أعزائي عمار وليلى/ مراد الشواخ
لا أدري ما هي الظروف التي دفعتكم للعودة إلى منشوري الأول ولا أدري كم أعماركم الآن عندما تقرأونه.
عندما يعود أحدكم بحسابي لغاية المنشور الأول فغالباً أنك ستكون في ليلة ما لا تستطيع فيها النوم إما بسبب القلق أو أنك -للأسف الشديد- ورثت مني الأرق.. أسوأ ما قد يورثه أب لأبناءه.
عندما تنتهي من قراءة منشوري هذا وتذهب للتعليقات ربما ستجد من يضحك ومن يعتبر هذا مبالغة في (الدراما).. لا بأس، هؤلاء أصدقائي وأنا مثلهم، نحن نقتات على السخرية في أشد لحظاتنا كآبة وعاطفية.
نحن -معشر الرجال- نعرف أن كتمنا لأحزاننا يقتلنا ببطئ ونعرف أن بوحنا بهمنا سيخفف عنا ولكننا لا نفعل ذلك، لا أعرف لماذا.. ربما كي لا تهتز صورتنا المثالية النمطية عن الرجل الخارق الصلب الذي لا يتأثر بعواطفه وحزنه و”من هالكلام الفاضي”.
أبي كان هكذا وأعمامي وأخوالي وأصدقائي وأنا كنت هكذا قبل أن أقرر أن أكتب لكم الآن لأني أعتقد أن ما اكتبه لربما سيكون قيماً لكم يوماً ما.
في الحقيقة هذا ليس حسابي الأول على فيسبوك وليس منشوري الأول لقد أُُغلقت الكثير من حساباتي كان لدي الكثير من الحسابات التي تذخر بالأصدقاء والمتابعين ومنشورات ساخرة أو حاقدة ضد الظلم والعنصرية والنظام السوري وروسيا وإيران وحزب الله وداعش والقاعدة وريال مدريد.
كان لدي بعض المنشورات النادرة التي تجاوزت الألف إعجاب ومئات المشاركات والتعليقات وكانت كلها بلا استثناء منشورات تنعي شهداء.
والدكم “ناع جيد” هذا ما كنت أوصف به حتى أن مرة صديقي المقاتل والمصاب لمرات عديدة حتى فقد أصابع يديه قال لي بثقة وفخر وهو يشاهد منشوراتي بهاتفه بأنه سيحصل على نعوة عظيمة مني عندما يستشهد فضحكنا كثيراً حينها.
رغم أن الموت بقي حقيقة مرعبة في سر كل منّا ويقيناً بأنه سينال منا جميعاً في شبابنا حتى اعتدنا على هذه الحقيقة إلا أن العادة كانت أن ذكر موتنا شيئ يجب أن يضحكك -حتى ولو ضحكة مزيفة- اذا كنت حقاً منّا نحن الشجعان الفخورين بنضالنا.
في الحقيقة هو عندما قال لي ما قاله لم يكن يمازحني، فمن يعرف “أبو شمعة” يعرف أنه كان بهذه البساطة وأكثر.
وعلى سبيل ذكره فقد استشهد “أبو شمعة” ولم أنعيه لأن حسابي أُغلق ولكني لم أنسى وصيته التي سأفي بها يوماً.
قبل الثورة كنت دوماً إجتماعياً ولدي عشرات الأصدقاء فإن لم أكن معهم فأنا أحدثهم عبر الهاتف، واذا مشيت بجانبي نصف ساعة فقط في حلب فيجب أن تتوقف 10 مرات على الأقل لأني حتماً سأصادف من يجب أن أتبادل معه التحية وحديثاً ودياً سريعاً حتى أن ذلك كان يزعج جدكم (أبو مراد) الذي يظن بأنه من غير المنطقي أن يكون لي هذا العدد الهائل من الأصدقاء المقربين، أعتقد أنه كان يريد ألا أتعرض للخذلان الذي ربما تعرض له يوماً من صديق ما فالأصدقاء لدى أبي هم فقط الجديرون بالثقة والجديرون بالثقة نادرون لذلك في أفضل الأحوال ستحصل على 2 منهم أو 3 بالحد الأقصى طوال حياتك.
بعد الثورة بقيت اجتماعياً ولكن صار لدي نوع مختلف من الأصدقاء كما كان يصفهم جدكم (أبوماجد كرمان): “هدول شركاء الهم والدم” وكان قد صدق في ذلك إلا أن بهم عيباً مؤلماً كأصدقاء، عيباً ليس موجوداً عند أصدقائي القدامى لا أدري إن كنت سأنجح بوصفه لكم..
حسناً هم يموتون أكثر من غيرهم.. أو لنقل هم أكثر قابلية للموت.. يرحلون بسرعة وفجأة ودون مقدمات وأحياناً يرحلون متتالين بدون فواصل زمنية وأحياناً بشكل جماعي
مؤلم جداً أن تشعر بأن صديقك التالي استشهد بسرعة قبل أن يحصل الذي سبقه على نصيبه الكامل الذي يستحقه من حزنك، فتشعر بأنها طعنة فوق جرح لم يشفى بعد.
مات العشرات من اصدقائنا شهداء حتى أني في كثير من الأحيان أفكر في نفسي بأن التفسير الوحيد أني لم أرحل مثلهم هو أني لم أمتلك قدر شجاعتهم فربما أنا جبان ولكني لا أدري وأحيانا أواسي نفسي وأقول بأني كنت شجاعاً في كثير من المواقف وقريباً جداً ولكن السبب بكل تأكيد هو الحظ.
رغم قناعتي الدائمة بأن الحظ من الأشياء التي لا وجود لها والتي ابتدعها الإنسان لتفسير ما لا يمكن تفسيره كأن تفعل كل ما يفعلوه في نفس المكان والزمان وتبقى ويرحلون.
لذلك كان لدي مئات النعوات في حساباتي على فيسبوك معظمها مبني على الشعور بالتقصير والذنب تعظم الموتى وتسفه الأحياء ولهذا أصبحت ناع ممتاز خبير ومتمرس.
بدأت فكرة عودتي للفيسبوك بعد 3 سنوات عندما أصبت بالرعب حينما بدأت أشعر بذاكرتي تتلاشى وبعض ذكريات الثورة أصبحت في عقلي ضبابية خالية من تفاصيلها فأنا -يا للعار- لم أحفظ إرثي ولدي الكثير لأخبركم به أنتم وأولادكم وقد لا تسنح لي الفرصة.
بالنسبة لي لدى كل ثائر قصة عظيمة ملهمة يرويها، كلنا أبطال أنا وأمكم وكل من بقي حياً من أصدقائنا وأقربائنا وحتى الذي تشاجرت وأتشاجر معهم طالما أنهم ثوار فهم حتماً أبطال تاريخيين.
يجب أن تروى قصصنا بكل تفاصيلها بانتصاراتنا وإخفاقاتنا وأخطائنا الساذجة بكل محاولاتنا الفاشلة في أن نكون ثواراً مثاليين كما في الأفلام والكتب.
سأكتب لكم كل ما أذكره عن الثورة فإذا لم استطع أن أقدم لكم شيئاً كما الآباء فهنا ستجدون إرثي وبقايا ذاكرتي مصدر فخري الأكبر وأستطيع أن أتخيل أن تكبروا وأن يخترع أحدكم شيئاً ينقذ البشرية مثلاً، سيكون ذلك مصدر فخري الثاني وستبقى الثورة مصدر فخري الأول
فأتمنى أن تفخروا بها وبي.
أحبكم.
والدكم مراد الشواخ
نانسي 29.07.2022
الفيس بوك قبل رحيل الكاتب بفترة قصيرة