الكافكائية في السرد العربي المعاصر/ عبداتي بوشعاب
نسعى في هذا المقال، إلى تعريف الكافكائية – نسبة إلى فرانز كافكا – كمَيْلٍ أو اتّجاهٍ أدبيّ يتخذ من العلاقة الملتبسة مع الآخر، ومن البؤس والضياع والاغتراب والوحدة والعزلة التي يعيشها الإنسان في الفترة الراهنة موضوعات مثيرة للكتابة الأدبية، ممّا طبع العديد من التجارب الإبداعية في السرد العربي المعاصر عند الكثير من الأدباء بالسوداوية التي وسمت حياتهم وحياة الملايين من البشر، بسبب الحروب والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فغيّرت نظرة الفرد لكل ما يحيط به. ولأن الأدب لا ينفصل عن الواقع فإن الكثير من المبدعين متصلون بهذا الواقع اتصالا حقيقيا يُعبّرون عنه بكل أمانة في القصة والرواية والمسرحية وغيرها من الأنواع، فينتقدون ما يحق لهم انتقاده ويُثنون على ما رأوا أنه يستحق الثناء. هكذا يقدم الأدب الواقعي الإمتاع والإقناع بلا تكلف ولا صناعة. ولمحاولة تحقيق المسعى الذي نتحدث عنه، قمنا بتبيان هذه النزعة في بعض كتابات كافكا، ثم تعرضنا بالدراسة والتحليل إلى مجموعة “القسوة تبدأ بسقوط تفاحة” للكاتب حسن بولهويشات من خلال اكتشاف مضامينها وقراءة عناوينها وتحديد تجليات الكافكائية كما عرَّفناها بالتركيز على موضوعتي الغير والبؤس.
“القسوة تبدأ بسقوط تفاحة” لـحسن بولهويشات
تؤكد مصادر تاريخ الأدب أن حياة الأديب التشيكي فرانز كافكا (1883 – 1924) في براغ عاصمة جمهورية تشيكوسلوفاكيا، كانت مليئة بالعزلة والضياع ([1])، عاش فترات بئيسة كثيرة أسوأها مرحلة المراهقة وبعدها سنوات الحرب العالمية الأولى ثم فترة مرضه. علاقته بوالده هيرمان كافكا كانت مرتبكة؛ أبٌ متسلط سيء الطبع، عدوانيٌّ، خشِنٌ في تربيته لولدٍ موهوب وحسّاس ثم شابٍّ مثقف مثل كافكا ([2])، هذا الذي درس الكيمياء والأدب والحقوق([3]) . علاقته بالغير كذلك لم تكن ناجحة وهو ما جعله الآخر ثيمة بارزة إلى جانب ثيمة البؤس البائنة في كتاباته والتي كان من أقوى أسبابها سوءُ حظّه في أبيه المستبد، وفشله في الحب والاستقرار العاطفي، وبحثه المستمر عن الهدوء والسلام الداخلي الذي افتقده في حياته وعكَسَه في كتاباته. ونظنّ من المناسب أن نعلن في البداية أننا لا نعرض في هذا المقال قراءاتٍ تحليلية لنصوص كافكا وإنما نحاول التعرف على الكافكائية وإظهارها ككتابة أدبية أثّرت في أجيال من الكتّاب والقراء، فشاعت في الإبداعات الأدبية النثرية منذ خمسينات القرن العشرين لدى العديد من الأدباء في كل أرجاء العالم، ومنهم أدباء العربية الذين يعدُّ المغربي حسن بولهويشات* واحدا منهم، اخترنا مجموعته “القسوة تبدأ بسقوط تفاحة” ([4])، لإبراز استمرارية الأجواء الكافكاوية في الإنتاج الأدبي حتى اللحظة الراهنة من التاريخ.
أولا – إضاءات على أدب فرانز كافكا
أبدع الأديب العالمي، عشرات النصوص السردية تنوعت بين القصص والروايات والرسائل واليوميات، تُرجِمت جميعها إلى معظم اللغات الحية ومنها العربية. يُجمع أغلب من درس نماذجَ منها أن الغموض سيّد مغزاها([5]) . وفي هذا الاتجاه، يرى أحد مترجِمي أعماله الكاملة إلى العربية الدكتور خالد البلتاجي أن أهمّ ما يُميّزها هو شمولها، حيث يصعب جدّا فهم أي نص في حدوده ([6])، لأنه يتصل بباقي النصوص معنًى من حيث المضمون وشكلًا من حيث الأسلوب.
نصوص كافكا تبدو لقارئها إبداعا سرديا كابوسيا حادّا، تدفع قارئها إلى التأمل في الوجود والمصير عموما والعلاقة بالآخر تحديدا، تنتمي إلى أربعة أنواع نثرية سردية كتبها كافكا بأسلوبه الفريد، وهي: القصة، الرواية، اليوميات، الرسائل. عدّها النقاد من عيون الأدب العالمي بعد ما نالته من اهتمام متزايد من لدن المتلقين على اختلاف فئاتهم: قراء، أدباء، نقاد، فلاسفة… ونظرا للتأثير الهائل في المتلقي صارت الكافكائية موضوعة بارزة في الحياة وفي الإبداع الأدبي. والكافكائية([7]) حسب الدكتور المتخصص في أدب كافكا جيرمي أدلِر مصطلح جديد دخل المعاجم الغربية، وبات يُستعمل لوصف الوضعية الكابوسية التي يعيشها الشخص المعاصر في مواجهتهِ القوى الاجتماعية الحديثة والنظام البيروقراطي المتصلِّب في المؤسسات. وهكذا ارتبط كافكا في أغلب الأحيان بشقاء وإحباط وبؤسِ مَوْقفِ الإنسان في العصرين الحديث والمعاصر.
القصــة
تعد قصة «صراع» أول أعمال كافكا المعروفة، هي بوابة المتلقي للدخول إلى عالمه ([8])؛ يعلن من خلال أسلوبه فيها عن نهاية عصر الكتابة الجمالية، وذلك باتجاهه إلى اللغة الطبيعية المهجورة آنذاك، فبلورها إلى لغة رصينة وصارمة عُرف بها حتى انتهت معروفة به([9]) . لغةٌ بمثابة وسيلةٍ للغوص في عالم الفرد الداخلي ومن ثمّة النفاذ إلى طبيعة التركيبة الاجتماعية والبنية العقلية والمشاعر ومستويات التفكير لدى العامة. هو لم يكن يعبّر عن تجربته الشخصية، بل ينقل عبر قلمهِ التجربة البشرية التي يشترك فيها الجميع؛ كاكتشافنا لحقائق مرتبطة بالحياة وبعلاقتنا بالغير في عمْرٍ معيّن، كإحساسنا بالعطف تجاه شخص خسر أملاكه فجأة، أو شعورنا بالخيبة لأننا تفاءلنا أكثر مما كان علينا أن نفعل.
نجد هذه المعطيات التي يتحدث عنها أكثر من دارسٍ لأدب كافكا ([10])، جليّة في قصة “صراع” ([11])، حيث يكتب محاولا تقديم تفسيرات لطبيعة الصلة بالآخر ولجوهر الأشياء في الحياة؛ الأشياء البسيطة قبل المُعقَّدة، خاصة تلك المتعلقة بوجودنا وتؤثر تأثيرا مباشرا في شخصياتنا. غيرَ أنّنا لا نبحث عن حقيقتها لنتقبّلها بهدوء؛ جميلةً كانت أم قبيحة، لصالحنا أو ضدنا. إنّنا نبحث عن الإثارة لنستمر في مغازلة أنفسِنا والاعتقاد أننا بالتغاضي سنجد الراحة الكاملة يوما ما؛ لكنّه اليومُ الموعود الذي لا يأتي أبدا.
كُتبت هذه القصة بين عامي 1902 و1903، كما يذكر المترجم حسب ما توفر لديه من مصادر. تبدأ بوصف السارد للأجواء المحيطة به، حيث يحتفل الناس بمناسبة لم يذكر ما هي، وفجأة تنطلق الأحداث الأساسية بمجيء أحد معارف السارد الجدُد ([12])، يودّ فتح محادثة معه حول أسرار شخصيّة، إلا أنه يُبدي عدم اهتمامٍ سرعانَ ما سوف يتحول إلى اهتمامٍ مزعوم، لأن الشخص المتودِّد بدا يتحدث بصوتٍ مرتفع دفعَ بعض الناس إلى التجمهر حول طاولة جلوسهما، وهنا يبادر السارد إلى أن يقترح عليه تمشيةً حتى لا يخرج الأمر عن السيطرة فيبوح بأسراره أمام العامة، على الرغم من أنه ليس أحدًا مهمًّا إذ بالكاد تعرّف عليه. وقد همَّ الرجلان بالانسحاب من الحفل، متجهيْن نحو الشارع. طيلة أطوار القصة يلاحظ القارئ أن الشخصيات الرئيسة لا تدفعه إلى التفاعل معها بشكل طبيعيٍّ عهِده أثناء قراءة القصص، وهذا يرجع أساسا إلى أن الصديق الذي تعرّف إليه السارد في الحفل لم يستمر معه حتى النهاية، يظهر ثم يختفي فيعود كأنه حقيقة مشكوك في وجودها أو رؤيا تراود السارد. والرجل السمين([13]) الذي تحدث إليه كثيرا غيرُ معروفةٍ حقيقته، مما يدعو إلى التساؤل هل كان بشرًا أم إلهًا أم أسطورة…؟ وكذلك الرجل المتديّن([14]) الذي التقاه في الكنيسة، فهل هو رجل عادي يتردد على مكان العبادة أم أنه كاهن حقا؟ أو ريائيٌّ منافق يستغل الدين لقضاء مآربه؟ أم أن كل هؤلاء هم واحد! أيكونُ السارد نفسه الذي يراوغ ويتقمص أدوارهم؟ أم أنه كافكا شخصيا؟ أليست القصة كحلم غير مفهومٍ يتلاشى ويُنسى بمجرد استيقاظ صاحبه من النوم؟ ألِأَنّها باكورة أعمال صاحبها مما يبرر شتاتها موضوعيا واختلالها أسلوبيا؟
يتبيّن الضياع كما يروي السارد “حياتك بلا معنى وكان يجب أن تذهب..”([15]) ، ويظهر الاغتراب في المكان ووحشته على لسان الرجل السمين “هذا المكان يمنعني من التفكير، تتأرجح أفكاري مثل جسور من السلاسل الحديدية وسط تيار ماءٍ هائج”([16]) ، وعلى لسان السارد “لماذا بني كل شيء هنا على نحوٍ سيء”([17]) . تظهر أيضا صعوبة تفاهمه مع المرأة على لسان فتاة الكنيسة “أنت لا تعجبني كل ما تقوله ممل وغامض… يا سيدي يبدو أن الحقيقة تمثل لك عبئا ثقيلا” ([18]). وهل يحق لنا أخيرا الاعتقادُ أن كافكا يودّ من خلال الخطاب الذي ورد في الصفحة السادسة والعشرين أن يقول عن قصته إنها غير مكتملة، وإنه يرغب في إتمامها لكنه لسبب ما لا ينجح؟ “صرختُ فيه قائلا: دعك من حكاياتك هذه! لا أريد أن أسمع مجرد أشياء منقوصة، احْكِ لي عن شيء، من البداية وحتى النهاية… أنا أعشق الحكايات الكاملة”. وهكذا تنتهي القصة بخاتمة غريبة نتعرف فيها على شخصيات جديدة؛ يصلُ السكير وتدخل بعض النساء، والسارد يحاور صديقا آخرا، ظهر فجأة، يُعبّر له عن سعادته من أجله، حيث سيذهب مع أنيتشكا في رحلة إلى القصر عندما يقترب فصل الربيع وينعمُ معها بجمال الطبيعة وسطوع الشمس. ثم يذكر المصباح المضيء([19]) ، في الختام كدلالة على توقف الصراع والعثور على أمل جديد يربط السارد ومن معه بالحياة. نهايةٌ غير محددة ترفع من توتر القارئ، لا هي حزينة ولا هي سعيدة ولا يمكن أيضا اعتبارها مفتوحة!
شكليا أسلوب قصة «صراع» يتسم بالتداخل بين الأحداث وعدم تسلسلها لا استرجاعيا ولا تصاعديا، ناهيك عن الانتقالات المفاجئة من حدث إلى آخر، والتي تُحدِث تشويشا مستمرا على المتلقي، لا يساعده في المسك بالمضمون وهنا تكمن الغرابة التي يستشعرها الجميع. غرابةٌ تدفع المتلقي إلى قراءة كافكا كاملا؛ لأن القصة المعنية ما هي إلا حلَقة لا قيمة لها دون وجودِها في العقد المكتمل. إنها معركة نفسية يحاول فيها البطل/الإنسان، اكتشاف معنى الحياة وكُنه الأشياء واختراق غموضها لمحاولة قلبه إلى وضوح، وإيقاف المعاناة والتخلص من الركون في المنطقة الوسطى حيث التردد والشك. قصة غير مكتملة والإمساك بمعناها يقتضي استمرار تقليب الصفحات.
الـروايـة
برع فرانز كافكا في الرواية، كتب “المحاكمة”([20]) ، تُعرف أيضا بـ”القضية”، وغيرُ متفق على تاريخ كتابتها لكنها نُشرت أول مرة عام 1925، من جواهر الأدب العالمي الخالدة، تبوّأت مكانةً مرموقة في مكتبة السرد ([21])، أُعِدّت فيها دراسات كثيرة ورسائل جامعية لا محدودة. أتت مقسّمةً إلى سبعة عشر فصلا، عُنوِن الأول برسالة القبض على جوزيف كي، ووُسِم الأخير بخاتمة جوزيف كي ([22])، شابّ في آخر العشرينات، موظفُ مَصرِف، يصحو أحد الأيام على وجود رجُلين في بيته، يطلبان منه مرافقتهما لأنه منذ هذه اللحظة معتقل ومطلوب للقضاء، لكنهما لا يخبرانه بجريمته، وفي الوقت ذاته يعلمانه أنه لن يوضع في السجن إلا أنهما سيبقيان يراقبانه حتى يحاكم. يَستعينُ المتهم بمحامٍ إلا أنه لا يستفيد منه، لأنه لم يوضح له طبيعة القضية الغامضة، فكيف سيترافع عنه ليثبت براءته في المحكمة من ذنب مجهول، الأمر الذي جعل المحامي ينسحب([23]) . زاد تخلّي المحامي من عبثية موقف جوزيف الذي بدأ الاكتئاب يتسرب إلى روحه، وقد حاول بعض أقاربه وأصدقائه مساعدته لكنهم فشلوا. هو نفسه سيتردد على المحكمة مرات كثيرة ليحضر محاكمته دون أن يفلح في معرفة تهمته ([24]).
يتوجّه جوزيف إلى عمّه ليساعده ([25])، فيأخذه إلى المحامي صديقه، حيث يكشف هذا الأخير لجوزيف أن كبير كتّاب المحكمة موجود عنده ويطلب منه الانضمام إليهما، وفي هذه اللحظة تغري خادمة المحامي ليني([26]) جوزيف وتقوده إلى غرفة مجاورة مما يضيّع عليه معرفة الكثير من التفاصيل. تيتوريللي رسام([27]) المحاكمات، يخبرُ جوزيف أن جميع المتهمين الذين حوكموا في المحكمة العليا لم تتمَّ تبرئةُ أيٍّ منهم وأن معظمهم أُعدموا. ثم ينصحه بإبطاء سير المحاكمة قدر الإمكان حتى يتم إبطال الحكم بالتقادم.
يسأم جوزيف من وضعه وهشاشة موقفه، فيستسلم ويعفي المحامي صديق عمّه من توَلي القضية([28]) . في اليوم الموالي يتوجّه جوزيف إلى الكاتدرائية، يجد فيها كاهنا ناداه باسمه، ويحكي له عن رجُلٍ انتظر زمنا طويلا عند بابٍ في محاولةٍ للوصول إلى القانون. يعود المتهم إلى بيته فيجد رجلين آخرين في انتظاره، يخرج معهما في نزهة داخل المدينة وفجأة يقوم أحدهما بطعنه في صدره ليرديه قتيلا ([29]). هكذا تبدأ الرواية باعتقال “جوزيف كي” وتنتهي بمقتله، وبين البداية والنهاية التباسٌ وسوداوية وأرق وسأم، كأنَّ كافكا يصور عبر جوزيف الحالة القاتمة لإنسان الحقبة الصناعية؛ حيثُ يُشيَّأ العمال وتُسحب منهم أحلامهم وتُلغى آدميتهم فيصبحون تدريجيا آلات مسخّرةٍ لخدمة البورجوازية الجديدة والتغول الرأسمالي.
اليوميـات
بين عامي 1910 و1923، دوّن كافكا يومياته، ليوَثِّقَ أهمّ ما عاشه في ثلاثة عشر عاما من مواقف شخصية وأحداث سياسية وعسكرية تنعكس سلبيا على المجتمع والفرد، وتشكل الطابع العامَّ لحياةٍ مهدّدة بالأزمات في واقع ملغومٍ دوما. تأتي مجمل هذه اليوميات المترجمة عن اللغة الألمانية في خمسمئة صفحة. معنونة بأرقام السنواتِ في كل سنة نقرأ أبرز ما كتبه كافكا عن تجاربه التي تعبر عن التجربة الكونية للإنسان، بارعٌ في جعل الذاتي الخاصِّ جماعيا عامّا؛ ففي وصف الأشخاص قد يدفع القارئ ليضع نفسه مكان الموصوف ويتقمصه عاطفيا، يُشبِع الصورة بأسلوب متفردٍ في النقل والتأثير.
يعترف الأديب التشيكي في 1910 “إن تربيتي قد أضرت بي كثيرًا من مناحٍ متعدّدة. وهذا اللوم يُصيب كثيرين، وأخصُّ منهم والديّ، وبعض أقاربي، وأفرادا من الذين كانوا يأتون إلى منزلنا… وأكواما من المعلمين… وأحد مفتشي المدرسة” ([30]) . قبل هذا الاعتراف وفي الصفحة عينِها يصرّح أنه يستمر صاحيا حتى ينام، ويبقى نائما حتى يصحو، هكذا هي حياته تعيسة كما يعتبرها؛ في هذه السنة يزاوجُ في يومياته بين تصوير الواقع ونقل الأحلام ليبني عالمًا كافكاويا مأزوما يجد فيه الفرد ذاته وحيدا منعزلا. إنسانُ القرن العشرين ضعيف في مجابهة القوى الخارجية المتمثلة في الأسرة والعائلة والمجتمع والمدرسة. قوًى لا تشبهه، تصدّر له الطاقة السلبية فيكون دائم الشعور باللاجدوى! يطارد السراب وبعض الآمال الغامضة([31]) ، في بيئة ترفض التميز والخصوصية في مقابل اتفاقها على التشابه والعمومية وتبَنِّي ثقافة الجمهور المهيمنة.
في سنة 1916، نجده يصرح أن علاقته بالفتيات ليست على ما يرام، أو بمعنى أقرب إلى الدقة لم تكن كذلك على الإطلاق “أي بلبلة أحياها مع البنات..”([32]) . تتوالى الاعترافات في هذه اليوميات، لتكشف عن شخصية كافكا الطفل والمراهق والشاب، مع تركيزٍ بادٍ جدا على فترة الشباب الجامحة، حيث كانت شهيته كبيرة ومفتوحة للحياة والأحلام.
في علاقته بالنساء يذهب بنا لويس غروس ([33]) إلى تبنّي فكرة أن فرانز كافكا لم يتمكن من إنشاء روابط مع الآخر، ولا مع الزمن الذي عاش فيه، ولا مع الحياة بوجه عام. والعلاقات التي أقامها مع النساء كانت إشكالية إلى حدّ كبير، سواء على المستوى العاطفي أو الجسدي، وقد كان صعباً عليه، بوجه خاص، أن يصل إلى جوهر تلك الجمرة المتقدة في قلوب النساء والتي يُغلِّف لهيبها سهامُ عيونِهن القاتلة. لذلك يقول غروس “ركَّزتُ على النساء، تحديداً، في حياة فرانز كافكا لأنني رأيتُ فيهن صورة ممكنة لما لا يُدرك”([34]) . كُنَّ قليلات في حياته وإن كانت نُسِبت إليه علاقات عاطفية مع خمس نساء أو ست، أو سبع على أكثر تقدير، التزم بالزواج في ثلاث مناسبات، مرتان مع الموظفة الألمانية البرلينية فيليسي باور ومرة مع السكرتيرة التشيكية البراغية جولي ووهريزك، ولكن في اللحظة الأخيرة، وفي جميع الحالات، انسحب من المسرح مفضلا العزلة المغوية بالنسبة إليه، لكن فيليب بوهيم – نقلا عن هبة حمدان مترجمة الرسائل – يذهب إلى أن السبب الرئيس في فسخه الخطوبة مرتين هو والده دائم التوتر وغير الموافق على إتمام هذه الزيجات. ونوى أيضا الزواج بديورا ديامنت وهي فتاةٌ يهودية من برلين، لكنَّ الأمر لم يتحقق. بينما تبقى علاقته الغرامية مع ميلينا جيسينسكا هي الأكثر اضطرابا وعنفا عاطفيا ([35]).
أقل ما دوّنه كافكا في يومياته كان عامَ 1923، حيث يقدم المترجم نصف صفحة فقط؛ جاءت في النهاية لتؤكد أننا إزاء يوميات واقعية تُفصح عن الطابع العام للحياة غداة الحرب العالمية الأولى، وما أفرزته من بؤس على الإنسان وعلى الطبيعة وعلى صاحبها خاصة حيث اشتد عليه المرض ولم يعد يقوى على تحمله “الأوقات المرعبة في الآونة الأخيرة غدت لا تحصى… لم أعد قادرا على شيء سوى تحمل الآلام” ([36]) . إن أهمّ ما يؤكد واقعية ما نقرأه في هذه اليوميات هو طريقة تأليفها الدائرية؛ إذ تنتهي كما بدأت، بالكشف عن حقيقة ما يجري لكافكا كشخص تائه في عالم جديد صار يتغير بسبب الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية التي ألقت بسلبيتها على المجتمع الأوروبي، وبالتأكيد على الفرد الذي كانت لكافكا القدرة الخاصة على التعبير عن آلامه.
الرسائـل
كانت معظم رسائل كافكا مكتوبة للمرأة، حبيبته ميلينا جيسينسكا الشابة الألمانية المسيحية، كان يُلقبها بشعلة النار ([37])، وهي التي قالت في كلمة وداعية نشرتها جريدة “ناردوني ليستي” يوم السادس من يونيو عام 1924، تخبر من خلالها العالم عنه بعد رحيله عن الحياة “كانت له حساسية تقارب الإعجاز، ونقاءٌ أخلاقي صارم إلى أبعد حد” ([38]). كانت ميلينا مميزة من بين النساء اللواتي ارتبط بهِنَّ كافكا، ربما لأنها كاتبة وأديبة، مثقفة وعطوفة، جميلة أيضا بالنسبة إلى هذا الشاب الذي أدرك فيها ما لم يُدركه في الأخريات. أبدت اهتمامها به عبر ترجمتها بعض كتاباته من الألمانية إلى التشيكية([39]) . وأبدى هو إعجابه ثم تعلقه فحبَّه لها من خلال عشرات الرسائل، تصل إلى المئة والأربعين، إضافة إلى تسع بطائق بريدية([40]) . والتي كتبها إليها بين أبريل نيسان 1920([41])، ونوفمبر تشرين الثاني 1923([42]) . في الكثير من الرسائل، نقترب من المرحلة العاطفية الأكثر توهجا ووَجْدًا في حياة كافكا، نجد في رسالته المؤرخة بـ29 مايو 1920، من بلدة ميران، يكتب للمرسَل إليْها:
عزيزتي السيدة ميلينا، الأيام قصيرة جدّا، فما بين تفكيري بكِ وبضع أمور لا تُحتسب ينتهي اليوم، فلا يتبقى إلا القليل لأكتب لميلينا الحقيقية، مع أنكِ تلازمينني طوال اليوم، في الغرفة وفي الشرفة وفي السحاب([43]) . في هذا العام (1920) الأكثر كتابة للرسائل على الإطلاق من لدنه؛ كان العاشق الثلاثيني جامح المشاعر، كل شيء حوله لا يكفُّ عن دفعه إلى فعل أمر واحدٍ فقط وهو تكرار التفكير في ميلينا والكتابة لها، ثم انتظار الردود وإن تأخرت في البدايات لكنها باتت تأتيه منها على مكث في ما بعد. على هذا النحو كتب كافكا لميلينا رسائله المليئة بالتفاصيل السعيدة أحيانا والحزينة أحايين أخرى، ناقلا إليها وقائع حياته اليومية الكبيرة والصغيرة على حدٍّ متساوٍ.
أما رسالته الشهيرة للوالِد فبدأها بعرض السؤال الذي طرحه عليه أبوه عن كونه يخشاه، وقد اعترف كافكا فيها أنه فعلا يهابه، خوفا لا احتراما، ثم وجّه إليه نقدا شديد النبرة دون أن يقلل منه كونه أباه حيث بدأ كلامه محافظا على لباقته واحترامه “الوالد الأعز، سألتني مرة، مؤخَّراً، لماذا أدّعي أنني أخاف منك، ولم أعرف كالعادة، أن أجيبك بشيء؛ من طرف بسبب هذا الخوف نفسه الذي أستشعره أمامك، ومن طرف لأن تعليل هذا الخوف يتطلب تفاصيل أكثر مما أستطيع أن أُجمِّعه إلى حدٍّ ما في الكلام، وعندما أحاول إجابتك بالكلام فلن يكون الأمر إلا ناقصا كل النقص، ولأن حجم الموضوع يتجاوز ذاكرتي وعقلي كثيرا” ([44]) . من الواضح أن ما أشرنا إليه في التمهيد، يجد كثيرا مما يُثْبِتُه في خطاب هذه الرسالة عن العلاقة المضطربة بين كافكا وأبيه المستبد كما يبدو من تفاصيل الجواب الذي سرده له في رسالته هذه، حتى أنه لم يوجه الرسالة إليه كوالده بل عنونها برسالة إلى الوالد مُجردا إياه من صفة الأُبوة إليه.
كافكا أديب واقعي، وإن بدت واقعيته سحرية في أعمال كثيرة، إلا أن صراحته هي ما دفعت عددا من النقاد وخاصة من قدَّموا لكتبه المترجمة للعربية، إلى اعتباره سوداويا أو غامضا أو غريب الأطوار. إنه من أصدق أدباء العصر الحديث، لا يجمِّل الواقع ولا يزين الأحداث بالاستغراق في الخيال، لا يبيع الوهم للقراء حتى يغرَّهُم التفاؤل المُفرط فيندمون على تأملاتهم الخادعة وثقتهم المسرفة في الأشياء.
ثانيا – تجليات الكافكائية في مجموعة “القسوة تبدأ بسقوط تفاحة” ([45])
الكاتب حسن بولهويشات
شاعر وناثر وباحث مغربي، نُشر له ديوانه الشعري الأول سنة 2016 بعنوان «قبل القيامة بقليل» وديوان «بخفة رصاصة» سنة 2019. تُعَدُّ مجموعته هذه، تجربته السردية الأولى المنشورة في كتاب من تأليفه. لا يكتفي بولهويشات بالإبداع بل يخوض في دراسة الأدب وخاصة الرواية كباحث وناقد.
وقفة عند عتبة العنوان
لا أحد يجهل قيمة العتبات ومنها العنوان، هذا بالفعل ما يذهب إليه الناقد سعيد يقطين في تقديمه لكتاب “جيرار جينيت من النص إلى المناص” لمؤلِّفه عبدالحق بلعابد، حيث جاء في التقديم «لا يمكننا الانتقال بين فضاءات النص المختلفة دون المرور من عتباته. ومن لا ينتبه إلى طبيعة ونوعية العتبات يتعثر بها” ([46]). لذلك يأتي الاهتمام بدراسة العتبات في القصة القصيرة نظرا إلى ما لها من دورٍ أساسي في فهم خصوصية النص وتحديد مقاصده الدلالية([47]) . العنوان يحرك فضول القارئ ويقوده إلى داخل النص الأدبي ويُعِينه ضمنيا على التوقع وافتراض الموضوع في حالة من الإثارة الفنية وعبر تداعي الأسئلة التي تسبق التلقي الجزئي أو الكلي للعمل.
في مجموعة “القسوة تبدأ بسقوط تفاحة”، تضطلع عتبة العنوان في كل قصة بوظيفتين الأولى تداولية تستقطب القارئ وتساعده على تحديد توجهات الكاتب، والثانية جمالية تتمثل في جعله يتوقع معنى النص ويُميِّز نوعه؛ هذا لأن بولهويشات يُدركُ أن عملية اختيار العناوين عملية قصدية تخلو من الاعتباطية والعشوائية. إن أول ما يلاحظه قارئ هذه القصص أنها ذات عناوين مثيرة للتأمل تتميَّز بخصائص العنوان([48]) التي حدَّدها جيرار جينيت وهي: الإغراء لإثارة فضول القارئ والإيحاء بمعنى تلميح الكاتب لمقصديته والوصف بوظيفتيه التوضيحية والرمزية، ثم التعيين أي تخصيص هوية النص.
تميل عناوين المجموعة قيد المراجعة إلى الكافكائية باعتبارها نزعة فنية في الأدب العالمي المعاصر، وهي كما وضَّحنا تُنسب إلى الأديب التشيكي فرانز كافكا، ونُذكِّر أنها تعبير عن الوضعية الشخصية غير المستقرة التي يعيشها الإنسان المعاصر في مواجهتهِ القوى الاجتماعية والنظام البيروقراطي المتصلِّب في المؤسسات الحديثة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، مما سار بالفرد نحو حالة من الارتباك والاضطراب إزاء الأنظمة السياسية.
نتوقف عند عناوين القصص الآتية وهي عشرة من أصل ثلاث عشرة ضمن المجموعة قيد المراجعة: عابرون ومقيم واحد، وحوش وظلال خافتة، بلكونة طوارئ، رسالة إلى الله، القسوة تبدأ بسقوط تفاحة، كمن يتعقبه أبله بعصا غليظة، الله لا يحب البكائين، رجال بقبعات زرق، فشل بأذنين طويلتين، الغابة والحطاب. – نتوقف – لنجدها دالة على تجارب شخصية للكاتب منها ما عاشه ومنها ما تمنّى أن يعيشه، دالة أيضا على أفكاره وتصوراته ورؤاه تجاه الحياة، وعلى طبيعة علاقته بالآخرين وبالأشياء.
المضمون الحكائي
يفتتِح الكاتب مجموعته بقصة “عابرون ومقيم واحد” ([49])؛ حيثُ يرحل هؤلاء الذين يقصدهم بالعابرين، الأب والصاحب والحبيبة والغرباء وبعض الجيران والأصدقاء والأقارب عن الحياة. – يرحلون – ويبقى السارد المسكين وحيدا في هذا العالم الذي لا تتحقق فيه الأحلام على بساطتها! بل يتعايش بغصة حانقة وشعور بالسخط مع واقعه المليء باللصوص والحمقى والمجانين.
ثم يبدو أنه يستدرجنا شيئا فشيئا إلى زخم الأحداث المتنوعة التي تنتظرنا في هذه المجموعة، فتكون القصة الثانية بعنوان “وحوشٌ وظلالٌ خافتة” ([50])؛ ليتساءل السارد عن أسرار الزمن في تقلباته وسرعته! يستغرب بصيغة الجمع حيث لا أحد يستطيع مجاراة الوقت في الركض نحو المستقبل المجهول مشبها إياها بعداء بارع في السباقات الطويلة. ثم يعود إلى الماضي متأسفا عليه لأنه يمثل مرحلة الطفولة الجميلة والتي من شدة جمالها تؤلمه لأنها لن تعود. يستحضر أيضا حكايات الجَد والجَدّة، معدِّدا خصال هذه الأخيرة التي عاشت أكثر من مائة عام، وهي المعروفة بالقوة والشجاعة والجبروت، غَير أن زوجها كان حادّ الطبع وصعب المراس، لذلك كانت ترضخ لجحوده.
في قصة “بلكونة طوارئ” ([51]) يستمر السارد في الوفاء لجدَّته، ينقل إلينا رأيها في الأطباء والعيادات إذ تشبههم بالجزارين الذين يبيعون لحوم الكلاب للزبناء الموسمِيّين، بينما هم يقنعون مرضاهم بإجراء عمليات وهمية لا يحتاجونها لكنّ جشع الأطباء/الجزارين يدفعهم إلى خداعهم وخذلان ميثاق الشرف المهني. ثم ينتقل السارد إلى وصف يومه في المقهى وهو في بلكونته؛ صباحا يقرأ صفحات كثيرة من كتاب ما، ويسرق من وقت القراءة لحظات متقطعة ليُطِل على فيسبوك. عندما يجوع يتوجه إلى البقال المجاور للمقهى ويشتري أي شيء بمثابة وجبة غداء. ثم يخصص بعض الوقت لتأمل أحوال رواد المقهى وهم إما طلاب جامعات منشغلون بحواسيبهم أو موظفون يقرأون الجرائد. وهكذا تصل الظهيرة التي يهدأ خلالها المقهى فيتكئ قرب النافذة ليشاهد التلفزيون المليء بأخبار الحروب والضحايا، وبعد أن يكتفي من الحسرة على مآل العالم، ينهض ليخرج رأسه من النافذة مراعيا المارة من أطفال المدارس ونساء ذاهبات إلى السوق ومسافرين يهبطون من الحافلة. وفي المساء يحاول التخلص من الضغوط النفسية المؤقتة التي راكمها طيلة اليوم الذي أمضاه في المقهى مُطلًّا من البلكونة عينها.
“رسالة إلى الله” ([52]) هي القصة الرابعة، تأتي على شكل خطاب موجَّه من السارد/العبد الآثم الذي يناجي ربه الرحيم الغفور، يدعوه ليرحمه ويغفر له. لماذا؟ لأن ذنوبه كثيرة؛ فقد سرق الأقلام الملونة والجرائد والكتب. واختلس أموال صاحب الحمّام عندما عمل عنده كمحصِّلِ تذاكر، وسرق شركة القطارات لأنه يتسلل للركوب بلا اقتناء تذكرة السفر. يعترف العبد أنه وغد صغير ولص وضِيع لكنه دائما ما ينجو بلطف ربه من كوارث لا تحصى، وهو الذي يعتبر نفسه سليل الجائعين القادم من بلاد حزينة كإثيوبيا زمن المجاعة والبرازيل عصر المشردين النائمين في الشوارع، إنه نديم التائهين، وصديق أمير الصعاليك عروة بن الورد. من أجل كل هذا يلتمس العبد من ربه العفو والرحمة وقبول التوبة.
يَستهل السارد قصة “القسوة تبدأ بسقوط تفاحة” ([53]) بالتعبير عن سعادته لكسب صداقات مميزة وجديدة، ما كان ليحصل عليها لولا موقع فيسبوك؛ يقصد صداقات مع الأشخاص المسجلين بأسمائهم الحقيقية والمختلفين معه في الفكر وفي الرؤيا للعالم، ورغم هذا الاختلاف إلا أنهم يتفاعلون مع أفكاره في الموقع عبر الإعجاب بمنشوراته والتعليق على كتاباته الشعرية والنثرية، وهي الإبداعات التي تربطها صلة قوية بالمعاناة في هذه القصة؛ فالأدب لا يتأتى عنده إلا بالألم. التفاحة أيضا لها وقع خطير على مصير السارد ككاتب شأنه في ذلك شأن جميع الكُتّاب المنتمين للثقافة الإسلامية، فهي التي أسقطت الإنسان من الجنة إلى الأرض، ومن النعيم إلى الجحيم.
على شكل نصوص متفرقة يحكي السارد قصة «كمن يتعقّبه أبله بعصا غليظة” ([54]) تتضمن سبع عشرة فكرة؛ كل واحدة تتعلق بشخص يعرفه السارد أو غرضٍ يخصه، فسائق التاكسي يقوم بعملين، واحدٌ معلوم وهو نقل الركاب من مكان إلى آخر وثانٍ سرّي وهو توصيل الخمر والممنوعات ليْلا إلى من يطلبها بضعف الأجرة المعتادة عشر مرات. أما نادل المقهى فلا يثير إعجاب السارد لأن حركاته تثير الشبهات وتنتقص من رجولته إلى درجة غلام بالمعنى العباسي لهذا المصطلح، وأما عمه البدوي فكان غامضا ومحيِّرا، ومُحِبًّا للغياب لم يَرَهُ منذ موت أبيه ما جعله يُسمي محرك البحث غوغل بالعم مستعيضا به عن هذا العم الانطوائي.
يُفصِح السارد عن مهنته في الحياة كونه مدرسا، يُثني على تلميذتيه سلوى وبشرى اللتين تدرسان في سنة الشهادة الإعدادية يُعدِّد خصالهما الحميدة وأوصافهما المثالية وهما متشابهتان في كل شيء؛ العينان الجميلتان وبياض البشرة حتى الألف المقصورة في اسميهما. كثرة القواسم المشتركة أثارت فضول السارد كما لو أنهما توأم أو تربط بينهما قرابة عائلية، إلا أن كل ما في الأمر جيرة في الزقاق نفسه! ولا ينسى التلميذة فاطمة الزهراء التي حصلت على الشهادة الابتدائية واختفت خمس سنوات بعدها، ثم ظهرت في سنة الشهادة الثانوية بفائض غزير من الأنوثة. ويعود السارد إلى الماضي البعيد فيحكي عن معلمه في الابتدائي واسمه سي العربي الذي نصح تلاميذه ذات درسٍ أن يحتفظوا بالدرهم الأبيض لينفعهم في اليوم الأسود، وهو نفسه لم يدَّخر الكثير من الدراهم لتعينه على مرض السكري في آخر أيامه. هُم أيضا عندما كبروا وبحثوا عن المال لم يجدوا لا دراهم ولا غيرها فكذَّبوا معلمهم واستمر كلٌّ منهم في كتابة سيرته الحزينة.
يتحدث عن صديقته الشاعرة التي كلما بارك لها الزواج بينه وبين ذاته تطلقت على النحو نفسه ثلاث مرات! وهي مغرمة بالكُتاب سواء كانوا شعراء أو روائيين أو نقاد، لكنّ السارد متفائل بالنسبة إليها حيث يراهن أنها ستتزوج بمدير دار نشر في المرة الرابعة. يُخبرنا السارد عن هوايته المفضلة وهي الكتابة، فقد قرر أن يكتب روايةً، اختار لها بطلا طماعا يريد أن يحصل على الكثير من المال بسرعة قياسية، ذلك ما يدفعه إلى التعجل لكتابة الرواية في شهرين فقط. وفي منتصف الليل يفكر السارد في وطنه ويريد أن يكتب قصيدة مرثية يبكيه فيها تساعده على الشهرة وذيوع الصيت.
لقد استعار حاسوب صديقه على أن يعيده إليه بعد يوم، لكنه لم يفعل لأنه استأنس بالحاسوب ولأن الصديق لم يسأل عن حاسوبه صار اليوم أياما كثيرة حتى أصبح الحاسوب ملكا للسارد الذي أعلن أنه سرقه من صاحبه ولمَ لا؟ فالحكام ووزراؤهم يسرقون الشعب والشعب ليعوِّض سيسرق بعضه البعض الآخر. الفقراء لا يملكون إلا الدموع والحطام، والموت الذي يخطف أحباءَهم كما خطف الصديق العزيز على السارد الذي لا يتمنى أن يرحل أحد عن الحياة في أشهر البرد القارس ويستبدل دفء البيت ببرد حفرة موحشة. وكأي موظف بائس لا يعيش أيام الشهر بل ينتظر انقضاءَها حتى يأتي آخر يوم فيه ليسحب أجرته التي تنتهي في غضون أسبوع واحد، وبعدها يعيش السارد أسوأ ثلاثة أسابيع فزوجته تنقلب عليه بعد أن غمرته لأيام معدودة بحنانها وأدهشته بإثارتها.
ترد قصة «الله لا يحب البكائين” ([55]) سابعة في المجموعة؛ يحكي السارد/المدرس عن المستقبل مستشرفا يوم تقاعده بعد أن يبلغ الستين بسرعة وفي انتظاره حفل تكريمي بلا معنى. يُخيَّلُ إليه أن الحاضرين يتسلَّوْن بالتناوب على أخذ الكلمة لمدحه وإطرائه، منهم الذين سبقوه للتقاعد وآخرون مخضرمون وبضعة جُدد… لكن ما سيسعده في هذه الاحتفالية المفترضة مجيء الأستاذة أمل وطبعها قبلة على خده الأيسر وجلوسها بجانبه إلى أن يستلم لوحة تشكيلية كهدية من منظمي الحفل عرفانا معنويا بسنوات التعب التي أمضاها منتقلا بين القاعات متأبطا محفظة وعلبة طباشير وبضعة كتب مدرسية. مِثْلَ المتقاعدين سيتعود على ارتياد المقاهي لقراءة الجرائد بالتناوب معهم، وسوف يمضي الكثير من الوقت يتذكر ساعات العمل في الأقسام وأنواع التلاميذ والمدراء والزملاء.. ويعتقد أن حياته الزوجية ستنهار وأن ابنته الكبرى ستهرب مع صاحبها الغريب وأن ابنه سيدمن الحشيش، وسيرحل البائس عن الحياة بعد سنوات قليلة من تقاعده ليتزوج آخرٌ زوجته ويعبث بملابسه وكتبه وأغراضه.
هو الذي عاش حياته حريصا على ألا يتعرض لفضيحة مدوية كما حكى في قصة «قراصنة بقبعات زرق” ([56])، السارد رجلٌ بدائيّ تهمه سمعته أكثر من أي شيء، ليست لديه طموحات كالشهرة أو المجد أو الثروة أو الزعامة، بل كانت معظم أمانيه تتلخص في مواصلته الحياة مجهولا خاملا وغامضا بلا قضية وبلا أعداء. الشيْء الوحيد الذي يعرفه هو خوفه من المجهول المخبوءِ له في الغيب.
الفشل، مأساةُ السارد التي ضيعت آماله، رُسوبهُ المتكرر في اختبارات متنوعة وأحلام عديدة باتت سرابًا. يُقِـرُّ بإخفاقاته في قصة «فشل بأذنين طويلتين” ([57])؛ قيمٌ كثيرة تمنّى أن يتصف بها ولم يفلح، أشياء مهمة تمنّاها من نصيبه لم يحققها، مِهَنٌ تمنّى تجريبها وأشخاص مهمون تمنّى أن يكون مثلهم كبعض الفلاسفة والشعراء والروائيين العملاقة ولم يستطع لأنه فاشل. غير أن أعظم ما أخفق فيهِ عدمُ قدرته على تربية الأمل والطمأنينة في قلبه حيث أخذ الوسواس الليلي والقلق الصباحي مكانهما. ويعتقد في النهاية أنه أخفق حتى في تفسير فشله ومحاولة إقناعنا أن كل أحلامه تبخرت وآلت كالقشة في مهب الريح.
يقول لنا السارد في قصة «الغابة والحطاب” ([58]) أنه يحب الشعر ويغبط الشعراء الذين يكتبون قصائد لذيذة التذوق وجريئة الطرح، ألفاظها بسيطة لكنها شاعرية، معانيها عميقة لكنها مفهومة. بينما لا ينجذب للغموض في الشعر. يفضل الليل لإسقاط إلهامه على الواقع وكتابة قصائد تتجول في المدن والشوارع حيث الصِّبية والعجائز والعمّال كلٌّ هائم في ما يفعله. الليلُ يرتبط بالأحداث الكبرى كالانقلابات العسكرية والتهريب والخيانة والمعارك بين العصابات والسرقة وصخب المراقص الليلية… هكذا الليلُ بالنسبة إلى السارد غنيٌّ بما يجري فيه لذلك فهو يغذِّي القصيدة ويعطيها الحياة. وهي عنده غير مرهونة بزمان معين أو مكانٍ محدَّد، يكتبها الشاعر في كل البلدان والفضاءات مفتوحة أو مغلقة، فكما يمكنه نظمها في حديقة سينظمها أيضا في حمام. يمتعض السارد من طريقة تعاطي النقاد القساة مع الشعر الجديد ويشبه صرامتهم في التعامل مع الإبداع بتعامل دركِيٍّ مع لص حقير، وشتان بين ذاك والشاعر صاحب القلب الطيب، الإنسان الوديع الذي يحلم بتغيير الواقع من حالٍ إلى حالً أحسن.
استخلاصـات
تتشابه الطريقة السردية التي يحكي بها السارد الذي يتبناه كل من فرانز كافكا وحسن بولهويشات من حيث الضمير، حيث إن كليهما يعتمد ضمير المتكلم المفرد مما يُستنتَج منه أن ما يحكيانه في الكثير من جوانبه يعبر عن حقيقتهما وسِيَرِهِما في الحياة. فضلا عن اتسام كتاباتهما بالوصف الدقيق للكائنات والأغراض والمشاعر، وبهَيمنةِ موضوعاتٍ فنية بعينها على النصوص؛ وسنتوقف عند موضوعتين منها، الغير والبؤس في نصوص مجموعة “القسوة تبدأ بسقوط تفاحة”.
موضوعتان ارتبطتا بمكونين فنيَّين؛ مكون المكان وله حضور بارز في القصص التي عُنيت بها هذه المقالة، حيث ينقسم إلى فضاءات مفتوحة كالشارع والمدينة ثم فضاءات مغلقة كالبيت والمقهى. الأحداث جرت متراوحة بين هذه الأماكن المتنوِّعة والمختلفة من حيث المساحة والاعتبار بالنسبة إلى السارد. جاء في قصة “الغابة والحطاب”، “الأطفال في مقاعدهم الخلفية، صغار آخرون في الشرفات، تتكفل الأمهات بالرد على تلويحة العابرين بإيماءة الرأس. في الليل تمر العربات السرية، معارك بالسيوف، شتائم في محطات الطرق، كنّاسون يمسحون الرصيف”([59]) . كما هو بادٍ فإن الشارع يتحول من مكان للتجول عنده إلى مكان لالتقاط مشاهد تنبض بحياة المجتمع نهارا وليلا، والظاهر أن المدينة ببناياتها وأفرادها وجماعاتها وطرقها تمثل باعثا مهما للكتابة بالنسبة إلى بولهويشات. نجد كذلك المقهى كمكان، تحتل حيّزا مهمًّا في معظم القصص وقد ذُكرت سبع عشرة مرة، يقضي فيها أوقاتا كثيرة خولت له أن يُطل إطلالة بانورامية من شرفتها على ما يجري من أحداث خارجها وتدوين عدد لا بأس به من الأفكار. أما مكون الزمان فينقسم إلى ثلاثة أزمنة حيث لم يكتفِ بولهويشات بتحريك بطل قصصه في الماضي والحاضر، بل جعله يفترض أحواله في المستقبل. الماضي الذي يتحدث عنه يصفه بالبعيد قاصدا فترة الطفولة التي يتأسف عليها في لحظات كثيرة، كما ورد في قصة “وحوش وظلال خافتة”، “وا أسفاه على الزمن الماضي… ويا حسرة على ليالي الشتاء الطويلة… كنا نتسكع في العالم كل ليلة، نعبُر البحار والمحيطات… نفعل كل شيء دون أن نغادر مدننا الصغيرة” ([60])، بينما الحاضر بئيس علامته البارزة هي المعاناة ، فيما المستقبل بعيد كذلك، لكنه يتوقعه في قصة “الله لا يحب البكائين” بمسحة سوداوية يصور بها مصيره المحزِن.
ثيمة الغيـر
يرى جيل دولوز أن الغير يُمثِّل عالَمًا إنسانيا متعدد الذوات، بمعنى أنه بنية علاقات تنتج عن التفاعلات بين الأفراد كأغيار؛ فكل شخص يمثل غيرا للآخر وضمن علاقتهما يكون كل طرف وسيطا للآخر بالمعنى الإيجابي لتحقيق رغبة كل ذات. كما يعتبر الفيلسوف المعاصر أن الوسطاء ضرورة في الإبداع ودونهم ينعدم الإبداع([61]) . في هذا الصدد يُشكِّل الغير بالنسبة إلى بولهويشات عاملًا ووسيطًا محفزًّا على الكتابة الإبداعية السردية التي يتخللها الوصف الدقيق لهؤلاء الناس الذين تجمعهم معه في الواقع أو في الخيال صلات متنوعة؛ فبالنسبة إليه تبدو العائلة مؤثِّرة في حياته وقد ذكرها سبع مرات([62]) في مجمل النصوص. أفراد العائلة حاضرون حضورا ملحوظا في أغلب القصص، الجَدّة بخبرتها في الحياة والجَدُّ بجبروته وصرامة أحكامه، والأم والأب أيضا، ثم الأخت، حتى أن أكثر الأقارب انطوائية تم استحضاره وهو العم.
نجده يحكي عن صداقاته حسب درجتها حيث الصديق المقرب والحبيبة([63]) يرحلان عن الحياة تاركين حسرة في نفسه. بينما يطول عمر الحمقى واللصوص والصعاليك ([64])، مما يزيد من حدّة الاستفزازات التي يتعرض لها الكاتب فتتداعى الأسئلة حول الوجود وأسرار الكون وحكمة الله في أقداره.
لا يحب الأطباء([65]) ويتمنى ألاّ يأتيَ يوم يكون فيه تحت رحمة نذالة بعضهم، يتوجس منهم وكل ما يتعلق بهم كالأدوية والعيادات والصيدليات، لجَدَّتِهِ دور محوري في خوفه منهم حيث كان في صغره يسمعها تتهم الأطباء بالمتاجرة بصحة الناس. علاقته بالنقاد([66]) – كونه شاعرا – ليست على ما يرام، هم أيضا عنيفون في نقدهم للشعر، فلا يجدُهم يهتمون بجماليات اللغة والمعنى أكثر من اهتمامهم برفض أفكار الشعراء. عنده أصدقاء افتراضيون([67]) تعرف عليهم في موقع فيسبوك الذي يشكره دائما لأنه أتاح له التعرف عليهم، إذ بالرغم من أنه يختلف معهم فكريا في قضايا عديدة إلا أنهم يتفاعلون معه في كل ما ينشره على حسابه في هذا الموقع.
لا ينسى البطل أن يتحدث عن سائق التاكسي وعن نادل المقهى([68]) اللذين يتحفظ على سلوكهما، بينما يُثني على تلميذتيه في المدرسة الإعدادية، وعبرَهُما يتذكر زملاءه التلاميذ حينما كان تلميذا لدى المعلم سي العربي في ذلك الماضي السحيق. لديه صديقة شاعرة([69]) هي أيضا خصّها بفقرة حكى أسرارها التي لا تخفيها هي نفسها، ثم يتوقف لحظات مع مواصفات الشخصية التي يكون صاحبها بطلا للرواية التي قرر كتابتها.
أما الوزراء وأزلامهم([70]) فيعتبر أنهم وُجِدوا ليسرقوا وينهبوا ويسلبوا الفقراء قُوتَهم وأحلامهم. من الغريب أن يقرر الإنسان ماذا سيكون في المستقبل وعلى أيّ حال سيكون، أما هو فيصور نفسه شخصا آخرًا([71]) عندما يبلغ الستين، وخلال احتفالية تقاعده، يرى أنه يستقبل عبارات الإطراء والمديح من لدن زملائه الجدد والقدامى خلال تكريمه. إنه يعتقد أن نهاية عمله ستكون إعلانا أيضا بتشتت أسرته، الابن الضال مدمن والابنة الوحيدة ستهرب مع صاحبها والزوجة ستَعِيفُه لأنه صار هرما، هكذا ينتهي به مسار الحياة قارئا رتيبا للجرائد في المقاهي منتظرا مصيره.
ثيمة البؤس
تؤشر اللغة التي يوظفها بولهويشات على الضياع والوحدة، بالرغم من أن البطل في قصصه يؤمن بالأمل والحلم، ثم إنه لا يوفر جهدًا لمحاولة تحقيق طموحاته في الحياة، غير أنه يصطدم بواقعٍ يهزمه عادة، ففي معظم القصص يصرح هذا البطل أن الحال آل به بائسا في العديد من المناسبات. حيث تعرّف على البؤس – المشار إليه في المجموعة أربع مرات([72]) – وهو طفل بعد موت أبيه الذي يبدو أنه لم يورِّث ابنه سوى عربة اتخذها وسيلة للعمل ولتنقل العائلة، سار يجرها حتى تسببت له بالبتور في ظهره والتورم في قدميه من شدة ثقلها. امتهن التدريس، عمل معلما ابتدائيا، فكان مُفلسًا([73]) كأقرانه من المعلمين الملتحقين. هكذا انتهى به الأمر في قرية جنوبية نائية بمدرسة تعيسة هي الأخرى لا أبواب ولا نوافذ، وهو الذي عاش ماضيه متمنيا عيش حياة هنيئة بصباحات هادئة تزينها سلة فواكه في شرفة مطلة على منظر جميل والقهوة والجرائد اليومية، فإذا به يجد نفسه تحت سقف واحد مع المهربين والمجانين([74]).
البطل طيّب جدّا فإذا لم يحزن على حاله فإنه يبتئس([75]) على التعيسين من الفقراءِ الأبرياء الذين يُقتلون يوميا برشاشات وصواريخ القوى المتحاربة في بلدانٍ أهلكتها الأسلحة الثقيلة والخفيفة، وهي لا تنفجر إلا في وجه هؤلاء البؤساء أو تسقط على رؤوسهم. هكذا تتمزق المشاعر في قلبه وهو يشاهد نشرات الأخبار المعروضة على التلفزات العربية، بسبب الظلم المستشري في عالم القرن الحادي والعشرين، وكأنه يتساءل ألا تكفيهم تعاستهم بسبب الفقر والإعياء الشديد في معامل التَّعب يوميا؟
يَبرز البؤسُ كثيمة طاغية على أجواء هذه المجموعة، تحديدا، في قصة “فشل بأذنين طويلتين”؛ يقر البطل أنه فشِل وهي كلمة ذكرت خمس عشرة مرة في هذه القصة([76]) . يعترف بالفشل في تحقيق السعادة وبالفشل في التخلص من الحزن، سنوات كثيرة ظل حبيس هذه المنطقة الوسطى بين الهدوء والضوضاء، بين الاستقرار والترحال، بين الأمانة والسرقة، بين الطاعة والعصيان. كما فشل في أن يكون جِدّيا ثائرا ضد نزواته الذاتية وضد من يسرقون اللقمة من أفواه الجائعين.
إن شقاءَه في الحياة سبَبُه عدم قدرته على تبني منهج أو أدلوجة واضحة، فلا هو استطاع أن يصير سيِّدا رأسماليا متصفا بمبادئ الليبرالية، ولا مناضلا اشتراكيا متمسكا بقواعد بيان ماركس وإنجلز. لقد أخفق البطل حتى تسبب له الفشل في فقدان الأمل وبدَل أن يهدأ ويعيش بالحد الأدنى من الطمأنينة، انتهى إلى معاناة مستمرة مع الوسواس الليلي وقلق الصباح والندم على أشياء كثيرة لم يفعلها.
يتجلَّى البؤس معُجميا في الألفاظ التي تضيء مفهومين مركزيَّيْن في المجموعة القصصية، الأولُ مفهوم الضياع، الظاهر في الاغتراب النفسي في الزمان والمكان، وتحيل عليه جمل وألفاظ من قبيل: أتسكع على الدوام في دروب ضيقة ([77])، وضَعت رجلي على قرية نائية بالجنوب/المأساة ([78])، تضاءل كل شيء/المراثي ([79])، أمسح الدموع بالأكمام ([80])، إلهي.. أنا عبدك الضعيف/عدت متسللا على متن القطار في رحلة سندبادية ([81])، الواقف أمام أبراج الضياع/أنا القادم من بلاد حزینة وقبیلة حزینة ([82])، عشت شبيها بمتصوف غريب في قرية بعيدة([83]) ، تتبعثر خطواتي/أكاد أهوي ([84])، أربِّي وسواس الليل/قلق الصباح([85]) . والثاني مفهوم الوحدة، أكثر ما يدل عليه ضمير المتكلم المفرد أنا، فعدا قصة “وحوش وظلال خافتة”، نجده سرد كل القصص موظِّفا هذا الضمير، تعبيرا عن العزلة وإبرازا للذات ككيان له تجربة شخصية محدّدة ضمن التجربة البشرية العامة. كما تدل عليه عبارات وألفاظ مثل: أنا الجالس تحت شجرة/أقف على حافة الوادي ([86])، بقيت وحيدا ([87])، متروكا/مجهولا/غامضا/خاملا ([88])، انتهيت حائرا مرتابا ([89])، قررت ألا أدعو مع الله أحدا([90]) .
تتظافر المعاني المستخلصة من هذين المفهومين المهيمنين على المضمون الحكائي للقصص، لتتجلى ثيمة البؤس والشقاء الذي يعيشه البطل بكل وضوح كونه يحصي مآسيه؛ ففي كل قصة مأساة. وقد يُعتقد أن الكاتب يبالغ في نزعته التشاؤمية، لكنّ حقيقة الحال لا تحتمل الكذب أو تجميل بشاعة الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في وسط يعاني مشكلات مركبة من هذه البُنى. هكذا يحِق لنا الذهاب إلى اعتبار المجموعة تنتمي للأدب الواقعي، الواقع الذي يبدعُ فيه متأثرا بتحولاته وتطوراته وانزلاقاته بلا زخرف وبلا زينة.
هيمنت على نصوص حسن بولهويشات موضوعتان طاغيتان، ثيمة الغير (أقارب، غرباء، كتّاب…) وثيمة البؤس (شقاء، فشل، عبث…) ومن خلال هاتين الثيمتين اكتشفنا مثالا جديدا لولادة الإبداع من الألم الذي يُعد المغذِّي المحوري لتجربة الكاتب في هذه المجموعة.
تركيــب
بيْن كتابات فرانز كافكا وحسن بولهويشات قرن من السنوات، كتب الأديب التشيكي رواياته وقصصه ويومياته ورسائله في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين، ثم كتب الأديب المغربي إبداعاته السردية في العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين. شاعت ثيمتا الآخر والبؤس في كتابات كافكا كما وجدناها مهيمنة على مجموعة حسن القصصية. إن هذا التشابه في النبرة الحزينة التي يكتب بها الكاتبان لدليل على أن شقاء الفرد في الحقبتين الحديثة والمعاصرة ما يزال مستمرا، وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد أثرت في السابق، فإن الحروب المتتالية التي عايشها اللاحق منذ التسعينات وما تلاها من أحداث دامية في العالم العربي أثرت أيضا في تجربته الإبداعية.
أسلوب كافكا يُحدث الارتباك لدى المتلقي في استقباله لما يقرأ فقط، فيبدأ بطرح عدد من الأسئلة حول التحول في كينونة الشخصيات والانتقال من زمن إلى آخر دون تأشير على ذلك، بل يتعداه إلى إرهاقه في محاولة الاستيعاب، حتى أن السرد لا يتخذ خطًّا تصاعديا أو استرجاعيا؛ إذ نُلفِيه يزاوج بين الطريقتين ويقحِم الحوار فجأةً، كما يعتمد على أكثر من سارد في النص الواحد، وغالبا ما يكون ساخرا ومنتقدا. أبطال كافكا يصطدمون باستحالة الحياة، وبالرغم من ذلك يجاهدون من أجل الاستمرار، يفقدون أملا ويعثرون على آخر، يدفعه بهم لتمثيل نماذج بشرية شبيهة لهم.
كذلك صاحب “القسوة تبدأ بسقوط تفاحة”، له القدرة على جعل ما هو خصوصي يبدو كونيا، أسلوبه يميل أحيانا إلى الانتقاد وأخرى إلى السخرية ويميل إلى العجائبية في بعض القصص، بالرغم من وجود ما يبرر الأحداث في الواقع كأسماء أشخاص مروا في حياته أو ما يزال على رابطة بهم. ويتميز بإشباع الوصف لأبعاد الشخصيات نفسيا وظاهريا. في هذه النصوص وجدنا اليوميات الشخصية والأخبار السرية للكاتب، ووجدنا الرسائل التي تحمل النقد للمجتمع والسلطة، فتجلت الكافكائية واضحة عنده كما تتجلى عند الكثيرين من كتاب جيله.
المراجع والمصادر
• أحمد فاضل، هموم كافكا: مقالات مترجَمة. دار أمل الجديدة للنشر والتوزيع، ط 1، 2017.
• جيل دولوز، خارج الفلسفة: نصوص مختارة. ترجمة عبدالسلام بنعبدالعالي وعادل حدجامي، منشورات المتوسط، ميلانو 2021.
• حسن بولهويشات، القسوة تبدأ بسقوط تفاحة: مجموعة قصصية، أتاحها الكاتب في أبريل 2020 على شبكة الويب بنظام بي دي إف، تصميم فيصل شحيمان، غلاف سليمان الدريسي.
• سلطان بن سعيد، بوح العتبات. (مقالة) المؤتمر الدولي حول القضايا الراهنة للغات، إيران، فبراير 2021، د ط.
• عبد الحق بلعابد، عتبات: ج. جينيت من النص إلى المناص. منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم، الجزائر العاصمة 2008، ط 1.
• عبدالرزاق دحنون، النساء في حياة كافكا. مجلة الجديد اللندنية، العدد 76، مايو أيار 2021.
• فرانز كافكا، الأعمال الكاملة: الجزء الأول. ترجمة الدكتور خالد البلتاجي، العربي للنشر والتوزيع. ط 1، 2014.
• فرانز كافكا، اليوميات. تحرير ماكس برود، ترجمة خليل الشيخ. منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي 2009، ط 1.
• فرانز كافكا، القصر. ترجمة مصطفى ماهر، منشورات المركز القومي للترجمة، ط 1، جمهورية مصر العربية 2009.
• فرانز كافكا، المحاكمة. ترجمة جرجس منسي 1970. والقضية، ترجمة مصطفى ماهر 2009.
• فرانز كافكا، المحاكمة. ترجمة جرجس منسي. مطابع الأهرام، ط 1، مصر 1970.
• فرانز كافكا، رسائل إلى ميلينا. ترجمة هبة حمدان، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن 2017، ط 1.
• فرانز كافكا، رسالة إلى الوالد. ترجمة إبراهيم لطفي (الآثار الكاملة مع تفسيراتها-الجزء الأول)، دار الحصاد للنشر، دمشق 2003، ط 1.
• مصطفى ماهر، مقالة عن كافكا. مجلة تراث الإنسانية، العدد 11، نوفمبر 1967.
• موقع يوتيوب youtube.com الهوامش: ([1])مصطفى ماهر، مقالة عن كافكا. مجلة تراث الإنسانية،العدد 11، نوفمبر 1967. ([2]) فرانز كافكا، اليوميات. تحرير ماكس برود، ترجمة خليل الشيخ. منشورات المجمع الثقافي، أبو ظبي 2009، ط 1، ص 10. ([3]) يراجع في هذا: مقدمة المترجم مصطفى ماهر، لرواية القصر، منشورات المركز القومي للترجمة، ط 1، جمهورية مصر العربية 2009. *كاتب مغربي. ([4]) مجموعة قصصية تضم 13 نصا في 56 صفحة، أتاحها الكاتب رقميا عبر شبكة الويب في أبريل 2020، غلاف سليمان الدريسي، تصميم فيصل أحميشان. ([5]) يُنظر في هذا: مقدمة المترجمان لروايتي المحاكمة، ترجمة جرجس منسي 1970. والقضية، ترجمة مصطفى ماهر 2009. ([6]) فرانز كافكا، الأعمال الكاملة: الجزء الأول. ترجمة الدكتور خالد البلتاجي، العربي للنشر والتوزيع. ط 1، 2014، ص 4. ([7]) جيرمي أدلر، متخصص في أدب كافكا. حوار تلفزي مع قناة بي بي سي، برنامج سينما بديلة، بُثت الحلقة بتاريخ 03/12/2017، ثم أتيحت على موقع يوتيوب. ([8]) نفسه، ص 4. ([9]) نفسه، ص 4. ([10]) أحمد فاضل، هموم كافكا: مقالات مترجَمة. دار أمل الجديدة للنشر والتوزيع، ط 1، 2017، ص 5. ([11]) الأعمال الكاملة، ج 1، مرجع سابق. ص ص 7/78. ([12]) نفسه، ص 7. ([13]) نفسه، ص 35. ([14]) نفسه، ص 41. ([15]) نفسه، ص 32. ([16]) نفسه، ص 35. ([17]) نفسه، ص 51. ([18]) نفسه، ص 52. ([19]) نفسه، ص 78. ([20]) فرانز كافكا، المحاكمة. ترجمة جرجس منسي. مطابع الأهرام، ط 1، مصر 1970. ([21]) نفسه، مقدمة المترجم. ([22]) نفسه، ص 7. ([23]) نفسه، ص 39. ([24]) نفسه، ص 70. ([25]) نفسه، ص 103. ([26]) نفسه، ص 113. ([27]) نفسه، ص 154. ([28]) نفسه، ص 200. ([29]) نفسه، ص 239. ([30]) اليوميات، مرجع سابق، ص 23. ([31]) نفسه، ص 33. ([32]) نفسه، ص 416. ([33]) لويس غروس، ما لا يدرك في حياة كافكا. ترجمة زينب بنيابة. نقلا عن عبد الرزاق دحنون، النساء في حياة كافكا. مجلة الجديد اللندنية، العدد 76، مايو أيار 2021، ص 174. ([34]) نفسه، ص 175. ([35]) فرانز كافكا، رسائل إلى ميلينا. ترجمة هبة حمدان، الأهلية للنشر والتوزيع، الأردن 2017، ط 1، ص 19. ([36]) اليوميات، ص 494. ([37]) فرانز كافكا، رسائل إلى ميلينا. مرجع سابق ص 6. ([38]) عبدالرزاق دحنون، النساء في حياة كافكا. مرجع سابق، ص 176. ([39]) فرانز كافكا، رسائل إلى ميلينا. مرجع سابق، ص 13. [40] نفسه، المتن، مجمل الرسائل والبطاقات. [41] نفسه، ص 25. [42] نفسه، ص 291. [43] نفسه، ص 39. [44] فرانز كافكا، رسالة إلى الوالد. ترجمة إبراهيم لطفي (الآثار الكاملة مع تفسيراتها-الجزء الأول)، دار الحصاد للنشر، دمشق 2003، ط 1، ص 603. ([45]) حسن بولهويشات، القسوة تبدأ بسقوط تفاحة: مجموعة قصصية، أتاحها الكاتب في أبريل 2020 على شبكة الويب بنظام بي دي إف، تصميم فيصل شحيمان، غلاف سليمان الدريسي. ([46]) عبدالحق بلعابد، عتبات: ج. جينيت من النص إلى المناص. منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم، الجزائر العاصمة 2008، ط 1، ص 15. ([47]) سلطان بن سعيد، بوح العتبات. (مقالة) المؤتمر الدولي حول القضايا الراهنة للغات، إيران، فبراير 2021، د ط. ص 6. ([48])عبدالحق بلعابد، عتبات: ج. جينيت من النص إلى المناص. مرجع سابق، ص ص 78-88. ([49]) حسن بولهويشات، القسوة تبدأ بسقوط تفاحة: مجموعة قصصية. مرجع سابق، ص ص 4-7. ([50]) نفسه، ص ص 8-11. ([51]) نفسه، ص ص 12-14. ([52]) نفسه، ص ص 15-16. ([53]) نفسه، ص ص 17-19. ([54]) نفسه، ص ص 20-27. ([55]) نفسه، ص ص 28-29. ([56]) نفسه، ص ص 30-32. ([57]) نفسه، ص ص 37-40. ([58]) نفسه، ص ص 41-43. ([59]) نفسه، ص 41. ([60]) نفسه، ص 9. ([61]) جيل دولوز، خارج الفلسفة: نصوص مختارة. ترجمة عبدالسلام بنعبدالعالي وعادل حدجامي، منشورات المتوسط، ميلانو 2021، ط 1، ص 19. ([62]) حسن بولهويشات، القسوة تبدأ بسقوط تفاحة: مجموعة قصصية. مرجع سابق، صفحات: 4-6-15-17-44-53-54. ([63]) نفسه، ص 6. ([64]) نفسه ص 6. ([65]) نفسه، ص 12. ([66]) نفسه، ص 42. ([67]) نفسه، ص 17. ([68]) نفسه، ص 20. ([69]) نفسه، ص ص 21-22. ([70]) نفسه، ص 25. ([71]) نفسه، ص 28. ([72]) نفسه، صفحات: 5-9-11-50. ([73]) نفسه، ص 5. ([74]) نفسه، ص 6. ([75]) نفسه، ص 11. ([76]) نفسه، صفحات: 37،38،39،40. ([77]) نفسه، ص 4. ([78]) نفسه، ص 5. ([79]) نفسه، ص 11. ([80]) نفسه، ص 13. ([81]) نفسه، ص 15. ([82]) نفسه، ص 16. ([83]) نفسه، ص 18. ([84]) نفسه، ص 22. ([85]) نفسه، ص 39. ([86]) نفسه، ص 5. ([87]) نفسه، ص 6. ([88]) نفسه، ص 30. ([89]) نفسه، ص 39. ([90]) نفسه، ص 52.
باحث من المغرب