خياطو حلب: الشغف الذي يندثر/ محمد أمير ناشر النعم
كان من أمتع المشاهد التي أرى الشغف في عيون أصحابها مشهد الخيّاط البيتوتي وهو يلبّس الزبون الجاكيت في البروفة الثانية. لماذا البروفة الثانية؟ لأنّ معالم نجاح القطعة تكون أقرب إلى الاكتمال وأكثر بدواً في الصلاح من البروفة الأولى التي تشبه البناء وهو في مرحلة صبّ الأساس، بينما البروفة الثانية تكون أشبه بالبناء وقد اكتملت معالمه وأصبح في مرحلة الإكساء النهائي. في هذه اللحظة تلمع عينا الخيّاط فرحاً وبهجة، وترتسم البسمة على كامل محياه وهو يرى نتيجة ما عملت يداه، فيخالطه شعور بالزهو منبعث من الرضى بإتقان الصنعة، ويعزّز ذلك إعجاب الزبون المصحوب بعبارات الامتنان ومدح الأنامل التي خاطت وأبدعت.
كانت حلب تضج بهؤلاء الخيّاطين البارعين المتقين المتقنين، وكان أشهرهم عبد الوهاب بدّور، وكانت قطعته التي يخيطها شديدة الأرستقراطية، ولذلك كان زبائنه من أغنياء حلب ومريّشوها، وكان محله في منطقة (ورا الجامع) على بعد عدة محلات من محل فريج، يليه (الحزواني) وكان محله عند جامع العبّارة، وكان هذا الخيّاط المتقن مختصاً بالمسؤولين، وكما تعلمون فإن آليات الشهرة عند كل طبقة تبتدئ من حادثة معينة، ثم تنتشر كالمتوالية الهندسية، فما إن يسأل مسؤول أخاه في المسؤولية عمّن خاط له هذا الطقم، وما إن يسمع اسم الخيّاط حتى يبادر إلى تكرار التجربة عنده، وهكذا تتحق مقولة: (إذا أسماك أغناك).
أما عبد المجيد البكري فكان محله جانب فلافل حلب في فم سوق خان الحرير، وكان هذا الخياط يتميّز عن بقية زملائه بأكاديميته، حيث أخذ دبلوم من ألمانيا وإيطاليا، كما أخبرني بذلك ابنه السيد وضاح، ورأس جمعية الخياطة لفترات طويلة بموافقة الخياطين. وكان يشاركه في هذه الأكاديمية الحاج توفيق مواصلي الذي ألّف كتاب تعليم الخياطة والتفصيل منذ عام ١٩٦٩، ويخبرنا ابنه الأستاذ منذر أنه حصل على خمس شهادات دولية في فن الخياطة من ألمانيا وأميركا وإسبانيا وتركيا وإنكلترا، وكان مختصاً بتفصيل الأطقم والبردسونات الريكلان والأجسام المشوهة وقوالب التفصيل لشركة عبجي للألبسة الجاهزة كانت من صنعه، وتتلمذ على يديه خياطون كثر وعملوا دورات بنقابه الخياطين في منطقه بوابة القصب، وحصلو على شهادات من النقابة تخولهم فتح محلات خياطة.
عمل والدي بالمهنه من عام ١٩٣٨ الى عام وفاته ١٩٨٩. رحمه الله ورحم زملائه بالمهنه.
وكان الحاج أحمد مركّن من مشايخ هذا الكار، وقد افتتح في نهاية التسعينيات محلاً لبيع الملابس الجاهزة في شارع إسكندرون، وعلى يديه تعلم الحاج عبد الله شويحنة، خياطي الأثير، الذي قدّم لي طقم العرس هديّة قماشاً وخياطةً، وكان من ديدني على مرّ السنوات الطوال أن أخيّط لديه طقمين في السنة: شتوياً وصيفياً. وكانت كلفة الطقم في التسعينيات وما بعد في حدود الخمس عشرة ألف ليرة، ذلك أنني كنت من المدللين لديه تجمعنا الصداقة أكثر مما تجمعنا علاقة رب المصلحة بزبونه.
لكن منذ نهاية الستينيات بدأ بعض خياطي الطقم الرجالي يتوسعون ويكبّرون ورشاتهم وينتجون الأطقم الجاهزة من المقاس الولادي إلى المقاس الرجالي. واشتهر في حلب يومها محلان قريبان من بعضهما في منطقة (ورا الجامع) قرب مكتبة عجان الحديد، الأول محل العبه جي، وكان أول طقم ألبسه من عنده وأنا لم أتجاوز التاسعة من عمري، وقريباً منه محل (الفريج) وكان صاحبه سريانياً وأصله من القامشلي، وقد اشتهر في حلب سرياني آخر من القامشلي وتربع على سدة الشهرة في بيع الملابس النسائية وهو جورج لحدو، حتى إنني عندما كنت صغيراً كنت أقول كلما علّق أحد أقاربي على ملابسي الجديدة: إنها من عند جورج لحدو. على سبيل الافتخار لأن اسمه كان الماركة الأفخم في حلب، وما كنت أميّز في تلك الآونة أنه مختص بالملابس النسائية.
وكان في العبّارة أمام سرفيس الميدان الخيّاط الأرمني مورديان، وكان خيّاطاً بارعاً، لكنه التفت بعد مدة إلى الشغل الجاهز، وترك الخياطة البيتوتية.
تفتقد الخياطة الجاهزة إلى الشغف، لكنها تجد في الربح تعويضاً عنه. وقد ينساق بعض الخياطين إلى ذلك وهذا حقهم، لكن بعضهم الآخر يأبى أن ينزلق إلى منحدر الشغل الجاهز، وهو المتربع على ذروة سنام الخياطة البيتوتية بكل ما يكتنفها من إبداع شخصي خاص، وبكل ما يحفها من علاقات مع الزبائن تنقلب في كثير من الأحيان إلى علاقات شخصية. في حين تنقطع العلاقة بين الخيّاط والزبون في الخياطة الجاهزة. حيث يُنتج الخياط بضاعته للزبون المحتمل المجهول. المجهول في كل شيء بالنسبة إليه.
ولا يجوز ههنا أن أغفل الحديث عن عبد اللطيف قدسي ابن خالتي الذي أكنّ له ودّاً وتقديراً عاليين، وكان زوج خالتي الحاج سالم قدسي قد آنس من ابنه حب هذه المهنة فأراد له أن يبدع فيها، وأن يدرسها دراسة أكاديمية، فأرسله أولاً إلى مدينة (بيت لحم) في بداية الستينيات قبل أن يدنسها الصهاينة، ومكث فيها مدة سنة أو سنتين، لست متأكداً، ثم أرسله بعد ذلك إلى إيطاليا ليدرس تصميم الأزياء، وعاد بعد ذلك وافتتح مصنعاً في بيروت، ومع بداية الحرب الأهلية اللبنانية أغلق مصنعه، ونقله إلى حلب، وكان من أوائل من أنتج بنطال الجينز في مدينة حلب، وكان ذلك البنطال يُعد الصرعة الكبرى في ملابس منتصف السبعينيات، وكما أرسله أبوه إلى إيطاليا ليدرس تصميم الأزياء أرسل ابنه فادي للمهمة ذاتها لتشكيل إرث عائلي وللمحافظة عليه.
طبعاً لا يجوز أن نغفل ذكر بعض الخيّاطين النسائيين، وإلا جاء شقنا مائلاً يوم القيامة. إذ العدل يقتضي منا أن نذكرهم أيضاً، وربما كان الخيّاط جاك عقّاد أكثر واحد متمكن في المهنة، وخرج من تحت يديه العديد العديد من معلمي الكار، وكان خيّاطاً أكاديمياً يعطي دروساً في التفصيل، وكان المرحوم سالم بيرقدار من أهم خياطي الملابس النسائية في حلب، كانت معلمته يهودية، ثم اشتغل عند المعلم محمد قوجة، وكان محله في العزيزية خلف جامع العبارة، وعلى يديه تخرج صديقي الحاج عمر شويحنة وهو أخ الحاج عبد الله، وكانت هذه المهنة بيد اليهود، ثم انتقلت إلى المسيحيين، ثم إلى المسلمين، وكأن هذه المهنة تحكي في تاريخها في مدينة حلب تاريخ هذه الديانات الثلاثة من حيث الترتيب. ثم انقرضت اليوم وماتت ولم يعد هنالك من خياط نسائي سوى بقايا أنفس تحشرج. فقد طغت الملابس الجاهزة، وخنقت بسيلها معظم الخياطين النسائيين الذين انصاعوا لذلك السيل وركبوا أمواجه فمنهم من عام ونجح ومنهم من غرق.
والمقصود بالخياط النسائي هو الخياط الذي يقوم بأعباء جهاز المرأة (من طق طق إلى السلام عليكم)، وكان آخر خياط عرفته ينجز هذه المهمة الخياط الصديق أبو عادل شويحنة، وهو ابن عم الخياطين عبد الله وعمر، وكانت ورشته في حي الزبدية. تأتيه العروس فيخيط لها جهازها كله: فساتين، وتنورات، وبلوزات، وملابس داخلية، وفستان العرس أيضاً.
طبعاً لا يفوتنا هنا أن نغفل الخيّاطات في الحارات، ففي كل حارة كانت هنالك خياطة مشهورة تخدم أبناء حارتها والحارات المجاورة، ووُجدتْ كذلك شغّالة الصوف، المختصة بحياكة الكنزات وبنطلونات الصوف، وكانت معظم ماكينات الصوف من ماركة سنجر. كانت الزبونة تذهب إلى سوق كباكيب الصوف في (الجديدة) حارة الصليبة، وتشتري من سوق الصوف ٧ كبكوبات في الأعم الأغلب، بعد أن تختار اللون المناسب، وتأتي بها إلى شغيلة الصوف، لتخرج هذه الكبكوبات كنزة أو بنطالاً.
كانت أشهر خياطات حي قارلق سيدة من بيت فستق، ربما كان اسمها سليمة فستق، وتخرج من عندها السيدة أم علي فستق، وكانت خياطة متمكنة، لكن الخياطات لم يتطورن، ولم يتحولن إلى نمط الشغل الجاهز، لأن ذلك خارج مكنتهن، وكان الخياطون النسائيون يلمزون من جانب الخياطات النسائيات ويقولون عنهن: “إنّ خياطتهنّ بالشبر”. أي: إن قياسهن غير مضبوط وغير دقيق، في حين إن الخياطين أشد دقة، فهم يخيطون بالمازروة، أي: بالسنتيمتر. وهذا الوصف على الرغم من مبالغته فإنه يشير فعلاً إلى أن الخياطين النسائيين كانوا أكثر مهنية وأكثر براعة من الخياطات.
لقد مات ذلك الشغف الذي كنا نراه في عيون الخياطين لأن المهنة ذاتها ماتت. ماتت من جهتين، من جهة تحولها إلى صيغة الخياطة الجاهزة، فأصبحت علاقة الخياط مع الماكينة فقط، وفقد الخيّاط العلاقة مع الزبون فقداناً نهائياً، ومن جهة تقسيم العمل، فلم يعد هنالك خيّاط شامل، سواء في عالم الخياطة الرجالية أو النسائية. أما الكارثة الأكبر فهي في معامل الخياطة الكبرى، حيث يقضي العامل أيامه ولياليه في خياطة جزء واحد فقط، سحّاب. أو صنّارة كُم، أو تعلوقة حزام. أو جانب من الياقة. ولا يجيد غير ذلك. قطعة تتعاورها عشرات الأيدي، فتخرج متينة قوية جميلة لكن بلا روح، وتنتجها عشرات الأيادي لكن بلا شغف.
…
ملاحظة: أخذت صورة كتاب قواعد التفصيل الفني من تعليق لابن المؤلف من صفحة (حلبية أنتيكا).