منوعات

الإمبراطورية الرومانية: سيرة التفكك والانقسام/ جو فيلان

ترجمة حيان الغربي

خلال القرن الرابع الميلادي، انقسمت الإمبراطورية الرومانية مترامية الأطراف إلى دولتين. ثمة قولٌ مأثور يفيد بأن روما لم تنشأ بين ليلةٍ وضحاها، بما معناه أن إنجاز المشاريع الكبيرة يستغرق وقتاً. فقد تأسست الإمبراطورية الرومانية، على سبيل المثال، بشكلٍ تدريجي وتطورت على مدى مئات السنين من مدينةٍ دولة إلى إمبراطورية هائلة تمتد على رقعةٍ واسعة بدءاً ببريطانيا وصولاً إلى مصر.

وكما أن روما وامبراطوريتها لم تبنيا في غمضةٍ عين، كذلك لم يكن انهيارها سريعاً أيضاً. وعلى مرّ قرونٍ من الزمن، بقيت روما حاضرةً للإمبراطورية، لكن حين قلب لها الدهر ظهر المجن، انتقل مركز القوة من المدينة بصورةٍ نهائية وانقسمت الإمبراطورية إلى دولتين مستقلتين في عام 395 ميلادي، دولة في الشرق وأخرى في الغرب، لكن لماذا انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية الرومانية الغربية والإمبراطورية الرومانية الشرقية؟ وهل حدث الأمر بسرعة؟

لعلنا نوجز الأسباب في اتساع رقعة الإمبراطورية وحدودها المترامية، الأمر الذي صعب من مهمة فرض السيطرة عليها، إلى جانب عوامل أخرى من قبيل الاضطرابات السياسية والاجتماعية، والثورات والغزو والهجمات، مما تعرضت له الإمبراطورية وأفضى إلى انقسامها في نهاية المطاف.

إمبراطورية مترامية الأطراف

لعله من السهل الاعتقاد بأن الإمبراطورية الرومانية قد انقسمت نتيجةً لاتساعها الكبير، لكن مارك همفريز أستاذ العلوم الكلاسيكية في جامعة سوانزي بويلز، يؤكد أن المسألة أعقد من ذلك. فعلاوةً على مساحتها الشاسعة، واجهت الإمبراطورية مشكلات متعددة الأوجه، مثل التنافس بين الحكام الرومان، والتهديد المتواصل من قبل القبائل الأجنبية والإمبراطوريات المتاخمة. على الرغم من ذلك، أفضى اتساع مساحة الإمبراطورية إلى عددٍ لا يحصى من التحديات. «كانت الإمبراطورية الرومانية هي أكبر دولةٍ تعرفها أوراسيا، وعلى الرغم من أنها تبدو كبيرةً حقاً على الخريطة، إلا أنها كانت أكبر على أرض الواقع إذا ما أخذنا سرعة التواصل في الحسبان. فعلى الأرض، كان ممكناً قطع مسافة 32 كيلومتراً في اليوم، بينما يمكننا اليوم أن نقطع 640 كيلومتراً في اليوم. ونظراً إلى أن المسافة تقاس حقيقةً بمقدار الوقت اللازم لقطعها على الأرض، إذن كانت الإمبراطورية أكبر بعشرين ضعفاً مما تبدو عليه بالنسبة لنا اليوم في جميع الأحوال» على حد تعبير بيتر هيذر أستاذ تاريخ العصور الوسطى في كلية الملك في لندن بإنكلترا. أخضعت روما في ذروة اتساعها الكثير من الأصقاع الأوروبية مع أجزاء من القارتين الأفريقية والآسيوية، فقد امتدت من المحيط الأطلسي في الغرب حتى العراق والكويت وتركيا وسوريا شرقاً. وبالتالي، ذهبت الإمبراطورية ضحيةً للنجاح الذي أحرزته بنفسها إلى درجةٍ ما، فقد بلغت مبلغاً جعلها تجمع بين العديد من المناطق والحضارات المختلفة، وكانت كلما تكبر تزداد حدودها امتداداً أيضاً، ما أفضى إلى تصاعد الهجمات والتجاوزات الحدودية التي شُنت غالباً من قبل القوطيين وغيرهم من الجماعات البربرية، كما ازدادت مشقة التعامل الفعال والسريع مع تلك الهجمات. لكن هيذر يقر بأن المساحة الشاسعة لم تكن السبب الوحيد الذي قاد الإمبراطورية إلى الانقسام: «لا يعود الأمر إلى اتساع مساحتها حسب، فقد كانت على هذا الحال منذ القرن الميلادي الأول، ومع ذلك وقع الانقسام الفعلي في القرن الرابع».

ما هي العوامل الأخرى إذن؟ يجيب هيذر: «في رأيي تضافر عاملان آخران مع مشكلة المساحة الأساسية. يتمثل الأول في صعود الإمبراطورية الفارسية وتحولها إلى قوة عظمى في القرن الثالث الميلادي، الأمر الذي استوجب وجود إمبراطورٍ روماني في مكان ما على مقربةٍ من الحدود الفارسية». أما العامل الثاني، فيمكن إيجازه بأنه بحلول القرن الرابع الميلادي، طرأ تغيير على تعريف «الروماني» ليشمل سائر أفراد النخب الإقليمية على طول الطريق من أسكوتلندا حتى العراق. لقد افتقر العديد من هؤلاء الرومان الجدد للولاء لمدينة روما بحد ذاتها، أو كان ولاؤهم لها محدوداً في أفضل الأحوال. وقد جرى النظر إلى تقسيم الإمبراطورية على أنه سيسهل من الإشراف على جميع هذه المناطق والحضارات المتنوعة والتي غالباً ما سادت بينها اختلافاتٌ وتبايناتٌ كبيرة.

الانقسام النهائي

طفقت عوامل الانقسام تتفاعل في الإمبراطورية قبل زمنٍ طويلٍ من انقسامها الفعلي، وقد وقعت تصدعات ثانويةً ما قبل حدوث الانقسام النهائي الدائم إلى إمبراطوريتين غربية وشرقية، خلال القرن الرابع الميلادي على حد قول همفريز: «غالباً ما ننظر إلى الانقسام وكأنه حدثٌ مباغت بلا إرهاصات، والتاريخ الأكثر تداولاً هو عام 395 ميلادي حين توفي الإمبراطور ثيودوسيوس الأول وخلّفه في الحكم ولداه أركاديوس، الذي حكم الشق الشرقي من الإمبراطورية، وهونوريوس الذي تسيد على الشق الغربي. مع ذلك، سبق لمبدأ الحكم المشترك بين أكثر من إمبراطور أن اندرج ضمن إطار الحكومة الإمبراطورية قبل تاريخ الانقسام بأكثر من قرن. فحين اعتلى ديوكليتيان سدة الحكم في عام 284 ميلادي قام بتجريب تشكيلات متنوعةٍ من الحكومة الإمبراطورية». أسس ديوكليتيان حكومةً رباعية مكونةً من إمبراطورين معظمين، أحدهما في الشرق والآخر في الغرب، وحاكمين صغيرين أو قيصرين.

سرعان ما تداعى الحكم الرباعي بعد فترةٍ وجيزة من تنازل ديوكليتيان عن العرش في عام 305 ميلادي، وإثر اندلاع الصراع على السلطة بين الأباطرة المعظمين والقياصرة، إلى أن أعيد توحيد الإمبراطورية حين هزم قسطنطين الأول شركاءه في الحكم في عام 324 ميلادي. بيد أن الانقسام وقع مجدداً إثر وفاة قسطنطين، وهذه المرة كان أولاده الثلاثة هم أبطال النزاع. طالما أن الإمبراطورية قد انقسمت قبل زمنٍ طويل من عام 395 ميلادي، وهو العام المذكور غالباً بوصفه عام وقوع الانقسام، فلماذا يحدد المؤرخون ذلك العام كتاريخٍ لانقسام الإمبراطورية إلى دولتين إذن؟ يجيب همفريز: «أعتقد أنه عند التفكير بأثر رجعي، يتبين أن الأحداث التي تلت عام 395 أكدت على الانقسام التام». فلربما جرى «التشديد على وحدة الإمبراطورية قبل عام 395. لكن من السخف تماماً القول إن ثيودوسيوس الأول كان آخر من حكم روما الموحدة، لأنه في الأغلب الأعم تشارك الحكم مع شخصٍ آخر، حتى إن ارتأى أحياناً عدم الإقرار بعددٍ من زملائه في الحكم بوصفهم أباطرة شرعيين» على حد توصيف همفريز، الذي يخلص، بالتالي، إلى أنه بمقدورنا الاستنتاج بأن الانقسام كان واقعاً بالفعل قبل عام 395.

إذن بعد أن أصبح الانقسام أمراً واقعاً، ما الشكل الذي اتخذته العلاقات بين الدولتين الناشئتين؟ هل كان ثمة تعاونٌ بين الجانبين؟ وهل تصرفا كدولةٍ واحدةٍ؟ يجيب هيذر: «لم يكن الحال كذلك دائماً، فقد كان من الصعب الحفاظ على علاقات طيبةٍ بين الإمبراطورين المنفصلين على المدى الطويل، فعلى الرغم من أن الانقسام قد وقع لأنه كان أمراً لازماً، إلا أنه كثيراً ما أدى إلى نشوء حالاتٍ من التوتر، ما خلق مشكلةً حتمية». يتفق همفريز مع هيذر في ما ذهب إليه: «في الأحوال النموذجية، كان الحكم في الإمبراطوريتين يمضي في انسجامٍ وتآلف، وقد سك كل من الإمبراطورين الحاكمين العملات باسم الآخر، كما أُرسل الشرق المدد العسكري إلى الغرب لمساعدته في مواجهة قبائل الوندال. بيد أن التوتر ساد في أوقاتٍ معينة بين الطرفين، بل وصلت العلاقات بينهما إلى حافة الانهيار في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، غالباً ما رفضت الإمبراطوريتين الشرقية والغربية تبادل القناصل. وفي حقبة هيمنة ستيليكو (وهو قائد عسكري روماني من أصل قوطي تمتع بنفوذ واسع) في الغرب، امتنعت الإمبراطورية الغربية عن اعتماد القناصل المعينين من قبل الإمبراطورية الشرقية في العامين 399 و400 ميلادي. ويشير رفض اعتماد القناصل هذا إلى أن الانهيار في العلاقات بين الإمبراطورين كان قد وقع بالفعل في أجزاء مختلفة من الإمبراطورية».

وفي تلك الآونة، كان منصب القنصل «منصباً فخرياً صرفاً» على حد تعبير همفريز، وكان يُنظر إليه بصورةٍ عامة بوصفه مكافأةً أكثر مما هو منصبٌ يمنح شاغله نفوذاً واسعاً. وبالتالي، جاء رفض اعتماد القناصل بوصفه تعبيراً عن الازدراء تجاه أشخاصٍ يحظون بدرجةٍ عاليةٍ من التبجيل والتوقير».

انهارت الإمبراطورية الغربية بشكلٍ نهائيٍ عام 476 ميلادي حين ثار القائد الجرماني أودواكر (المشار إليه غالباً بأول الملوك البرابرة في إيطاليا) ضد الإمبراطور رومولوس أوغستولوس وأطاح به. ويعتبر هذا الحدث على نطاقٍ واسع بأنه الحدث الذي كتب نهاية الإمبراطورية الرومانية الغربية. أما الإمبراطورية الرومانية الشرقية، التي تُعرف أيضاً بالإمبراطورية البيزنطية، فاستمرت حتى عام 1453، إلا أن العديد من المؤرخين، بمن فيهم هيذر، لا يعتبرون الإمبراطورية البيزنطية جزءاً من الإمبراطورية الرومانية «الحقيقية، ويقول هيذر في هذا الخصوص: «لست وحدي من يرى أن الإمبراطورية البيزنطية كانت من الدول الوريثة للإمبراطورية الرومانية، شأنها في ذلك شأن قريناتها في الغرب، مثل مملكة القوط الغربيين أو مملكة الفرنجة».

القدس العربي

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button