فتح الله غولن: “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة”\ نور الدين العايدي
سيرة داعية الظل في تركيا
على مدى عقود، كان فتح الله غولن، اللاعب الأبرز في الحياة السياسية التركية، مستفيدًا من مهاراته الخطابية، ومن قيادته لتنظيم اجتماعي اقتصادي متغلغل في التعليم والإعلام والاقتصاد بشكل كبير، حتى أصبح الرجل الذي تُلقى عليه في تركيا اتهامات شتى، من التغلغل في الدولة إلى الوقوف خلف محاولة انقلاب العام 2016. فمن هو هذا الداعية، وأين بات موقعه وموقع جماعته في السياسة التركية اليوم؟
في ليلة الخامس عشر من تموز عام 2016، كنتُ في مدينة صقاريا التركية، طالبًا جامعيًا في العشرين من عمره. فجأةً سمعت أصوات انفجارات مرتفعة، وكفلسطيني من غزة كانت ردة فعلي الأولى هي القفز من سريري نحو النافذة. ومن على نافذة غرفتي في السكن الجامعي الذي
يقع على تلة مطلة على المدينة كان المشهد مرعبًا، أصوات، الكثير من الأصوات، تحليق مكثف للطائرات، انفجارات، هتافات بشرية جارفة تأتي كسيل جارف من أمام الثكنات العسكرية. لم أفهم جيدًا ما يحصل، ولكن حينما أمسكت هاتفي كانت الأخبار على تويتر تتحدث عن انقلاب عسكري في تركيا.
وهناك، كانت المرة الأولى التي أسمع فيها اسم فتح الله غولن، ذلك الاسم الذي سيتكرر مرارًا طوال السنوات الأخيرة.
في السنوات التي تلت المحاولة الانقلابية أصبح وصف «FETÖ’cü» (ويلفظ فتوجو) الذي اعتمدته تركيا رسميًا لوصف أعضاء تنظيم غولن، أحد أبرز الشتائم السياسية التي تُوظّفها مختلف التيارات والأحزاب السياسية للنيل من خصومها وتحقيرهم. ويعني هذا التعبير حرفيًا: عضو تنظيم فتح الله غولن الإرهابي. ويشير هذا الوصف والتوظيف السياسي المكثف له بشكل مباشر إلى التموضع الجديد لغولن وتنظيمه في السياسة والمجتمع داخل تركيا اليوم، بعد أن ظل لعقود يلقَّب لدى شريحة واسعة تتجاوز مريديه وتنظيمه «Hocaefendi» (ويلفظ هوجا أفندي) ويعني حرفيًا: حضرة الأستاذ/ الشيخ.
غولن، الذي بدأ مسيرته إمام مسجد وداعيةً، استطاع خلال عقودٍ من نشاطه في المجال العام بناء إمبراطورية ضخمة عُرفت باسم جماعة غولن أو «الجماعة» فقط أو «حركة الخدمة»، بحسب التسمية المفضّلة لدى أعضائها. وهي تنظيم متعدد الأذرع ينشط أساسًا في الظل، وتمكّن لسنوات من التأثير بفاعلية على شتى مناحي الحياة في تركيا، بل وحتى خارجها. تسعى هذه المقالة إلى رسم بورتريه لمسيرة فتح الله غولن، في محاولة لتتبع مواقفه وتقلباته طوال تجربته، وفهم موقعه في النقاش العام في تركيا خاصة خلال مرحلتيْ صعوده سابقًا وسقوطه اليوم.
وفي هذا السياق فإن محاولة تناول سيرة معقدة وجدلية مثل سيرة فتح الله غولن مهمّة عسيرة. فسيرة الرجل ليست مقتصرة على مواقفه الفكرية وأطروحاته النظرية فقط، إذ إنها مرتبطة كذلك بالتنظيم الضخم العابر للحدود الذي أسسه وقاده طوال عقود. وفي الوقت نفسه وعند النظر إلى موقع غولن في تركيا اليوم، يُرى بوضوح أن الرجل، ولا سيما بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تموز 2016، بات أحد أبرز أعداء -وشياطين- النظام الرسمي وربما المجتمع في تركيا أيضًا.
البدايات: التعليم والإعلام في خدمة الشيخ والجماعة
بدأت مسيرة غولن التنظيمية والقيادية في أواسط ستينيات القرن الماضي. إذ إن غولن حظي منذ طفولته في مدينة أرضروم المحافظة شرق تركيا بتنشئة دينية صارمة في أسرة متدينة متأثرة بأفكار المفكر الإسلامي بديع الزمان سعيد النورسي.[1]
عملَ غولن لسنوات إمامًا وداعية في مختلف أنحاء تركيا، وأسس قاعدةً واسعةً من المريدين والأتباع منذ تلك الفترة، مستفيدًا من مقدراته الخطابية والتي برزت في خطبه في المساجد والمقاهي، والتي كان يجري تداولها عبر الأشرطة الصوتية، كما استفاد من قدراته التنظيمية الكبيرة، فعقد المؤتمرات الدينية والمخيّمات الصيفية، وقد ساهمت هذه المخيّمات التي حملت اسم «مخيمات النور» في استقطاب أطفال العائلات الفقيرة الذين سيشكلون شريحة مهمة من أتباعه وذلك في سياق ما نظَّرَ له غولن تحت شعار «إنشاء الجيل الذهبي». هذه الوسائل جميعها لعبت دورًا مهمًا في تكوين الأرضية الجماهيرية والتمويليّة الأولى لجماعته.
اليوم يجلس الداعية «اللاسياسي»، الذي ظل غارقًا حتى جبينه في مختلف قضايا وصراعات البلاد السياسية، ليشاهد ركام إمبراطوريته المتداعية من منفاه الأمريكي.
ومنذ بدايات عقد الثمانينيات، وتحديدًا مع تحول الدولة التركية نحو الليبرالية وانفتاحها على مؤسسات المجتمع المدني بعد انقلاب العام 1980 (الانقلاب الذي امتدحه غولن)،[2] استثمرت الجماعة في توسيع نشاطاتها في مجالات التعليم[3] والعمل المجتمعي، مؤسِّسةً مع الوقت شبكة واسعة من المدارس، جمعت بين التعليم الديني والوضعي، وكذلك سكنات الطلاب، والمراكز التحضيرية.[4] هذه المؤسسات التي انتشرت في تركيا ودول أخرى وبلغ عددها المئات، أسهمت في تمويل الجماعة وزيادة نفوذها، ليس في تركيا فحسب، بل وفي أماكن مختلفة من العالم.
كما دخلت الجماعة ساحة الإعلام. حيث أسست ما عُرف لاحقًا باسم مجموعة سمانيولو الإعلامية عام 1983، التي امتلكت عبر السنين عشرات القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية مثل «قناة سمانيولو تي في» التي كانت لسنوات واحدة من أشهر القنوات التلفازية في تركيا. كما وسيطرت الجماعة عام 1987 على مجموعة فضاء الصحفية التي امتلكت عشرات الصحف والمجلات والمواقع الإخبارية، داخل تركيا وخارجها. وأشهر هذه الصحف هي «صحيفة زمان»، التي كانت تطبع وتوزع بعدة لغات في العديد من الدول، بل وكانت أكثر الجرائد التركية مقروئية عام 2012 مثلًا.
وهكذا فإن غولن، الذي دخل المجال العام في تركيا بداية بوصفه رجل دين نشاطه الرئيس هو الدعوة والتبليغ، تمكن من خلال قدراته الخطابية والتنظيمية من تأسيس جماعة ضخمة كانت واحدة من أكبر الجماعات -إن لم تكن أكبرها- في تركيا خلال العقود الماضية.
صعود غولن وجماعته: السياسة من الظلّ
في التسعينيات وسّع غولن من نشاطه، وبدأت الجماعة مرحلة الصعود، داخليًا وخارجيًا، ومع انفصال جمهوريات الاتحاد السوڤيتي الناطقة بالتركية في وسط آسيا توجه غولن نحو توسيع نشاطه في مناطق الوجود العرقي والثقافي التركي في وسط آسيا والقفقاس والبلقان، ومنها مع الوقت إلى مختلف بقاع العالم. كما وسعت الجماعة نشاطها الاقتصادي، فجمع غولن حوله شبكة واسعة من رجال الأعمال[5] الداعمين والمتعاطفين وأسس في هذه المرحلة شركات تأمين وتمويل مختلفة إضافة إلى بنك آسيا، الذي سيصبح واحدًا من أكبر بنوك تركيا.
وفي ظل هذه التطورات والنمو المطرد في قاعدة مريدي غولن وجمهوره، زاد نشاطه على الساحة السياسية، وصار أحد أهم اللاعبين في السياسة التركية، كما يلاحظ من العلاقات القوية التي نسجها مع سياسيي تلك الفترة من مختلف التوجهات، حيث يبرز من بينهم رؤساء ورؤساء وزراء مثل تورغوت أوزال وسليمان دميرل وبولنت أجويد. كما صار ضيفًا متكررًا ومرموقًا لدى مختلف القنوات والصحف في تركيا.
ومع انقلاب شباط 1997، الذي انقلب فيه الجيش على حكومة نجم الدين أربكان، أول رئيس وزراء إسلامي في تركيا، وهو الحدث الذي يمكن عدّه أبرز أحداث عقد التسعينيات المليء بالاضطرابات، من المهم النظر إلى موقف غولن. إذ كان الرجل من أوائل داعمي الانقلاب، فدعا أربكان وحكومته إلى الاستقالة ودافع عن الجيش على اعتبار أنهم يطبقون الصلاحيات التي منحها لهم الدستور وأن ما يقومون به هو «اجتهاد حسب الشريعة الإسلامية» ووفق ذلك «فحتى لو أخطأوا فلهم الأجر».
ورغم هذه المواقف المداهنة للجيش ودعم بعض السياسيين العلمانيين (بولنت أجويد مثالًا) إلّا أن غولن لم يستطع إقناع الجيش باستثنائه من الحملة ضد الإسلاميين حينها والتي طالتهم دون تفريق. إذ وفي أوساط عام 1999 سُرِّبت تسجيلات لغولن يُشجّع فيها أتباعه على التغلغل داخل كوادر الدولة لكشف نقاط ضعف النظام العلماني «وتأمين مستقبل الإسلام»، مشددًا على ضرورة أن يعملوا بسرية ومرونة من باب «أننا لو كنا بارزين فستكون نهايتنا كالجزائر».
فُسرت هذه التصريحات وغيرها على أنها محاولة لإسقاط النظام العلماني من الداخل ليصبح بذلك غولن عدوًا للنظام المتطرّف في علمانيته. واعتبرت قيادة الأركان في الجيش التركي، اللاعب الرئيس في السياسة التركية حينها، غولن ومريديه «خطرًا» على الدولة التركية. ليغادر تركيا في نفس السنة في «رحلة علاجية» إلى الولايات المتحدة، حيث يقيم منذ ذلك الحين فيما يشبه المنفى الاختياري.
غولن وتنظيمه: البنية الفكرية
نشأ غولن في بيئة إسلامية سُنّية متأثرة بالتصوف وتقاليده في فترة كانت تشهد ذروة الصراع مع الشيوعية[6] في تركيا. وتأثر كما ذكرتُ بأفكار النورسي التي تركز على مسائل الإيمان والعقيدة والأخلاق، وتسعى إلى تأسيس مجتمع مسلم متصالح مع الحداثة لا سيما التكنولوجيا والعلوم الحديثة. ومن هذا المنطلق حرص غولن على تبني توجه مختلف في تعامله مع الدين في المجال العام، مركزًا على تقديم نفسه وجماعته كتيار مختلف عن بقية التيارات والأطروحات الإسلامية في تركيا والوطن العربي، لا سيما التيارات المنبثقة عن الإخوان المسلمين والمتأثرة بها. ومن أبرز أمثلة ذلك خلافه الشهير مع حركة الرؤية الوطنية (ميلِّي جوروش) التي أسسها نجم الدين أربكان[7] حيث اعتبرها غولن فهمًا خاطئًا للدين «يضر به بدل أن يخدمه».
ولدى غولن مقاربة لا-سياسية للإسلام، تفضّل التعامل معه من باب الإصلاح الاجتماعي، وترى أن الإسلام «ليس أيديولوجيا سياسية أو نظام حكم أو شكلًا للدولة». ومن هنا قدّم أطروحة ترفض السياسة وتستعيذ منها كما تستعيذ من الشيطان فيما عُرفَ باسم «الإسلام الاجتماعي» في تمييز له عن تيارات «الإسلام السياسي»،[8] كما قدّم تنظيمه بوصفه تنظيمًا فوق سياسي أو «بلا أجندة أو طموحات سياسية» يركز على العمل المجتمعي دعويًا ودينيًا لا سيما في ساحتيْ التعليم والأعمال الخيرية.
ولتأكيد صفة اللاسياسية هذه على جماعته حرص غولن على عدم تأسيس حزب سياسي. لكن الجماعة، وإن لم تتحول إلى حزب سياسي ينافس على السلطة، لم تستطع إقناع أحد بدعوتها اللاسياسية. إذ وعلى عكس هذه الدعوة، ظلت الجماعة لعقودٍ لاعبًا سياسيًّا فاعلًّا ومنخرطًا في مختلف قضايا البلاد السياسية ليس فقط عبر السعي للحصول على امتيازات مختلفة من خلال التحالفات السياسية كما هو الحال في بدايات حكم العدالة والتنمية مثلًا، بل وأيضًا من خلال الصراع -السياسي في لبه- على النفوذ والسلطة مع العدالة والتنمية أيضًا في السنوات اللاحقة.
تبنى الرجل، وهو المعروف بمديحه لأتاتورك وانتقاده للإسلاميين بحجة فهمهم الخاطئ للرجل وسياساته وأفكاره، موقفًا دولجيًا منحازًا للدولة في تركيا. إذ وإضافة إلى مديح الانقلابات العسكرية والوقوف في صفها، حرص على قوْلبة فهمه للإسلام في إطار قومي يرى بأن «الإسلام التركي» أو ما سماه «إسلام الأناضول» أقدر -من بقية التصورات الإسلامية- على فهم وتطبيق الدين، حيث يقدمه كإسلام متسامح ومتصالح مع محيطه لا سيما مع واقع الدولة في تركيا. فمثلًا عند الحديث عن العلمانية، إحدى أكثر المسائل خلافيةً بين الدولة والمحافظين في تركيا، قال غولن في منتصف التسعينيات إنه يرى أن 95% من الإسلام متعلق بحياة الفرد الخاصة فقط ويمكن تطبيقه في إطار النظام العلماني بينما 5% متعلق بإدارة الدولة، وأنه لا حاجة لترهيب الناس من الدين لأجل هذه الـ5%. ومن تصريحاته المشهورة، قوله إن العلمانية والديمقراطية «نِعَمٌ أنعم الله بها علينا». لكن وكما ذكرنا من قبل، تشير التسجيلات التي سُرّبت له في فترة لاحقة وهو يحث أتباعه على التسلل إلى الدولة لتأمين مستقبل الإسلام وكشف نقاط ضعف النظام العلماني إلى تناقض جذري في أطروحاته، أو بالأحرى إلى تقية سياسية واضحة.
هذه المواقف المتناقضة يمكن رؤيتها بوضوح كذلك في موقفه من الحجاب على سبيل المثال، إذ كان غولن يُنظِّر منذ السبعينيات إلى وجوب تغطية المرأة لكافة أنحاء جسدها، لكن وفي المقابل قدم غولن في التسعينيّات، وبالتزامن مع انقلاب 1997 حملةً ضد الحجاب بوصفه رمزًا إسلاميًّا في المجال العام، أطروحةً جديدة يراه فيها من المسائل الفرعية في الدين فيما اعتُبِر دعمًا بنكهة دينية للحملة ضد الحجاب.
هذه المواقف المتناقضة وغيرها أججت مشاعر الحيرة تجاه الجماعة، خاصة مع عدم امتلاكها نظام عضوية واضح أو تراتبية هرمية صريحة،[9] غموضٌ دفع البعض لوصفها بالباطنية، ودفع آخرون للقول إنها طائفة دينية (Cult) حديثة.
ويمكن اختصار مواقف الجمهور التركي والنخب تجاه الجماعة في مرحلة صعودها إلى موقفين رئيسين؛ الأوّل متفائل ينظر إلى غولن وحركته بوصفهم تنظيمًا يسعى إلى تقديم نموذج إسلامي حداثي متعايش مع العلمانية يركز على التعليم والعلم والحوار بين الأديان، وفي المقابل موقف آخر يرى أن هذه الشعارات محض واجهة لامعة للتغلغل في مؤسسات الدولة والسيطرة عليها من الداخل بهدف إنشاء نظام ديني ديكتاتوري.
ورغم هذا التباين حولها والتناقضات المختلفة في أطروحاته، إلا أن غولن وبفضل شبكة علاقاته السياسية الواسعة والقدرات الاقتصادية والاجتماعية الضخمة لجماعته، تمكن لعقود من الحفاظ على «احترام» وحضور ملحوظ في السياسة التركية بوصفه لاعبًا فاعلًا يُطلب وُدُّه رغم كل الشكوك سواء من النخب الكمالية أو الإسلام-سياسية.
غولن والغرب
لسنوات طويلة، نجح غولن وجماعته في تسويق أنفسهم في الغرب بوصفهم «تيارًا معتدلًا»، ونُظر إليهم بترحيب كبير بوصفهم نموذجًا للإسلام المتسامح والمنفتح على الآخر خاصة بفضل تركيزهم على ساحة «الحوار بين الأديان» في الغرب لا سيما في الولايات المتحدة. واشتهر غولن غربيًا باعتباره زعيم تنظيم إسلامي مؤيد للغرب ولانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي وللرأسمالية والعلوم ومتصالح مع «إسرائيل».[10] فاستقبله الرئيس الأمريكي بيل كلينتون وحيا «أفكاره عن التسامح والحوار بين الأديان»، واعتبرته مجلة التايم عام 2013 واحدًا من أكثر مئة شخصية تأثيرًا في العالم.
غولن والعدالة والتنمية: من التعاون إلى الصراع
كان غولن أحد أبرز داعمي العدالة والتنمية منذ وصول الحزب للسلطة عام 2002، خاصة مع استمرار نفوذ التيارات الكمالية في الجيش والبيروقراطية، رغم أن غولن وأردوغان كانا امتداد تيارين مختلفين -وربما متنافسين- من الإسلام في تركيا (السياسي-الاجتماعي). وربما يكون مردّ هذا أن العدالة والتنمية كان انشقاقًا عن حركة الرؤية الوطنية (الميلِّي جوروش) التي أسسها أربكان غريم غولن التقليدي، ما يعني أنه حزب مختلف يمكن التعاون معه للحصول على امتيازات مختلفة (تسهيلات سياسية وبيروقراطية في الداخل والخارج) مقابل الأصوات.
تعاون الجانبان بفاعلية خاصة في مواجهة تهديدات النخب الكمالية، كما حصل في مواجهة المحاولات الانقلابية لهذه النخب من خلال العديد من الدعاوى القضائية التي استمرت لسنوات منذ عام 2007، والتي أسفرت عن إضعاف نفوذ التيار الكمالي في الدولة، خاصة في الجيش التركي، حيث تمت محاكمة واعتقال مئات الشخصيات ذات الرتب العالية في الجيش، من بينهم ألوية وجنرالات، بل وحتى رئيس الأركان الأسبق إيلكر باشبواغ إضافة إلى عشرات الصحفيين والسياسيين.[11] نتيجة هذه التطورات نجح أردوغان في ضبط الجناح المعادي لحزبه داخل مؤسسات الدولة، وفي كسر حدة سطوة الوصاية العسكرية على السياسة المدنية، في حين يُتهم غولن بأنه استغل هذه الفرصة للزج بأتباعه في المواقع الحساسة التي فرغت بعد الإطاحة بنفوذ النخب الكمالية.
بعد هذه التصفية أصبح العدالة والتنمية وتنظيم غولن أكبر اللاعبين على الساحة السياسية، لكن سرعان ما انتهى شهر العسل بين الطرفين بعد أن وصل كلٌ منهما إلى درجة من القوة تجعله في غنىً عن الآخر. يرى العديد من الباحثين أن الصراع بين الطرفين بدأ مع موقف غولن السلبي من مجزرة سفينة مافي مرمرة عام 2010، حيث تحول هذا الصراع مع الوقت إلى حرب طاحنة وعلنية بينهما، ليس إعلاميًا وحسب، بل وداخل أروقة القضاء والشرطة والجيش وعلى مستوى القوانين وتعديلها أيضًا. اشتبك الطرفان في الفترة بين 2012-2016 في عدد من القضايا الشائكة، من بينها أزمة إغلاق المدارس التحضيرية الخاصة التي تعتبر أحد أهم المصادر المالية لجماعة غولن،[12] وموقف الجماعة الناقد لتعامل الحكومة مع احتجاجات حديقة «جزي»، وحملة الجماعة عبر نفوذها في القضاء التي استهدفت قيادات العدالة والتنمية على أعلى المستويات بما فيهم الوزراء فيما عرف بفضيحة الفساد في تركيا عام 2013 (عملية 17 ديسمبر) التي اعتبرها العدالة والتنمية محاولة انقلاب قضائية، إضافة إلى فضيحة شاحنات المخابرات التركية المتوجهة إلى سوريا.
في ظل هذه الحرب الطاحنة، وفي إشارة إلى نفوذها في مؤسسات الدولة، أطلق العدالة والتنمية تسمية الكيان الموازي على الجماعة. ومع فوز العدالة والتنمية الساحق بالانتخابات المحلية عام 2014، رغم حربه مع جماعة غولن، أعلن أردوغان أن الشعب منحهم «تفويضًا لمواجهة الكيان الموازي» ليكون ذلك مقدمة لما سيصبح بداية حملة تطهير واسعة ضد مؤيدي غولن في مختلف مؤسسات الدولة خاصة بعد اعتبار غولن عدوًا للدولة وجماعته تهديدًا على أمنها القومي بشكل رسمي ضمن قرارات مجلس الأمن القومي التركي في نهايات عام 2014.[13]
غولن وجماعته: السقوط المدوي
وصل الصراع بين العدالة والتنمية وغولن وجماعته ذروته مع محاولة انقلاب تموز 2016 الدامية. ومع فشل هذه المحاولة، سرعان ما اتهم أردوغان الكيان الموازي وغولن بشكل صريح بتدبير هذه المحاولة الانقلابية، مطالبًا الولايات المتحدة بتسليمه ومعلنًا حالة الطوارئ التي استمرت لسنوات في حرب اجتثاث شاملة ضد الجماعة.
وقد أسفرت الحملة عن اعتقالات ومحاكمات للآلاف ممن اعتبرتهم الحكومة مرتبطين بغولن وجماعته في القطاعيْن الخاص والعام، إضافة إلى إغلاق ومصادرة مختلف مؤسسات الجماعة التعليمية والخيرية والإعلامية في تركيا وملاحقة مؤسساتها في الخارج. رفض غولن الاتهامات التركية الرسمية بضلوعه في تدبير محاولة الانقلاب، بل ورد باتهام مضاد بأن العدالة والتنمية ربما هو من دبَّر هذه المحاولة الانقلابية للنيل من خصومه. إضافة إلى ملاحقة التنظيم في الداخل، استنفرت تركيا كل ثقلها الدبلوماسي لملاحقة التنظيم حول العالم بوصفه منظمة إرهابية[14] في ظل تمنّع أمريكي وأوروبي عن التجاوب مع بعض المطالب التركية لا سيما تسليم غولن نفسه.
خسرت جماعة غولن معظمَ النفوذ والقوة والمصادر الضخمة التي كانت تمتلكها قبل عشر سنوات من اليوم، كما أن تأثيرَها في الداخل التركي تراجع إلى حدًّ بعيد إن لم يكن قد انتهى. بل وفقد غولن نفسه تأثيره السياسي الذي ظل حاضرًا بقوة لعقود. واليوم، يجلس الداعية «اللاسياسي»، الذي ظل غارقًا حتى جبينه في مختلف قضايا وصراعات البلاد السياسية، ليشاهد ركام إمبراطوريته المتداعية من منفاه الأمريكي.
الهوامش:
[1] عالم عثماني-تركي من أصول كردية عُرف بجهوده في الإصلاح الديني والاجتماعي خاصة فيما يتعلق بالتوفيق بين الإسلام والحداثة/ العلم وإيجاد إطار إسلامي للتعامل مع الحداثة ومنتجاتها المختلفة. لدى النورسي أتباع مختلفون حتى اليوم خاصة في تركيا وتعتبر أفكاره الأساس الفكري الذي انطلق منه غولن وتنظيمه لا سيما في بداياته.
[2] على الرغم من مديحه لهم إلا أن غولن لُوحق لسنوات من قبل سلطات هذا الانقلاب بسبب خلفيته الإسلامية.
[3] في ساحة التعليم مثلًا قُدِّر عدد المؤسسات التعليمية التابعة لتنظيم غولن حتى عام 2014 بما يزيد عن ألفي مؤسسة بين مدارس لمختلف المراحل وكليات وجامعات ومؤسسات تعليم دينية ولغوية منتشرة في أكثر من 160 دولة حول العالم.
[4] دخول الجامعات والوظائف الحكومية في تركيا مرتبط بالنجاح في امتحانات مركزية تنظمها الدولة، ولذلك ظهر على هامش هذا النظام قطاع من المراكز التعليمية التي تسعى إلى تحضير الطلبة لهذه الامتحانات. استثمرت جماعة غولن في هذا القطاع كثيرًا ولاحقًا اتهمت الحكومة أعضاء الجماعة داخل الدولة بتسريب هذه الامتحانات لأتباع الجماعة في هذه المراكز بهدف ضمان وصولهم لمواقع ومناصب معينة في الدولة.
[5] أسس غولن وجماعته لاحقًا رابطة رجال أعمال خاصة بهم تحت اسم كونفدرالية تركيا لرجال الأعمال والصناعيين «توسكون»، وظلت هذه الجمعية الضخمة الذراع المالي الطويلة للجماعة لسنوات.
[6] شارك غولن في شبابه في تأسيس وإدارة فرع «جمعية محاربة الشيوعية» في مدينته أرضروم، حيث عُرفت هذه الجمعية، التي ضمت في فروعها المختلفة عددًا من أشهر سياسيي اليمين في تاريخ تركيا، بدورها الفكري في محاربة الشيوعية إضافة إلى شبهات عن لعبها دورًا عسكريًا ضد الشيوعيين كجزء من منظمة كونترجيريلا، نظير منظمة غلاديو الإيطالية في تركيا.
[7] على عكس المتوقع لم يكن غولن وأربكان على علاقة جيدة رغم خلفيتها الإسلامية. حيث صرح غولن علانية عن خلافه مع أربكان مشيرًا إلى أن «روحيهما لم تأتلفا، بل اختلفتا».
[8] على الرغم من أطروحات غولن المختلفة عن التيارات الإسلامية الأخرى في تركيا وخارجها ونأيه القاطع والمتكرر بنفسه عنها إلا أن الباحث أحمد كورو مثلًا يشير إلى أن التصور الإسلامي لجماعة غولن منذ تأسيسها، وبعكس دعاية الجماعة، يشبه في لبه التصور الإسلامي لجماعة الإخوان المسلمين. حيث يشير الباحث أن هاتين الجماعتين، ورغم اختلاف الشعارات والأساليب، جماعتان إسلاميتان متشابهتان في خصائصهما «السياسية والطوباوية»، حيث تتبنى كل منهما فكرة أن «الإسلام هو الحل» وتسعى إلى إعادة صياغة السياسة والمجتمع وفق تصوراتهما الإسلامية.
[9] كان التعبير عن سياسات التنظيم والتحولات فيها يتم بشكل مباشر من خلال خطب غولن أو من خلال مؤسسات التنظيم الإعلامية والاجتماعية لا سيما جريدة زمان ومؤسسة وقف الكتاب والصحفيين الأتراك مثلًا.
[10] لطالما تحفظ غولن عن إبداء أي موقف مباشر حول الاحتلال «الإسرائيلي» وعدوانه (علمًا أن الصحف التابعة للتنظيم نشرت مقالات مختلفة تدين المقاومة الفلسطينية «وإرهابها»). ولذلك فإن أوضح موقف علني لغولن حول هذه المسألة هو انتقاده منظمي قافلة أسطول الحرية رغم المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق ركاب سفينة مافي مرمرة (بالتركية: مرمرة الزرقاء). حيث سخر من اسم السفينة وسماها كارا مرمرة (بالتركية: مرمرة السوداء) وصرَّح لصحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية أن منظمي هذه أسطول الحرية كان يجب أن يأخذوا الإذن اللازم من السلطات أي «إسرائيل» معتبرًا انطلاقهم دون إذن «تمردًا» على السلطات.
[11] بعد محاولة انقلاب 2016 الفاشلة أعيد فتح ملفات هذه القضايا وإعادة النظر فيها على خلفية شبهات بتلاعب أعضاء من جماعة غولن بملفات هذه القضايا.
[12] أثار هذا القرار ردة فعل قاسية ليس فقط لدى إعلام الجماعة ومؤسساتها، بل ولدى فتح الله غولن نفسه حيث هاجم أردوغان وحكومته علانية للمرة الأولى ودعا عليهم بقوله «اللهمّ أحرِقْ بيوتَهم، وخرِّبْ ديارَهم (..)».
[13] مجلس الأمن القومي هو أرفع هيئة أمنية في تركيا وكان لها دور بارز في إدارة البلاد خلال فترات الوصاية العسكرية وتعتبر وثيقة «الكتاب الأحمر» الذي تصدرها المحدد للسياسة الأمنية فيما يتعلق بالتهديدات على البلاد.
[14] إضافة إلى تركيا، تعتبر باكستان ومجلس التعاون الخليجي ومنظمة العمل الإسلامي تنظيم غولن منظمة إرهابي
موقع حبر