سياسة

الأحزاب في شمال سوريا… العسكر في خدمة أجندة الإسلام السياسي/ محمد حردان

تعاني مناطق شمال غرب سوريا من فراغ كبير في العمل السياسي المنظّم، بالرغم من أن كثيرين من أبنائها والمقيمين فيها لديهم رغبة كبيرة في ممارسة النشاط الحزبي، والانخراط في التجمعات السياسية التي كانت محظورةً قبل ذلك، إبان حكم البعث قبل عام 2011، يقول مصطفى المسالمة، وهو أحد الناشطين المقيمين في المنطقة.

يروي المسالمة لرصيف22، أن “قوى المعارضة السياسية التي يُفترض أن تساعد على ذلك، وأن تفيد الشباب والأجيال الجديدة من خبراتها، لم تولِ هذه المناطق عنايتها، ما خلّف فراغاً كان من المنطقي أن يأتي من يملأه”.

وبالرغم من الفراغ السياسي الذي تعاني منه المنطقة، إلا أن عدداً من الناشطين الذين تواصل معهم رصيف22، يرفضون في الوقت نفسه “أن يتم استغلال هذا الواقع من قبل تيار أو حزب أو جماعة لفرض أجندتهم”.

في المقابل، يؤكد ناشطون آخرون أن “الظروف الأمنية لا تسمح حتى الآن بنشاط حزبي حر في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، خاصةً بالنسبة إلى القوى الليبرالية أو اليسارية”، ويحمّل هؤلاء التيارات الاسلامية المسؤولية عن التحريض عليهم شعبياً، خاصةً مع سيطرة هذه التيارات على القطاع التعليمي والهيئات الطلابية والمؤسسات الدينية.

وتوجَّه الاتهامات إلى جميع القوى والتيارات عندما يتعلق الأمر بالنشاط الحزبي والسياسي في مناطق سيطرة المعارضة، وبينما يُتهم البعض بالتقصير والفشل، يُتهم البعض الآخر، وخاصةً الإخوان المسلمين، باستغلال الواقع الخاص في هذه المناطق من أجل فرض هيمنتهم عبر واجهات متعددة، بينما يبدو الجميع متفقين على ضرورة أن تتحمل سلطات الأمر الواقع المسؤولية في توفير مناخ مناسب للعمل السياسي الحر في تلك المناطق.

تأثير التنظيمات الإسلامية

عملت جميع الأحزاب والحركات الإسلامية، وبشكل خاص الجهادية والمتشددة منها، على استغلال انطلاق الثورة السورية، للتغلغل داخل المجتمع السوري، وزرع أفكارها وأيديولوجيتها في عقول أبناء المناطق التي تواجدت فيها.

وتتّسم التيارات الإسلامية في سوريا بحظوظ كبيرة في التوسع، بالرغم من الأزمة التنظيمية والإعلامية التي تمر بها، وذلك بحكم عدم تمايزها عن نمط التدين السائد ورموز الثورة السورية، وكونها تحظى بأيديولوجيا متماسكة في الوقت نفسه، عدا عن تأثير هذه الأفكار المتزايد في الجماعات الإسلامية والجهادية المختلفة مع تزايد الحضور “السياسي” في الفضاء العام.

ويُرجع المحلل السياسي حسن نيفي، عدم وجود أحزاب يسارية وليبرالية في مناطق شمال غرب سوريا، إلى الأيديولوجيا المسيطرة في المنطقة، ويقول لرصيف22: “الأيديولوجيا الإسلامية المرتبطة بالفصائل العسكرية، والتي لا تتفهم مشروع الديمقراطية وحرية الرأي والتباين، وتحمل شعارات إسلاميةً تريد فرضها على جميع الأحزاب السياسية في المنطقة، هي السبب الرئيسي في سيطرة الأحزاب الإسلامية على الواقع السياسي هناك”.

ويضيف: “لا يمكن إلقاء اللوم على الجماعات الإسلامية فقط، فالأحزاب اليسارية والعلمانية أيضاً لم تستطع إثبات وتعزيز قناعاتها لدى شريحة واسعة من المجتمع، وما زالت تعيش على هامش هذا المجتمع، بالرغم من أن أفكارها المتمثلة في الحرية والمساواة والعدالة يمكن أن تُمثّل خلاص سوريا”.

من جهته، يقول الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية عباس شريفة، لرصيف22، إن “الأحزاب اليسارية والعلمانية لا تستطيع التواجد بشكل أكبر من ذلك، لأن المجتمع السوري هو مجتمع محافظ، وقضية الثقافة لها دور كبير جداً في تحديد الانتماءات السياسية، فمنذ تأسيس الأحزاب في سوريا مع الاحتلال الفرنسي إلى اليوم، لم يطرأ أي تغيير على الواقع السياسي، وما زالت الأحزاب الدينية متغلبةً على حساب الكتل الأخرى، لكن المجتمع السوري يمكن أن يتقبل أي مشروع وطني يحمل الخلاص، إلا أن غياب هذا المشروع لدى الأحزاب العلمانية يبقيها خلف الكواليس”.

محاولات يسارية

أولى الحركات اليسارية التي تأسست في مرحلة ما بعد تأسيس ائتلافات المعارضة الرسمية عام 2016، سُمّيت حركة ضمير، وركزت نشاطاتها ضمن المجال الثقافي بشكل أساسي من دون أن تترك السياسة بشكل كامل. وتُعرِّفُ ضمير عن نفسها بأنّها “حركة مدنية ثقافية ذات موقف سياسي منطلقه أهداف الثورة السورية السلمية: حرية وكرامة ودولة مواطنة. وتعمل على ترسيخ الطابع المدني والعلماني والديمقراطي للثورة السورية، ولسوريا المستقبل”.

كذلك، شكلت مجموعة من الناشطين السياسيين السوريين هيئة “نواة” السياسية، في آذار/ مارس 2019. وتسعى المجموعة إلى أن تكون جسر تواصل بين الأجسام الأخرى التي تتقاطع أفكارها المرتكزة على الوطنية والديمقراطية والعلمانية، لتشكيل هيئة سياسية سورية مستقلة وجامعة.

كما أُعلِن عن تأسيس حزب أحرار الليبرالي السوري، في بداية عام 2020، ليكون أول حزب سوري معارض يتبنى الأفكار الليبرالية علناً. ويُعرّف الحزب بنفسه على أنّه “حزب سياسي أعضاؤه مواطنون اجتمعوا على قيم وأهداف ورؤى مشتركة، ويسعون إلى تحقيقها بالوسائل السلمية. ويتبنى الفكر التحرري الاجتماعي، الذي يؤمن بحرية الفرد أولاً وحقه في السعي الحر للوصول إلى السعادة”.

وفي مطلع العام الماضي، قام عدد من المعارضين بتأسيس “الحزب الوطني السوري”، الذي تبنى الأفكار الليبرالية بحسب البيان الذي نشره. كما شهد منتصف العام الجاري أيضاً، حراكاً للتيار الليبرالي تمثّل في دعوة عدد من المعارضين لعقد مؤتمر وطني للجالية السورية في الولايات المتحدة الأمريكية، التي بدأت تنشط سياسياً خلال السنوات الماضية.

إلا أن عمل المجموعات والأحزاب اليسارية والليبرالية لا يزال محدوداً بحسب ما يروي بعض الناشطين، والسبب في ذلك يعود إلى البيئة المحافظة المنتشرة، فضلاً عن سيطرة المجموعات المتطرفة وأبرزها هيئة تحرير الشام على مناطق واسعة في الشمال السوري، ومحاربتها لكُل الأفكار المختلفة عن أفكارها ومحاولتها فرض سطوتها الدائمة في مناطق نفوذها، بالإضافة إلى ضعف القدرات المادية واللوجستية لهذه الحركات الناشئة.

سعي الإخوان إلى السيطرة

حاول الإخوان المسلمون على مر السنوات الماضية، السيطرة على الحراك الثوري في سوريا سياسياً وعسكرياً، وقام بخطوات عدة لتحقيق ذلك، إذ أنشأ في عام 2013، واجهةً سياسيةً له تتمثل في الحزب الوطني للعدالة والدستور “وعد”، كما عمل على تأسيس ذراع مسلحة من خلال تجربة “الدروع”، في بدايات العام ذاته، وسرعان ما فشلت، بينما يُعدّ “فيلق الشام” حالياً الأكثر تمثيلاً لمدرسة الإخوان المسلمين، بالرغم من النفي المشترك للعلاقة بينهما، ويُعدّ الفيلق من أكبر فصائل المعارضة في الشمال السوري ويحظى بعلاقات إقليمية ودولية جيدة بالإضافة إلى تحالفاته المحلية مع الفصائل الثورية والجهادية.

مؤخراً، قام الحزب الوطني للعدالة والدستور (وعد)، المعارض، بدعوة القوى والأحزاب السياسية السورية المعارضة ووسائل الإعلام، إلى”مؤتمر وطني” ينوي عقده خلال أيلول/ سبتمبر الجاري، في مناطق سيطرة المعارضة المدعومة من تركيا شمال غرب سوريا، تحت عنوان “اللقاء التشاوري”.

وأوضحت الرسالة التي أرسلها الحزب، أن أهداف هذا اللقاء هي “التوصل إلى اتفاق على وثيقة شرف وطنية، والتوافق على نموذج لقانون أحزاب، وتشكيل رابطة للأحزاب التي تنطبق عليها شروط قانون الأحزاب، بالإضافة إلى العمل على ترسيخ الحياة المدنية والديمقراطية في شمال سوريا”.

وأثارت الدعوة جدلاً واسعاً، بالنظر إلى الأهداف المعلنة، والدوافع الحقيقية التي يعتقد البعض أنها تقف خلف هذه الدعوة، كما قوبلت بالعديد من الانتقادات، خاصةً لجهة التخوف من سعي الإخوان المسلمين إلى الهيمنة على النشاط السياسي في المنطقة.

ويرى شريفة، أن سيطرة الإخوان المسلمين على الحياة السياسية في المنطقة عبر الأحزاب التابعة لها، مثل وعد، أمر إيجابي لفصل الدعوة عن السياسة، ويوضح أن “الاتهامات المتبادلة بين جميع الأطراف لا تعدو كونها اتهامات سياسيةً، إذ لا يوجد ترهيب جسدي أو سياسي فكري، بل كل ما يجري يتم في إطار لباقة الخصومة والتنافس السياسي ضمن الوسائل المشروعة لمحاولة الحشد لأفكار سياسية من دون استعمال خطاب ديني لشيطنة الآخرين”.

التجربة السيئة

شكلت جماعة الإخوان المسلمين، بالمساهمة مع عدد من الهيئات والشخصيات الأخرى، عدداً من الأجسام المعارضة للنظام السوري، مثل “المجلس الوطني” و”الائتلاف الوطني”، و”لجنة الحوار السوري”، لكن سرعان ما تنصلت منها بسبب الخلافات التي أضعفتها، ولأنها لم تنجح في إنهاء وجود حكم الأسد، بالرغم من كثافة سيطرة الجماعة عليها لفترات متعددة، ساعيةً إلى إفراز قيادة على قياس الإخوان.

وبالرغم من أن الجماعة قالت إنّها تسعى إلى تشكيل دولة تعددية ديموقراطية في سوريا، إلا أنها لا يمكن أن تتقبل تعدديةً سياسيةً حقيقيةً في غرفها الداخلية؛ إذ إنها، ومنذ نهاية ستينيات القرن الماضي، ظلت في أدبياتها ترى أنه يجب أن يكون الدستور السوري ضامّاً لمادتين تشريعيتين أساسيتين، الأولى تؤكد أنّ الإسلام دين الدولة الرسمي، والثانية تؤكد أنّ كلّ تشريعات الدولة يجب أن تُستمد من المادة الأولى.

وقبِل الإخوان الدخول في جبهة المعارضة الوطنية السورية المتعددة المذاهب والأحزاب، بعد الرضوخ لشروطٍ عديدة، كإدانة الإرهاب، والإقرار بفصل الدين عن الدولة، وقبول التعددية السياسية، وعلى هذا الأساس دخلوا في “إعلان دمشق” في 2005، وغادروه بعد فترة قصيرة ليلتحقوا بجبهة خدّام، بحسب المحلل السياسي سعد نيفي.

يقول النيفي: “توحي تجربة الإخوان بين أفراد الشعب السوري وأطيافه الدينية والسياسية بكل ألوانه، بأنهم ليسوا وطنيين، بقدر ما هم إخوانيون، تهمّهم البراغماتية السياسية الداعمة لجماعتهم، وإيجاد أرضية لدولة يكون دستورها وشعبها وأحزابها، مجرد آلة تسير وفق ما يريد أن ينتجه الإخوان، تماماً مثلما كان نظام البعث”.

نفي التبعية

ويقدّم رئيس حزب وعد، محمد زهير الخطيب، حزبه الذي اتخذ من مناطق سيطرة المعارضة في الشمال السوري مقرّاً له، كأداة لتكريس فكرة وجود الأحزاب في مناطق المعارضة، وتالياً الوصول إلى حالة سياسية تسمح بإنتاج بديل عن النظام، وينفي أي علاقة للحزب بالإخوان المسلمين.

ويوضح لرصيف22، أن “الدافع الرئيسي للعمل مع الأحزاب والقوى السياسية السورية المعارضة، هو عدم وجود جهة مخولة إقرار قانون الأحزاب في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وأن الحزب يسعى إلى تنظيم العمل الحزبي هناك، والوصول إلى انتخابات تفرز سلطةً تشريعيةً تقوم بمهمة إصدار القوانين في هذه المناطق”.

ورداً على عدّ كثيرين سعي الحزب إلى تشكيل “رابطة للأحزاب التي تنطبق عليها الشروط”، بمثابة سعي لإعادة إنتاج “جبهة وطنية تقدمية جديدة” على قياس الجهة التي تقف خلفها، يقول الخطيب: “هدفنا الوحيد هو إيجاد إطار للتعاون بين الأحزاب والقوى السياسية الناشطة في شمال غرب سوريا”.

ويرى أن “الطريق يجب أن يكون ممهداً أمام أي حزب وطني ديمقراطي، بغض النظر عن التصنيف الأيديولوجي له، إذ تنشط الأحزاب لتشارك في الحياة السياسية البرلمانية، وتقنع الناس بجدوى مشاريعها وخططها ونزاهة أعضائها وكفاءتهم، ويكون القرار الأخير للشعب في الانتخابات الديمقراطية النزيهة. وإذا لم يرضَ الشعب عن أداء حزب ما، فإنه ينتخب غيره في الدورة التالية، بل له حق إسقاط الحكومة بالوسائل القانونية التي يضبطها الدستور”.

في المقابل، يقول حسن النيفي: “من المعروف أنه الواجهة السياسية لحركة الإخوان المسلمين، وتالياً فإن أي دعوة لأي نشاط سياسي صادرة عن هذا الحزب تُعدّ دعوةً إخوانيةً، كما أنه لولا سيطرة الفصائل الإسلامية على تلك المناطق لما استطاع حزب وعد إقامة أي نشاط هناك، وهذا سبب لتخوّف الناشطين السياسيين ورفض العديد من الأحزاب الدعوة والمشاركة في المؤتمر التشاوري”.

رصيف 22

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button