تمثيلات فنية وروائية لمواجع جامعية في سورية/ نبيل سليمان

منذ قرأت شهادة هيلين سكسوس في ترجمة كتاب ماري إيجلتون (نظرية الأدب النسوي) وأنا أزداد افتتانًا بما أصادف من أو عن هذه الكاتبة المسرحية والروائية، هذه الشاعرة والناقدة والفيلسوفة الفرنسية الجزائرية. وقد كان آخر هذا الافتتان ما ترجمته سارة حبيب في “ضفة ثالثة”، ومنه أن هيلين سكسوس سمّتْ بغير القابلين للفساد ثلّة المفكرين من جيل الستينيات في فرنسا: دريدا، لاكان، بارت، فوكو، كريستينا، دولوز، وإيريجاري. وسرعان ما أبرقت عيناي بأسماء عبد الرحمن منيف وبوعلي ياسين والياس مرقص وهادي العلوي، فهؤلاء أيضًا وأولًا من غير القابلين للفساد، وثمة سواهم عربيًا، وسوى من عددتْ سكسوس فرنسيًا وعالميًا. ولكن ثمة من يُفترَض أنهم الأحق بهذا الوصف، ليس بأسمائهم، بل بصفة الواحد منهم: أستاذ جامعي، فهل هذا هو واقع الحال؟

تعا تفرّج يا سلام

نشر الموقع السوري (الجمل بما حمل) في 6/5/ 2010 شكوى طلابية من أن 22% من الأساتذة يمارسون الفساد في نتائج الامتحانات، ونَوّه الموقع إلى أنه لم يتم التحقق من الادعاء. وفي 26/ 11/ 2013، وعلى إيقاع الحرب، نشرت جريدة (الأخبار) اللبنانية ريبورتاجًا لمرح ماشي عن الفساد في الجامعات السورية، ومنه ادعاء طالب ماجستير في جامعة دمشق أنه اضطر إلى أن يهدي أستاذًا شاشة عرض LCD من أجل أن (تمشي) أموره. كما ادعت طالبة ماجستير في جامعة تشرين (في اللاذقية) أنها (هلكت) من هدايا المشرفة على رسالتها، وآخر تلك الهدايا كانت آيباد. وتحدثت الصحافية مرح ماشي عن شعار (ادفعْ تنجح) وشعار (لا أدب في كلية الآداب) في جامعة تشرين.

“كان آخر الاقتنان بهيلين سكسوس حين سمّت بغير القابلين للفساد ثلّة المفكرين من جيل الستينيات في فرنسا: دريدا، لاكان، بارت، فوكو، كريستينا، دولوز، وإيريجاري. وسرعان ما أبرقت عيناي بأسماء عبد الرحمن منيف وبوعلي ياسين والياس مرقص وهادي العلوي، فهؤلاء أيضًا وأولًا من غير القابلين للفساد، وثمة سواهم”

بالعودة إلى جامعة دمشق، يطالعنا حوار مع رئيسها في مجلة (جهينة) بتاريخ 10/ 11/ 2015. وفي الحوار يردّ الدكتور محمد حسان الكردي على التشكيك في تصحيح الأساتذة للأوراق، ويرد على السؤال: “كيف تتعاملون مع حالات الفساد بين أعضاء الهيئة التدريسية”، كما يرد على السؤال عن ظاهرة بيع الملخصات والنوطات داخل الحرم الجامعي، وعلى السؤال عن الشهادات المزورة من جامعة دمشق، فيقر الكردي بأن هناك “قلة قليلة جدًا من بين أعضاء الهيئة التعليمية سبق أن تورطت في عملية فساد”، ويؤكد الكردي أن اثنين فقط من الأساتذة تورطا خلال السنوات الخمس الأخيرة.

بالوصول إلى صيف 2022 بلغ الصخب أعلاه على مواقع التواصل بالفساد الأخلاقي في جامعة البعث (في حمص). وكان هذا الصخب قد علا قبل ذلك بإحالة وزير التعليم العالي لأستاذ جامعي – وهو كاتب بعثي، وكان في موقع ثقافي قيادي – إلى مجلس التأديب/ الذي عاقبه باللوم، وبتأخير الترفيع ستة أشهر، وحسم 10% من تعويض التفرغ لمدة سنة، جزاءً على تزويره الوثائق التي قدمها للحصول على درجة الأستاذية. وبالأمس القريب بث تلفزيون (الخبر) الشكوى التي وافاه بها طلاب للتعليم المفتوح في جامعة تشرين (في اللاذقية)، وخلاصة الشكوى أن 40% من أسئلة امتحان مادة (أصول المحاكمات الجزائية) هي خاطئة، وهو ما أكده عميد الكلية لتلفزيون الخبر، فأُعيد توزيع علامات الأسئلة الخاطئة، وتم اتخاذ الإجراءات المناسبة بحق الدكتور أستاذ المادة. وقد شكا الطلاب من أن مثل هذا الأمر يتكرر مع هذا الدكتور الذي تسبب خطأه هذه المرة برسوب طلاب وتأخير تخرج آخرين.

من التلفزيون إلى السينما

في الموسم التلفزيوني الرمضاني عام 2011 عُرض مسلسل (سوق الورق) على شاشة قناتي (الدراما) و(دنيا). والمسلسل من إنتاج مؤسسة الإنتاج التلفزيوني والإذاعي الحكومية. وهو باكورة كاتبته آراء الجرماني، وقد أخرجه أحمد إبراهيم أحمد، ولعب فيه سلوم حداد دور مدير الجامعة الفاسد – لم يقل المسلسل رئيس الجامعة – ولعب عبد الحكيم قطيفان دور الدكتور عصام حامل الشهادة المزوّرة. أما الأهم فهو أن جامعة دمشق طالبت بوقف عرض المسلسل، لكن وزير الإعلام رفض.

على إيقاع المظاهرات السلمية في صيف 2011، المدوّي، وقعت واقعة هذا المسلسل على رأس آراء الجرماني التي كانت تتهيأ لمناقشة أطروحتها لشهادة الدكتوراه، لكن جامعة دمشق أوقفت المناقشة، وأحالت الطالبة الكاتبة إلى مجلس التأديب، وكان ياما كان إلى أن عادت الجامعة عن القرار، ونالت الجرماني شهادتها في 31/ 3/ 2012، وهي صاحبة الكتابين المميزين (الميتاسرد في الرواية العربية) و(اتجاهات النقد السيميائي).

وظهر الأستاذ الجامعي السوري بصورة كالحة في المسلسل المصري (أستاذ ورئيس قسم). وقد عُرض في الموسم الرمضاني 2015، وهو من بطولة عادل إمام. ويظهر فيه الأستاذ الجامعي السوري عاطف صقر الذي انقلب من (ثوري) جدًا إلى النقيض، وبات يرى الثوار أطباء عملوا لوطنهم الجراحة التي نجحت، لكن الوطن مات.

في السينما أنتجت المؤسسة العامة للسينما (حكومية) في العام الماضي 2021 فيلم (الظهر إلى الجدار). وهو باكورة المخرج أوس محمد – خريج جامعة خاركيف في أوكرانيا. ويتمحور الفيلم حول شخصية الأستاذ الجامعي في الإعلام قصي الخبير بقضايا المجتمع السوري الساخنة (تجارة الأعضاء، المخدرات..)، ولا يبخل على طلابه بذلك. وحين يرى كيف هوى عدنان بتمثال رأس محمد الماغوط على رأس صديقه النزيل في مشفى الأمراض النفسية، فقتله، يسحب الدكتور قصي كرسيًا ويجلس مسترخيًا.

روايات المواجع الجامعية

وجدت الرواية العربية في الفساد الجامعي معينًا لا يفتأ يتفجر. وربما كان نصيب الرواية السورية من ذلك هو الأدنى، ومنه رواية غسان الجباعي (المطخّ)، وفيها يحلم أمير الشامخ بالدكتوراه: “ولذلك قرر ألا يعود من الاتحاد السوفياتي الصديق الذي كان يوزع الشهادات بالجملة، قبل أن يحصل على الدكتوراه. وقد حقق حلمًا بنجاحٍ مدهش عندما استبدل بالعباءة شهادة”. 

مما لا يُنسى لطرافته وفداحته ما راج في سورية منذ عقود من استفاقة رهط من القياديين على اللقب الجامعي (الدكتور) وسباقهم من أجله إلى الاتحاد السوفياتي وكواكبه في أوروبا الشرقية. وها هو أمير الشامخ يُقبل في معهد السينما بعدما رسب في امتحان القبول في أكبر المعاهد، وقد خيرّ يومئذٍ “في انتقاء أي فرع آخر غير السينما، لكن إصراره وتدخّل السفارة السورية بشأنه، جعلا الأصدقاء السوفيات يغضون الطرف ويغيرون رأيهم”.

وفي رواية سومر شحادة (حقول الذرة) نرى الأستاذ الجامعي ملهم، في جامعة تشرين (اللاذقية)، يمقت الجامعة لأنه لا يمكن التفريق بينها كصرح علمي، وكفرع أمني نشيط “كما لا يمكن التفريق بين الوطن والسجن الكبير”. وتصدم ملهم – الذي تخبر لمى أنه علوي – لا مبالاة طلاب الجامعة في بداية الانتفاضة عام 2011، فيصيح بهم:

” أي خنوع رضعتموه؟”.

أما رواية سوسن جميل حسن (قميص الليل) فتقدم شخصية الراوية الكاتبة حياة (العلوية) وزوجها السنّي حمدي اليساري المعتقل سابقًا، والمرتد طائفيًا. وبين الأم والأب المنفصلين ينشبح ابنهما نوار الطالب في جامعة حلب، في حمأة قمع الانتفاضة السلمية وتصاعد العنف الدموي. وإلى جامعة حلب أيضًا تمضي رواية ابتسام تريسي (عين الشمس)، ولكن الرواية الصادرة عام 2011 تعود إلى ما عاشت هذه الجامعة والمدينة من قبل، ومن ذلك أن الدكتور ينهي محاضرته متلعثمًا، ويحمل كتبه ويغادر القاعة، بينما نشبت الفوضى بين الطلاب، وأُغلقت الأبواب الخارجية للكلية، وحُوصر الطالبان نسمة والمثنى مع من حُوصروا في الطابق السفلي، لكأنما هما في يوم الحشر. واستمرت المعركة في الخارج قرابة ساعة ونصف الساعة، كانت قوات السلطة خلالها تحاصر طلابًا مسلحين في الكليات المجاورة. وكان شمس، وهو شخصية محورية في الرواية، قد عاش تلك الأحداث وتلك الفترة، يتجنب الطلاب في الكلية وهو يحسب أن أسئلتهم صارت أفخاخًا، ويتشكك في أن معظمهم مخبرون، إلى أن انتهى به الأمر في المعتقل.

من جامعة حلب قبل عقود نعود إلى جامعة تشرين (اللاذقية) في عام 2011، وذلك في مخطوطة رواية (قمصان زكريا) لمنذر بدر حلوم، حيث واجه الدكتور في علم النفس زيدون النفوذ الذي للطالبة نون واو، عندما رسبتْ، فخيّره أصحاب النفوذ بين أن تنجح الطالبة أو أن يُحال إلى مجلس التأديب. ولما عرض أن يستقيل جاءه الجواب: ليس قبل أن تنجح ضحيتك، ثم تكتب مقالة للصحيفة المركزية تعوض فيها عن إساءتك للجامعة، واستخفافك بالقيم التي أراد من بناها أن يرسخها. وعليك أن تكتب معترفًا بأن الجامعة ما كانت لتكون لولا بانيها، ولولاه ما كان لك أن تكون أستاذًا جامعيًا. وقد نجحت الطالبة نون واو، ونشرت الصحيفة المركزية مقالة باسم الدكتور زيدون، لم يكتبها. كما تلقى نسخة من عدد الصحيفة في بيته وعليها السؤال: “مفهوم؟”، فأجاب: مفهوم.

هكذا يتواشج الفساد مع الأَمْننة في المواجع الجامعية. وقد حضر بعض ذلك في روايتيّ (مجاز العشق – 1998) عبر شخصية فؤاد صالح، و(جداريات الشام: نمنوما – 2014) عبر شخصية بهنان. ومن طرائف ما واجهتُ من المواجع الجامعية، ما صادفته أثناء جولة في ديار العم (جوجل)، تحت عنوان (موضوع مقتبس)، ومؤرخ في 25/ 10/ 2011، وخلاصته أن من كتبته تتحدث عن فكرة بحث لها بدأت العمل عليه في عام 1989، مدفوعة بما رأت من تصرف (الدكتور) نبيل سليمان في حلقة بحث، وما تبع ذلك من فساد دكاترة في كلية التربية بجامعة دمشق، منهم عميد الكلية الذي صار وزيرًا للتربية. وتتحدث الكاتبة أيضًا عمن تسميهم عصابة الفاسدين في الجامعة التي تحميها عصابة أكبر منها.

عندما قرأت اسمي مشفوعًا بلقب (الدكتور) حمدت الله على أنني لم أحمل هذا اللقب، وحمدته على أني لم أدرّس في أي جامعة، ولولا هذا وذاك لكنت الأستاذ الجامعي الفاسد الذي تحدثت عنه هذه الكاتبة في كتابة مطولة وركيكة.

ختامًا، وعطفًا على بدء، أستذكر من مقالة هيلين سكسوس الأشهر (ضحك الميدوزا) قولها: ليس للماضي أن يحدد المستقبل. ومنه أفرّع وأضيف أن ليس للماضي ولا للحاضر أن يحددا المستقبل، والفرق شاسع بين أن يحددا، وبين أن يكونا من مكوناته أو جذوره. وبالتالي، وبتحريضٍ من قول سكسوس أفكر في أنْ ليس للفساد ولا للأَمْننة ولا لأيٍّ من المواجع الجامعية أن يحدد المستقبل الجامعي، في سورية وغير سورية.

ضفة ثالثة