قصيدة إلى ماياكوفسكي وأخرى لبابلو نيرودا/ ايتيل عدنان
————————–
١
ماياكوفسكي أين أنت؟
أستطيع الذهاب إلى المحطة
لاصطحابك.
نستطيع الحديث عن الطقس
في طريق العودة.
وإن كنت قادمًا بالباص
يمكنني انتظارك في نهاية الخط
أمّا إذا استطعت تدبير ما يكفي من المال
لتستقلّ الطائرة
سأصحو باكرًا
وأنتظرك في المطار.
لا تقل لي، عزيزي فلاديمير،
إنك أضعت عنواني،
وإنك لن تأتي
غدًا ولن تأتي أبدًا.
سوف أنتظرك مع ذلك
لأننا نشعر بالتعاسة
هنا وفي كل مكان: في أوروبا
كما في كاليفورنيا.
كلّنا يعلم أن ثورتكم
كانت دموية
لكن العالم يسكب الآن الدم
وما من تغيير وما من أمل
يلوح في الأفق المنظور.
أنت تحت التراب، يا ماياكوفسكي
أقصد إذا كانت عظامك لا تزال متماسكة،
رغم السنين،
فدعني أبلّغك أنّ
الشعراء يغادرون غرفهم
بالمئات،
بحثًا عنك، في
كل قطار وكل طائرة وحافلة،
وفي الليل، يبحثون عنك في المرافئ.
—————————
٢
تحت ضوء باهت مترجرج
أتابع مباراة كرة القدم
محدّقةً في نقطة في الفضاء
بين الراديو وماياكوفسكي
لم يكسب فريقي مباراة واحدة
منذ أن تعثرت الثورة
تحت وطأة توقعاتنا
ثقيلة الوطأة
لذا نتظاهر بلعب الشطرنج
مع الروس
أو نذهب للتزلج في المحيط المتجمد
مثل نرويجيين
في عطلة
إنما هي المشكلات
تزورنا،
فتلقانا نقرأ كتبك
يا ماياكوفسكي، وقد اصفرّت صفحاتها
من تراكم الغبار،
نقصتْ أعمارنا مائة عام
ونحن ننتظر معك الإشارة
التي سوف تغيّر العالم.
——————————
٣
لا أزال أسأل أين يختبئ
الشاعر، فلا تجيبني إلا البسمات
ونظرات الدهشة
أتوغل في أزقة
المدينة على أمل رؤيته واقفًا
قرب نافذة
قرعتُ باب «لِيلي بريك»
فصاح بي جيرانها
أنها غادرت إلى باريس
أقرأ الصحف وإعلانات الوفيات
فلا أعثر على اسمه
مع أنّ موسكو ليست مظلمة
هذه الليلة
بسبب الثلج.
عند عودتي إلى الفندق،
هاتفٌ يبلغني: لقد انتحر
ماياكوفسكي…
ما كنتُ أدري.
——————————
٤
في «بيريزينا»* طفولتي،
كان الجنود يموتون من الصقيع
ونابوليون يخسر الحرب
وأنا أبكي على الجياد لأنها
تبدو أضخم حجمًا من والديّ
وهي منقلبة على ظهورها
هذه الأيام، أتسكع في
مقاهي الشاطئ الشمالي وأمارس الحنين إلى
علامات المغامرة
مع ذلك، فإن شيئًا ما يضغط
على صدري. الزبائن سعداء
في هذه اللحظة الخاصة،
يحتفلون بقدوم الموسم.
وأنا قلقة.
——————————
٥
إنّ مستقبل هذه اللحظة سوف يكون
أبأس من أن تكترث له. فالأخبار تورثنا
الإحباط والخوف.
والاستنارة كامنة في شجر السنديان
لا في قلبي، أنا الباحثة عن شاعر أحادثه
الليل بطوله.
أذكر أن القطارات في تركيا
كانت تنفث ثاني أوكسيد الكربون
فيما السلطنة تنهار
وأن النسوة كنّ يحتسين الشاي
عند حافة شهواتهن.
—————————-
٦
لي أصدقاء يكتبون أشعارًا صوفية
أيام النشوة، وأقدامهم العارية
تلاعب مياه المحيط. سياراتهم
تلتمع أمام الأبواب، تحرّك أذيالها
بنفاد صبر.
أشعارهم عذبة تبوح بأسرار
العالم مثلما الشباب يبوحون
بالحب الأول
ولي أصدقاء آخرون – صحيح أنهم يعيشون
بعيدًا عن خليج كاليفورنيا- يحفرون
أشعارهم على جلود أدمغتهم.
يسكنون منازل مكتظة إلى درجة
أنهم يتناوبون على النوم لساعتين
في كل نوبة.
ولمّا كان الحصار يمنعهم من الحصول
على حبر وورق، يحلمون بأن يذبحوا
شرايينهم، ذات صباح، ليكتبوا
رسالة إلى أمهم.
—————————–
٧
يا ماياكوفسكي،
الدم والموت التوأمان يقودانك إلى
أقبيتهما المظلمة المحجورة الخاوية،
لكن رؤاك السرية تسافر
من بلد إلى بلد لتستقر في عقول مختلفة
وبنايات مختلفة.
٨
تجميع طعام الروح في
كتب الإعراب يزيد من تقييد حركتنا؛
فنفقد النطق والأغنية
والتماسك.
هل كُتب علينا أن نلازم أمكنتنا،
متمسكين بأفكار عن الأبدية تتلظى كما
الشمس ذاتها، بالأمس، نظير فُرن مستعدّ لأن يحيل كل
شيء
إلى شعاعات مضيئة؟
—————————–
٩
هل تسمعني حيث أنت؟
إنهم يبحثون عنك
بالمشاعل الكهربائية،
في أودية خفية،
وكهوف،
هل وصل صوتنا إليك؟
لعلك سمعت.
ربما أنك الآن تتململ،
وتفرك عينيك،
وتتمطى،
بل ربما أنك بدأت تسير في الأزقة
التي سوف تقودك إلى منزلَي
«ماليڤيتش» و«تاتلين»*
– لقد فارقنا هذا وذاك…
مات العديد غيرهما، مذذاك،
البعض شعراء مثلك،
والبعض ممن تكره.
ولكن ليست هذه هي المسألة.
فلا يزال العالم شاسعًا،
والبحر الأسود في مكانه، هناك
حيث روسيا تلتقي الشرق.
—————————
١٠
هل أنزلك أحدهم إلى الشاطئ في
المحيط المظلم أم أن غيومًا ترتدي السراويل
هبطت بك على الرصيف
فيما الجيش يحتفل
بعيد الأول من أيار؟
أنا أريد استعراضًا للشعراء القتلى،
دقيقة صمت، باقات زهر…
هناك، أرى «آخماتوڤا»* تنتحب بصمت
بين جثة ابنها الهامدة
وجثتك.
——————–
١١
قبل أن نولد أنا وأنت بزمن طويل
كانت امرأة ذات إزار
أزرق تسكب الحليب في
قصعة رسام،
ثم ظهرتَ،
طويلَ القامة عاصيًا لا مباليًا،
على مسرح مطبخها
المضاء
كانت السنوات سنوات هياج
والطلاب يقرأون أشعارك في
أسرّتهم وفي مواسم
حمأتهم المرتفعة.
وكان ڤيرمير يعمل على رسم
صورتك الشخصية.
——————————
١٢
ماياكوفسكي، من أين آتي بالريح
التي ستحمل أفكاري إليك؟
كلهم رحلوا الإمام علي وتشي غيفارا
وغسان كنفاني وأنت رحلت…
لم يبقَ إلا القساة.
هذا الربيع، اصطفّت الأجرامُ
مثل سجناء ينتظرون
أن يحصدهم الرصاص… في
رائعة سماء شاسعة
الكلمات العالقة في حنجرتي
هي حصى مُشعّة،
وهي الرصاصة التي قتلتك.
إننا في سَورة الغضب الساطع، وأنت تعلم
معنى ذلك.
—————————-
١٣
عزيزي م،
يمضون بقمصانهم التي يرتدونها على قفاها
وأنظمة الحماية من الطعام
والبكاء
– إنهم فاحشو الثراء طبعًا –
يمضون لنهب الأدغال،
وترويض الأنهار
وتجاذب أطراف الحديث فوق يخوت الملذّات.
يعتقد بعضنا أنك،
في غيابك،
لست أسوأ حالاً
من أولئك مهزولي الأجسام
الذين تكتظ بهم مدن الصفيح في
القارة الأميركية.
١٤
أيها الأحبّ،
الألوان تُزَوبِع
داخل النخاع
عندما نحدّق
في الفراغ
الذي يتركه رحيل
الزمن
وذرّات الطاقة
تنسكب في العيون
فيكفّ المرء عن
التفكير ما إذا كان الأفضل
أن يعيش أو أن
يموت.
=====================
بابلو نيرودا شجرة موز
إني أحبك يا بابلو نيروا لأنك شجرة
موز.
كان ألليندي مدينة أشباح مبنية في قلب
تشيلي
وأنت نبتَّ خلال ساعة إلى شجرة موز
أرى جبال «الآندس» ملقاة إلى جانبك
وترتادان البحر عبر المستنقعات نحو البواخر
الكبيرة
أنت تقذف الحمم على «ماكشو بيشو».
وثلاثة قطارات تقلّ شعب «الإنكا» تدوس على جذعك.
أنت ورقة موز
إني مشتاقة لك با بابلو نيرودا، لأنك
حقل من شجر الموز.
«البروخوس» المكسيكيون يأكلونك نيئًا
وثمّة برودة تحت ظلّك.
عندما يعذّبون الزهور، تكبّ فلسطين دمَها
في مدينة طوكيو
نيرودا، أنت جمهورية موز مدفونة
تحت قشر البرتقال. وإني أحب الخنازير
التي تمشي فوقك
كاسترو، كوبا، تشي غيفارا،
ألقوا تحيةَ الوداع على نيرودا
نيرودا، يحمل الهنودُ نعشك إلى
البحر
وسمك القرش ينقله إليّ
أنا جالسة في حديقة
تنمو فيها أشجار موز
«وول ستريت» لن تلتزم الحداد
في كازينوهات البورصة خمسة
خيطان قصدير تلفّ وجهك، وقماش
الپيرو يغطي عظامك.
ونحن باقون لتنظيم سهرة التعزية ليس من أجلك
من أجل عمّال المناجم
بابلو نيرودا، أقول لك إن الثلج تساقط
وإن الملاك يضيع دربه دومًا في الغابة.
عيناك التائهتان تكتبان الكلمات على بطن سمكة القرش
البلّوري
پينوشيه يبلغك حبّه
لا تأبه
البرد قارس تحت الأرض كما فوقها
وسهول الشمال والمطر
تدفع اليوم عجلة
السابح في محيط.
نيرودا، اسمح لي أن أقول لك
إن الشتاء يبسط صقيعه
وأنت رجل الثلج
والأرملة
أنت شجرة الموز التي نمَت في
حديقة جدّي
وعانقها مرضُ السرطان
السماء صافية هذا الصباح
وثمّة صاروخ يتّجه نحو القمر
سوف أوقد شمعة وأدعك تنام
«سيمبيبو سيمبو» سمّى قطته
على اسمك
أنا آخر سمكة في الصحراء
قال الشاعر.
وأنا عثرتُ على ذبابة في حدقة
عينك
وكلاب السلوقي تتلو
صلواتها.
يأخذون العمّال إلى محطات الوقود
ويقولون لهم:املأوها!
وفي بطونهم ما يكفي من البنزين
ليرافقهم حتى القبر
وتحت زخّ المطر تفرش شجرة الموز
أوراقها
أوقدوا شمعة من أجل بابلو نيرودا
سرّجوا أحصنتكم
إننا مغادرون إلى جبال «الآندس»
هذه المدينة عابقة بأريج الياسمين
والمجارير تجري في عينها
أراكَ إلى الأبد
قمرًا داخل هالة
حلقة من نور في مركز الأشياء
الذرات تخبّلت
وأنت الحلقة
الثانية
التي تتمدد
وتحرق شَعر الشمس.
كسر الربيع الحجر
وأنت ميت أنت ميت أنت ميت
وأنا أضع وردة في كأس الشاي التي تناولتها
أشجار شابة تسير
خلف نعشك
أعطيت جسدك للعربيّ
فاحرقه فوق أوراق موز
لكي
يبدأ تحرير الفقراء
عمُودك الفقري دودة
ينهش رأسُها في
نخاعك.
مملكتك كومة
كلمات.
وأنا أراقب الظلام ينتشر ببطء
في عينَي الهندي.
من حقول البحر الأبيض المتوسط إلى الأدغال
تنتصب أشجار الموز
زرقاء مثل البحر
بابلو نيرودا مدفون تحت جذورها
الرجل يتشظى دومًا
وخمسة بحّارة يغنّون «غوانتانميرا»
لكلب.
—————————
بدايات