في رحيل عماد شيحة.. ملامح من “موت مشتهى”/ عزيز تبسي
بعد ثلاثين عامًا خرج عماد شيحة (1954-2022) من السجن، الذي دخله وهو في العشرين من عمره، متهما بالانتماء للمنظمة الشيوعية العربية، حاملا على كتفيه من محكمة أمن الدولة العليا، حكم المؤبد، الذي يترجمه أهل السلطة إلى خمسة وعشرين عامًا لم يختزل سنواتها عفو رئاسيّ، بل زاده بـ”مكرمة” خمس سنوات. فاتته العراضة المسماة “ربيع دمشق”، التي انطلقت وانتهت قبل بضع سنوات، مبشرة، وفق مروجيها، بمرحلة سياسية جديدة تبدأ بالتطوير وتنتهي بالتحديث، وتبين ربما لأخطاء مطبعية، أنها بدأت بالتطويب، وتجاوزت حدوس “حقول البطاطا”.
أصدر بعد أشهر من خروجه روايته الأولى “موت مشتهى” (2005)، وأتبعها على التوالي برواية “غبار الطلع” (2006)، ورواية “بقايا من زمن بابل” (2007)، أودع فيهم بعضا من تجربته وأفكاره، ليختار بعدها حقل الترجمة، ويقدم مجموعة كتب حملّها خياراته وقناعاته.
رفعته الانتفاضة الشعبية في 18 مارس/ آذار 2011 من ظلال ترجماته وتأملاته، إلى الإشراقة المبهجة الآتية مع أصوات المتظاهرين.. ونداءات “الفزعة”، التي أججت سهل حوران، وامتدت الى أرياف دمشق وحمص وحماة وبانياس، ليكتب فيها عدة مقالات حملها أمنياته وتصوراته، ويعود بعد التحولات التي فرضت عليها، وتعسر تجاوزها، إلى الصمت، لكونه يعرف حدود الفعل الثوري للكلمات أمام عدوانية السلاح، وعمى أيديولوجيا الكراهية، التي بدأت تعلو كغيمة رصاص ثقيلة فوق المشهد الثوري، مقدمة للإجهاز عليه.
غادر مدينته ووطنه إلى باريس لغاية الاستطباب من سرطان استقوى على جسد أنهكه السجن الطويل، ومشقات الحياة التي أتت بعده، وأفقدته الآمال المحطمة البقية الباقية من قدرات الاستشفاء. يعتاش السرطان على اليأس، وفقدان الأمل، ولهذا يمكن ضم السرطان إلى فهرس عقوبات الأنظمة الاستبدادية.
اختبر باكرا حدود الرهان على الجسد الآدمي، بالتحقيقات المروعة في أقبية المخابرات، وتعاقب السجون بزمنها البطيء، بخسران أصدقاء وأخوة أخذوا “بعز شبابهم” إلى المشانق.
باستثناءات قليلة، لم يكتب عنه أحد، ولم تكترث به إلا دائرة ضيقة من الأصدقاء، كأنما يحتاج المرء موتًا ليفطن له محدثو الديمقراطية.
انتمى إلى عشيرة المهمشين، يصادف أن يتحدثوا عنه، وأن يتجاهلوا الحديث معه. وكأن هؤلاء من بازلت لا تؤثر فيهم السجون ولا يجوعون، ولا يكابدون من ملاحقة المخابرات التي لما تزل تحصي عليهم أنفاسهم، وتتعقب همساتهم.
لا أحد اكترث لذوبان سلامة كيلة كشمعة، ولا امتدت يد لانتشال علي الشهابي من جوف البئر التي رمي فيها، ولا للمصير المروع لنعمان عبدو..
لن يؤخذ بتفاؤل مخادع، بلا أرض صلبة ليقف فوقها، ولا سماء واعدة ليحلق بين غيومها.
لا يزال المشرفون على الغرق يتمسكون بقشة عائمة، مقنعين أنفسهم “أن هذه القشة غير تلك التي أغرقت أجدادهم قبل قرن”.
ابتعد عن الحضور التمثيلي، كما المئات من المناضلين والمناضلات، اختار مكانا للمراقبة والعمل الصامت، ربما لأنه لم يترك لهم سواه.
لن يتوقف موكب عماد شيحة، ولن ينتهي، حتى ينتهي من تسببوا فيه. من استكثروا عليه ضيافة الحياة، بمائدتها الشحيحة، وسنوات مقطوفة قبل أوانها.
إنه موكب “مكسوري الخاطر” المدججين بخيباتهم من شركاء تجربتهم، قبل أعدائهم السياسيين.
(2)
كتبت رواية “موت مشتهى” في السجن، أي داخل عالم ذكوري، في حين اختار الروائي تعقب مصائر عالم نسوي، وما حضور الرجال فيها إلا تعبير عن القباحة والهزيمة في الأعماق. لم يحدد فيها الزمان والمكان، تراءت في الفصل الأول وكأنها تتحرك بعالم ذهني، توسعت في الفصلين التاليين لتلتقي بالناس والمجتمع.
رواية عن المرأة. تصدرتها سيرة رباب عبد الجبار، وقفت إلى جانبها مجموعة من النساء اللاتي واجهن حياتهن بخيارات تشتبك مع عالم رجال العائلة والقرية والمدينة. أمها “آمنة”، صديقة طفولتها “سمية”، “راوية” المحامية المتدربة، “أنهار” زميلة الدراسة، “هند” القاتلة التي التقتها في السجن، “هناء” زوجة شقيقها “ناصيف”، “زينب” زوجة شقيقها السجين “حسين”..
أضاء الروائي على رباب عبد الجبار المرأة المجدة، التي تفوقت في دراستها، وانتزعت الحق في الذهاب الى المدينة لتدرس الصيدلة.
شقت طريقها في الحياة والعمل، وانتقلت إلى العيش في المدينة، بعد أن افتتحت صيدليتها، وأرست سكنها المستقل، استدعاها أبوها وشقيقها إلى القرية للزواج من ابن عمها “غانم”، زواج حمل ملامح صفقة بين الأخ وعائلة العم، لتوسيع ملكية الأراضي والاستثمار في تشييد العمارات، بعد أن تحولت البلدة إلى مكان للاصطياف والمشاريع السياحية.
تعاني رباب من تداعيات قدرتها على مكاشفة أسرتها، لكونها مرتبطة بعلاقة حب وزواج غير معلن مع “حسان”.
“أيمكن أنني خائفة من معرفتهم بأنيّ ما عدت عذراء؟ ولو استطعت القول إنني متزوجة فلن يصل إلى عقولهم إلا التعبير الأول”.
أتاح اللقاء بالأسرة الشرط المناسب لتقييم الأخوة وقناعاتهم، فرباب هي الأخت الوحيدة في أسرة فيها ستة أخوة ذكور؛ ناصيف: الابن البكر، الجشع الطموح للارتقاء الطبقي، غير مكترث بالقيم الأخلاقية؛ عادل: معلم المدرسة المنفصل بين قناعاته الإنسانية والثورية وسلبيته وانكفائيته وعجزه عن الفعل؛ “ارحلي يا رباب، امضي بعيدا، أسسي حياتك من جديد، حاولي أن تبدئي من دون ماض، لا يمكن أن يكون إلا غلاّ ترسفين داخله”؛ حسين: الأخ الذي أوصله إلى السجن عمله بالتهريب لتأمين حاجات أسرته، “دفعت ثمنا غاليا لتمردي وكسر قيدي، لو تعلق الأمر بي وحدي لكنت سعيدا وهان الأمر، لكن الأسى يعصرني لأنني جعلت أطفالي، وزينب، يسددون جزءا غير يسير من حسابي الخاص… لا أستطيع مساعدتك. سامحيني يا أختاه!”؛ نواف: الأخ الانفعالي المقتنع بقوة العضل والسكين لحل أي مشكلة تواجهه “انتظرتك طويلا يا رباب.. تركوا لك الحبل على الغارب، من غير أن أجرؤ على تنبيههم لخطأ ذلك وخطره، حقدت على خروجك من إهاب أمك واعتدادك بنفسك..”؛ وسيم: الأخ الصغير الذي أنجبه الأبوان في عمر متأخر… طفل بين عالم الأخوة الرجال المتزوجين.
غانم ابن عمها، وزوج المستقبل “هيأت لك وجارًا يليق بمكانتك ويتسع لجرأتك الصغيرة، ستكون هدية عرسك لجاما جديدا يغطي فمك الى الأبد…”.
أثناء خلواتها بنفسها تعاتب حبيبها “حسان”: “كيف سمحت لنفسك؟ تتركني وحيدة عزلاء أواجه ليس قدري وحسب، بل قدرنا المشترك!!”.
استعادت طفولتها وفتوتها، لتظهر أن تمردها ليس سوى دفاع عن نفسها وحقها، يوم قررت قص شعرها، بعد أن شدها الفتيان من جدائلها، لتظهر مثلهم بشعر قصير. تسترجع عبارة أبيها “هنالك خطأ ما جعلك بنتا، وما أنت إلا صبي!!”، باختزاله التمايز بين المرأة والرجل إلى المظهر الخارجي، مجتازا حزمة الفروقات التي صنعتها التقاليد والامتيازات الذكورية التي تفرض على النساء. تتراكم الانفعالات لتفضي إلى اندفاع نسوي مضاد، يقلب الحكايات المتوارثة، لن يأكل الذئب ليلى بعد اليوم، هي من سيأكله.
تمتد الحوارات على مساحة الجزء الأول من الرواية، لتصل إلى قتل رباب لأبيها، والقبض عليها وسوقها إلى التحقيق. تدخل الرواية في تشويش متعمد يربك القارئ بين حقيقة قتل رباب لأبيها وبين تخيلها. لا يلغي ذلك أن فعل القتل قد وقع، وأبلغ الروائي رسالته.
فالرواية ليست رواية جنائية، لتتعقب القاتل، وتلهث للتثبت من جريمته. نهل الروائي من البئر الاجتماعية، وحاول الوصول إلى أعماقها، ليستدل من عذابات النساء ما خفي من آلام الرجال والمجتمع. لهذا لم يسع خلف إدانة جنائية، ومضى إلى مواجهة بطلته “رباب عبد الجبار” بما فعلته أثناء دراستها الجامعية؛ “هل كنت كذلك حين أكرهت، خاضعة للضغوط الشديدة التي تعرضت لها، على التعاون مع من أرادوك عينا لهم للإخبار عن طالبة تستأجر إحدى غرف بيت خالك، أما كانت هي نفسها من أخبرتك يوما، أن خلاصك كامرأة لا يمكن أن يكون خارج خلاص البشر أجمعين من القيود والأسنّة التي جعلتهم أقرب للبهائم؟ لقد خنت نفسك يا رباب، وارتضيت ما أحاطك من كل صوب، بؤس وخراب وانحطاط!!”. وينتقل بعدها لمواجهتها بأفعالها بعدما أكملت دراستها الجامعية، وافتتحت صيدلية خاصة بها: “أين كنت حين اشتريت أدوية مجهولة المصدر، أو متجاوزة تاريخ انتهاء فعاليتها، وبعتها بأسعار مرتفعة، وأنت تسوغين ذلك بحاجة الناس لها، عامية عن أخطارها المتوقعة والمحتملة، مثلما فعلت ببيع الأدوية المهدئة من دون وصفات طبية…..؟”. تختم الرواية باجتماع عدد من أبطالها أمام قاعة المحكمة، الأم يرافقها ابنها الصغير وسيم للقاء بها، الأخوان ناصيف وحسين لينتقما بعدما دربا وسيم على القتل… وحين تدرك عزم أخويها على توريط وسيم الصغير بقتلها، استلت شفرة وحزت شرايين عنقها، وأكملت على حنجرتها.
حملت الرواية جرعة عالية من الإدانة للمجتمع السلطوي والناس الذين شوههم، أدخلت جميع شخوصها في عتمة سوداء، لا مخرج متوهم لها، لتضع الجميع أمام مصائرهم الحقيقية، وتتركهم ليبحثوا عن مخرج لنجاة أرواحهم من دون أن تقدم لهم أي أمل مخادع، كأنها تقول لهم: عليكم التضحية للوصول إلى حريتكم، وإنجاز تحرركم.
ضفة ثالثة