نقد ومقالات

أمام الصفحة البيضاء.. عندما تدخل في ليل العدم/ خالد النجار

أنتَ ككاتب لا بدّ أنكَ اصطدمتَ يوماً بذاكَ القلقِ المُرعِب أمام الصفحة البيضاء. أجل مُرعبٌ لأنك، ومنذ البدء وكأيِّ كاتبٍ حقيقيّ، جعلتَ الكتابة أساسَ وجودك، انتفاءُ الكتابة هو انتفاءُ وجودِك. هكذا فالكتابة لديك ليست مجرّد هواية، أو فعل خارجي نافل؛ إنّها سبب ومبرّر وجودك، وبغيابها تشعر بذلك الإحساس المرير بالعدم، لأن الصفحة البيضاء هي أيضاً انعكاس للشاشة الداخلية التي صارت فجأةً بيضاء فضّية، بما يعني أنها اختفت وغابت، وأنك دخلتَ في تجربةٍ شبيهة بتجربة العدم لدى الوجوديين. ولابد أنك سألت نفسك في تلك اللحظات المريرة العاجزة ما السبيل إلى تجاوز هذه الحبسة؟ ما السبيل إلى تفتّح تلك البوّابات التي في أعماقك، المفضية إلى ما تجهله.

من هنا جاءت الكلمة التي تقول الكتابة هي إعادة اختراع الذات، وإعادة اكتشافها؛ فنحن ننطوي على المجهول في أنفسنا. وأثناء الكتابة إذا ما كانت حقيقية يتجلّى لنا طرفٌ من هذا المجهول الذي ننطوي عليه ولا ندركه. ومن هنا أيضاً جاءت الكلمة التي تقول؛ الكاتبُ أوّل قارئ للكلمة التي يكتشفها لحظةَ كتابتها. يقول ريتسوس: “أنا القارئ الأوّل للكلمة التي أكتبها وأُفاجَأ ببزوغها”. وفي مكان آخر يضيف: “ثمّة بعضُ الأبيات، وأحياناً قصائد بأكملها أنا نفسي لا أعرف ما الذي تعنيه. وهذا الذي لا أعرفه يُذكيني أيضاً”.

عندما فتح رامبو تلك البوابات وكتب ذاك المجهول الذي يتدفّق منها، أدرك أنّ ما يكتبه ليس صادراً عنه؛ بل هو صادر عن الآخَر؛ وكتب جملته الشهيرة “أنا هو الآخر”، أو “أنا هو غيري” بما يعني ثمّة منطقةٌ مجهولة هي منطقة الإبداع.

لذلك فالدخول في الكتابة هو دخولٌ في ليلك الكبير، عالم اللاوعي أن تقتحم منطقة شبه الوعي، كما يرى الكاتب الأميركي روبرت أولن بتلر، الذي يضع توازياً مهمّاً بين حبسة الكتابة والسُّهاد. فالنوم هو المنطقة التي ننفصل فيها عن الوعي لنلحق بخزّان الأحلام.

عندما يغزوكَ النعاس، تنجذب إلى صورةٍ، ثم إلى أُخرى وأُخرى… ثم، فجأة تنفصل عن الوعي، وهكذا الأمر في الكتابة، لعلَّ هذه المنطقة هي التي عناها بورخس بقوله: “الكتابة لا تعدو أن تكون حلماً متحكّماً فيه”. الحبسة إذن هي أن تظلّ خارج هذه المنطقة التي فيك. إذن لا تبحث عن الحلول من خارج نفسك، لا تبحث عن الكُتب التي تدّعي أنها تأخذُ بيدك، وأنها تقودُك للإبداع، الأمر كما لو تطلب من غيرك أن يدخل إلى نومِك، ويحلمَ مكانك.

لا توجد وصفة للكتابة، كما لا توجد وصفة للحياة، والكُتب التي تعالج الكِتابة – هي بالنسبة لي – شبيهةٌ بكتب التنمية البشرية؛ والتي يقوم على تأليفها رهطٌ من الكُتّاب عبارة عن “تجّار السعادة”. هذه الكُتب تنمّي معارفَك، وقد توسّع من وعيكَ ورؤيتكَ للنفسِ البشرية، ولكنها لا تحلّ محلّ التجربة التي عليك أن تخوضها وحيداً مفرداً داخل ليلِك. ولكن للناس وَجَلٌ من هذه التجربة لأنّها تقود إلى المجهول، والناس تخاف المجهول. لأنك أيضاً عندما تكتب، إنّما تعيش مع أعماقك المُخيفة، أعماقك التي بلا قاع… عوالم النوم واللّاوعي، والأسرار، والمجهول، والليل، التي ننطوي عليها كلّها تشدُّنا وترعبنا.

* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى