نصائح من حسن بلاسم لتجاوز برد الشمال/ عمار المأمون
لا يوجد الكثير من المقالات أو القراءات النقدية لرواية حسن بلاسم الأخيرة “قانون سولولاند”، التي صدرت بالفنلندية، وتلتها النسخة العربية عن دار المتوسط، وكأنها لم تحظ باهتمام القراء العرب، أو لم تقع تحت يد مراجعي الكتب (وأنا منهم)، فكل ما هو منشور حولها يُصنف كـ”أخبار”، علماً أن إحدى الصحف الفنلنديّة قالت: “يجب فرض الكتاب كقراءة إجبارية في كلّ المدارس وفي البرلمان وفي دائرة الهجرة، وعلى القراء أن يخضعوا إلى امتحان بموضوع محتوياته”.
البحث عن عنوان الرواية واسم المؤلف على غوغل لا يوصل لنتيجة؛ مجرد أخبار عن صدورها، بعكس ما يحيط بكتب بلاسم من ضجيج وجدل. وهذا هو الملفت. هذه الرواية تشير من الصفحة الأولى على لسان الراوي أنها مكتوبة لأجل “الذين لم يولدوا بعد، لاجئي الحروب والفقر والمناخ المستقبليين”، ويتابع الراوي من سجنه قائلاً: “أكتب من أجل تسوية الحساب مع أولئك المقنعين في هذه الحفلة التنكرية التي تدعى حقوق الإنسان. أكتب كي أدنّس رايات العنصرية التي ترفرف فوق مدن الشمال القاسي، الأناني والمعتم”.
الموقف الساخر والساتيري من “الإنسان الأبيض” البارد، أي الفنلندي في هذه الحالة، يمتد طوال الرواية أو النوفيلا (النسخة الفنلندية من الكتاب تحوي حكاية ثانية لم تترجم للعربية بعد، وهي “إلياس في بلاد داعش-Elias in Isisland”). نحن أمام غضب شديد من العنصرية والتعالي الأوروبيين بسبب مفارقة الاستقبال-Hospitality، فدول الشمال تحتضن اللاجئين وتؤمن لهم “شروط الحياة”، لكنها في ذات الوقت تحولهم إلى فئران تجارب لتغذية وطنية براغماتيّة وتفوق هشّ، تاركة اللاجئين أسرى الطبخ لاستعادة “طعم” الوطن المفقود.
نحن أمام نص يمكن أن ينتمي إلى المذكرات، أو نصوص الاعترافات، فالراوي الذي يكتب من السجن، المُحب للحشرات خصوصاً الجراد، سبق له أن ألف كتيباً صغيراً عنها في العراق، ولكن لم ينل شهرةً أو اعترافاً، أما بعد الجريمة التي ضجت بها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في فنلندا، فقرر الكتابة مخاطباً أقرانه، اللاجئين، المهاجرين، الغرباء، كاشفاً لهم عمّا تخفيه “أسعد المدن” وراء وجهها الناصع.
نجد الرواية أمام نموذجين من المهاجرين؛ الأول هو اللاجئ المثالي، المندمج، دافع الضرائب، مُتحدث اللغة، من يعرف طعام البلاد وأنواعه، ذاك الذي خاض علاقات جنسية مع “البيض” لإشباع رغبتهم باستكشاف شهوانية الشرقيّ، حاصل على الجنسية، ويمتلك كلَّ حقوق المواطنين. أما النموذج الثاني فهم اللاجئون الجدد “المحتجزون” في المخيمات البعيدة في قرى لم تر أجنبياً منذ أن استقر فيها أول راع للغنم قرر التمتع بمشهد المروج الخضراء؛ أولئك الذين ما زالوا يختبرون صراعات إدارية وفكرية تتعلق بالبلد الجديد، طارحين أسئلة كــ: هل نحافظ على عاداتنا؟ هل من حقّ الحارس شتمنا؟ ألا يحق لنا توكيل محامٍ؟ لم يظنون أننا جميعاً متحرشون؟
هذه النماذج تتقاطع مسيرتها مع مراحل تطور الجراد: البيضة، الحورية، الحشرة الكاملة، وفي كلِّ مرحلة تكتشف شأناً جديداً، وحقيقة مفادها أنهم ليسوا في أوطانهم، هم في أقفاص عالية الجودة، لأن حرقهم غير إنساني.
لكن ما هي الحكاية؟ لا يمكن أن نلخصها ببساطة. لكن يمكن القول إن اللاجئ المثالي، صاحب الجنسية الفنلندية، وجد نفسه في فخ عنصري مع لاجئين جدد؛ فخ كاد يودي بحياته في منزل إحدى العجائز الفنلنديات التي تريد التعرف على “الغرباء”، لكن بعد أن رأى هذا (المُندمج تماماً) من يعرفهم غارقين بدمائهم، قتل التي دعته وصديقها، ونظف المنزل من بعد وجبة مرعبة من الطعام العراقي التقليدي المحترق (أو عشاء الاندماج)، وسلّم نفسه للشرطة.
لماذا كل هذا العنف؟ لأنهم ببساطة عنصريون، وما علينا سوى أن نغذي كراهيتهم بكراهية أكبر، لندع كوابيسهم “عنّا” تلتهمهم؛ تلك التي يخفونها، حسب الرواية، بقانون “يانته”، بوصفه يختزل أسرارَ سعادة بلدان الشمال. هذا القانون مُقتبس من رواية “لاجئ يشرع بطريقه” لإكسيل ساندومس، المنشورة عام 1933. لكن هذه الأعراف و”الكودات” الأخلاقية ليست إلا واجهة، ما تلبث أن تتلاشى مع أسطورة الشمال السعيد بعد أن يختبر الغريب الحياة “معهم”، لتظهر بعدها سخرية بلاسم من أساطير أوروبا و رموزها جميعاً، مستذكراً تاريخ تلك البلدان “السعيدة”، التي يخنقها “أخطبوط الفوبيات”، والبراغماتية المفرطة في لاإنسانيتها، والتي نتجت عنها قوانين جديدة، مختلفة عن تلك السابقة، كتبها الراوي في السجن، حانقاً لكن مرتاحاً، إذ حقق أحلام كلِّ اليمين العنصري، ارتكب جريمة من وجهة نظرهم، لا مبرر لها سوى دود الشرق الذي ينخر رأسه. وهناك في الزنزانة كانت القوانين الحقيقة :
1- إياك أن تظنّ أنك ستصبح واحداً منّا.
2- لا تعتقد أننا سنشعر يوماً بالأمان تجاهك.
3- لا تفكّر أنك لو تحدثت لغتنا وأحببت قيمنا، ستكون ضيافتك من دون شروط.
4- لا تتوهم أنك ستضيف لثقافتنا النقية أي جديد.
5- لا ترتكب أي خطأ، فعقابك سيكون مضاعفاً.
6- لن تتفوق أبداً على عرقنا الشمالي الأبيض.
7- لن تحتال علينا بثقافتك الشيطانيّة.
8- ستبقى أضعف منا مهما فعلت.
9- لن نغفر لك أبداً اقتحامك حدود بلادنا.
10- لا تعتقد أننا نكترث حقاً لماضيك أو حاضرك أو مستقبلك.
من يهتم “حقيقة” باللاجئين؟
من الصعب الإجابة عن السؤال السابق بسبب اختلاف تعامل البلدان الأوروبية مع الوافدين الجدد، لكن هناك نماذج لا يمكن إنكار وجودها؛ هناك الشاب الذي هبط عليه الحسّ الإنساني وأراد مساعدة الغرباء (يزداد اهتمام هذا الشخص باللاجئين إن كانوا ذوي أصول عربيّة)، لكنه يختف بمجرد حصوله على درجة الماجستير، أو يتحول إلى رب عمل حين يحصل على تمويل لفتح مؤسسة إنسانيّة.
هناك أيضاً من يريد/تريد اكتشاف الآخر الغريب، وبصورة أدق، اكتشاف جسده والتباهي به كعلّاقة مفاتيح جديدة، ثم نسيانه والحديث عنه لاحقاً بوصفه مغامرة. وهناك الموظفون الأشد تعاسة، ذوي الدخل المحدود. وهناك المدهوشون، المتقاعدون عادة، أصحاب الرقة المفرطة والجمود أحياناً، من يستمعون لأوامر البابا بفتح أبوابهم للاجئين، أو استقبال بعضهم في بيوتهم، مدللين دهشتهم بأن هؤلاء أيضاً، أي اللاجئين، يعرفون السينما والمسرح والكتب.
كل الشخصيات السابقة نرجسية حد العمى، وكلهم حاضرون في رواية بلاسم. ولكن، كلُّ هؤلاء لا يعرفون أنه لا توجد “تجربة تضاهي الهجرة قسراً غير تجربة موت شريك حياة، أو فقد أمٍّ لطفلها في حادث مفاجئ”، أما اللاجئون، “فمتفرجون متهمون” عالقون ضمن دوامة الأسئلة التقليدية: من أين أنت؟ لماذا تركتَ بلدك؟ هل تحبّ الشتاء؟ أنت من منطقة حارّة لم تتعرق الآن، الحرارة لا تتجاوز الـ30؟
تحوي الرواية كل ما نتداوله سرّاً وعلناً عن عنصرية البيض؛ كلُّ شيء موجود بوضوح وفجاجة دون مواربة، وإن كنا نحن الجراد الذي يلتهم طعامهم وأجسادهم، فالحل حسب الرواية هو أن نغذي كراهيتهم بكوابيس الرعب والخوف، لأن المشكلة فيهم أيضاً، في قيمهم وأخلاقهم وتعاليهم. فلندلّلْ كراهيتهم لنا بانتظار أن تلتهمهم، وتستبدل بياضهم بعفن يذيب وجوههم.
لا نتبنى هنا موقفَ بلاسم الساتيري، ولكن أثناء قراءة الرواية، كلّ واحد منا، نحن الغرباء، مرّ بموقف أو طرح عليه سؤال جعله كالمعلّق في الهواء، على بعد ميليمترات من رأس الخازوق الذي يتنفس على بوابة شرجه، سائلاً نفسه: ألم يكن الموت في بلدي أرحم من هذه الكراهية المبطنة؟ الجواب لا، لكنه أكثر حفاظاً على الكرامة.
رصيف 22