أهي نهاية الحرب ضد الإرهاب؟/ ياسين الحاج صالح
يبدو زمن الحرب ضد الإرهاب كطابع للنظام الدولي أو «سمة العصر» في زمن ما بعد الحرب الباردة مقبلاً على انطواء بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. يتعلق الأمر هنا بحرب بين دولتين إحداهما، روسيا البوتينية، عضو في النادي النووي ومن أقوى دول العالم في الأسلحة التقليدية، بينما تنال الثانية دعماً متنوعاً من التحالف السياسي العسكري الأقوى في العالم، التحالف الغربي، يقْصُر عن التدخل المباشر إلى جانب الأوكرانيين. الحرب الجديدة مستمرة منذ أكثر من ستة أشهر، من دون مؤشر على نهاية قريبة.
الحرب ضد الإرهاب مثلما عرفناها منذ تسعينيات القرن الماضي، وبشكل أخص بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001 هي «حرب حضارية» أو «ثقافية» في وجه أساسي منها، تتواجه فيها القوى الغربية، وأكثر دول العالم بصور مختلفة مع شبكات إسلامية غير دولتية، ومن ورائها ضد مجتمعات مسلمة متعددة، في أفغانستان والعراق وسوريا، وبصورة مختلفة ليبيا واليمن ومالي وغيرها. وهي بعدُ حرب دولتية جداً من حيث أن مقرريها النافذين يفضلون الدول، أياً تكن درجة إجرامها، وحتى لو كانت دول إبادة، على اللادول، أياً تكن، بل لقد جعلت حرب الأقوياء الممتازين من الإبادة سياسة ممكنة، مثلما رأينا سلفاً في سوريا. وهي إن تكن نالت من منظمات عدمية إسلامية، فإن لهذا الدواء والبنى السياسية والقانونية الداعمة له دور كبير في إنتاج الداء الذي يعالجه. كان احتلال أمريكا للعراق قد وفّر بيئة انتشار لـ»القاعدة»، وذلك عبر تمفصلها مع قطاعات من قاعدة نظام صدام حسين الاجتماعية دُفعت إلى التطرف. وترك التعامل مع القضية السورية من منظور الحرب ضد الإرهاب منذ بداية عام 2013 مشكلات كبيرة دون حل في سوريا، وأضاف إليها مشكلات أكبر. في سوريا كانت الحرب ضد الإرهاب في آن حرباً عالمية، وحربا أهلية، وأوّل النظام حربه ضد الثورة بلغة محاربة الإرهاب الأمريكية والغربية. وفي مجملها كانت الحرب ضد الإرهاب إضعافاً للديمقراطية والشعوب وحكم القانون في كل مكان من العالم، سواء عبر تغذية تحول الدول في مجالنا إلى وكالات ضد الإرهاب، أو عبر أمننة السياسة في كل مكان، أو عبر كون الحرب ضد الإرهاب عمليات تعذيب وتدمير في واقع الأمر، وليست بحال حرباً بين أطراف متماثلة (وإن لم تكن متكافئة)، أو عبر تغذية سياسات الهوية والنزعات الطائفية والعنصرية والمعادية للأجانب.
في أوكرانيا نرى شيئاً لم نر ما يشبهه منذ زمن طويل، ليست حرباً في أوروبا فقط، وإنما حرب دول. تصرفت روسيا في أوكرانيا في البداية كأنها تقتحم الشيشان أو سوريا، لا تخشى قوة محاربة منظمة، أو كأنها الولايات المتحدة تغزو العراق، لكنها فوجئت بتحول غزوها لأوكرانيا إلى حرب بين دولتين، مما لم يحدث منذ الحرب العالمية الثانية. القومية هنا هي أيديولوجية التعبئة، وليس الدين أو الحضارة أو الثقافة. تبدو الحرب الراهنة بمثابة تجربة مكونة للأمة الأوكرانية، تعزز تمايزها وآخريّتها عن روسيا، ووعيها الذاتي كأمة أوروبية. وفي روسيا هناك نزعة قومية متشددة، مسكونة بالعظمة وبالعداء للغرب الليبرالي، وبوعي ذاتي يجمع بين السلافية والمسيحية الأرثوذكسية والإمبريالية. فهل تكون حرب روسيا في أوكرانيا نهاية لعصر وبداية لعصر جديد؟ هذا محتمل. تبدو القوى الغربية، وهي من كانت تحدد الأولويات الدولية إلى اليوم، متجهة إلى إعادة هيكلة سياساتها الدفاعية والأمنية في اتجاه تشغل الحرب ضد الإرهاب موقعاً متراجعاً فيها، خاصة بقدر ما يتطاول أمد الحرب في أوكرانيا. انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، والانشغال الأمريكي بالتحدي الصيني، يحرك مسارح الصراع بعيداً عن المجال العربي والإسلامي الذي كان مسرح الحرب ضد الإرهاب، وفي اتجاه قومي جديد.
الخروج من الزمن العالمي للحرب ضد الإرهاب، لا يعني بحال توقف عمليات أمنية أمريكية وغيرها ضد عدميين إسلاميين، ولا يعني بخاصة توقف الدول التي صارت وكالات استعمارية للحرب ضد الإرهاب عن الفتك بمحكوميها في بلدان مثل سوريا ومصر. انطواء زمن الحرب ضد الإرهاب في الشرق الأوسط لا يتبع حتماً تغير الأولويات الأمريكية والأوروبية. فعدا عن أن الدول تحولت بنيوياً وصارت وكالات لهذا الحرب، فإن المركزية الإسرائيلية المتعززة شرق أوسطياً تبقي أجندة مكافحة الإرهاب مركزية، حتى لو لم تعد على رأس الأجندة الأمريكية.
هناك استمرارية أساسية بين زمني الحرب ضد الإرهاب والزمن الحالي، الذي لا نتبين من ملامحه إلا أنه ربما يكون قومياً أكثر من جديد، و»حضارياً» أقل: تمركز حول القوة والأقوياء. من خرجوا محطمين من زمن الحرب ضد الإرهاب، لا يبدو أنهم سينتفعون بشيء من هذا الزمن الجديد. سوريا بالذات لا يحتمل أن تجني أي منافع من انطواء زمن الحرب ضد الإرهاب، ليس فقط لأن هذا الزمن مستمر في الشرق الأوسط، ولا لأن الدولة الأسدية امتصت أكثر من أي دولة عربية أخرى (تتلوها مصر السيسي) منطق هذه الحرب، وإنما كذلك لأن الولايات المتحدة في سوريا هي روسيا أخرى، خلافاً لما هو الحال في أوكرانيا. ليس هناك تخاصم أمريكي روسي في سوريا، التخاصم هو بالأحرى مع تركيا العضو في الناتو، ليس أكثر من روسيا فقط، وإنما يبدو أكثر حتى من إيران التي إذا سار توقيع الاتفاق النووي معها، فقد تصير سوريا حلالاً زلالاً لدولة الملالي، مثلما فكر فيها أوباما في زمنه. لكن ماذا بشأن الإرهاب ذاته في زمن ما بعد الحرب ضد الإرهاب؟ الإرهاب نتاج البنى السياسية القائمة على الحرب ضده أكثر من العكس. منذ حرب الاستقلال الجزائرية، مروراً بالمقاومة الفلسطينية والمقاومة الكردية في تركيا، وصولاً إلى الثورة والحرب السورية، وبما في ذلك الإرهاب الإسلامي المعادي لأمريكا والغرب، من يطلقون صفة الإرهاب هم دول استعمارية أو ما يعادلها، يحامون عن أوضاع امتيازية لا تقبل حلولا سياسية للصراعات الوطنية والاجتماعية. هناك أشكال منحطة من المقاومات، ومنها السلفية الجهادية العالمية التي تحامي عن مثال فاشي بالفعل، لكن كلمة إرهاب أطلقت غالباً على الجميع، وكانت عنصراً في استراتيجية حرب لا تعترف بأي مقاومين. لا الفرنسيون في الجزائر، ولا الإسرائيليون في فلسطين ولبنان، ولا الأسديون وحماتهم في سوريا، ولا الأمريكيون في العراق وفي العالم الإسلامي، اعترفوا يوما بمقاومات غير إرهابية كي تدان مقاومات إرهابية وتعزل. وأكثر من ذلك، تحويل ما هي مشكلة أمنية تعالج بالشرطة والمخابرات، الإرهاب، إلى مشكلة وطنية ودولية تواجه بالجيوش والحرب، يؤشر بقوة على البني على الرهانات الكامنة وراء الحرب: حمايات امتيازات وإدامة تفوق في القوة والموارد، تحطيم بيئات واسعة وليس خلايا إرهابية، وهو ما جرى فعلاً في الجزائر وأفغانستان والعراق وفلسطين وسوريا، والرفض الثابت للسياسة، ومعاملة الإرهابيين المزعومين كـ«مقاتلين غير شرعيين»، أي لا حق لهم في العدالة ولا في السياسة. فإذا كانت الحرب ضد الإرهاب، وبنى القوة والثروة الامتيازية التي تقرر في شأنها، هي جذر الإرهاب، وليس العكس، فإن نهاية الإرهاب لن ترتسم في أفقنا إلا بالنهاية المأمولة للحرب ضد الإرهاب.
كاتب سوري
القدس العربي