المجتمع الدولي وجلاء مصير المختفين قسرياً في سورية/ معتز الفجيري
حظي أخيرا ملف المختفين قسرياً في سورية باهتمام دولي، بعد صدور تقرير للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، قبيل اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري في 30 أغسطس/ آب، يطالب فيها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتأسيس آلية دولية جديدة مستقلة، تختص بفحص الملفات الفردية للمختفين قسريا، ومحاولة جلاء مصائرهم، أو الكشف عن رفاتهم البشرية، وتقديم الدعم اللازم لأسرهم. وقد تنبّهت اللجنة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق في سورية منذ عام 2011 لاتساع نطاق الاختفاء القسري في سورية، وأوصت المجتمع الدولي بتأسيس مثل هذه الآلية. ولم يكن ممكناً في مجلس الأمن تمرير قرارات تتعلق بتدابير حماية حقوق الإنسان أو المحاسبة في سورية في ظل توظيف الفيتو الروسي والصيني بشكل منهجي لحماية نظام بشار الأسد. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد تبنّت القرار 76/228 في ديسمبر/ كانون الأول 2021 تطالب فيه الأمين العام للأمم المتحدة بإعداد دراسة شاملة عن تدابير تحديد مصير المفقودين وأماكنهم.
بحسب تقرير حديث للشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن نحو 111 ألف مواطن سوري تعرّضوا للاختفاء القسري منذ الأيام الأولى للثورة في مارس/ آذار 2011، من بينهم 3041 طفلاً و6642 امرأة. يتورّط نظام بشار الأسد، عبر الجيش والأمن والمليشيات المحلية والمليشيات الشيعية الأجنبية، في أكثر من 85% من حالات الاختفاء القسري، مع تورّط جميع أطراف النزاع أيضاً في هذه الجريمة في المناطق التي تسيطر عليها، من بينها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، هيئة تحرير الشام، الجيش الوطني، وقوات سوريا الديمقراطية (حزب الاتحاد الديمقراطي). وقد شهدت السنوات الأربع التالية للثورة السورية الحصيلة الأكبر لحالات الاختفاء القسري. تبدأ معظم الحالات بالاعتقال أو الخطف، ثم تنقطع أخبار الضحايا بشكل كامل. وبحسب الشبكة السورية، ففي الفترة بين عام 2018 حتى أغسطس/ آب 2022، سجلت السلطات السورية أكثر من ألف شخص من المختفين قسريا باعتبارهم متوفين في دوائر السجل المدني، من دون الكشف عن سبب الوفاة أو تسليم جثامين الضحايا لأسرهم أو إخبارهم بمكان دفنهم.
ويُقصد بالاختفاء القسري، طبقاً للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص منه، “الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية يتم على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرّفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته أو إخفاء مصير الشخص المختفي أو مكان وجوده”. وهي من الجرائم التي تعد مستمرّة طالما لم يجل مصير المختفين قسرياً.
وقد كان اختفاء المحامية رزان زيتونة الملقبة “أيقونة حقوق الإنسان في سورية” من مئات آلاف من قصص الاختفاء القسري في سورية منذ عام 2011 كإحدى الجرائم التي ارتكبت بشكل منهجي على مدار أكثر من عشر سنوات. ففي ديسمبر/ كانون الأول 2013 اقتحمت مجموعة مسلحة مكتب مركز توثيق الانتهاكات في سورية في دوما، وخطفت رزان البالغة آنذاك 33 عاماً، رئيسة المركز وواحدة من مؤسّسي لجان التنسيق المحلية التي شكلت عقب قيام الثورة السورية، وزوجها وائل حمادة، وزميليها سميرة الخليل وناظم حمادي، والذين عرفوا إعلامياً “رباعي دوما” وانقطعت أخبارهم بشكل كامل. وقد حظي كاتب هذه السطور بالتعرف على رزان زيتونة في دمشق منتصف عام 2006 في إطار بعثة موفدة من الشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان.
مثلت رزان في ذلك التوقيت جيلا جديدا لحركة حقوق الإنسان في سورية بدأ في التبلور في العقد السابق للثورة السورية من قلب المنظمة الأم، “لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا”، والتي كانت قد تأسّست عام 1989. وقد مثلت تلك الحقبة القصيرة التي عرفت بـ”ربيع دمشق”، في أعقاب وفاة حافظ الأسد وتولي بشار السلطة في يوليو/ تموز 2000، فرصة لظهور حركية محدودة في المجتمع المدني السوري، ظهرت في سياقها كوادر جديدة لحركة حقوق الإنسان السورية. كان أمام رزان فرصة للخروج من سورية عقب اندلاع أعمال العنف، لكنها اختارت البقاء والاستمرار في تقديم الدعم للضحايا، وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان وجرائمها التي يرتكبها النظام السوري، فقد وثقت الهجوم بالأسلحة الكيماوية في أغسطس/ آب 2013 في الغوطة الشرقية والتي راح ضحيتها أكثر من 400 طفل. وقد انتقلت رزان من العاصمة دمشق تحت وطأة تهديدات من السلطات السورية إلى مدينة دوما على أطراف دمشق، والواقعة تحت سيطرة المعارضة المسلحة. أثارت التقارير الصادرة من رزان زيتونة وزملائها عن الانتهاكات التي ترتكبها مختلف الأطراف في سورية غضب تنظيم جيش الإسلام المرجح أنه نفّذ عملية الاختطاف بعد سلسلة من تهديداتٍ وجهها لفريق عمل مركز توثيق الانتهاكات في سورية.
لجريمة الاختفاء القسري آثار نفسية جسيمة ومستمرّة على أقارب الضحايا الذين يعيشون على أمل أن يكون ذووهم على قيد الحياة، أو انتظار التعرّف على حقيقة مصائرهم، ومكان رفاتهم البشرية. هذا النوع من الاختفاء القسري طويل المدة، والممارس على نطاق واسع عرفته بعض الدول العربية في حقب وسياقات سياسية مختلفة في العراق وليبيا والجزائر والمغرب، لكن ملف الاختفاء القسري في سورية يبقى الأكثر وحشية وجسامة ومنهجية. ويُحسب لمنظمات حقوق الإنسان السورية، ومن بينها الشبكة السورية لحقوق الإنسان والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير، وروابط أسر المفقودين والمختفين قسرياً، إحياء هذه القضية دولياً تمهيداً لتأسيس الآلية الدولية المستقلة التي طالب بها الأمين العام للأمم المتحدة، وهو خيار الحد الأدنى الذي ينبغي دعمه حالياً سياسياً وفنياً ومالياً من المجتمع الدولي لتحقيق قدر من الإنصاف لمئات الألوف من الأسر السورية، في ظل استمرار بشار الأسد في السلطة.
العربي الجديد