“الجغرافيا السياسية لمابعد الحداثة”.. عن جوهر العراك الدولي الآن/ محمود شريح
عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” (الدوحة وبيروت) ضمن إطار سلسلة ترجمان صدر مؤخرًا “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة.. عصر الامبراطوريات الجديدة. الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين” لألكسندر دوغين، مؤسس المدرسة الجيوسياسية الروسية، والمنظّر الرئيسي لوجهة استعادة الامبراطورية الروسيّة، نقلَه إلى العربية عن الروسيّة إبراهيم إستنبولي، عضو اتحاد الكتاب العرب في سورية، في 476 صفحة من القطع الكبير، وراجعه اسكندر الكفوري، من منظور أنّ الجغرافيا السياسية ترتكز إلى المقاربة المكانية باعتبار المكان في حدّ ذاته ثابتًا لا يتغيّر، ولذا فإن المقاربة الجيوسياسية تتعامل مع حقائق المكان على أنها ثابتة وغير مرتبطة بالتقلّبات التاريخيّة، مثلُ ذلك مثلُ الروزنامة الفلكيّة، إذ أنّها قائمة على قسم ثابت وآخر متبدِّل، ففيما الأوّل يشير إلى مواقع النجوم الثابتة في قبّة السماء، يشيرُ الثاني إلى ديناميّة الانتقال الذي تخضع له الكواكبُ السيّارة، كذلك هو الأمرُ في التحليل السياسي الكامل في العلاقات الدوليّة، إذْ يمكن تصويره مكوّنًا من جزأين: ثابتٌ ومتحوِّل، ضمنَ رؤية تنطلقُ من مبدأ يقولُ إنّ الدول والحضارات في تعاقبها تعكسُ في جوهرها خصوصيةَ المشهدِ الذي نشأتْ فيه وتطوّرتْ في جنباته.
من هذا المنطلق يرى دوغين أنّ الجزء المتحوّل من التاريخ السياسي لهو التاريخُ نفسُه وفيه تنخرطُ قوى متحرّكة وقابلة للتبدّل بطريقة ديناميّة، ولذا كانتْ العلوم الإنسانيّة في أوروبا الغربية تولي حتى وقت قريب اهتمامها في المقام الأوّل بدراسة ذلك الجزء المتحوّل، أي التاريخ، وحسب، فالأوروبيون كانوا يوظّفون الواقعَ بأكمله في تطوير الأحداث ضمن سياقها الزمني، دون أن يعيروا اهتمامًا بالجانب الثابت، أي “الأنموذجيّ” في السياق التاريخي، إلا أنه في أعقاب تطوّر علم الاجتماع والجغرافيا السياسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر طرأ تحوّلٌ على فهم المكان على أنه المعبّر نفسُه عن الحدث التاريخي، أي أن الجغرافيا هي البعدُ التاريخي، بمعنى أنّ سياق الدولة وتمظهرَها لهو شكلُ حياة ليس إلّا، أي أن الدولة كائنٌ مكاني ثلاثي الأبعاد.
يروي دوغين بالتفصيل كيف رجحتْ كفّةُ الجغرافيا السياسية على كفّة الأيديولوجيا بصورة جليّة إثر انهيار الاتحاد السوفياتي وتخلّي روسيا الاتحاديّة عن الأيديولوجيا الشيوعية معلنة نفسها دولةً “ديمقراطية”، فما أن اختفى حلفُ وارسو حتى راحَ حلف الناتو يتوسّع باتجاه الشرق فاحتلّ المواقعَ التي انسحبتْ منها موسكو. هنا يرى دوغين أن الهجومَ الجيوسياسي الذي تشنّه حضارة البحار على حضارة اليابسة ظهر جليًّا بصورة منتظمة ومتتالية في محيط الاتحاد الروسي وعند أطرافه، فنشأتْ قواعد لوجستية ومرافق عسكرية تابعة للناتو غايتها محاصرة روسيا استراتيجيًا.
مما لا شكّ فيه أنّ ألكسندر دوغين يستندُ في تحليله إلى نظريّات شتّى في علم الاجتماع، فهو أستاذ هذه المادة في جامعة موسكو، إضافة إلى مراسه السياسي من خلال موقعه السابق منظّرًا رئيسيًّا للحزب البلشفي الوطني والجبهة البلشفيّة الوطنية وحزب أوراسيا، ومستشار رئيس مجلس الدوما، ومن هنا جمعُه النماذجَ التاريخيّة والمبادئ الجيوسياسية في منظومة واحدة هي الخريطة المكانية – الزمانية الرئيسية للعلوم السياسية في القرن الحادي والعشرين، وهنا تبرز المثنوية الجيوسياسية للبرّ والبحر، بخلاف المشاهد المبسّطة للمجابهة الأيديولوجية، فما يجري في عالم اليوم لهو عمليةُ هدم جذري للنماذج السائدة على غرار الهدم القائم منتصف القرن العشرين، إذ حلّت الحداثة مكان المجتمع التقليدي. أمّا الآن فتبلوَرَ أنموذجٌ ثابتٌ هو ما بعد الحداثة، أي الواقع الجديد للحضارة والثقافة، إضافةً إلى الأيديولوجيات والسياسة والاقتصاد، وعلى هذا النحو سارتْ الحداثة مطلعَ القرن العشرين عبر ثلاثة مسارات، إذ نشأتْ ثلاث أيديولوجيات تتنافس تعبيرًا عن نَسَق الحداثة، وهي الفاشية ونظيرتها النازية والماركسية والليبرالية.
هنا يرتدّ دوغين إلى فلسفة التاريخ عند هيجل فيرى أنّها هي التي صوّبت منطقَ التحديث بشتّى احتمالاته، إذ أنها تقود نظريًّا إلى إحدى النظريات الثلاث، الفاشية/ الماركسية/ الليبرالية، وهي النُسخ البديلة الثلاث لنهاية التاريخ، أي لما بعد الحداثة، فكانَ المفكّر الهيجلي الفرنسي كوجيف أوّلَ من طرح فرضيّة تقول بأن نهاية التاريخ تلك لن تكون الشيوعيّة ولا الرايخ الكوني النازي، على وجه الخصوص، وإنما ستكون الأُنموذج الليبرالي الديمقراطي بالتحديد. منطلق دوغين أنه لا شكلَ للمجتمع ما بعد الصناعي سوى المجتمع الليبرالي، فيرى أن فوكوياما تسرّع، إلى حدّ ما، في إعلانه نهاية التاريخ.
يخلصُ دوغين في تحليله في مؤلّفه الفذّ الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة إلى أن انتصار الليبرالية أنهى الاختلافات القائمة بين المشاريع السابقة التي كانت تسعى لأن تكون بديلة ومنافسة لها، ما يعني أن الاختلافات بين النهج المحافظ الكلاسيكي، والخيار أو المسار الثالث، والشيوعية، باتت عمليًا بحكم المتلاشية مع بداية القرن الحادي والعشرين، وأن هذا سوف يطالُ الديمقراطية الاشتراكية أو الديمقراطية الاجتماعية في المرحلة القادمة، إذ تبيّن أنه ليس حداثيًا من حيث الشكل أو حتى من ناحية المحتوى العميق واللاشعوري، بل جرى تصنيفه على أنه غير صالح سياسيًّا، وأنه يعود إلى عالم الأمس وأنه تمّ تجاوزه.
مؤلّف دوغين يضيء على جوهر العراك الدولي الحاصل الآن وخطورة خواتيمه، وذلك في ترجمة أنيقة، وفي عبارة مشحونة فكرًا تاريخيًا.
عنوان الكتاب: الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة.. عصر الامبراطوريات الجديدة.. المؤلف: ألكسندر دوغين المترجم: إبراهيم إستنبولي
ضفة ثالثة