مواسم الفاشية: مَنْ يهدد «الله والوطن والعائلة»؟/ محمد سامي الكيال
يثير الحديث عن صعود اليمين الشعبوي مخاوف شديدة من تراجع حريات وحقوق وأنماط حياة، باتت تعتبر من البديهيات منذ عقود، خاصة بعد أن أثبت النموذج الليبرالي المعاصر، في نظر كثيرين، أفضليته على كل يوتوبيات التغيير التي عرفها القرن العشرين. ما يجعل عودة دعوات مثل الشيوعية والفاشية والقومية، حتى لو جاءت في صيغة «ما بعدية» غير منطقية أو معقولة، إلا في أحلام أشخاص يمكن وصفهم بالمُغيبين أو المتطرفين.
السياسية الإيطالية جورجيا ميلوني، التي ستقوم بتشكيل الحكومة المقبلة في بلادها غالباً، والمُتهمة باتباع أيديولوجيا «بعد فاشية» تستخدم نمطاً من البلاغة مفتوحاً على كثير من الاحتمالات والتأويلات: نعيش في عالم مصمم ثقافياً وأيديولوجياً كي يسلبنا الحق في عيش ثقافاتنا المترسّخة. كثيرون، حسبها، لديهم مشكلة في أن تكون هي امرأة، أمّاً، إيطالية، مسيحية. يريدونها فرداً مكشوفاً ومعزولاً عن أي رابطة اجتماعية أو هوية ثقافية، كي تصبح مستهلكاً تحت رحمة المضاربين الماليين. ولذلك فالرد هو التمسّك بكل ما يحاربه هؤلاء أي، الله والوطن والعائلة. ماذا يعني هذا بالضبط في بلد عضو في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو وحلف الناتو؟ كثير من المختصين يرون أنه لن يعني أكثر من بعض السياسات الحمائية؛ موقفاً أكثر تطرفاً من الهجرة؛ انتهاكاً، على مستوى الخطاب، للباقة السياسية المعادية للتمييز؛ وربما تكتلاً من الحكومات اليمينية في الدول الأضعف اقتصادياً ضمن الاتحاد الأوروبي، في وجه بروكسل وبرلين.
بالتأكيد لن يقوم المُتّهمون بالفاشية في إيطاليا بحظر الأحزاب السياسية وتعطيل النظام البرلماني، أو إعادة احتلال الحبشة والدخول في حرب عالمية ضد الدول الديمقراطية، وميلوني نفسها أكدت التزامها الأطلسي ضد الحرب الروسية على أوكرانيا. لماذا إذن كل هذا الذعر؟
ليست أحلام «الفاشيين» في أيامنا على ما يبدو أكثر من السعي للحفاظ على ما اعتُبر دوماً من البديهيات الاجتماعية. والموضوع بالنسبة لهم مرتبط بالثقافة والأيديولوجيا بالدرجة الأولى، وبالمنظور حول الذات الفردية والجمعية. فالإنسان المتمسّك بدينه وأرضه وروابطه الاجتماعية صار إشكالاً سياسياً رئيسياً، وميداناً لأخذ ورد لا ينتهي. ما يطرح أسئلة كثيرة عن الثقافة السياسية لعصرنا: ما المشكلة حقاً في أن تكون جورجيا ميلوني امرأة إيطالية مسيحية؟ هل تعادي الليبرالية السائدة بالفعل الله والوطن والعائلة؟ والأهم: لماذا تُخاض الصراعات السياسية على هذا المستوى من الخطاب؟
سُبل الله والوطن
لعب شعار «الله، الوطن، العائلة» دوراً سياسياً وثقافياً شديد التأثير فيما مضى، استطاعت من خلاله الحركات الفاشية وشبه الفاشية تكثيف منظوراتها ونشر هيمنتها الأيديولوجيا بين جمهور عريض. فتلك المفردات الثلاث كانت تعني إعادة بناء ما هو ثابت ومستقر في الأمة، التي اعتُبرت وحدة سياسية متماسكة، ذات سيادة غير محدودة، في وجه ما اعتُبر دعوات التفرقة والفوضى، وعلى رأسها الصراع الطبقي. الملاحظة المهمة أن الفاشيين لم يكونوا محافظين، بمعنى أنهم ينطلقون من الوضع الديني والثقافي والاجتماعي القائم، بكل وقائعه وتنويعاته، بل «ثوريين» على طريقتهم، يريدون إعادة تشكيل الدين والعائلة والوطن، بما يتناسب مع مفهوم متعالٍ وصلب عن الأمة المنشودة. تعيد الأمة، التي يجب أن تتجسد في دولة، بناء الذات الفردية، بوصفها عنصراً منضبطاً في كيان موحّد، يهبها المعنى والتوجه. وبالتالي تُعرّف الذات نفسها بما هو أعلى وأكثر تسامياً منها، لا حسب أهوائها وحساسياتها ومصالحها، سواء كانت شخصية أو فئوية، وبفضل هذا تتمكن الأمة من تحقيق غاياتها العليا، والانتصار على أعدائها الخارجيين.
يشكّل هذا المفهوم تحدياً حقيقياً لفكرة «دولة الحق» التي تسعى لتقييد السيادة الشعبية وقوننتها ضمن أطر حقوقية وبيروقراطية، تمنع تغوّل الأغلبية، وميلها لسحق حقوق كل مخالفيها، سواء كانوا أفراداً أو مجموعات أقلوية، وبالتالي فإن صعود الفاشية، في جانب منه، كان دوماً انفجاراً للتوتر بين الديمقراطية والليبرالية، فسيادة الشعب أو العامة، المبدأ الأساسي للديمقراطية، قد تصطدم، في كثير من المواقف، مع حقوق وخيارات الذات القانونية المجرّدة وذات الملكية، التي تُبني عليها الليبرالية.
تبدو استعادة شعار «الله والوطن والعائلة» اليوم محاكاة باهتة، وربما هزلية بعض الشيء، للظرف السياسي الذي نمت ضمنه الفاشية، فرغم أن الدول لم تفقد دورها، بوصفها بنى سيادية، ذات مؤسسات عنفية وأيديولوجية، إلا أن مصادر سياديتها وشرعيتها تغيّرت بشدة. لم تعد تعبيراً صريحاً عن الأمة، أو حتى الطبقة والهوية، بقدر ما باتت جهازاً للتعامل مع تدفقات عالمية تتجاوزها: شبكات من البيانات والمعلومات، عملات موحّدة وأجنبية، قروض خارجية، أنظمة ومعاهدات اقتصادية ومالية. من يريد أمة «مستقلة» حقاً وسط هذا، ربما لن يصل إلى أكثر من نظام شبيه بكوريا الشمالية؛ أو يُضطر إلى خوض مغامرات حربية خطيرة، على غرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
لا يعني هذا أن الدول فقدت فرادتها، أو باتت معادية للهوية، بل إن الخصوصية يجب أن تندرج وتسوّق ضمن نظام التدفقات القائم، الذي يجعل كياناً مثل الحزب الشيوعي الصيني يعمل بالحد الأدنى والكافي من التناغم مع الحكومات الغربية، كي لا تنقطع سلاسل التوريد العالمية بشكل كامل، ولكي «يختار» مشتري الهاتف الذكي، على سبيل المثال، بين استعمال تطبيق «تيك توك» الصيني أو «سناب شات» الأمريكي؛ أو لكي يستهلك منتخبو ميلوني الإيطاليون ماركات الملابس الرخيصة، المصنوعة في بنغلادش. وإذا تجاوزنا الأنصار الأكثر تطرفاً وابتذالاً لما يُعرف بـ»الصواب السياسي» فلا يوجد أي مانع في أن تكون جورجيا ميلوني سيدة إيطالية مسيحية، ما دامت مندرجة، بإرادتها أو خضوعاً للأمر الواقع، في نظام التدفقات هذا، الذي يسعى دوماً لتوسيع نفسه وزيادة مرونته، لاستيعاب كل الآلهة، الدول كافة، وجميع أنماط العوائل، سواء كانت أبوية تقليدية، أو أشكالاً تجريبية لعائلات المثليين جنسياً وأطفالهم بالتبني. المشكلة فقط عندما تريد أن تحوّل إلهها ووطنها وعائلتها إلى ذات سياسية جمعية، تقطع الطريق على حقوق الذات القانونية المجرّدة والمعولمة، الحرّة نظرياً في هويتها وميولها واستهلاكها وملكيتها وبيعها لقوة عملها، أي الأنسب لمنطق التدفقات الكونية.
دوال فارغة
لكن هل تشكّل ميلوني وأشباهها تهديداً حقيقياً لذلك النمط من الذاتية؟ قد تكون الإجابة مخيّبة لتوقعات الأنصار والخصوم في الوقت نفسه. فهي فعلياً تخوض معركتها على المستوى والمنظور نفسه، الذي ينشط ضمنه من تعاديهم، أي مستوى اللغة والرمز والخطاب. انتُقد أنصار «الصواب السياسي» دوماً على أساس أنهم يعتبرون تغيير الخطاب في المؤسسات العامة كافيا لوحده لقلب هرم التمييز والتفاوت الاجتماعي، وسواء كان هذا النقد دقيقاً أم لا فإن ميلوني تبدو استنساخاً معكوساً لصورة الناشط، الذي يظن أن تغيير اللغة يعني تبديل الواقع. لأن بلدها المديون، المعتمد على المساعدات الأوروبية، الغارق في الأزمات، لا حل أمامه سوى أن يبقى مفتوحاً للتدفقات المقبلة من العواصم الغربية الأقوى.
حلم الفاشيون الإيطاليون القدماء بيوم تتطور فيه الصناعة في بلادهم، لدرجة تجعلهم أمة متفوقة، تحيي أمجاد الإمبراطورية الرومانية الغابرة. اليوم يُعتبر الاقتصاد الإيطالي الثالث على مستوى أوروبا. لكن هل يوجد مُنتج إيطالي لا يعتمد على مواد أولية؛ تكنولوجيا؛ تمويل آتٍ من بلد آخر، قد يكون تهديداً لقيم الأمة؟ بهذا المعنى قد لا يكون الله والوطن والعائلة أكثر من دوال فارغة، لا يوجد في «الأمة» ما يسندها، تماماً مثل «تمكين» نساء الطبقات الأعلى في الدول الغربية، بينما تعمل ملايين النساء في وظائف متدنية، أو معدومة الدخل، ودون حقوق.
خطر الفاشية
إلا أن الأفكار الشعبوية المتطرفة تبدو، رغم هذا، أكبر من مجرد وهم، سيذوّبه واقع العولمة والاقتصاد الحر. فإذا كان الاقتصاد العالمي ما يزال يعمل بالحد الأدنى، رغم كل أزماته، فهذا لا يعني بالضرورة أنه حقيقة أبدية لن تتغيّر. يزداد ميل الدول الكبرى للسياسات الحمائية، وتعمل لإيجاد حلول بديلة عن سلاسل التوريد والإنتاج، التي تكاد تنقطع، فيما تهدد النزاعات الإقليمية بالتحوّل إلى حروب عالمية، وعندها قد تصير الفاشية، في مختلف تنويعاتها وتحولاتها، إحدى الأيديولوجيات التي تستجيب لحالة الذعر العام، الذي سينتشر بين فئات اجتماعية متعددة، رأت أنها «تنازلت» دون جدوى، للتخريب الليبرالي لحياتها وقيمها. حينها لن يعود شعار «الله، الوطن، العائلة» مجرّد دال فارغ، بل مقدمة لإنتاج سياسات جمعية عنيفة، قد تغيّر العالم الذي نعرفه، وتروح ضحيتها، كالعادة، الفئات الأكثر ضعفاً.
في كل الأحوال لا تبدو المشكلة في «جهل» مالوني وأنصارها أو تعصّبهم، بقدر ما هي أزمة بنيوية في نظام عالمي، وربما يكون السؤال الأنسب: هل يمكن التفكير في منظور للذاتية الجمعية، في هذا الظرف، أقل «ضرراً» مما تقترحه السياسية الإيطالية؟
كاتب سوري
القدس العربي