«مذكرات التيس اسمث»/ كاميلو خوسيه ثيلا
تقديم وترجمة: مراد حسن عباس
«كاميلو خوسيه ثيلا»، واحد من كُتَّاب «نوبل» الذين لم يترجموا بالقدر الكافي، وربما لم يشتهر من أعماله في العَالَم العربي سوى عمله المُبدع «عائلة باسكوال دوارتي»، حصل على «نوبل» بعد كاتبنا الكبير نجيب محفوظ بسنة واحدة، فقد حصل محفوظ على «نوبل» في عام 1988، وحصل «ثيلا» على الجائزة في عام 1989، ولذا قد نجد تشابهاً في أسباب منح الجائزة، وربما وبشكلٍ ما تمثل ثلاثية محفوظ عائلة «باسكوال دوارتي» في النسخة الإسبانية.
إننا نستطيع أن نقرأ الحكاية التي بين أيدينا على أنها حكاية للأطفال، فيها النماذج الأثيرة للحكاية الشعبية التقليدية، الذئب والماعز، وفيها العبرة والعظة.
ولكن أعمال «ثيلا» كلها لا تقف عند مستوى واحد من الأداء والتأويل، ولذلك يمكن أن نقرأ الحكاية باعتبارها حكاية تيس لا يعي ذاته، ولذا يختار اختيارات لا تناسب حياته، وقوته، فمن القص نستطيع أن نعرف أن هذا التيس لا يعرف مقدار قوته التي ظهرت من المُبارزة الأولى، حيث جعل التيس الآخر مثل الخبيزة، وأيضاً ظهرت في خوف الذئب نفسه منه، حيث كان يتركه يصعد إلى أعلى الجبال، دون أن يعرِّض نفسه لنطحاته، وربما عدم القدرة على اكتشاف الذات هي التي أفضت به إلى المُعاهدة التي لم يفد منها شيئاً كما كان يتصوَّر، لأن الذئب لم يقدِّم له شيئاً، بل العكس كان يأخذ منه نعجةً في كل أسبوع.
كما يمكن أن ننظر إلى الحكاية في مستوى آخر من التأويل، إذ يصبح الجَدي هو «فرانكو» الديكتاتور الإسباني ذاته الذي تحالف مع الذئب وولف (الألماني)، الذي يمكن أن يمثل في الحكاية «هتلر»، ولا يمكن أن ننسى أن «فرانكو» قد باع شعبه لـ«هتلر» دون مقابل، في حربه مع الألمان، ولا ننسى قرية «الجرنيكا» الإسبانية التي أراد أن يجرب «هتلر» بعض القنابل عليها قبل أن يلقيها على الحلفاء، فوافق «فرانكو» أن يكون تجريب القنابل فيها، فأصبحت أثراً بعد عين، وقد صوَّرها الفنّان الإسباني «بابلو بيكاسو»، لتكون صورةً خالدة شاهدة على فساد الديكتاتورية أينما وُجدت.
ولكن هذا ليس المُستوى الأخير للحكاية، فيمكن تفسير هذه الحكاية الرمزية على أنها مذكرات «كاميلو خوسيه ثيلا» نفسه، فـ«ثيلا» نفسه يمثل الجَدي في مستوى من المُستويات، لقد كان والده «كاميلو ثيلا إي فيرنانديز»، من كاليسية (من الجلالقة)، وكانت والدته، «كاميلا إمانويلا ترولوك إي بيرتوريني»، ذات أصول إنجليزية وإيطالية، بالإضافة إلى كونها كاليسية أيضاً، وكانت العائلة من الطبقة المُتوسطة، التي لا تميل إلى الثورة والتمرُّد، لذا تحالف مع أفكار الديكتاتور «فرانكو» في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، بل حارب في صفوف قواته، وأُصيب، وكأنه يمثل حكاية الجَدي الذي أراد أن يكون ثائراً فوقع في براثن الذئب، وقدَّم له أهله قرباناً دون أي فائدة، ولو أنه واجه الذئب لكان قد انتصر عليه، بدلاً من أن يقول له يا سيدي، ويعد إهانته له حنواً وكرامة.
لكن الحكاية تنتهي بما انتهت إليه قصة «ثيلا» نفسها، إذ أصبح من أشدِّ منتقدي «فرانكو»، وأصبحت أعماله مراقَبة من قِبل «فرانكو» وأنصاره، وربما للسبب ذاته كانت أشد أعماله إبداعاً وتأثيراً تلك التي كُتبت في هذه الفترة، التي رُوقِبَت فيها كتاباته، ومن أهم هذه الأعمال روايته «خلية النحل» التي مُنِعَتْ في إسبانيا ونُشِرَتْ في «بوينس أيرس» عام 1951.
مذكرات التيس «اسمث»
التيس المشهور «اسمث» – تيسٌ متمرِّد أقام مباراة بالأسلحة فوق جبال منخفضة بجوار جبال «جريدوس» الشاهقة، ورتبوا لاصطياده والنتيجة حتى الآن غير مجدية…
(1)
اسمي روبرت اسمث وخبل (الخامس)(1)، مولود في فرسنديا دي لا أوليبا دي بلاسينسيا، مقاطعة في كاسيرس(2)، بلغت الخامسة من العُمر غير العام الذي أنا فيه، إنْ لم أكن نموذجاً جيداً، فلست كذلك واحداً من الأشرار، إنني ذلك الشخص الذي لا يعيش -تقريباً البتة- الحياة التي يريد، بل يعيش فقط الحياة التي يستطيع، مبدئي أن أعيش الحياة تيساً صادقاً، أقضي الساعات الفارغة تحت ظلال الأشجار المُثمرة، أجترُّ العشب الغض، أو التبن العطري، اعتدت أن أمرر غمامات الربيع في قراءة «فراي لويس» أو «جارسيلاسو»، لكن الحياة قد أخذتني بلا تفكير أو روية، واليوم أجد نفسي مدفوعاً إلى مباراة تخيفني، مع تيس المعركة.. كم أنا عظيم!
أبي السيد «ولتر اسمث»، كان مثلاً أعلى في جبال الألب، نشأ في «دفونشير» بإنجلترا، وأُحضر في وقتٍ لاحق إلى «فرسنديا دي لا أوليبا» بوساطة شركة «أجابيتو لوبيث» وشركاه، مستوردي الماعز من المملكة المُتحدة.
رجال يصنعون الثروة الضخمة عن طريق إحضارنا ونقلنا من جانبٍ إلى آخر.
أبي كان -دائماً- جَدياً واضحاً جاداً، كان موضع إعزاز من قبيلته، ومثالاً وقدوة في مصلحة الماعز، كانت ذكراه غير مصدر فخر، واستقامته ونبل أصله كانا دائماً مبعث الحب والاحترام.
أمي السيدة «ترستيسا خبل الخامس»، كانت بالفعل شيئاً آخر، عنزة متهورة، صديقة للمرآة والزينة، السيدة «ترستيسا» كانت امرأة خطرة، بكر والديها، وأصغر من زوجها سناً، ساقت الجميع إلى طريق الحسرة والمرارة، ليس لها شجرة عائلة معروفة، كانت أمي هكذا، كم هي ضالة!
كانت تُسمَّى (عنزة البلد)، تسمية غير واضحة تماماً، لكنها تدل على أنها كانت ذات دلالٍ كثير، تتشمم أخبار زرائب الآخرين، عن طريق التحدُّث إلى نمامة أو قليلة الاحتفاظ بالأسرار أو محاورة زوجة خائنة أو غير جيِّدة.
كم يحزنني أن أدلي بهذه المعلومات عن أمي، ولكن صفحاتي الخاصة هذه، التي تشبه الوصية لا يتلاءم معها الزيف.
السيدة «ترستيسا» كي تبلغ الغاية في السوء أمضت أكثر من نصف عمرها تصيب بعدوى الحمى المالطية النصارى الفقراء الذين لم يرتكبوا في حقها جريمةً قط، سوى أنهم كانوا يستهلكون لبنها في الفطور والعشاء، و(لأن من يمشِ مشياً سيئاً ينتهِ إلى نهاية سيئة)(3)، فقد ماتت بطريقةٍ مأساوية تماماً، لقد فعصتها ناقلة تحمل خمسة آلاف كيلوجرام من (عنب ثبريرو)، حمولة حلوة -بالتأكيد- لكنها ربما ثقيلة قليلاً فوق عنزة واحدة.
أصبحت مثل الرقاقة، وقليلون كان عليهم أن يتألّموا، لأن المجيء إلى مكان الحادث بعد لحظات يسيرة من الحدث، لا يدع لهم الوقت الكافي للتعبير عن الألم.
بالنسبة لي كانت مصيبة عنيفة، لم أَرَ مثلها قط، في منتصف الطريق رأيتها تشبه رقاقة من الباكلاء.
ولكن بالنسبة لأبي الذي كان عاطفياً جداً، باعتباره جَدياً طيباً من الشمال، كان الأمر مختلفاً، لقد اتَّخذتْ هيئته مسحة مأساوية تقريباً، لقد كان يمضي الأيام وربما الأسابيع يبكي مخاطاً مديداً، ونظرته مليئة بالحزن، بينما ذقنه محنية مبللة.
آه ترستيسا – ترستيسا – كان يقول السيد «ولتر» من شدّة ألمه، كم كنت حمقاء طوال حياتك!
ومضى الزمان، وأصبحت كبيراً، وازددت صلابة، والصلابة هي طوق النجاة لكل التيوس، لأنه حين نبلغ عمراً معيَّناً، فعلينا أن نعتمد على أنفسنا.
وأبي الذي كان حزيناً، تزوَّج في زفافٍ ثانٍ من خالتي (كاوتلدي) خبل الخامس الأخت الصغرى لأمي، ومن هذه الزيجة الثانية أنجب خمسة تيوس كلهم ذكور، (نابليون) الذي هو نائب الآن، (ولتر) و(أدوليتو) و(سلفستر) و(فيكتوريانو) الأخ الأصغر، الذي كان حينما تركته تيساً أبيض مرحاً.
(2)
نزحت إلى الجبل، عندما قتلت (باولينو إليسوندو) من جراء مناطحة، إنه تيس شيخ كهل -وجدني قوياً جداً- بينما نشأ ليِّنا أكثر مما تخيلت، فجعلته مثل (الخبيزة) من المُناطحة الأولى.
في الجبل كنت واحداً وحيداً متشرِّداً، كنت كيفما سرت تضايقت وتململت كما لو كنت محارة.
ولقد سلاني أنني خصَّصت بعض الوقت للاعتداء على النعاج لسرقتهن، والنعاج عندما كنت أقترب من إحداها لسرقة أمتعتها كانت تكتم أنفاسها من الخوف، وتغلق عينيها الرخوتين، المليئتين بالمياه.
وفضَّلت أن أقيم معاهدة مع الذئب، لأنه ولو أنه كان عندما يراني أجيء كان يعطيني وقتاً كي أثب فوق الأحجار العالية التي لا يستطيع صعودها، فإنه كان منتبهاً مستيقظاً، ولا أعرف لماذا لم يكن يأخذني على غرة مني! لقد كان شيئاً مقلقاً بالنسبة لي، جعلني خائفاً وقتاً طويلاً.
دنوت من معسكر الذئب، ومن فوق صخرة صحت به:
– سيدي الذئب: أنا -بالرغم من جرسي- لست جَدياً أليفاً (معزى) من زرائب القهر، ولست من دواجن الإنسان، كأصدقائك من بني جنسك.
لا.. إنني تيس متمرِّد، تيس ساخط، جئت إلى الجبل لأنني لم أحتمل العبودية، ولهذا فإنّ قروني صارت ملطخة بالدماء، ولأنك سيدي تملك أنياباً، فأنا سالم لأنني نباتي أعيش في الطبيعة عادياً كما تعيش سعادتك بعيداً عن القانون، ولهذا أريد أن أتناقش معك بخصوص مستعمرَتك الجبلية.
في الجبل عشت، كما تعيش حضرتك، وفي الجبل صنعت بيتي ومزرعتي.
– وماذا تريد مني؟ أيها التيس الأحمق؟ – سألني الذئب.
– إذن.. أريد المُعاهدة مع سيادتك، سيدي الذئب، ولهذا جئت، كم تظن مقدار الربح الذي سنخرج به لو أننا أقمنا معاهدة؟
– وماذا تهديني؟
– نعجة بيضاء في كل أسبوع، ليست عنزة، تبدو لي وكأنها خيانة أن أبيع إخواني.
– وماذا تطلب؟
– السلام مع حضرتك، ومع أمثالك، مع الذين يمكن أن يخلصوني من هذا الجرس، الذي أخضعني، وقلَّل سطوتي، ومع جرس في الرقبة مَن يقبل أن يأخذني كي أصبح تيس المعركة؟
– وهل ستوفي الهدية.
– نعم سيدي الذئب -في الوقت المُفترض بالضبط- وفي الغد سأحضر لحضرتك الحمل الأول.
– إذن انزل من فوق الصخرة، لقد قبلت شروطك، وفي المساء سأحضر لك كل ذئاب الضواحي، وأعطيهم أمراً بأن يحترموك، إذا وفيت وامتثلت، أدنُ حتى أخلع لك هذا الجرس الذي تبدو به مضحكاً، وتظهر كما العبد.
– ونزلت من فوق الصخرة، ودخلت وكر الذئب، بينما قال لي في رصانة شديدة.
– لي سمعة سيئة، أنت تعرف ذلك، ولكن كلمة صادقة أقولها لك، كلمة واحدة من ذهب القانون.. «من هذه اللحظة نحن أصدقاء»، وصداقتنا يمكن أن تطول إلى نهاية الحياة، وإذا احتجت دفاعاً -في لحظةٍ ما- أو حمايةٍ ما، فليس أكثر من أن تأتي وتراني، ولكن لا تنسَ أنه إذا أردت أن تخونني أو تحاول خداعي، فلن تبقى أكثر من تأخر العصفور عن الغناء في الصباح.
– أمهلني الوقت الذي اتفقنا عليه سيدي الذئب، لن أنسى أبداً.
– من الأفضل لك أن تمشي الآن، شد رقبتك إلى الأمام كي أقطع لك صوت هذا الجرس.
– ولكن هل تطلق سراحي من بين أسنانك؟
– لا يا عزيزي، لأنه بأسنانك قلت لي كلاماً مغرياً، ولا أحب أن أكون أنا الذي يكسر المُعاهدة، اهدأ ولا تخف، سأفرج عنك من بين أظافري، فما زال الوقت طويلاً.
– الذئب قطع لي الجرس، وبعدها أعطاني ضربة ترشيح بيده، وقال لي:
– ابقَ مسلحاً يا فارس الجبل -الآن ورأسك مرفوعة، وذقنك في موضعها تماماً، بالفعل تستطيع أن تفخر بنفسك، تفخر بقائد التيوس المُتمرِّدين – ما اسمك؟
– روبرت اسمث وخبل الخامس.
– ممتاز تيس اسمث – إنّ حياة الغابة مناسبة لك، وكم سيحافظ عليك الذئاب لمدة طويلة.
– كلمات الذئب أثّرت في كثيراً، تلك الحياة النبيلة، المليئة بالزهو كانت هي التي تستهويني كثيراً.
شكراً جزيلا سيدي الذئب، وسعادتك ما اسمك؟
– اسمي «وولف»، أنا -أضاف الذئب، كما لو كان اعتذاراً- ولو أنني أقوم بعملية في كاستيه، فأنا مولود في الغابة السوداء(4).
رأيت في عيون الذئب لمعاناً مثل بريق الحنين.
(3)
معاهدتي مع الذئب كانت نتائجها رائعة، نحن الاثنين امتثلنا للعهد كنبلاء، وأنا أشعر بزيادة اعتباري بين الجميع مثل الرغوة، ليس بين العنزات اللائي يبعدن أميالاً عنا، واللائي يتغنين باسمي، واللائي يعتززن بإقداماتي ومعاركي، بل بين الحيوانات الجبلية نفسها، الذئاب، والثعالب، والسمور، الذين يحترمونني وينظرون إليّ بافتخار.
ووقتئذ تصادف إقامة معركتي الأولى، عندها صنعت شيئاً من البروباغندا، بين قطعان الحيوانات في وادي راما، وسومسييرا، وقمت بتوحيد بضعة وعشرين تيساً مختارين يمتازون بالشهامة والشجاعة، من الذين كانوا قد أطاعوني طاعةً عمياء، وكانوا لا يناقشون أوامري أبداً، ومعهم، مع هؤلاء -ما عدا اثنين منهم تركتهما بالقرب من الذئب «وولف» موكلين بالسهر على تنفيذ الإتاوة من النعاج- تفرّغت للنهب من (إيندلاينثيا) في (وادي الآخرة) إلى (كاندلاريو) في (سلامنكا) متبعاً خط الجبال.
وكوّنت ثراءً عظيماً، ولو أنه من كل الغنائم كان يجب عليّ أن أقاسم حاشيتي، ولكن لو أن تيوسي سلكوا سلوكاً صحيحاً، وغاية في البطولة، فكيف لا أكافئهم على سلوكهم هذا لجعلهم سعداء؟
في لوحة علم نفس السلطة مكتوب بحروف من ذهب، إنّ الحاكم لا ينبغي أن يبدو طامعاً.
ولكنني في ذلك الوقت كنت شاباً جداً، والشباب مفسدة، هذا ما جعلني أدفع الثمن غالياً، فقد أسكرتني السلطة، ولم تجعلني أتصرَّف بالشكل الجيّد، إذ أقدمت على معركة مع زوج من العسكر الأهليين، الاثنان كانا يعاملاننا بداية على أننا جماعة من الماعز الأليف، ولم يصيبانا بسوء أبداً، بل لم يعنيا بنا أصلاً، ولكن عندما بدأنا نزيح الغطاء، ونأخذ على عاتقنا عناء المُصادمة، جمعا الأسلحة، وأطلقا علينا أنواعاً من الذخيرة، ومن الجيد أن أقول لك إن ذلك كان ليلة (سان بارتولومي)، أي سرعة كانوا يطلقون بها النار؟ وأي هدف كان لهم؟
هذه كانت نهاية المباراة، لا أحب أن أذكر نفسي بأي مقدار كانت هزيمتنا موغلة في العمق، أصيلة في القاعدة، حتى إننا لم نستطع أن نسترجع جثث الموتى التي تبقت تحت سيطرة العدو، لقد كانت مقتلة عظيمة!
طليقاً كنت، لم يصبني أذى، -معجزة حقيقية- وحيداً، أحمل العار، ذهبت أجأر بالشكوى في عسكر الذئب «وولف»، أحببت أن أصبح عنزة أسطورية – شيئاً هكذا مثل عنزة (أمالتيا) التي أرضعت (جوبتر) – أغثني يا إلهي- كم كنت أحمق!
في هذه اللحظة أظن أنه قد بدا عليّ لمعان هذا الدم الذي يستحق التصوير، وتلك السوداوية التي كانت تتمتع بها السيدة «ترستيسا خبل الخامس»، التي وإنْ كانت أمي، تماماً، فأنا أعترف أيضاً أنها كانت عنزة مجنونة.
الذئب «وولف» عندما قصصت عليه هذه المُغامرة المُخزية، زجرني زجراً أبوياً، كما لو كان يعنف ابناً له أو أخاً صغيراً.
– ولكن أيها التيس الغبي، قال لي:
– بأي منطق استطعت أن تقدم على معركة مع الإنسان؟ وهو الحيوان الوحيد الذي يكسب دائماً؟
إنْ كنت أنا الذئب أترقبه دائماً كي لا ألاقيه، فكيف بك أنت أيها التيس المُضحك؟ تدخل معركة معه في أرضه؟
لقد أصبحت طليقاً بمعجزة -ابني الصغير- بمعجزة حقيقية، والآن تستطيع أن تشكر الله، وسينفعك هذا في أخذ الحيطة والحذر بعد ذلك.
الحرب لا ينبغي لها أن تكون أكثر من احتياجنا أو قدراتنا.
إنني ذئب شيخ، وبإمكاني أن أؤكد لك أنه ليس هناك عدوٌ صغير، تفكّر .. مَن يهجم على رجلين مسلحين بالبنادق؟
معركتك سخيفة للغاية، معركة بلا قضية وبلا قيمة.
ولكن هذا ما يمكن أن نقوله نحن الاثنين هنا، ولا ينبغي أن نحدّث به الآخرين، لأنه لا أحد سيفهم هذا، ولكن يجب أن يفكّروا -في الوقت الذي كنت فيه أحمق- أنك كنت تحقق بطولة، وأنك كنت بطلاً.
– شكراً سيدي الذئب -رددت عليه- أشكرك سيدي شكراً جزيلاً.
– العفو -يا عزيزي- ولكن عدني ألّا تكون مجنوناً بعد ذلك، وألّا تضع جهدك فيما لا طائل من ورائه.
– أعدك سيدي الذئب، أعد بذلك.
الذئب «وولف» حنا عليّ كثيراً، وأنا امتثلت له، كل الذئاب الذين تحالفوا معي لينون، عاطفيون، لهم محبتهم، وخفّة روحهم، كما أنهم ليسوا متوحشين -أبداً- كما يتصوَّر الآخرون.
(4)
ابتداءً من هزيمتي، عشت في سلام، وفي هدوء منزل الذئب أواناً طويلاً، دون أن أشغل بشيء أكثر من أن أستعيد قوتي، لأنه حتى إعطائه النعجة الأسبوعية كان من دائرة التيسين الوفيين، اللذين بقيا لي هناك بعد المعركة، واللذين كانا في أثناء وجود الفرقة التي كانت معي يقومان بالمأمورية العسكرية، بقرب عسكر الذئب «وولف».
ومع الهدوء، والإطعام حدّ التخمة، سريعاً سأشفى، وأرجع كما كنت، ولما لم أرد أن أكون ضيفاً ثقيلاً على الذئب، فقد طردت نفسي من عنده، لأصنع الحرب بطريقتي.
قاطع طريق في عزلة، وإنْ كان شيئاً ممتعاً، فنتيجته شاقة، وعرضة للأخطار.
تيس وحيد، صاعد، هابط للجبال فيما بعد ترف العيش والمُغامرات، لقد ابتعدت كثيراً قبل أن أصل إلى هذه الأخطار التي تترصد بي.
وفي ظهر يوم كنت في القيلولة في كهف صغير في حقل (بدرو برناردو) في قاعدة جبال جريدوس.
كنت بادياً لبعض العنزات اللائي يمشين في الوادي…
– مساء الخير -ألست (المعزى) اسمث، التيس المُتمرِّد، موضع فخر كل عنزات إسبانيا؟
– هذه المُعاملة ملأتني بالعزة.
– بلى، أنا هو، هل تردن شيئاً مني؟
تكلمت العنزات فيما بينهن برهة، وبرز جدي أشهب له منظر جميل من المجموعة.
– إذن -نعم- نريد أن نقول لك إنه يحزننا أن نراك وحيداً، بغير سلطة، نحب أن نقول لك أيضاً إننا شبعنا من العبودية، وإنك إذا أمرتنا فسنمضي معك إلى أي مكان تذهب بنا إليه.
في هذه اللحظة اكتشفت معركتي الثانية، المعركة التي وُلدت من أجل أن أقودها، فقط الله هو الذي فوق الكل، وهو الذي يستطيع معرفة ذلك.
ولكنني لا أستطيع أن أجعل تجار الدم يسمعون، إن الأبطال لا ينتمون لنا.
أعرف أنه في كل الصحف سعرٌ لرقبتي، وأنهم قد رتّبوا لمُطاردتي، وأسري، ولكن لا أحد يستطيع أن يظفر بي، لقد تعلّمت كثيراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1 – فضلت أن أترجم الاسم بمعناه وليس بلفظه، للإفادة من دلالته، كما يلاحظ أن اسم الابن في الإسبانية لا يُنسب إلى الأب وحده، ولكن يُنسب إلى الأب والأم معاً.
2 – فرسنديا دي لا أوليبا مقاطعة في مدريد.
3 – مَثل إسباني.
4 – الغابة السوداء مكان في ألمانيا، سُميت بذلك لأنّ الأشجار الكثيفة تحجب الضوءَ عنها.