النبع الأخير للضوء: سؤال الشعر وموقع الشاعر في العالم/ نوري الجراح
الشعر سؤال، ولكن هل يمكن للشاعر أن يفكك بنفسه هذا السؤال في شعره؟ هل يستطيع الشاعر أن يمدد قصيدته على المشرحة ويعمل فيها قراءة القارئ الناقد، وهو ما يفعله بعض الشعراء في حواراتهم حول الشعر؟ ربما كانت المحاولات الأكثر رصانة وموضوعية في التشاكل مع أسئلة الشعر موجودة في تلك الانتباهات النقدية النابهة التي تقرأ الشعر وتصدر غالباً عن نقاد شعراء، وأحيانا عن نقاد احترفوا النقد.
مهمة الشاعر تنتهي مع السطر الأخير في قصيدته، والكلام على الشعر أصعب من كتابة الشعر.
أحيانا، في لحظات اليأس من واقع القراءة أرى في خطابات الشاعر الموازية لشعره ضرباً من عبث لا طائل من ورائه. وفي كل الأحوال، ليس من الحصافة أن يستعرض الشاعر شعره في السوق كمروّج لسلعة، من الأفضل أن يذهب القارئ إلى القصيدة ليقرر بنفسه ما يحب وما لا يحب. لا يستطيع الشاعر أن يكون شاعر القصيدة وناقدها، ولو حدث شيء كهذا فهو عنوان عريض لموت القراءة.
أما الناقد في الشاعر، فهو موجود مقيم أصلا في صلب العملية الإبداعية، في قلب التجربة وفي لحظة الكتابة نفسها، إنه ناقد سرّي يرقب ويتصرف، وهو لا يبرح مقيما في الظل إلى أن تفتح القصيدة الباب وتخرج من البيت.
***
عندما يخلص الشاعر لفكرة الشعر، عندما لا يجعل الشاعر من قصيدته خادماً لغرض عير شعري، مأرب اجتماعي، إذ ذاك تولد الأجنحة ويحلق طائر الشعر في فيافي العالم وغاباته، وفوق مدنه متحديا سطوتها وقساوتها ونسبيتها أيضاً، الشاعر لا ينطق إلا بصوته الشخصي معبراً عما يختلج في أعماقه، وما يمور في وجدانه العميق فلا يعود قناعاً لفكرة أو ممثلا لجماعة، أو لاعباً لدور.
***
في المبتدأ والختام القصيدة عمل مع اللغة، عمل شاق. ممتع وشاق. لا قصيدة من دون مواجهة شرسة مع مألوف اللغة للخروج بها عن عادياتها، مواجهة تعكس طبيعة العلاقة للشاعر بذاته وبالعالم، وهو عمل في مختبر للخلق والابتكار أحياناً ما يشبه نهراً تغتسل فيه الكلمات لتعود نقية من مرجعياتها ومحمولاتها السالفة، وأحياناً يكون مرجلا تنصهر فيه الكلمات وتخرج وقد حملت السمات الخاصة بشاعر، فإذا بالقصيدة عمارة ذات شيفرة وراثية وأسرار تتخلل الصياغات والتراكيب والإيقاعات والموضوعات التي لا يمكن أن تصدر عن شخص آخر غيره، في هذه الصيرورة تتخلّق الميزات والميول الخاصة، والطابع الفريد، والتاريخ الشخصي لشاعر.
***
الشاعر لا يختار موضوعاته، فهي ثمرة صيرورة مرتبطة بمنظومة (وصادرة عنها) من التأملات والنزوات والهواجس والتفكر، والانفعالات والتهيؤات والمواقف التي تتضافر وتتحول إلى بؤرة تخرج من شرنقتها فراشة القصيدة.
***
بعين الشاعر، يتكشف الأمر، اليوم، وبوضوح أكبر من ذي قبل، عن هشاشة في انتماء المثقف العربي لفكرة الكرامة وازدواجية مهلكة في علاقة الكاتب بالسلطة، فالكاتب في دولة العسكر العربي زبون عند السلطة مرتعد الفرائص، مرة بمرتبة قنّ وأخرى بمرتبة مهرّج. ويمكن أن يلعب دور المصيدة الثقافية لصالح جماعة الطاغية. الإشارة، هنا، إلى شخصيات أدبية هزلية عابرة للجغرافيا، ما تزال تتقافز هنا وهناك بقاموس شفاهي عائم وكلام يصلح في لحظة المقتلة للتأويل على وجوه شتى، فصاحبه خارجي في الخارج، وداخلي في الداخل. والطريف أنه يعرف أن الجميع يعرف أن أمره معروف!
لا ألوم الأسرى في مدن الطغيان العربي، لكنني ألوم المتبرعين في تبيض صفحة الجريمة بتقديم صور زائفة عن حرية الحركة من مدن الطغيان وإليها!
***
ولو عدنا إلى فكرة الموقف الأخلاقي للشاعر، وموقع الشاعر في التاريخ، فإن سوء الصور التي سلفت لا يساوي شيئاً أمام السقطات المتكررة للشاعر خصوصا عندما يوصف بأنه حداثي، فقد ظل هذا النموذج من الشعراء ينادي بالثورة على القديم ويبشر بحرية الشاعر بوصفه صوت الكينونة إلى أن طرقت الحرية الباب على شعبه، فإذا به يرتجف من الفكرة، وينكر على من اعتبروه شاعرهم حقهم بالخروج على الطغيان. ومع مرور الوقت وكلّما أهرق دم تحت رايات تلك الكلمة، كلمة الحرية، وكلما سقطت زهرة من أزهار الشباب مضرّجة بدمها، ابتكر هذا الشاعر لثورة شعبه من الرهاب صوراً، وطاف بتلك الصور المفزعة المعمورةَ مشهراً بانتفاضة شعبه بلغة حربائية تتلون بألوان المكان المُضيف ومواضعات الزمان، مزيناً خطابه المراوغ بصور مثالية وأخرى مستحيلة لفكرة الثورة، ليسوغ رفضه لها وإنكارها على شعبه. فهي مقبولة في تونس ومصر ومن قبل في طهران، ومرفوضة في سوريا ولبنان!
***
عندي أن الشاعر ليس مطلوباً منه أن يكون على وفاق أو انسجام مع المعارضات السياسية، لكن موقع الشاعر أن ينطق، على الدوام، باسم العنق ضد السكين أيا كان صاحب العنق وأيا تكن اليد التي تحمل السكين. ألاّ يبتلع الشاعر لسانه أمام هول الجريمة، وألاّ يزيف الصور خوفاً من بطش الطغاة، أو تواطؤاً معهم أيا يكن الدافع أو السبب، وإلا كيف يكون الشاعر رائيا؟ وكيف يكون ضمير عصره؟ كلامي لا يسمي شاعراً دون غيره ممن خذلوا شعوبهم، وهو يشمل غير واحد ممن ملأوا صحائف النصف الثاني من القرن العشرين بخطابات الحرية والحداثة ليتبين لنا أخيراً أنها خطابات زائفة.
***
السؤال الأخلاقي الكبير، أخيراً، هو عن قدرة الشعر على ابتكار الأمل، فالشعر بالنسبة إلى الشاعر هو المصدر الأخير للضوء وما تبقى ظلام مطبق. وجوابي أن إقامة الشاعر في المكان هي المجاز أما الإقامة الحقيقية له فهي في اللغة، المكان حيز للوجود العابر، وقصيدة الشاعر شرفته على العالم ونشيده الكوني. وإذا كان الحلاج اعتبر البعد والقرب واحداً، فإن الشاعر هو صوفي العصور كلها، وهو من أهل الخطوة، بطرفة عين يطوي بقصيدته الأرض، لسان يلهج بالحق، وقلب يخفق للجمال. من أبعد مكان في الأرض يسمع الصوفي صوت اهتزاز العشب في أرضه الأولى التي نفي منها وقد هبّ عليها هواء الحرية، وتبلغه صرخة الألم التي ندت عن جريح سقط تحت راية الحرية، ليكون أول ما يكون صوت الثائر على الطغيان، ولسان الضحية. بالكلمات يعمر الشاعر المدن ويحرس الأحلام، وبالكلمات يقاتل الظلام ويصنع الأمل.
***
من واجب الشاعر العربي اليوم أن يكون له سهم في إخراج الشعرية العربية من مأزق الركود والعادية والتكرار الممل للموضوعات نفسها التي يتقاسمها السواد الأعظم من الشعراء مشرقاً ومغرباً، وقد بلغ التشابه في الكتابة الشعرية حد التماثل السيامي، فباتت القصيدة الحديثة (وهي في زماننا تسمّى قصيدة النثر) خزانة مسبقة الصنع، تُجمع أجزاؤها عن طريق دليل مكتوب بسبع لغات يرشد الشاعر إلى موضع كل قطعة من الخزانة، وكيفية جمع أجزائها وتراكيبها وموضع البرغي والمسمار والعزقة والمفصلة.. إلخ. فهي قصيدة مسبقة الصنع.
لكأن في مدينة الشعراء صندوقا كبيرا مبذولا لكل واهم ينهل منه مفردات وتراكيب وصيغاً وموضوعات ومعها استعارات ومفارقات وإيقاعات، ويصوغ قصيدته، وهو ما يجعل من القصيدة نسخة من غيرها، وغيرها نسخة من أغيارها، فلا يعود لدينا في مدينة الشعر من بضاعة الشعر سوى تلك الصناعة المهترئة وذلك “اليقين الشعري” البالي.
***
الشاعر ليس مجرد صائد صيغ على طريقة صائد الفراشات، الشاعر مغامر، ومن طبع المغامر أن يكون جوّاب عوالم. والشعر، أولا وأخيراً، شغف شخصي، فرح بالكلمات، ورحلة شديدة الخصوصية في تأمّل الحياة والصيرورة الإنسانية، وهو وسيلة لهدم الجدران بين الأزمنة، وفتح النوافذ، جميع النوافذ على جهات الأرض وهواء الوجود، والشعر عنوان ابتكار الأمل. وهنا عند هذه النقطة ثمة ما يفسر ولع الشاعر بالتواريخ والأساطير والأقنعة والشخصيات الميثولوجية والسرديات الكبرى.
***
سؤال الترجمة
العرب لم يهتدوا بعد إلى جواب شاف عن سؤال الترجمة. وهو سؤال ينفتح بنا على أكثر من سؤال، وأولها: ما الغاية من الترجمة من لغة من اللغات وإليها؟ وعلى عاتق من تقع ترجمة أدب أمة إلى لغات أمم أخرى؟
الثقافات الأخرى حسمت هذين السؤالين، معتبرة أن من واجباتها ترجمة آدابها إلى اللغات الأخرى، فالثقافة أحد الأوجه المعبرة عن قوة أمة ومكانتها بين الأمم. وعلى هذا الأساس حددت واجباتها بإزاء أدبها وفكرها.
العرب في عصرنا مازالوا حائرين وسط عالم يشعرون بغربة كبيرة عنه. بل إن بعضهم يشعر أن هذا العصر ليس له! حيرتهم وعجزهم عن الانخراط الفاعل في صنع عالمهم، والمشاركة في صناعة العالم تجعلهم ينتظرون من الآخرين أن يقوموا بالمهمة نيابة عنهم! لكأنهم أمة استنامت إلى كونها غير قادرة على معرفة مواطن الإبداع لديها، ولم تعد تملك الثقة بما تملك، وتريد من الآخرين اكتشاف ذلك عندها، ما يجعلها غير مهيأة لأن تكون فاعلة في ثقافة العصر. من هنا لا بد أن نبدأ لكي نفهم ما يبدو فوضى عربية اسمها الترجمة، حيث لا خطط، لا أولويات، لا برامج للترجمة تقف وراءها هيئات ثقافية عربية رسمية أو أهلية مدعومة من الدولة والمجتمع تعنى بنقل الأدب، وهو ما ترك الباب مفتوحا على المبادرات الشخصية، والعلاقات الشخصية والمعايير الشخصية في صناعة فرصة الترجمة، فمن يصنع الفرصة ليس الخطة، وإنما مبادرة الكاتب نفسه، فهو من يختار وهو من يسعى لأدبه حضوراً في ثقافة أبعد من ثقافته، بعد ذلك هناك الطلب الأجنبي على الأدب، وغالبا ما يتمثل في طلب يأتي من أكاديمية، أو مهرجان أدبي، أو صندوق ثقافي، أو برنامج للاجئين (الأخير بات الموضة الأشيع مع كل موجة من موجات اللجوء) وهنا تتداخل أولويات الأكاديمية، والمهرجان والصندوق الثقافي، مع برامج اللجوء وسياسات الدول وتتحول القصيدة والقصة والرواية واليوميات إلى وثائق اجتماعية وتقارير تساعد في فهم أحوال جماعة لغوية تنتمي إلى مجتمعات مأزومة أكثر منها عملاً إبداعيا. ولو استثنينا بعض دور النشر الغربية العريقة التي تركت الباب منفرجا بعض الشيء لمرور إبداعات عربية، فإن ما يزيد الطين بلة هو تلك الدور الصغيرة المتناثرة في هذه المدينة الأوروبية أو تلك وتعنى بنشر ترجمات أدبية عربية بطلب من أصحابها أو من جهات أكاديمية لقاء أثمان الطبع وأجور الشحن والتوزيع وهي بالتالي أقرب إلى المطابع التجارية منها إلى دور النشر، وغالبا ما تؤول مطبوعاتها إلى رفوف الجامعات أو غيرها من المؤسسات، ولا تدخل قي نسيج الحياة الثقافية والأدبية للبلد المضيف.
هذا جانب معتم من الصورة المتعلقة بالترجمة إلى اللغات الأخرى، والمؤسف حقيقة أن المؤسسات العربية التي تعنى بالترجمة الادب العربي اليوم، تقتصر فكرة الترجمة لديها على الترجمة إلى العربية، وليس في خيال القائمين عليها أيّ معنى آخر، في ظل قدر عربي يجعل من الكاتب شخصاً أعزل، بلا سند من ثقافته يمكنه من الانطلاق عالمياً، فهو اصلا كائن غير معترف له بوجود يستحقه في ظل مجتمعات ما تزال لا تلحظ الأفراد المبدعين وما برحت تتخبط ما بين أفكار أهل الكهف من جهة، وشبكة الحداثة المستجلبة من جهة أخرى، وهي المعادلة الوحيدة الممكنة، حتى الآن، في عالم يحكمه الفوات الحضاري على وجوه شتى.
***
لا آتي بجديد عندما أقول إن ترجمة الشعر مسألة عويصة. وأحيانا ما يميل أكثر مترجمي الشعر (العربي على الأقل) إلى اختيار الأبسط والأقل إشكالية في شعر الشاعر لترجمته، وفي هذا إخلال، من حسن الحظ أن هذا لم يقع لي مع مترجمي شعري، فقد اختاروا من شعري غالبا الأصعب والأكثر تركيزا وكثافة وجمالية.
من ناحية أخرى لا يمكننا العثور على صيغة مثلى لترجمة الشعر العربي إلى اللغات الأخرى، هذه مسألة ترتبط بجملة من العوامل والأسباب المتعلقة بنا كعرب، وبالعالم ودرجة اهتمامه بالعرب وطبيعة هذا الاهتمام في عصرنا. على الأرجح العالم لا يلحظ وجودنا الثقافي. نحن أمة غائبة في العالم. وجودنا الشعري والثقافي محجوب وراء غيوم سود كثيرة، عنوانها الرئيسي: الإرهاب، والتطرف الديني، والتخلف، والاستبداد، إلى جانب رواج صور نمطية لنا لا يمكن تبديدها من الأذهان في العالم من دون سلوك عربي مختلف بإزاء الذات أولا، عنوانه العريض: احترام حقوق الأفراد والجماعات وإصلاح المجتمعات بحيث تتاح المشاركة للجميع، وتكفل الكرامة الإنسانية للمواطنين والمساواة الحقيقية بين المرأة والرجل، وتضمن الحريات وعلى رأسها حرية التعبير. بعد ذلك يمكننا كعرب الحديث عن صورة لنا في العالم، ويمكننا عندها أن نشعر بثقة أكبر ونحن نحتج على الصور النمطية الرائجة لنا والتي تشوّه صورتنا الجماعية في العالم.
ختاماً يتوجب عليّ القول إن اهتمام الشاعر العربي لا بد أن ينصبّ، أولا وأخيراً، على انتزاع مكانة راسخة لشعره داخل الشعرية العربية، ما دامت وظيفته أن يكتب قصيدته بلغته الأم، أما الترجمة فهي تبقى بالنسبة إلى كل شاعر فرصة إضافية لاختبار قيمة الشعر وقابليته على العبور إلى ضفة أخرى، ونافذة تتيح له فرصة للتأكد من أنه صاحب نشيد كوني أيا تكن لغته وأنى كان مكان إقامته في العالم.
الكلمة خلاصة حوار أجراه مع صاحب التوقيع الشاعر شريف الشافعي,
• في أيلول/سبتمبر 2022
مجلة الجديد