منوعات

“توهمني المسلسلات السورية القديمة بحضور أصوات عائلتي”… محاولة التأقلم مع غياب الوطن/ اليس سبع

يختلف تعريف الغربة لدى كلّ منّا بحسب نوع الاغتراب الذي يعيشه والمرحلة التي وصل إليها، وبالرغم من ربط معنى هذه المفردة بشكل أساسي إن بحثنا عنها في المعاجم اللّغوية بالمكان، أي الغربة الجغرافية، فقد نكتشف مع مرور الوقت أن الأشكال الأخرى من الاغتراب أكثر بشاعةً وثقلاً.

نُعتبر كسوريين جميعنا مغتربين عاطفياً عن الماضي، سواء في الداخل أو في الخارج، وقد تحدثنا عن الغربة منذ بداية الحرب إلى اليوم حتى بدأت هذه الكلمة بالتوقف عن إثارة فضولنا أو عاطفتنا، لأننا اختبرناها شخصياً أو سمعنا عن جميع جوانبها ومكنوناتها، ولم يتبقَّ سوى اكتشاف طريقة للتخلص منها، أو الهروب المؤقت على أقل تقدير.

احتضنتنا ألمانيا كلاجئين وطلاب وعاملين مغتربين، حين لفظتنا الحرب بعقد لا تُعدّ ولا يسهل الشفاء منها، لا تخلو من مسببات القلق والكثير من الاضطرابات التي تضاف لما نشعر به من غربة، خاصّة حين تدخل عوامل البيروقراطية والرتابة اليومية إلى حياتك وتُجبر على التعامل معها فجأة، إلى جانب عوامل أخرى خاصّة بك كأجنبي وسوري، في دولة لا تبدو نسبة العنصرية فيها قليلة.

إن كنت من المقيمين في ألمانيا فلا بد أنك سبق أن قلت أو سمعت عبارة “مع أنه ما عم أعمل شي، بس ما عندي وقت لشي”. سبّبت لي هذه العبارة إحباطاً كبيراً وانخفاضاً في الثقة لمدة طويلة، إلى أن تكررت على مسمعي من العديد من الأصدقاء العرب، فعانقني كالعادة الشعور بأني لست وحيدة، وبدأت بتقبّل حقيقة أن الحياة في ألمانيا تسبب ضغطاً نفسياً وإرهاقاً لا يتعلق بقدراتي المحدودة أو يعبّر عن فشلي في التأقلم.

في الغربة تبحث عما يربطك بالوطن، مهما كان الوطن بالنسبة لك، تبحث عنه في التفاصيل الصغيرة والأمور البسيطة محاولاً التوفيق بينها وبين ما تحتاج القيام به من عمل دون الانفصال تماماً عن الواقع.

تلعب المسلسلات الدرامية والكوميدية السورية القديمة دوراً أساسياً في ربطنا مع الماضي، بما تصوره من أحداث تتشابه مع حياتنا السابقة وما تكوّنه كجزء من الروتين المريح المتمثل بـ”قعدات العيلة”.

فمثلاً، يتجاوز مسلسل “الفصول الأربعة” كونه مسلسلاً عادياً ليشكّل حالة شعورية يتفق عليها معظم السوريين. وأعتقد أننا نمتلك في الخارج أسباباً مضاعفة للتعلّق بهذا العمل والعديد من الأعمال الدرامية المشابهة عمن لا يزالوا في الداخل السوري.

“أرغب بسماع صوت مريح أفهمه بسهولة، ولا أحتاج لأوقظ جميع حواسي لمتابعته”. هكذا عبّرت إحدى صديقاتي عن سبب تكرارها لمسلسل “عيلة سبع نجوم” للمرة الخامسة منذ وصولها ألمانيا.

خلال الصباح تستنزف ساعات الدوام طاقاتنا ويستولي القلق على ما يمكن أن يتبقّى منها، مع أن لا فارق كبيراً بين يوم وآخر في حياتنا هنا، فالحياة في ألمانيا تجعلك آلة دقيقة ومنضبطة في الاستيقاظ والخروج وتعبئة الاستمارات وإرسال الأوراق البريدية، وتكرار هذه العملية في مواعيد ثابتة مع خوف مستمر من أي تأخير أو تقصير، يحولك إلى آلة بقلب ينبض كما يقول هاني متواسي في أغنيته (الرجل الآلي): “نفس اليوم كل يوم بحياة الرجل الآلي، بقلب ورئتين، أنا وين ما حدا حكالي”.

وهذا ما يفسر بحثنا عن المسلسلات المألوفة بتصويرها للحياة اليومية الاجتماعية والمعروفة الأحداث والنهايات، على نقيض واقعنا الذي يصدمنا دائماً بنهايات وخيبات جديدة بالرغم من تكرار تفاصيله.

لم تتوقف الدراما السورية خلال السنوات الأخيرة عن إنتاجها الغزير، لكنها ارتبطت بمعظم أعمالها بأحداث الحرب أو آثارها التي هربنا منها، لذا لم ننغمس لا أنا ولا أيّ من معارفي بعمل جديد كما فعلنا مع الأعمال القديمة.

بل أننا بعد اكتشافنا هذه العادة المشتركة بدأنا نتبادل أسماء المسلسلات القديمة التي نفضلها ونروي قصصنا عن الأوقات التي نقضيها في المشاهدة، وعن العلاقة التي تربطنا بالشخصيات، لا بل نتنافس ونتباهى بحفظنا للعبارات والأحداث. نشاهدها أثناء الطبخ والأكل والتنقل بالأخبار بين فيسبوك والانستغرام، ودون هذه الأشياء جميعها. أُبقي الحلقات تعمل على شاشة اللابتوب بصوت منخفض أحياناً أثناء كتابة الايميلات أو ملء الأوراق البريدية، ومرات قليلة حين يستعصي عليّ إكمال أحد المقالات في هدوء.

أعيش وحدي منذ أكثر من خمس سنوات في ألمانيا، وقد أعتدت على الكثير من الأمور وأستلطف ميزات هذه الحياة وأقدّرها، لكنني ما زلت أفتقد وجود من أحدّثه باللغة العربية بعد قضاء الوقت في محاولات للتعبير عن نفسي طوال النهار بالألمانية.

توهمني إعادة حلقات الفصول الأربعة بحضور أصوات عائلتي وأصدقائي بين جدران غرفتي الصغيرة. ما تقدمه لي المسلسلات السورية القديمة لا يمكن أن تعوضه أي من أعمال نتفليكس الشهيرة، فبعد محاولاتي لإيجاد مسلسل أو فيلم أقضي به سهرتي أصل دائماً للنهاية ذاتها بالعودة إلى ما يتطلب أقل قدر ممكن من التركيز ويشتّت أكبر قدر من الأفكار القلقة.

لا نعلم إلى أي حد يمكن أن تتمادى حاجتنا للشعور بالأمان وامتلاك وطن، لكننا لن نتوقف عن محاولة التأقلم مع غيابه أو إيجاد بدائل بثمن أقل من أرواحنا. ولن نعلم نحن أبناء هذا الجيل إن كان القلق والإفراط في التفكير سمتين مميزتين لجيلنا، أم أنهما لعنة الحياة على الجميع، لكننا كما نجحنا سابقاً بالوصول إلى حلول أو أشباه حلول سنواظب على التشبث بها وخلق أشكال جديدة منها.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى