الأسدية اللغوية والحاجة إلى فضاء عمومي سوري/ رشيد الحاج صالح
لا يوجد أي سوري ذَكَر إلا وتعرض لعنف لغوي ومسبات من مختلف الأشكال والأصناف أثناء خدمته الإلزامية في الجيش العربي السوري. وهذا يعني ببساطة أن أكثر من نصف السوريين عاش تجربة التعرض لمسبات وإهانات، ويعرف الآثار السلبية لمثل تلك التجربة، على الرغم من أن صغر السن في فترة الخدمة العسكرية يقلل من آثارها النفسية. المهم أن السوري يجد نفسه مضطرا للتكيف مع الضباط الموتورين الذين يوزعون الإهانات يمينا ويسارا وطيلة اليوم (الضباط أكثر فئة تسب علناً في سوريا). أما أن يستمر السوريون في اللجوء إلى العنف اللغوي المنفلت في نقاشاتهم العامة حتى اليوم فهو ما يحتاج إلى وقفة مع النفس، وتأمل في عودة الهمجية اللغوية التي ثار السوريون ضدها، والتفكير ضرورة التأسيس لفضاء عام سوري.
غالبا ما يستخدم العنف اللغوي خارج المجالات الرسمية للنقاش، أي بعيدا عن التلفزيون والراديو والمؤتمرات والمحاضرات وخطب المساجد وقاعات التدريس.. أما أكثر مكان نستمع فيه لمثل ذلك العنف فهو الشارع، الجلسات الخاصة، أو في المدارس والكليات العسكرية، وجلسات التحقيق في الفروع الأمنية. وفي غالب الأحيان توجه المسبات والإهانات ممن لديه شعور بأنه أقوى من الآخر، ويمكنه أن يطور العنف اللغوي إلى عنف جسدي إذا أراد ذلك، بل إن من عاش تجارب الدخول إلى الفروع الأمنية فإنه يعرف أكثر من غيره أن العنف اللغوي غالبا ما يكون مقدمة للعنف الجسدي، وبشكل أكثر دقة فإن المحققين الأمنيين يشحنون أنفسهم بنوع من العنف اللغوي الذي يدفعهم لاستخدام العنف الجسدي بعدوانية سادية.
بحسب علم النفس الاجتماعي فإن العنف اللغوي هو تعبير لا واع عن تقليد المضطَهدين لمن يضهدونهم، أي تعبير عن تأثير القوي الظالم على الضعيف المظلوم، بحيث يتخيل المظلوم أنه وبمجرد استخدام أساليب الظالم فإنه يكون قد رفع الظلم عن نفسه وأنه أصبح قويا لدرجة يمكنه أن يظلم الناس، أو يهينهم ويسبهم على أقل تقدير. إنه بكلام آخر استمرار واستبطان للعقلية الأسدية التي عانينا منها لسنين طويلة.
ويجادل عالم النفس الفرنسي بيير بورديو أن المضطَهدين الذين يستخدمون العنف اللغوي والرمزي أكثر خدمتة لمن اضطهدهم، لأنهم في النهاية تحولوا إلى جنود لا واعين لمن قهرهم. ولذلك فإن عدم تحرر قسم من المعارضين للنظام الأسدي من الأسدية اللغوية هو ما يفسر أن مجال العنف اللغوي لدى المعارضين يشبه بدرجة كبيرة العنف اللغوي لدى المؤيدين، وهذا يعني أن النظام الأسدي نجح في الإبقاء على من يفكر بنفس طريقته على الرغم من معارضته له.
وعلى ذلك فإن أي سوري اليوم يستخدم العنف اللغوي عليه أن يدرك أن هذا العنف ليس وسيلة للنقاش أو النقد أو التعبير عن مواقف، أيا كانت، بل هو تعبير عن حالة داخلية للمتكلم تقول للآخر إنني أتصارع معك كلاميا لأنني موتور وأعاني من الشعور بالاضطهاد، ولا أملك الوسائل التي تمكنني من استخدام العنف الجسدي ضدك، أي أنني ليس لدي الوسائل الأسدية للقتل فالجأ إلى السب والإهانة، وهذا أقل ما أستطيعه.
دون أن ننسى أثر التقسيم الأسدي للعالم إلى وطني وخائن، شريف وعميل، صديق وعدو. وهي تقسيمات ماوية تجعل من لا يقف معك ويؤيدك تماما في كل ما تقول وتعتقد فإنه إما خائن أو عميل، وفي كل الأحوال هو عدو، وإن استخدام المسبات والإهانات ضده هو أقل ما يمكن أن تفعله.
النتيجة أن العنف اللغوي ليس له علاقة بعالم الفكر والعقيدة، كما أنه ليس علامة من علامات القوة أو الشجاعة، مثلما ليس له علاقة بالأخلاق أو النصرة للحق. بل إنه على الضد من كل ذلك. لأنه علامة بارزة من علامات انعدام العقل وقلة الأخلاق. والدليل على ذلك المفارقة التي يقع فيها السبّابون حيث يلجؤون إلى عبارات غير أخلاقية ويقولون إنهم يدافعون من خلال هذا العبارات اللاأخلاقية عن مواقف أخلاقية. وهي مفارقة تشبه مفارقة “الغاية تبرر الوسيلة” سيئة الصيت في التاريخ. أو مفارقة المتدين الذي يستمر في سبّك حتى بعد أن تذكّره بالأحاديث النبوية التي تنهي عن السب.
حتى أن المفكر الفرنسي جاك رونسيير يعتبر أن العنف اللغوي علامة من علامات العنصرية الإثنية أو التطرف الديني، وهو يستشهد على انتشار مثل هكذا عنف في الأوساط الشعبوية للعنصريين والمتطرفين، وهو عنف يقوم على أن قوميتي على حق والباقي يأتي بعد ذلك، أو “الأمة الأصيلة”، أو ديني/ مذهبي هو الصحيح والباقي باطل وما إلى ذلك.
كل تلك المشاكل تعكس حاجة ماسة لكي ينشئ السوريون ما يسمى في الفلسفات السياسية الحديثة بـ “الفضاء العمومي” أو “المجال العام” الخص بهم وشؤنهم العامة. وهو مجال أكد على أهميته الفكر الألماني هابرماس والفرنسي بيير بورديو، وعدد من فلاسفة مدرسة فرانكفورت، والأميركي جون رولز.
ويقصد بالمجال العام Public Sphere هو مجال افتراضي عمومي يتناول فيه السوريين مختلف القضايا التي تهم شؤونهم وحياتهم العامة، ومختلف المشاكل الهموم والتي يعانون منها، في جو عام من الشعور المسؤولية الأخلاقية والسياسية. ويتألف المجال العام من كل الوسائل العامة الني تناقش فيها المسائل العامة من راديو تلفزيون ووسائل تواصل اجتماعي ومساجد وندوات ومراكز بحوث وتجمعات محلية وجمعيات ومدارس والمجموعات الأدبية والفنية والتجمعات الدينية والعشائرية.. بحيث يحق لكل فرد أن يطرح أراءه وقناعاته وتصوراته لأي قضية عامة تهم السوريين (على أن يمتلك القدرة على طرح القضية بطريقة واضحة ومتكاملة)، سواء تعلق الأمر بالدستور السوري، أو قضية المصالحة، أو مساعدة المحتاجين، أو دين رئيس الدولة، أو مستقبل سوريا، أو المناهج التعليمية، أو الدخل الذي يتم تحصيله من الحواجز..، بحث تكون كل القضايا مطروحة للنقاش والأخذ والرد والشرح والقبول والرفض.
وحتى ينجح مثل هكذا الفضاء فإني أطرح ثلاثة شروط على الجميع أن يقبل بها ويحترمها لكي يدخل الفضاء العام، وذلك حتى يكون للنقاشات أهمية ومعقولية، وحتى تتطور وتأخذ شكل مبادرات، أو تأخذ حقها من النقاش والتحليل، وهي شروط مأخوذة من الضوابط التي وضعها مفكرون كبار من قبيل هابرماس وجون رولز.
الأول: أن يقبل الجميع بحق الآخر في الاختلاف والتعبير عن نفسه بحرية تامة. وهذا يعني أن على الجميع احترام عقائد وقناعات ومقدسات الآخر، مع احتفاظه بحق الاختلاف معها.
الثاني: التعفف عن العنف اللغوي، والتعبير عن النفس بلغة عقلية سليمة لا تحمل أي نوع من الاستهزاء أو التهديد أو الانطلاق من امتلاك الحقيقة الواحدة، مثلما من غير المقبول طرح القضايا من خلال التلميحات إلى التخوين أو استبعاد الآخر، أو تكفيره. وهذا يعني أن تأخذ صيغ المناقشات صيغة “الحجاج” المنطقية المعمول بها في النقاشات الجدية العامة، بحيث تطرح القضية مع مبرراتها العقلية وسلبياتها وإيجابياتها ومدى وجاهتها بالنسبة للحجج الأخرى.
الثالث: إدراك أهمية مثل هذا الفضاء العام من حيث إنه يلم شمل السوريين في مختلف أصقاع الأرض، وإن السوريين في النهاية في سفينة واحدة بمختلف الأيديولوجيات والمذاهب، بحيث ننشئ مجالا عاما يجمع الجميع، بمن فيهم المؤيدون إذا رغبوا بذلك.
وعلى هذا فإن السوريين مدعوون لنبذ كل من يريد الدخول إلى ذلك الفضاء العام بدون القبول بتلك الشروط، بوصفها قاعدة يمكن أن تؤسس لنقاشات سورية حول قضايا، صغيرة وكبيرة، نقاشات تنهي حالة التشرذم والتخوين والتكفير التي مل منها السوريون وذاقوا ما ذاقوا من مرارة.
وبالتأكيد للحديث بقية والموضوع مطروح للنقاش، لأن قسما من السوريين قد لا يطيق بمثل تلك الشروط، لأنه تعود على حالة من الانفلات اللغوي والتحرر من تقديم مبررات عقلية وأخلاقية لآرائه.
تلفزيون سوريا