من ذاكرة صفحات سورية

من ذاكرة “صفحات سورية” الحوار الذي أجرته “رزان زيتونة” مع “عماد شيحا”

رزان زيتونة

2-أيلول-2004

عماد شيحا بعد ثلاثين عاما في السجون السورية : أتمنى أن لا تكون الفرصة قد فاتت للبدء بشيء جديد

اذا كان النضال من أجل الحرية ارهاباً فأنا ارهابي

عندما نسأله عن المنظمة التي أمضى بسبب انتمائه إليها ما يزيد على عمره بعمر ونصف عمر في المعتقل يبدو عماد شيحا متحفظا عن الإجابة، معتبرا أن الحديث عن تلك الفترة، يتطلب التطرق إلى مختلف ظروف تلك الحقبة التاريخية محليا واقليميا ودوليا، مضيفا أن من الأجدى “الحديث عن المستقبل”. انتسب عماد الى المنظمة الشيوعية العربية عام 1973، واعتقل في 21 حزيران 1974 مع مجموعة من رفاقه عندما كان في الحادية والعشرين من عمره. تنقل خلال فترة اعتقاله بين سجون مختلفة، من سجن المزة إلى سجن تدمر الذي أمضى فيه 16عاما، إلى سجن عدرا الذي أمضى فيه ست سنوات، وأخيرا سجن صيدنايا الذي بقي فيه حتى تاريخ الإفراج عنه في 3 آب 2004 بعد ثلاثين عاما من الاعتقال، ليكون بذلك أقدم سجين سياسي في تاريخ سوريا الحديث. كانت المنظمة قد نشطت في الأوساط الطالبية اليسارية بشكل أساسي، ولم يتجاوز تعداد أعضائها العشرات في كل من سوريا ولبنان والكويت. في العام 1975 اعتقل جميع أفراد المنظمة في البلدان الثلاثة. ويمكن اعتبار ذاك العام تاريخ تصفية المنظمة أو اجتثاثها نهائيا. يؤكد عماد في بداية هذا الحوار الذي جرى في منزل أسرته في دمشق، أن كل ما يعبّر عنه من آراء حاليا، خاضع لتصوره ما قبل “الحرية”، وأن الاحتكاك بالواقع ورؤية الأمور عن قرب قد يغيّران هذه الآراء، أو يطورانها أو يؤكدانها

لماذا اعتمدت المنظمة أسلوب العمل المسلح؟

– لم نصل في المنظمة إلى مرحلة نعلن فيها الكفاح المسلح. كان نشاطنا سياسيا في الدرجة الأولى، والعمليات التي قمنا بها ضد المصالح الأميركية أخذت سمة العمل الدعائي، بمعنى أنه أريد لها أن تكون صدى لنشاط سياسي فقط.

لكن هذه العمليات تعتبر وفق مصطلحات اليوم إرهابا…

– كما قلت، العمليات التي قمنا بها كانت ذات طابع دعائي. كنا حريصين كل الحرص على أن لا تؤدي إلى إيذاء أي إنسان، ومع ذلك فقد استشهد مواطن واحد، حارس بناء، نتيجة إحدى العمليات، رغم اتخاذنا أقصى الاحتياطات لتجنب مثل هذه النتيجة. إذا كان النضال من أجل الحرية إرهابا فأنا إرهابي. لكن الإرهاب هو الذي يتسبب في مقتل ضحايا أبرياء على خلفية يأس أو جنون. وفي إمكاننا رؤية أمثلة كثيرة عنه في عالمنا الحالي، كأحداث أيلول ومدريد مثلا. كل عمل عنيف يفترض أن يبنى على برنامج وهدف وأرض سياسية وأن يكون محكوما بقيم أخلاقية. هذا في ما يتعلق بالحاضر، فالظروف تختلف اليوم عما كانته قبل ثلاثين عاما. الظرف الحالي للعالم لا يسمح باستخدام الكفاح المسلح كأداة من أدوات النضال لتحقيق هدف سام. الآن هناك وسائل أخرى للكفاح من أجل العدالة والحرية

لماذا في رأيك طالت فترة اعتقالك كل هذه الفترة، رغم أن معتقلين من تنظيمات أخرى مارست عملا مسلحا، كالإخوان المسلمين مثلا، أمضت فترات أقل من الاعتقال؟

– هذا السؤال يجب توجيهه الى السلطة وليس اليّ. لكن الطريف أن المنظمة مارست نشاطا سياسيا وكفاحيا واحدا في لبنان وسوريا والكويت، ومع ذلك كانت أقصى العقوبات التي أنزلت بأعضائها في لبنان والكويت ثلاث سنوات سجناً. من ناحية أخرى فقد تلقيت حكما من محكمة استثنائية في ظل قانون الطوارئ بالسجن المؤبد. ووفقا للقانون السوري يخلى سبيل المحكوم بالسجن المؤبد بعد 25 سنة من تنفيذ العقوبة. حتى هذا الأمر لم يتم التقيد به.

وباقي الرفاق؟

– تلقى خمسة من الرفاق حكما بالإعدام، نفذ في 2 آب 1974. ثمانية أعضاء حكموا بالسجن 15 عاما وخمسة حكموا بالسجن المؤبد، من بينهم فارس مراد الذي أفرج عنه في شباط هذا العام

ما هي أسوأ مراحل اعتقالك؟

– كانت فترة سجن تدمر الذي أمضيت فيه 16عاما هي الأكثر سوءا وشقاء بسبب العزلة شبه الكاملة عن العالم. كانت هناك مراحل تتاح لي فيها قراءة بعض الصحف أو الكتب، لكن على العموم، كانت العزلة هي القاعدة، وهذا ما حجب عنا أحداثا كبيرة في مجريات العالم. مع العلم أن المعتقلين الآخرين في تدمر من غير اليساريين، كانوا في عزلة أكبر بكثير من عزلتنا.

الجسد يتحطم لكن الروح تقاوم

كيف يتعامل المعتقل مع عملية التعذيب الجسدي والنفسي التي يتعرض لها؟

– المسألة ضابطها الأساسي العقل الذي يستبطن قوة الروح. في أغلب حالات التعذيب، الجسد يتحطم، لكن الروح تقاوم. في البداية تكون المقاومة من أجل حماية الآخرين، لكن حين يصير الآخرون في وضع مماثل لوضعك، تصبح المسألة دفاعا عن قضية تؤمن بها.

لقد تعرضت كغيري أثناء التحقيق لتعذيب وحشي وعنيف، لكن في العموم نحن لم نتعرض لما تعرض له آخرون في المعتقل وخصوصاً من التيار الديني. في تدمر مثلا، كان السجن يضج بالصراخ من وطأة التعذيب. وللمثال فقط، تعتبر “جهنم” و”الجنة” بالنسبة الى اللتيار الديني، أوصافاً قدسية لأنها من صنع الخالق ولا يمكن مقاربتها في الواقع. ومع ذلك، عبّر الكثيرون من هذا التيار بعد نقلهم من تدمر الذي أمضوا فيه أكثر من 20 عاما إلى سجن صيدنايا، بأنهم انتقلوا “من الجحيم إلى الجنة”. آخرون قالوا نستبدل كل ساعة في سجن تدمر بعشر سنين في سجن صيدنايا. هذا ليس من باب المبالغة، وليس لأن سجن صيدنايا جنة بالفعل، ولكن من وطأة ما قاسوه في تدمر من عذاب وألم وشقاء.

في تدمر لا يمكن السجين أن ينصب قامته ولا بد أن يبقى مطأطئاً رأسه تحت طائلة العقاب، وهذا ما أدى بالمعتقلين الذين انتقلوا من تدمر إلى صيدنايا، أن يمضوا وقتا طويلا للتعود على رفع الرأس والانتصاب بحرية. من غير المفهوم أن يستمر التعذيب بعد التحقيق والمحاكمة لسنوات طويلة، هذا خلق حطام بشر، وأدى إلى ترك آثار نفسية وجسدية لدى معظم المعتقلين

.

تبدو محتفظا بشباب روحي وجسدي إلى حد كبير، والبعض علق بأنك ربما تشكل شهادة حسن سلوك للسجون السورية

– أعتقد أنني بوضعي الجسدي والنفسي لا أمثل نموذجا للمعتقل السوري، وأرجع ما أنا فيه إلى اقتناعي العميق بما آمنت به، هذا بالإضافة إلى أن التربية المنزلية تضطلع بدور كبير في تحصين الروح وحملها على الدفاع عن جسدها. الأكثر أهمية، الدعم والمؤازرة من العائلة التي هي الرابط الوحيد للمعتقل مع الحياة، والتي بفضل تضحياتها التي تفوق تضحيات المعتقل، تجعله صامدا لا يفرط بروحه وكرامته واقتناعاته. أنا أدين لهذه العائلة التي ضحت بالكثير وعانت البؤس والشقاء لأكون ما أنا عليه الآن. اليوم، وبعد فراق 30 عاما، وبعد ثوان قليلة من اللقاء، أحسست كأننا لم نفترق، وكأنني لم أبتعد عن عائلتي سنتيمترا واحدا.

هذه طبعا ليست قاعدة. هناك تفاوتات كبيرة في أوضاع المعتقلين. كثيرون تدمرت عائلاتهم وعالمهم الخاص، والى هذا الدمار الشخصي والمادي والأسروي، يخرج المعتقل ليجد نفسه ممنوعا من الحقوق المدنية، وممنوعا من احترامه لذاته عبر عدم قدرته على إيجاد فرصة عمل، وعدم قدرته على التأقلم الاجتماعي والنفسي. هؤلاء ضحايا مرحلة، ولا يوجد منظمات رسمية أو أهلية تعمل على إعادة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع. أغلبية المعتقلين المفرج عنهم يتنكر لهم المجتمع بدل احتضانهم. هذه مسؤولية مزدوجة تقع على عاتق السلطة والمجتمع المدني بالعمل على إعادة الحقوق المدنية للمفرج عنهم والتعويض عليهم وتأمين العلاج وفرص العمل لهم، بهدف إعادة تأهيلهم ومساعدتهم في الاندماج في المجتمع من جديد. إنهم ضحايا مرحلة

شرط الاصلاح السياسي: كيف تقوّم الإفراجات الأخيرة؟

– تم نقل حوالى ثلاثمئة معتقل من سجن صيدنايا إلى الفروع الأمنية المختلفة، القسم الأعظم منهم من تنظيم “الإخوان المسلمين” المحكومين بالسجن المؤبد، وأمضى معظمهم أكثر من عشرين عاما في المعتقل، والفترة الكبرى منها في سجن تدمر قبل أن ينقلوا إلى صيدنايا.

في فرع الأمن العسكري كنا 217 معتقلا، 196 من الإخوان المسلمين والباقون تيارات مختلفة.

أفرج عن حوالى 85 معتقلا حتى الآن، وكان من المفترض أن يفرج عن الباقين خلال الأيام القليلة اللاحقة. ومع ذلك ورغم مرور ثلاثة أسابيع على ذلك لم يفرج عنهم بعد.

طبعا، بقي في سجن صيدنايا العشرات من المعتقلين من مختلف التيارات: البعث العراقي، منظمة التحرير الفلسطينية، التيارات الإسلامية المختلفة، وجمعيهم تنطبق عليهم شروط العفو التي أفرج عن زملائهم بموجبها، ومع ذلك لا يزالون قيد الاعتقال.

في جميع الأحوال، أتمنى أن تكون هذه بداية لغلق ملف الاعتقال السياسي لمعتقلي المرحلة الماضية في سوريا. أما غلق ملف الاعتقال السياسي بشكل نهائي، فيتطلب توافر شرط الإصلاح السياسي، وفي مقدمه إلغاء حال الطوارئ والقضاء الاستثنائي، وإعادة الاعتبار الى القضاء العادي.

بشكل عام أرى أن السلطة في مرحلة جديدة، وأتمنى أن لا تكون الفرصة قد فاتت للبدء بشيء جديد. هذا يحتاج الى جهد من السلطة والنخب الثقافية والسياسية الوطنية والديموقراطية، كي يثمر، ويسد باب الذرائع أمام التهديدات الخارجية. وإذا توافرت النية الصادقة عند تيارات في السلطة سيتحقق تغيير ما

كيف تصف أوضاع الاعتقال في سجن صيدنايا اليوم؟

– وضع سجن صيدنايا اليوم في أفضل حالاته. لحظة خروجي من سجن صيدنايا كان القسم الأول منه قد تم ترميمه وإصلاحه بشكل صار معه يتمتع بمواصفات صحية عالية.

وتبقى المشاكل الأساسية تتعلق بثلاث نقاط: الأولى أن هناك صعوبات في تأمين الدواء بصورة منتظمة، وتأمينه مجانيا للمعتقلين غير القادرين على دفع ثمنه.

النقطة الثانية تتعلق بنقل المعتقلين إلى المشافي، الأمر الذي يواجه عادة معوقات مختلفة، علما أن هناك مشروعاً في الوقت الحالي لإقامة مستوصف وعيادات محلية في السجن.

النقطة الثالثة تتعلق بالزيارات، فالمعتقلون الذين حوكموا أمام المحاكم الميدانية، كانت زيارتهم ممنوعة نهائيا إلا باستثناءات خاصة، أما الذين حوكموا أمام محكمة أمن الدولة، فكانت زيارتهم دورية كل شهر، لكن منذ سنتين ونصف سنة تم منع الزيارات نهائيا، ثم عادت الآن بشكل غير منتظم وضمن إجراءات معقدة.

عن السلطة والطيف الديموقراطي

كيف ترى المعارضة السورية اليوم؟

– يجب أن أرى هذه المعارضة عن قرب أولا لكي أبدي رأيا فيها. لكن على العموم، أعتقد أن كلاً من السلطة والطيف الديموقراطي السوري، في حاجة إلى الدخول في جدل بنّاء ومفتوح، لطي صفحة الماضي، وذلك بغلق الملفات الأليمة المتعلقة بحقوق الإنسان في سوريا عبر حلول عادلة ومنصفة، ومباشرة إصلاحات سياسية حقيقة، تطوي الماضي وتعمل على عدم تكراره. فالنبش في الماضي يبث الرعب في قلوب الناس ويبعدهم عن العمل العام. لا بد من خلق مناخات مناسبة لكي يساهم الجميع في هذا المجتمع

ماذا عن مستقبلك الخاص؟

– أود بداية أن أستعيد علاقتي مع العالم. المرء يبني تصوره في السجن عن الحياة وعن نفسه، بشكل نظري وموقت. بعد الإفراج، لا بد من إعادة ذلك التصور مع الحياة اليومية لفهم نفسي على أرض الواقع وفهم العالم بكل متغيراته، وهذا يتطلب زمنا، أقدّره لنفسي بثلاث سنوات على الأقل. من المستحيل أن يخرج المرء من عالم السجن حتى بعد سنوات من الإفراج عنه. عدا ذلك فإن هاجسي الأساسي بعد ترميم علاقتي مع الخارج، هو العمل.

لماذا عدت الى التدخين في فرع الأمن العسكري قبيل الإفراج عنك، رغم انقطاعك عنه منذ خمس سنوات؟

ربما انزعاجي وغضبي من المسافة التي باتت تفصلني عن الحرية

هل أحسست بالحرية الآن؟

– رغم وطأة ألم الاعتقال، لم أحس الحرية بعيدة عني يوما أبعد مما هي المسافة بين قلبين في جسد واحد. الحرية موجودة داخلي وقد عشتها دائما. عمق الإحساس بالحرية الداخلية ساعدني في التحليق سريعاً في فضاء الحرية الخارجية. هذا الإحساس يجعلني أشد تعلقا ببلدي الذي لا أفكر في مغادرته يوما.

أيتها الحرية … أيتها الحياة…

هنا بردى … بدا من هنا… وينتهي هنا… ومصبه القلب!

تغيرت دمشق؟ – كثيراً!

تغيرت: – قليلاً.

ووردة الروح؟ – ظلت كما هي تعبق عشقاً وشتاءً .

من هنا بدأنا ….. كان زمان آخر ناء، ولكنه ليس بعيد ! و ها نحن اليوم هنا ….

نغرف الماء نفسه ونسفح الدم ذاته … و قلوعنا مشرعة مثل بدايات البحر … و نهايات السماء.

هل تعود كما كنت؟ -أعودُ … أختار سرب اليمام لكني لا أصل.

أبدأ من جديد، أمواه من النساء تغسل ما شاب من الذاكرة من وصايا اليأس وتحفر في صخر الأمل, أعود من حيث نبعتُ … أُشبعُ نسغ أشجار تظل أطفالاً قادمين … دون خوف يشقون طرق حياتهم … ويزرعون سنديان الآتي … أقبض على حجري.

أيتها الحرية

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button