منوعات

بانكسي في بيروت.. وجوه شاهدة على الحقيقة/ دارين حوماني

في مدينة كل ما فيها يحفّز على الحزن، مدينة ضائعة بين الفوضى والصمت، ذلك الصمت الذي يتأتى من الصدمة، يحدث أن ثمة فكرة تعيد الحياة لهذه المدينة على طريقة الحب في آخر العمر، تنبّهها بأنها لا تزال على قيد الحياة. تمامًا هي كذلك فكرة معرض الفنان البريطاني روبرت بانكسي تحت عنوان “عالم بانكسي- التجربة الغامرة” (The World of Banksy – The Immersive Experience) في بيروت. ففي ظل الظروف القاسية التي يمرّ بها اللبنانيون أطلق “متحف بانكسي” Musée Banksy بالتعاون مع مؤسسة “آرت بوث” Artbooth للمرّة الأولى في لبنان هذا المعرض في غاليري “آرت سبيس” Art Space في مجمّع ABC التجاري في منطقة فردان ببيروت بعد أن كان المعرض قد حطّ في مدن عالمية عديدة منها باريس، برشلونة، براغ، لشبونة، ميلانو، روما، بروكسل، دبي، سيئول، وغيرها. انطلق المعرض في 7 آب/ أغسطس وسيستمرّ لغاية 22 شباط/ فبراير 2023. ويكشف هذا المعرض المخصّص لفنان الشارع المجهول/ المشهور عالميًا عن أكثر من 70 عملًا للفنان، أحدثت صخبًا بمعظمها حتى أُطلق على بانكسي “الفنان المشاغب”.

بانكسي، وكما بات معلومًا، هو اسم مستعار لفنان شوارع من بريستول في المملكة المتحدة. يُعتقد أن اسمه روبن غونينغهام، ومن مواليد عام 1973، وهو ناشط سياسي ومخرج سينمائي. عُرف بانكسي منذ تسعينيات القرن الماضي عبر فنه الساخر ورسوماته المشاغبة، رسومات تجمع بين الفكاهة السوداء والكتابات المنفذة بأسلوب الإستنسل Stencil. تميزت أعماله بالتعليقات السياسية والاجتماعية على الشوارع والجدران والجسور في جميع أنحاء العالم. وقد أنشأ بانكسي وكالة خاصة لبيع أعماله أطلق عليها اسم “مكافحة الآفات” Pest Control. لا يرغب بانكسي بإشهار اسمه الحقيقي لأن بعض أعماله تُعدّ غير قانونية ما يشكّل له شعورًا أكثر بالأمان. ويقول بانكسي إنه يعتمد أسلوب الإستنسل في رسوماته لأنها تقنية سريعة ودقيقة وتسمح بإنجاز العمل في وقت قصير وهو ما يحتاجه بانكسي لإنجاز رسوماته في الليل وبسبب ملاحقة الشرطة له بشكل دائم حيث قال إنه اضطر ذات يوم إلى الاختباء من عناصر الشرطة تحت شاحنة قمامة بعد أن لمحوه يرسم على أحد الجدران.

كانت أول لوحة جدارية كبيرة معروفة لبانكسي هي عمل “الغرب المعتدل” التي تم رسمها في عام 1997 لتغطية الإعلان عن مكتب محامٍ سابق ويصوّر فيه دمية على شكل دب صغير تلقي زجاجة حارقة على ثلاثة عناصر من شرطة مكافحة الشغب، ولا يزال العمل مرئيًا في المدينة. وقد توالت الأعمال التي أثارت جدلًا، ومنها عمليات التعديل أو التخريب الفني، كما سمّتها الصحافة الغربية، على اللوحات العالمية ومنها لوحة “صقور الليل” لإدوارد هوبر حيث أعاد بانكسي رسمها تحت عنوان “هل تستعمل تلك الكرسي؟”، ولكنه جعل الشخصيات في الصورة تنظر إلى لاعب كرة قدم بريطاني خارج المقهى، يرتدي فقط سروالًا ملونًا بعلم بريطانيا، وذلك بعد إلقائه كرسيًا على النافذة الزجاجية للمقهى وتسبّب في كسر الزجاج، حيث سنرى كرسيين مرميين أمام اللاعب. من المحتمل أن هذا العمل يمثّل الطبقة العاملة البريطانية الغاضبة التي تطالب بمقعد على طاولة النخبة.

“استخدم بانكسي واحدة من أشهر اللوحات في العالم، لوحة الموناليزا، ولكنه حمّلها بقاذفة صواريخ على كتفها. ظهرت اللوحة لأول مرة في منطقة سوهو غرب لندن. منح بانكسي اللوحة إحساسًا قويًا فعلى الرغم من أن تعابير الوجه ظلت هادئة ولكن ثمة خوف يصاحب الابتسامة”

واستخدم بانكسي واحدة من أشهر اللوحات في العالم، لوحة الموناليزا، ولكنه حمّلها بقاذفة صواريخ على كتفها. ظهرت اللوحة لأول مرة في منطقة سوهو غرب لندن. منح بانكسي اللوحة إحساسًا قويًا فعلى الرغم من أن تعابير الوجه ظلت هادئة ولكن ثمة خوف يصاحب الابتسامة. يمكن قراءة اللوحة على أنها بيان حول كيف أصبح جميع المواطنين حتى اللطفاء مستعدين باستمرار للصراع.

في عام 2004 أنتج بانكسي كمية من الأوراق النقدية البريطانية المزوّرة من فئة 10 جنيهات إسترلينية لتحل محل صورة رأس الملكة مع وجه الأميرة ديانا. وفي زيارة لبانكسي عام 2010 إلى ديترويت بأميركا ترك بصماته هناك في عدة مناطق حيث وُجدت لوحة على إحدى الشوارع تصوّر طفلًا يحمل علبة من الطلاء الأحمر بجوار عبارة “أتذكر عندما كان كل هذا أشجارًا”.

دعم فلسطين

كما أثارت جدلًا عشر رسومات نفّذها بانكسي على جدار الفصل العنصري في فلسطين والتي كانت بمثابة رسالة إلى العالم عمّا يجري هناك. وفي عام 2017، بمناسبة الذكرى المئوية للسيطرة البريطانية على فلسطين، موّل بانكسي إنشاء فندق Walled Off Hotel  أو “الفندق المحاط بالأسوار”، في بيت لحم. غرف الفندق من تصميم بانكسي والفلسطيني سامي موسى والكندية دومينيك بيتران، وتواجه كل غرفة من غرف النوم جانبًا من جدار الفصل العنصري. ويضم الفندق لوحات لبانكسي ومعرضًا للفن المعاصر. وكما هي أعمال بانكسي المعبّدة طريقها بالسخرية، فإن كل غرفة في الفندق تحمل فكرة مختلفة، فإحدى الغرف مكتوب فيها “هذا الجناح مجهّز بكل ما قد يحتاجه رئيس دولة فاسد”، وفي أحد الحمامات جاكوزي له خزان مياه مثقوب برصاص الجيش الإسرائيلي، وغرفة أخرى فيها أسرّة كأسرّة ثكنات الجيش الإسرائيلي. 

وكان بانكسي قد أنتح العديد من الأعمال لدعم الفلسطينيين منذ زيارته الأولى إلى فلسطين عام 2005. وفي عام 2020 قدّم بانكسي ثلاث لوحات بعنوان “منظر على البحر الأبيض المتوسط 2017” لبيعها في المزاد العلني لتمويل مستشفى في بيت لحم. وقد جمعت اللوحات 2.2 مليون جنيه إسترليني. والأعمال عبارة عن لوحات من العصر الرومانسي لشاطئ البحر عدّل عليها بانكسي بإضافة معدّات قوارب النجاة وسترات النجاة البرتقالية في إشارة إلى أزمة المهاجرين إلى أوروبا. وقال بانكسي يومها: “غالبًا ما نُدفع إلى الاعتقاد أن الهجرة تشكل عبئًا على موارد الدولة إلا أن ستيف جوبز (مؤسس شركة آبل) كان نجل مهاجر سوري. آبل هي أكبر شركة مدرّة للأرباح في العالم، وهي موجودة فقط لأنهم سمحوا لشاب من حمص بدخول البلاد. وكان بانكسي قد رسم ستيف جوبز في عمل بعنوان “ابن مهاجر من سورية” حاملًا حقيبة ظهر وحاسوب “آبل”.

الحدث الأبرز الذي عزّز شهرة بانكسي كان المزاد العلني للوحته “فتاة البالون” وهي تصوّر فتاة صغيرة يتطاير شعرها ولباسها في الهواء، وتمدّ يدها صوب بالون أحمر على شكل قلب يطير. تمثل الإيماءة والبالون الأحمر رمزًا للطفولة والحرية. وكان قد رسمها على حائط في منطقة وست بانك في لندن عام 2002. ففي عام 2018 وفور انتهاء المزاد العلني الذي أقيم لبيع هذه اللوحة وفوز أحد هواة جمع اللوحات بها مقابل 16 مليون جنيه إسترليني تضاف إليها الرسوم البالغة 2.6 مليوني جنيه إسترليني، ووسط ذهول الحاضرين، أخذ الرسم يسقط بهدوء تدريجيًا من اللوحة إلى الجزء الأسفل منها وبدأ يتقطّع تلقائيًا بواسطة آلة مخصّصة للقطع، حيث تم تقطيع نصف اللوحة، وقد صرّح المسؤول عن الفن المعاصر والحديث في دار سوذيبز، أليكس برانتشيك: “إن ما حصل يشكّل الحدث الفني الأكثر ذهولًا في القرن الحادي والعشرين، وهو ما جعل هذا المزاد يدخل التاريخ”. اقتبس بانكسي عن بيكاسو عبارته: “الرغبة في التدمير هي أيضًا دافع إبداعي” وقال إنه أراد من هذا التلف الذاتي إحداث هزة قوية في عالم الفن للتعبير عن رفضه لتسليع الفن. ولكن هذا الحدث حقّق للّوحة ارتفاعًا هائلًا في سعرها حيث بيعت عام 2021 بـ25 مليون جنيه إسترليني بعد أن أُعطيت اسمًا جديدًا “الحب في سلة المهملات”. وكانت لوحة “البرلمان”، وهي لوحة رسمها بانكسي عام 2009 تظهر أعضاء البرلمان على أنهم قرود في مجلس النواب، قد بيعت عام 2019 في دار سوذبيز في لندن مقابل 9.9 مليون جنيه إسترليني.

وكان بانكسي قد حصل عام 2007 على جائزة أفضل فنان يعيش في بريطانيا التي وزّعتها قناة “أي تي في” البريطانيّة. وكما كان متوقعًا، لم يحضر بانكسي لاستلام جائزته.

في عام 2020 موّل بانكسي سفينة أُعيد تسميتها لتحمل اسم “لويز ميشيل” (نسبةً إلى فوضوي نسوي فرنسي) وتم طلاؤها باللون الوردي مع صورة لفتاة صغيرة تحمل عوامة أمان على شكل قلب، كما رغب بانكسي بتسميتها وطلائها، ومهمتها إنقاذ اللاجئين الذين كانوا يحاولون الوصول إلى أوروبا من شمال أفريقيا وعلقوا في وسط المياه الهائجة، وقد تم إنقاذ 89 شخصًا بينهم 14 امرأة وأربعة أطفال. وكان بانكسي قد أرسل إلى القبطانة بيا كليمب عام 2019 رسالة إلكترونية قال فيها: “أنا فنان من المملكة المتحدة وقمت ببعض الأعمال حول أزمة المهاجرين، ومن الواضح أنني لا أستطيع الاحتفاظ بالمال. هل يمكنك استخدامه لشراء قارب جديد أو شيء من هذا القبيل؟” وقد ظنّت القبطانة أن الأمر هو مزحة، لتبدأ مشروعها في عام 2020 معه لإنقاذ المهاجرين غير الشرعيين عبر البحار.

سينمائيًا، تم إنتاج أكثر من عشرة أفلام تسجيلية ووثائقية عن بانكسي شارك فيها إخراجًا أو حضورًا، مخفيًا وجهه، منها فيلم “الخروج عبر متجر الهدايا” Exit Through the Gift Shop (2010) من إخراجه وقد تم ترشيحه لجائزة الأوسكار لكنه لم يفز، و”الرجل الذي سرق بانكسي” The Man Who Stole Banksy (2010) من إخراج الإيطالي ماركو بروسيربيو، ويركز الفيلم على أعمال بانكسي في فلسطين وأبرزها عمل يمثّل حمارًا مرسومًا باللون الأسود بينما يقوم جندي إسرائيلي بفحص أوراقه، في إشارة ساخرة للأمن المشدّد الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، وفيلم “إنقاذ بانكسي” Saving Banksy (2017) من إخراج الأميركي كولن داي، وفيلم “البديل” The Alternativity (2017) من إخراج الإنكليزي داني بويل، وفيلم “بانكسي وصعود الفن الخارج عن القانون” Banksy and The Rise of Outlaw Art (2020) من إخراج الإنكليزي إيليو إسبانا Elio Espana، وغيرها العديد من الأفلام. وكان بانكسي قد نشر على موقعه فيلمًا وثائقيًا قصيرًا عن غزة في عام 2015 بعنوان “أهلا بكم في غزة” Welcome to Gaza يبيّن فيه الدمار الذي حلّ بغزة إثر العدوان الإسرائيلي عليها كما يبيّن الحصار المفروض عليها حتى من مواد البناء التي تم منع دخولها إلى القطاع من أجل إعادة إعمار ما تهدّم، ويبدأ الفيلم بعبارة “اكتشفوا وجهة جديدة للسفر هذا العام”.

“كتب بانكسي فوق جدارية “فتاة البالون” بالإنكليزية “يوجد دائمًا أمل”، وكأنها رسالة إلى اللبنانين محمّلة بِسِمات بصرية مشغولة بحب كبير وبإنسانية عالية، وكأن هذا الفضاء الذي وضعه بانكسي لنا في بيروت هو ملاذ للتحرّر من وطأة العيش واليأس والخروج ولو قليلًا من هذا العالم المتأرجح في الظلمة”

بالعودة إلى معرضه في بيروت، سنجد عشر جداريات رسمها بانكسي في فلسطين ولندن ومختلف أنحاء العالم، و60 لوحة، وقد قام فريق متخصص من متحف بانكسي بتجهيز هذه الأعمال في المعرض، ومنها جدارية “فتاة البالون”، وقد كتب بانكسي فوقها بالإنكليزية “يوجد دائمًا أمل” There is always hope ، وكأنها رسالة إلى اللبنانين محمّلة بِسِمات بصرية مشغولة بحب كبير وبإنسانية عالية، وكأن هذا الفضاء الذي وضعه بانكسي لنا في بيروت هو ملاذ للتحرّر من وطأة العيش واليأس والخروج ولو قليلًا من هذا العالم المتأرجح في الظلمة.

ومن الجداريات المعروضة جدارية “رامي الزهور” والتي يعود رسمها لأول مرة إلى عام 2005 في بلدة بيت ساحور قرب بيت لحم بفلسطين وتصوّر رجلًا يرمي باقة من الزهور. وسنقرأ خلف هذا الرجل بالإنكليزية “عندي حلم” I have a dream، كما جاء في ملصق المعرض. بينما كُتب على الحائط في المعرض كلمة “ثورة”، وكان بانكسي قد عبّر عن اللوحة “لماذا يجب علينا إلقاء القنبلة بينما يمكننا إلقاء الزهور؟”، وهي من الأعمال التي تحمل رسائل سياسية واجتماعية وكان يقصد بها بانكسي “السلام بدلًا من الحرب”، فالحرب تدمّر أحلام الشباب بمستقبل هادئ وجميل، ويقال إن بانكسي استوحى هذه اللوحة من قصيدة الشاعرة الإنكليزية جوديت هيل، “سلام السلام”: “حافظ على السلام مع أنفاسك … تذكر أدواتك: بذور الزهور، ودبابيس الملابس، والأنهار النظيفة”..

في مكان ما في المعرض، سنكون حاضرين في الضفة الغربية عند جدار الفصل العنصري مع الفتاة التي تحمل بالونات وتطير كأنها ستصل إلى ما فوق الجدار لتتخطاه، تمثيلًا لفعل الحرية وكسر الحواجز والارتقاء فوق كل ما هو عنصري. أيضًا في لوحة “الجنة” نرى الصبي الذي شكّل فرحه باللعب على رمال البحر فتحة في جدار الفصل ووراءه سماء زرقاء تبث السلام والهدوء. وعلى الجدار أيضًا حمامة بيضاء تحمل غصن زيتون في إشارة إلى الرغبة في السلام. سنرى أيضًا عمله “قتال الوسادة”، يصوّر فيه مقاومًا فلسطينيًا يلف رأسه بالكوفية الفلسطينية، وجنديًا إسرائيليًا، يتضاربان بوسادتين فيما يبدو الفلسطيني في حالة القوي والمنتصر بينما يجثو الإسرائيلي على ركبتيه. وقد رُسمت اللوحة لأول مرة في الضفة الغربية عام 2005، ثم أعاد بانكسي رسمها في فندقه أمام جدار الفصل العنصري ليكون من ضمن الجداريات في غرف الفندق. وهو يقدّمها الآن في معرضه في بيروت.

من الأعمال التي تحمل رسائل اجتماعية، عمل بعنوان “عشاق الموبايل” يصوّر لنا بانكسي العلاقات العاطفية في زمننا من خلال رسم ذكي، حيث نرى امرأة ورجلًا يتعانقان فيما يحمل كل منهما هاتفًا نقالًا ويتراسل مع أحد ما. وكان قد رسم هذه اللوحة عام 2014 في مدينته بريستول. إحدى لوحاته المعنونة “النحاس الطائر”، والتي كان قد رسمها لأول مرة في بريستول أيضًا عام 2003، تُظهر شرطيًا مسلحًا ويرتدي معدات مكافحة الشغب، وفي المقابل نرى ابتسامة على وجهه وعلى كتفيه جناحان صغيران لملاك. استخدم بانكسي هذه الجماليات المتناقضة في تجاور ممتع بين الأخلاق والتخويف. هناك أيضًا رسم لقرد في لوحة “اضحك الآن” وقد عُلّقت لافتة على أذنيّ القرد وتتدلى على صدره “تضحك الآن ولكن في يوم من الأيام سنكون مسؤولين” فيما تبدو قدما القرد كأنهما غير مثبتتين في فعل يوحي بعدم الاستقرار الذي سيأتي به المستقبل. عمل “باتاكلان” يصور امرأة محجبة حزينة وهو بمثابة تكريم لضحايا هجمات المتشددين الإسلاميين على مسرح باتاكلان في باريس عام 2015.

في المعرض أيضًا، أحد أعماله التي اشتغل فيها على تعديل اللوحات العالمية، لوحة “حاصدات بقايا السنابل” لرائد الواقعية الفرنسية جان فرانسوا ميليه. في اللوحة الأصلية ثلاث فلاحات يلتقطن ما تبقى من محصول القمح بعد الحصاد، لكن بانكسي اقتطع إحدى هذه الفلاحات من الصورة وكأنه يحرّرها من حدود اللوحة القماشية، وثبّتها على طرف اللوحة جالسة بهدوء وتحمل شرابًا في يدها وقربها سنابل طويلة من القمح. وكأنه يجعلنا ننظر إلى الشخصية من جانب آخر أو ما يمكن أن تكون قد آلت إليه في زمننا هذا. أيضًا لوحة “زنابق المياه” للرسام الانطباعي كلود مونيه وتتضمن اللوحة الأصلية جسرًا فوق بركة من المياه تحتوي على زنابق، وقد عمل بانكسي على تعديلها تحت عنوان “أرني مونيه” لتشمل المخلّفات الحضرية مثل القمامة وعربة التسوق التي تطفو في مياهها العاكسة ومخروط مرور برتقالي. وقد بيعت اللوحة بـ 7.5 مليون جنيه استرليني عام 2005 وفق ما أعلنت دار سوذبيز Sotheby’s للمزادات. وكما عبّر بانكسي فإن هذه اللوحة تعكس استهتار المجتمع بالبيئة إزاء الإسراف التبذيري والنزعة الاستهلاكية. يقول بانكسي عن عمله هذا: “تعكس اللوحات المخرّبة الحياة كما هي الآن. الضرر الذي لحق بالبيئة لا يقوم به فنانو الغرافيتي ولا المراهقون السكارى، ولكن الشركات الكبرى. بالضبط هم أولئك الأشخاص الذين يضعون صورًا ذات إطار ذهبي للمناظر الطبيعية على جدرانهم ويحاولون إخبارنا بكيفية التصرف”.

وفي المعرض أيضًا لوحات “منظر على البحر الأبيض المتوسط 2017” الثلاث التي بيعت في المزاد العلني لتمويل المستشفى في بيت لحم. هنا نسخ عنها أيضًا، وكما ذكرنا فهي لوحات من الفن الكلاسيكي لشاطئ البحر لكن بانكسي أضاف إليها سترات النجاة البرتقالية في إشارة إلى المهاجرين الذين يموتون في عرض البحر فيما يقذف الموج ستراتهم نحو الشاطئ. ولا ينضب خيال بانكسي فها هو يقترب من الصحون الطائرة في عمله UFO المشغول بالزيت على كانفاس، الذي كان قد أنتجه عام 2006 وهو أيضًا من كلاسيكيات عصر النهضة لكن بانكسي أضاف إليه الصحون الطائرة في تركيبة فنية مدهشة يتداخل فيها القديم بالحديث.

تمس تجربة بانكسي كل شيء في حياتنا، وإن لم يكن قد فعل ذلك بعد، فمن المتوقع أن يحدث ذلك لاحقًا. فنان موهوب هو بانكسي، وبالتأكيد لسنا مع ذلك الصحافي الإنكليزي الساخر تشارلي بروكر الذي كتب في عموده بصحيفه الغارديان البريطانية: “عمل بانكسي يبدو ذكيًا بشكل مذهل للأغبياء”. بانكسي فنان ذكي وكل عمل من أعماله يبدو لنا كقصيدة، كفعل بلاغي يحدّق بالحقائق ويفلشها لنا في فن من الكوميديا السوداء مناهض للحرب وللظلم وللسلطات الحاكمة وللرأسمالية، ولكن ثمة أيضًا ما سيبقى في الذاكرة هو تلك العبارات الموزعة على جدران المعرض: “أي شخص يؤمن بعقوبة الإعدام يجب إطلاق النار عليه”، و”لم يصغِ إليّ أحد حتى أنهم لم يعرفوا من أنا”، “الجدار سلاح كبير جدًا”، “حقوق التأليف والنشر هي للفاشلين”، “بعض الناس يمثّلون السلطة دون امتلاك أي سلطة خاصة بهم”، “أريد العيش في عالم مصنوع من الفن، وليس مزيّنا به فقط”، وعبارات عديدة أخرى، كل عبارة وكل لوحة هي قصيدة، هي رسالة، هي وجه لواقع ما، شاهد على حقيقة ما، وهي ما سيتبقى في الذاكرة.

مراجع مختارة:

https://www.bbc.com/news/uk-england-norfolk-61968001

https://www.streetartbio.com/artists/banksy/

https://www.abc.net.au/news/2021-10-15/shredded-banksy-work-love-is-in-the-bin-sets-record/100541176

ضفة ثاالثة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى