والمرض.
وتقدّر الرابطة أن 30 ألف شخص دخلوا إلى سجن صيدنايا منذ اندلاع النزاع في العام 2011، وقد أفرج عن ستة آلاف منهم فقط، فيما يُعتبر معظم الباقين في حكم المفقودين، خصوصا أنه نادراً ما يُبلّغ الأهالي بوفاة أبنائهم، وإن تمكنوا من الحصول على شهادات وفاة لهم، فإنهم لا يتسلمون جثثهم.
“ثروة”
بالإضافة إلى الضرب والتعذيب والمرض، أكد عدد من المعتقلين السابقين أن أسوأ تجاربهم تمثلت في “الجوع الدائم” جراء النقص الكبير في الطعام الذي كان عبارة عن كمية قليلة من البرغل أو الأرز، أو حبة بطاطس أو بيضة مسلوقة يتشاركها أكثر من شخص.
ويغيب الملح عن كميات الطعام القليلة، ما له تأثيرات صحية بينها التعب والصداع وغياب التوازن.
وللتعويض عن قلة الملح، روى معتقلون أنهم كانوا يشربون مياه يضعون فيها نواة الزيتون المالحة بعض الشيء.
قيس مراد
أما قيس مراد (36 عاماً) الذي عانى من مرض السل حتى بعد الإفراج عنه في 2014، فقد أمضى ساعات طويلة يستخرج حبيبات الصوديوم من مسحوق غسيل الثياب.
في أحد أيام صيف 2013، استدعي قيس للزيارة.
فور دخوله غرفة الانتظار، داس على مادة خشنة، قبل أن يتوجه إلى الحائط ويجثو على ركبتيه، وهي القاعدة خلال وجود الحراس في الغرفة. وبينما كان ينتظر، استرق النظر، فرأى الحراس يكدسون أكثر من عشر جثث فوق بعضها.
في اليوم ذاته، عاد زميل له من الزيارة وأخرج من جيبه وجواربه كميات من الملح الصخري قال إنه أتى بها من غرفة انتظار مفروشة بالملح.
ويُرجّح قيس أن تكون هي الغرفة ذاتها التي رأى فيها الجثث.
ويقول قيس المقيم في غازي عنتاب “منذ ذلك الحين، بتنا حريصين على ارتداء سراويل فيها جيوب ووضع جوارب علّهم يضعوننا في الغرفة ذاتها”، لكن ذلك لم يتحقّق.
ويضيف “أول مرة أكلنا فيها البطاطا المسلوقة مع هذا الملح، كان طعماً خيالياً”.
ويتذكر محمّد فارس (34 عاماً) الذي أمضى سبع سنوات في سجون النظام بينها عامان وخمسة أشهر في صيدنايا، بدوره صديقاً له عاد في أحد أيام نيسان/ أبريل 2014 إلى الزنزانة محملاً بالملح في جيوبه. وأوضح له هذا الأخير أن الحراس طلبوا منه ومن معتقل آخر وضع جثث في أكياس داخل غرفة مفروشة بالملح.
لم يتوقف فراس وأصدقاؤه كثيراً عند وجود الجثث داخل الغرفة. ويقول عبر الهاتف من ألمانيا “سعادتنا كانت تكمن في الملح، كان ثروة كبيرة”.
ثروة في حينه، وحلقة من مسيرة القهر والموت في سجن صيدنايا الذي لا يزال يضمّ معتقلين لا يُعرف شيء عن مصيرهم حتى اليوم، وإن كانت هدأت المعارك على جبهات النزاع في سوريا.
ويروي الناجون من صيدنايا وسجون النظام السوري وأفرعته الأمنية حكايات رعب لا تنتهي، وباتت رواياتهم جزءاً رئيسياً من تحقيقات تجري في دول غربية حول جرائم الحرب المرتكبة في سوريا.
ويقول سرية “صيدنايا هو ذاكرة بلد، لا يجب إغلاقه بل يجب تحويله إلى متحف مثل معسكر أوشفيتز”.
ويضيف “متحف نقول فيه للناس: هنا تعرّض أشخاص للتعذيب، هنا قُتلوا”.
(أ ف ب)
القدس العربي
————————————
سوريا: “غرف الملح” آخر أسرار سجن صيدنايا/ كارمن كريم
هل كان أحدٌ ليتخيل أن الملح جزءٌ أساسي من آلة الموت التي استخدمها نظام الأسد طوال هذه السنوات؟ وهل يدرك المعتقلون أن الملح، الذي يمنعه النظام عنهم بشكل كامل، موجود في غرف قريبة تغرق وسطه جثث أصدقائهم؟
غرفٌ مفروشة بالملح الصخريّ
عام 2017، حين اقتيد عبدو، وهو أحد المعتقلين في سجن صيدنايا إلى غرفة صغيرة، أدرك أنها مملوءة بالملح الصخري وسرعان ما التقط حفنة منه وبدأ بالتهامه، فمنذ زمن لم يذقه، لأن النظام يمنع الملح بشكل كامل عن السجناء، حتى تضعف أجسادهم، لكن المفاجأة كانت حين اكتشف أنه داس على جثة لأحد المعتقلين. لم تكن هذه هي القصة الوحيدة، فقصة مشابهة حدثت عام 2013 رواها معتقلٌ آخر، هكذا بدأت قصة غرف الملح والموت في صيدنايا تتكشف شيئاً فشيئاً.
غرف الملح هي أشبه بمستودعات بدائية، استخدمها نظام الأسد لحفظ الجثث من التحلل بعد اندلاع النزاع في عام 2011، وبخاصة مع ارتفاع عدد الموتى داخل السجون وغياب المشارح المبردة، هذا ما خلص إليه في تقرير جديد لرابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا نشرت جزء منه وكالة فرنس برس بعنوان “غرف الملح”.
وبناء على تقرير الرابطة ومقابلات أجرتها وكالة “فرانس برس” مع معتقلين سابقين، تبين أن في سجن صيدنايا العسكري “غرفتي ملح” على الأقل، تُوضع فيهما الجثث حتى يحين وقت نقلها، وبحسب وصف أحد المعتقلين، فالغرفة مفروشة بملح خشن، يبلغ سمكه ما بين 20 إلى 30 سم، وهو الملح الذي اعتاد السوريون رؤيته في شوالات على جوانب الطرق، وكانت حكومة النظام تفرشه بهدف إذابة الثلج والصقيع عن الطرق. إحدى الغرفتين كانت بعرض أربعة أمتار وطول خمسة أمتار، ولا حمام فيها، على عكس الغرفة الثانية، وأشار كلا السجينين في شهاداتهما إلى غياب أي روائح كريهة في الغرفتين ولم يتمكنا من تحديد سبب وضعهما لوقت قصير في الغرف، يعتقد أحدهما ويدعى معتصم أن ذلك كان بهدف إخافة المعتقلين.
ولا يُعْرف إن كانت الغرفتان استخدمتا معاً في الوقت ذاته أم أنه تم استبدال واحدة بأخرى، ولكن وبحسب الشهادات التي جمعتها “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا”، فإن أول “غرفة ملح” وجدت في النصف الثاني من عام 2013، مع اشتداد التعذيب وتردّي الأوضاع في السجن وكانت يتم الإبقاء على الجثث بين يومين وخمسة أيام داخل المهاجع الى جانب المعتقلين كأحد أساليب العقاب، قبل نقلها إلى غرف الملح لتأخير تحلّلها، ثم تُترك الجثث يومين داخل “غرف الملح” في انتظار تجميعها، قبل نقلها إلى مستشفى عسكري لتوثيق الوفاة قبل نقلها إلى مقابر جماعية، ولم يكن نقل الجثث في حينها متاحاً كل يوم، بخاصة مع اشتداد المعارك بين قوات النظام والفصائل المعارضة بين عامي 2013 و2017.
الملح المفقود كنزٌ في سجن صيدنايا
“بداية، قلت لنفسي، الله لا يوفقهم، لديهم كل هذا الملح ولا يضعونه في طعامنا؟”. هذه أول عبارة رددها عبدو حين ادخلوه إحدى تلك الغرف، وشاهد كميات الملح الكبيرة، فالملح كان كنزاً ثميناً، تعمد النظام حرمان السجناء منه، ربما ليس بهدف إضعافهم وحسب، إنما لممارسة أبشع أنواع الحرمان عليهم، إذ أكد عدد من المعتقلين السابقين أن أسوأ تجاربهم، إضافة إلى التعذيب والضرب، هو “الجوع الدائم”، جراء النقص الكبير في الطعام الذي كان عبارة عن كمية قليلة من البرغل أو الأرز، أو حبة بطاطا أو بيضة مسلوقة يتشاركها أكثر من شخص من دون ملحٍ على الإطلاق. وروى معتقلون أنهم كانوا يشربون مياهاً يضعون فيها نواة الزيتون المالحة بعض الشيء. ووسط هذا الحرمان الشديد، قام أحد السجناء حين أُدخل غرفة الجثث بتعبئة جيوبه من الملح، يقول قيس وهو أحد المعتقلين السابقين: “أول مرة أكلنا فيها البطاطا المسلوقة مع هذا الملح، كان طعماً خيالياً”. وهكذا حرص السجناء على ارتداء بناطيل بجيوب كلما سنحت الفرصة للحصول على بعض الملح غير مدركين مصدره.
ويُعتقد أن الملح الصخري في صيدنايا يُستقدم من سبخات جبول في محافظة حلب، وهي الأكبر في سوريا، وفق ما ذكر دياب سرية رئيس “رابطة مفقودي ومعتقلي سجن صيدنايا”.
وذكر الأستاذ المساعد في علم التشريح في جامعة “بوينت لوما” في كاليفورنيا جوي بلطا لوكالة “فرانس بيرس”، أن للملح القدرة على تجفيف أي نسيج حي عبر امتصاص المياه، ما يقلّل من تكاثر الميكروبات، ويتيح فترات حفظ أطول حتى من الغرف المبردة على رغم أنه سيغير تشريح السطح الخارجي للجثث، وهو ما يراه السجناء السابقون مفارقة مقززة، أن يكون الملح الذي اشتهوه بشدة جزءاً لا يتجزأ من آلة الموت المروعة التي كانت تقضي عليهم!
ملح الموت
الصادم أن الملح حسب لوما هو أحد مكوّنات عمليات التحنيط التي اشتهر بها الفراعنة، وكأن النظام لا يتوقف عن استغلال كل ما حدث في التاريخ لخدمة مصالحه، والأكثر قسوةً أن المعتقلين تناولوا ملحاً امتصَّ مياه أنسجة أصدقائهم وكأن دائرة الموت تجبرهم على التهام أجساد رفاقهم من دون أن يدروا.
“غرف الملح” هو جزء من تقرير رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا، وهي الدراسة الأولى والأكثر تفصيلاً حتى الآن حول الهيكلية الإدارية للسجن وآليات عمله وعلاقاته التنظيمية التي ستصدر قريباً، وقال سرية لـ”فرانس بيرس”: “أراد النظام أن يكون هذا السجن ثقباً أسود، وألا يعرف أحد عنه شيئاً. هدف تقريرنا أن يقول العكس، ليس ثقباً أسود بل هو جهاز من أجهزة الدولة محكوم بقوانين وعلاقات تنظيمية”، وهو أيضاً “معسكر موت”. الكشف عن هيكلية السجن هو أمر شديد الأهمية، إذ إنه يُبعِد جزءاً من الغموض والأسئلة التي لطالما طُرحت حول بقعة الموت التي تدعى سجن صيدنايا ويجعل التعامل مع هذا المكان المرعب قابلاً للتحقق حتى لو بشكل تخيّلي.
وتقدّر رابطة مفقودي سجن صيدنايا أن 30 ألف شخص دخلوا سجن صيدنايا منذ عام 2011، بينما أفرج عن ستة آلاف منهم فقط، فيما يُعتبر معظم الباقين في حكم المفقودين ولقي ما يصل إلى 100 ألف شخص حتفهم في سجون النظام السوري منذ عام 2011، أي خمس إجمالي عدد قتلى الحرب، بحسب “المرصد السوري لحقوق الإنسان”.
في يوم ما سيتمكن العالم من رؤية ما يحتويه سجن صيدنايا، أحد أكثر الأماكن رعباً في العالم، وكما يقول دياب سرية لـ”فرانس برس”: “إذا حدث انتقال سياسي في سوريا، فنحن نريد تحويل صيدنايا إلى متحف، مثل أوشفيتز”. ومتحف أشوفيتز هو معسكر للإبادة كانت تستخدمه ألمانيا النازية في بولندا والذي حوّل لاحقاً إلى متحف واعتبرته اليونسكو موقعاً تراثياً عالمياً.
هل ستمشي الأجيال السورية اللاحقة يوماً في سجن صيدنايا، بعد أن يصبح متحفاً، هل سيشرح لهم دليل سياحي أن في هذه الغرف كان النظام يضع الملح ويدفن جثث أجدادهم قبل عقود؟ هل ستسنح الفرصة للسوريين أن يتحدثوا عن أبشع أساليب التعذيب كذكرى قديمة؟
درج
———————————-
عن عاشقٍ مرّ قرب غرف الملح في سجن صيدنايا/ كارمن كريم
طوال عام، كنت أفضّل تناول الكحول والبكاء على تصديق أنه معتقل، لذلك تابعت حياتي وكأنه سافر حقاً، ندمت على ترددي وعلى تأخري في الاعتراف بحبي له، والآن وبيننا كل المسافات القاسية، أفكر بباب شرقي وببار “أم الزلف” وبحبنا الذي بقي متردداً على أبواب مقهى.
غاب عاماً كاملاً، قالوا لي إنه سافر، لم يخبروني إلى أين أو متى سيعود أو لماذا سافر فجأة. هل يفعل ذلك من يحبوننا؟ هل يسافرون دون إخبارنا أو ترك رسالة يودعوننا فيها؟ ولأنني خشيت تصديق عكس ذلك كنت أعودُ كلّ شهر لأسأل عائلته عنه، فأسمع الإجابة ذاتها، كنت أعلم عميقاً أنه اعتُقِل، لكن كنت أفضل أن يكون مسافراً وقاسياً على أن يكون معتقلاً في أحد سجون نظام الأسد.
كنا نحبُّ البلد، لذلك اعتقلوه ولذلك غادرتُ، لأنني كنت أفضل الكتابة قربه، عن الحرية والديكتاتورية والثورة، لأنني كنت أعتقد أني بمأمن. لم يكن اعتقاله كل ما أخافني، خشيت أن يشي بي، أعلم أن كلمة “الوشاية” لا تليق برجل يحبني، لكن من عاش داخل تلك البلاد يدرك أن حجم التعذيب قد يحولك إلى شخص آخر تماماً، ألم ينسَ سجناء حياتهم بطولها! وحين سافرَ إلى المعتقل، مسحتُ كل شيء عن حاسوبي، وفكرت إن كان سيخبرهم عني. هل سيضعف تحت التعذيب، هل سيسألونه من التقيت من الصحافيين والكتاب؟ وكنت أخاف أن يكون الحب أضعف من سوط الجلاد وأن تكون الكهرباء التي تسري في جسده أقوى من خوفه عليَّ، وكنت سأسامحه لو فعل ذلك، لو فكر للحظة بأن يخفف من آلامه بأن يشي باسم ما، لربما يرضون عنه ويقللون ساعات التعذيب. أمضيت عاماً مرعباً، أتخيل كل حاجز لحظة حريّة أخيرة، وكل طرقة على الباب صوتاً لرجال الأمن، كان باب منزلي الحديدي يجعل الطرق أكثر رعباً كأنني في سجن حقاً، كنت أعلم أن كل يوم يمضيه في المعتقل يعني يأساً أكبر ورغبة في الخلاص.
اعتدنا في سوريا، تسمية اعتقال “سفراً”، حين اعتقلوا عمي، بقيت عمتي تقول: “لقد سافر إلى اليمن”، حتى لا تقول “اعتقلوه”. لا أعلم لماذا اختارت اليمن، ربما لأنه بلد حزين مثل سوريا، يعيش سكانه الخوف والرعب والجوع كأنهم في معتقل، وهكذا باتت عبارة “سافر إلى هناك” مرادفاً للاعتقال والخوف.
غاب عاماً كاملاً، قالوا لي إنه سافر، لم يخبروني إلى أين أو متى سيعود أو لماذا سافر فجأة. هل يفعل ذلك من يحبوننا؟ هل يسافرون دون إخبارنا أو ترك رسالة يودعوننا فيها؟
بعد عامٍ رأيت أول منشور له على “فيسبوك”، لقد خرج، كان المنشور مقتضباً، يُطمْئِن الأصدقاء فيه بأنه بخير، حتى من دون أن يقول أين كان، لكننا جميعاً كنّا نعلم، ولم نحتج أن يدخل في أي تفصيل، وضعتُ قلباً صغيراً ولم أجرؤ على الاتصال به أو الذهاب للقائه، وكان مثلي خائفاً، فالجلاد لن يتركنا حقاً، سيلاحق كلَّ من يظن أنه يكره الأسد والديكتاتورية، حتى إننا لم نلتقِ، لقد حرمنا النظام من أبسط حقوقنا ولحظاتنا، حرمني من الابتسام لرجل أحبه خرج من المعتقل.
بعد خروجه شعرتُ ببعض الطمأنينة، لقد عاد بالفعل من رحلة طويلة، حاملاً حقائب سفره المحشوّة بالظلم والتعذيب والخوف. لم يكن لقاؤه بعد المعتقل أمراً مطروحاً، كنا نعلم، من دون أن نتكلم، أنه يجب البقاء بعيدين، لأبقى بأمان وكيلا يشعر بالذنب لو اعتقلت، مرت بعض الأشهر من دون أي لقاء، نكتفي بأحاديث مقتضبة على “واتس أب”، وحين رأيته صدفة في باب شرقي منتصف الليل، لم أعرفه بادئ الأمر. لقد فقد نصف وزنه تقريباً، ربما لذلك كنت أؤجل لقاءه، كنت أخشى رؤية ماذا يفعل المعتقل بأحبتنا، جريت نحوه وعانقته وسط الطريق المستقيم، قريباً من بوابة باب شرقي، مجبرةً السيارات على التوقف، بانتظار أن أفرغ من عناقه، وحمل بعض الألم والسياط والجوع عنه. عانقته بقوة ووشوشته: “لا تسافر مرة أخرى دون أن تخبرني”، بينما كان ضوء سيارة ينعكس علينا وصوت الأبواق تتعالى من حولنا، كان نحيلاً ومتعباً وأنا أيضاً.
طوال عام، كنت أفضّل تناول الكحول والبكاء على تصديق أنه معتقل، لذلك تابعت حياتي وكأنه سافر حقاً، ندمت على ترددي وعلى تأخري في الاعتراف بحبي له، والآن وبيننا كل المسافات القاسية، أفكر بباب شرقي وببار “أم الزلف” وبحبنا الذي بقي متردداً على أبواب مقهى.
وحين طلبتُ أن يخبرني بما حدث، أجّل الحديث، وقال: “سأخبركِ لاحقاً”، وتأخر ذلك اليوم، ورحلتُ من دون أن يخبرني بما فعلوه به في المعتقل، اكتفى بالقول إن تهمته تنظيم تجمعات ثقافية. لما لم تخبرني بما حدث؟ لما لم تمنحني ولو بعض التفاصيل عن شكل أيامك هناك؟ والآن لا تستطيع إخباري عبر “تشات”، ليس بسبب الخوف من المراقبة وحسب، بل لأنني أحتاج إلى وجهك بينما تخبرني عن ألمك وخوفك وعما فعلوه بك، لماذا لم تخبرني بنفسك وتركتني أركّب الحكاية من حكايات الآخرين، متخيلة كل يوم مرَّ عليك في ذلك المكان؟ لمَ كان سفرك غامضاً وبعيداً هكذا؟
أفكر بكل هذا بعدما كتبتُ مقالة عن “غرف الملح” التي استخدمها النظام السوري في حفظ جثث السجناء في سجن صيدنايا، انتابتني مشاعر الحب والخوف والقلق وكأنني هناك، في غرفة الملح، ربما لأننا كنا في لحظة ما مرشحين لرؤيتها، أنا وأنت، كما كل سوريّ، كما عمّي الذي توقف قلبه للحظات تحت التعذيب ثم عاد.
متعبة من كوني سورية، متعبة من الكوابيس التي أعود فيها إلى سوريا وأعلق هناك وأعجز مرة أخرى عن الخروج، وأشعر بأن هذا مجرد كابوس لكنني لا أستطيع مغادرته، لأن الظلم والخوف يسكنانني كما تسكن اليراعات الشجر الوحيد، متعبة من استيقاظي في بلد غريب دون أن أنسى للحظة ما حدث طوال تلك السنوات، دون أن أنسى آثار التعذيب على أجساد من أحب وفي عيونهم.
في لقائنا المؤجل بعد خروجه، قال لي: “سأترك البلد هذه المرة”، فقلتُ: “أفعل ذلك، لا تبقى في بلد اعتقلوك فيه لأنك تحب الشعر والموسيقى والغناء، بلد يتهمونك فيها بأنك مثقف وخطير”. وعدني بأن يخبرني يوماً بما حدث، حتى أوثّق قصته، لكننا مضينا، وقصة السجن ظلت ناقصة في رأسي وغائبة عن الورق. ولأنه بقي هناك، في سوريا، ولأنني بعيدة بقدر لن يكفي لأخرج من فكرة الألم، لقد تبادلنا الأدوار بالفعل. بقي هو في سوريا، ورحلتُ أنا، أراقب يومياته من بعيد، فيما يكتب ويستمع إلى الموسيقى، التي لم يفقد إيمانه بها برغم كل تلك القسوة. أتذكّر قبلة سرقناها في أحياء دمشق القديمة وبمرورٍ عابر قرب غرف الملح.
درج
———————————–
======================